تكوين
كيف يمكن أن نُقارب الإشكالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نعيشها في واقعنا الحالي؟ كيف يُمكن التعامل مع تساؤلات تفرض نفسها بوصفها سؤال الهُوية والحرية والمساواة؟ ما السبيل لضبط المفاهيم وعدم الوقوع في الاختزالية والأحادية وضيق الأفق، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم مثل: الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان؟ بكلمة واحدة، كيف يمكن أن نعيش حاضرنا وما يطرحه من تساؤلات وإشكالات بعيون ناقدة وذهن يقظ دون أن نقع أحادية خطاب ما أو اختزالية فكر ما أو ايديولوجية توجه ما؟ كلها تساؤلات سنحاول مقاربتها في مقالتنا هذه تحت عنوان “تساؤلات وإشكالات راهنة“.
واقع الإنسان المعاصر في عصر العولمة
لا بُد أن نشير بداية إلى وضع الإنسان في عصر العولمة، قصد فهم الدور المنوط بالفلسفة بوصفها استراتيجية في التفكير، لأن العولمة أسهمت في تجاوز كل الحدود ورغبة الإنسان في التحرر من كل شيء، مما أدى إلى نزعة مادية مُفرطة وتوجه فرداني وبراغماتي متطرف حتى التوجهات السياسية والثقافية والدينية نالت نصيبها من روح العولمة التي تحاول أن تُنمط الأفراد والجماعات وتحكم على الجميع بمقياس واحد.
إن الإنسان المعاصر في بحث لا يني عن هُويته، لأن كل أشكال الهُويات السابقة التي كان يعيش بها قد سُحقت من طرف العولمة، إلا أن الكونية الطرْف الآخر للعولمة قد تسهم في بناء هذه الهُوية المعاصرة التي قوامها التعدد والاختلاف والتغير وقيم حقوق الإنسان والمساواة والحرية.
إقرأ أيضًا: العولمة والهيمنة
إذا كان الإنسان المعاصر تحت رحمة العولمة التي أفقدته كل هُوية وجعلته فريسة للنزعات المادية والنفعية الاقتصادية التي يهمها الربح على حساب أي شكل من أشكال القيم الإنسانية، فإذا كان هذا هو وضع الإنسان في ظل العولمة، ففي المقابل تجعل الكونية الإنسان يبني هُويته، إلا أن هذه الهُوية ليست على غرار الهُويات السابقة الأحادية والإقصائية، بل بناء الهُوية المتعددة التي ينضوي تحتها جميع النوع البشري بغض النظر عن جنسهم ولونهم ودينهم وتوجههم السياسي أو الأيديولوجي، لأن ما يجمعهم هو إنسانية الإنسان التي هي فوق كل اعتبار.
حرب المفاهيم بوصفها شكلًا جديدًا من أشكال الحروب
بعد انهيار جدار برلين وسقوط المعسكر الشرقي المتمثل في الإتحاد السوفياتي، وبعد ما أصبح العالم أحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، آنذاك غُيرت استراتيجية الحرب من حرب عسكرية إلى حرب باردة تعتمد على الإعلام ليكون سلاحًا فعالًا.
من هنا غيرت استراتيجية الاستعمار والحرب التقليدية التي تعتمد على العسكر والسلاح إلى حرب فكرية واستعمار ثقافي يعتمد على تنميط الأفهام وتزييف الحقائق وتمويه الواقع، وذلك من طريق إعطاء صور مفبركة عن الواقع قصد السيطرة على العقول من أجل الإخضاع والتحكم.
تُعتبر حرب المفاهيم والمصطلحات، في هذا الباب، من بين صور تزييف الواقع والرغبة في السيطرة على العقول، وخير مثال نطرحه في هذا المقام هو مثال الإرهاب، وكيف أنه يُعد مفهومًا قبليَّ التحديد دلاليًا، أي أنه حمولته الدلالية حُددت قبل اختراع المصطلح ذاته، مما جعل من الصعب اتخاذ موقف إزاءه، لأن دلالة الإرهاب دلالة لا يُمكن أن يتفق عليها أي إنسان يحترم حق الحياة، أي ألا يتعدى على الآخر بالقتل والإبادة والتفجير وغيرها.
إذن فالجميع ضد الإرهاب بهذا المعنى، لكن المشكل كامن في الحمولة القبلية التي رُبط فيها بين الإرهاب والإسلام، فإذا قلت أنا ضد الإرهاب ضمنيًا تقول أنا ضد الإسلام، وهذا واضح في الصورة التي يُعطيها الإعلام الغربي عمومًا، فكلما تحدث عن الإرهاب كان الإسلام مرادفًا له، حتى جعل مواطني العالم لا يفرقون بين الإرهاب بوصفه فعلًا إجراميًا تُنكره جميع مواثيق العالم، بل وجميع الديانات التي جاءت لرفع الظلم والعدوان على الإنسان، وبين الإسلام بوصفه دينًا وحضارة لها تاريخها وإمكاناتها التي تتأسس على مبادئ إنسانية: كالحرية والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية.
إقرأ أيضًا: العولمة الثقافية والمواطنة العالمية
للأسف نجد بعض المسلمين يقعون في فخ هذا التعريف، فبدأوا يبررون فعل الإرهاب بالقول إنه من صميم القرآن في آية قرآنية ” تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” دون أن يعوا أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن الحمولة الدلالية لفعل الإرهاب حاليًا ليست هي نفسها كما جاءت في القرآن، لذا لا يجب خلط المفاهيم، بل يجب تحديد كل مفهوم على حدة، فعندما يسألني أحدهم هل أنت ضد الإرهاب، فجوابي هو أن أسأله أولًا عن تعريفه للإرهاب، فإذا كان هو التعدي على الآخر وسلب حريته في العيش سواء بالقتل أو التفجير أو غيره فنحن ضد هذا الفعل سواء أصطُلح عليه إرهابًا أم شيئًا آخر، أما إذا كان الإرهاب في مُخيلة السائل هو الإسلام فهذا يحتاج إلى وقفة لتحديد دلالات المفاهيم، كي لا نكون ضحية تحديدات وضعها الآخرون وأرادوا لنا اتباعهم دون إعمال عقلنا وفكرنا في البحث عن دلالاتها القبلية والأيديولوجية.
العلمانية وسوء الفهم
أود أن أقف قليلًا عند دلالة مفهوم العلمانية الذي ينخرط هو أيضًا في سلسلة المفاهيم المُلتبسة التي تحمل في طياتها تحديدات قبلية يجب الوقوف عليها لتفكيكها وتبيان مدى صحتها.
في هذا الإطار، ارتبطت دلالة العلمانية في مِخيال المجتمع العربي الإسلامي بالإمبريالية والاستعمار من جهة الحداثة، الشيء الذي لا يُمكن إنكاره، وهذا ما أكده محمد أركون لما رأى أن الغرب أسهم في خلق صورة سلبية عن الحداثة في الثقافة الإسلامية، لأنهم ربطوها بالاستعمار، وعندما واجه المسلمون الاستعمار واجهوا أيضا الحداثة التي قدمها الغرب في صورة استعمار، وليس في صورة التحديث والتكنولوجيا وحقوق الإنسان.
من جهة أخرى، كانت العلمانية مرتبطة كذلك باللادينية وبمعاداة الدين وكل ما يرتبط به، وخاصة في تجربة أتاتورك في تركيا، ذاك كوَّن أيضًا صورة مغلوطة عن العلمانية في المخيال العربي الإسلامي. وهذا ما جعل دعاة العلمانية حاليًا يُتهمون سواءً بالإلحاد أو بموالاة الغرب والرغبة في شن الحرب ضد الإسلام.
إذن للخروج من هذا اللبس المفاهيمي المُرتبط باللبس التاريخي الذي يجب رفعه، وذلك عن طريق تبيان أن علمانية تجربة أتاتورك لا تُمثل العلمانية في مفهومها الواسع، إذ هي تطبيق متطرف وأحادي لدلالة هذا المفهوم، كما أن الاستعمار استغل مقولة الحداثة لتمرير مخططاته التسلطية، فلا نحكم على المفهوم انطلاقًا من تطبيقه، كما لا يمكن أن نحكم على الإسلام بوصفه مبادئ إنسانية انطلاقًا من تطبيقات البعض وممارساتهم التي لا علاقة لها برُوح الإسلام.
على هذا الأساس نقول، إذا كانت العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، ذاك لا يعني إقصاء الدين من الحياة، بل وضع حد لاستغلال الدين من طرف الدولة، وذلك من خلال قهر الأقليات الدينية وفرض فهم معين للإسلام المُتسم في ذاته بتعدد الأفهام والقراءات، لذا يجب أن يكون سؤال الدين معطى للمجتمع المدني لتحديد القراءة والتأويل الذي يتبناه المجتمع من طريق التدافع بين جميع تيارات المجتمع، في حين يبقى دور الدولة في تدبير هذا التدافع وتنظيم العلاقات المجتمعية على أساس المواطنة.
ليس إذن فصل الدين عن الدولة هو شن الحرب ضد الدين، بل على العكس تمامًا، إنه إخراج الدين من دائرة السياسة الخبيثة بطبعها والتي تستغل كل ما تجده في طريقها مهما كان نوعه، وبذلك نحفظ للدين هيبته التي ترفع من مكانة الإنسان الرُوحية والتي تترجم في علاقاته الاجتماعية وتعامله مع الآخرين، ونترك بذلك السياسة للتدافع المجتمعي الذي يتأسس على التعاقد الاجتماعي بين الأفراد بمختلف مشاربهم من أجل ضمان العيش المشترك والذي يجد فيه كل فرد مكانه وقيمته وحريته.
الديمقراطية آلية للحكم أم ثقافة مجتمعية؟
ثمة لبس آخر لمفهوم من كثرة تداوله فقد دلالته العميقة، إنه مفهوم الديمقراطية. يتجلى هذا اللبس خصوصًا في خطابات الإسلاميين الذين يختزلون الديمقراطية في صناديق الاقتراع، ويرونها وسيلة للوصول إلى الحكم، في حين أن الديمقراطية قبل أن تكون حُكم الأغلبية هي ثقافة تُنظم العلاقة بين جميع أطياف المجتمع، فإذا ما تم وحكمت أغلبية، فهذا لا يعني إقصاءً للأقلية أو إجبارها على اتباع أيديولوجية الأغلبية، لأن الجميع ينضوي تحت لواء ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان التي يجب على كل من تولى الحكم أن يحترمها وليس أن يفرض أيديولوجيته فقط لأنه يُمثل أغلبية.
في هذا الصدد نذكر مثال أدولف هتلر الذي وصل إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية، وعن طريق صناديق الاقتراع، لذا فلا يُمكن أن نختزل الديمقراطية في الانتخابات، ما لم نُؤسس بداءة ثقافة الديمقراطية التي قوامها التعدد والاختلاف والمساواة وحقوق الإنسان، وهذا ما يجب على الإسلاميين أن يستوعبوه في ممارساتهم، خاصة في المغرب، كي لا يسقطوا فيما سقط فيه الإسلاميين في مصر فقد ظنوا أنه بالوصول إلى الحكم تنتهي الديمقراطية، بل العكس هو الصحيح، لأن الديمقراطية تبدأ في لحظة الوصول إلى الحكم.
أي حوار ممكن بين العلمانيين والإسلاميين
إن الصراع القائم بين هاذين القطبين العلماني والإسلامي قد يجد ما يبرره تاريخيًا من طريق ارتباط الحداثة بالإمبريالية والاستعمار، والإسلام بالجهاد ومقاومة الآخر المُختزل في صورة المستعمِر، غير أن الإشكال كامن في كون هذا التبرير لا يفتأ يُترجم اقتصاديًا وسياسيًا في مجتمع قد يُحدد خارج هذه الثنائية ارتباطًا بالمعطيات السوسيو- ثقافية وبالمؤشرات الاقتصادية.
من هنا نلحظ أن تحديد الصالح العام لدى الطرفين (العلماني والإسلامي) يجد جذوره في المخيال التاريخي لكلا التيارين، مما يحتم بداءة الوقوف على المكون التاريخي لهذين القطبين، وكيف أنهما مرتبطان بفترة تاريخية اتسمت بطابعها الأيديولوجي أكثر مما كان همها الإصلاح الاقتصادي والتربوي والسياسي للمجتمع.
بناءً على هذا المعطى نرى أن على الطرفين (العلماني والإسلامي) تجاوز الطابع الأيديولوجي الذي لا ينسجم وتطلعات المجتمع الشبابي بامتياز والذي يرنو إلى توسيع مجال الحريات الفردية وصلاحيات المجتمع المدني؛ هذا المعطى يفرض على التيارين فتح باب الحوار المنخرط في أفق توسيع إمكانات هذا المُعطى سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
أولًا، مقوم من مقومات هذا الحوار هو تحديد المفاهيم (علمانية، إسلامية) والوقوف عند التقابل علماني/إسلامي الذي يُوهم بكون الفريق الأول لا علاقة له بالإسلام وأن الفريق الآخر عدو لكل حداثة وتحديث، هذا ما جعل العلمانية في المخيال المجتمعي العربي مرتبطة باللادينية، والإسلام مرتبطًا بالإرهاب في المخيال المجتمعي الغربي.
من هنا ضرورة بناء أرضية مشتركة لمحاصرة دعاة التطرف من العلمانيين والإسلاميين معًا، أي أولئك الذين يعتنقون فكرًا هجوميًّا ويستخدمون لغة إقصائية تدَّعي امتلاك الحقيقة وتحارب مخالفيها، وكذلك لتجاوز الاتهامات المُتبادلة (إرهابي، متطرف، متغرب، زنديق، متشدد) والخروج من منطق الثنائيات: إما المشروع العلماني وإما المشروع الإسلامي الذي يتسم بفكرتي الاختزالية وتعميم الأحكام، الشيء الذي يجب تجاوزه.
هذا الوعي لدى الطرفين يُبين مدى إدراكهما أن الإسهام في تغيير المجتمع يقتضي تجاوزًا أيديولوجيًّا والتزامًا بقضايا الإنسان والمجتمع من طريق المشاركة في إقامة مشروع ديمقراطي قوامه التعددية السياسية، التنمية الاقتصادية، التنوع الثقافي وتدبير شؤون الدولة والمجتمع، انطلاقًا من ثقافة إنسانية تنفتح على مشارب متعددة رُوحية كانت أم فلسفية.
إشكالات وتساؤلات مطروحة للنقاش
قبل أن نختم مقالتنا تلك سنحاول طرح عدة إشكالات وتساؤلات أتركها مفتوحة للقراء الكرام قَصْد بحثها وتدارسها بعيون ناقدة ونظرة فلسفية عميقة. بكلمة أخرى، سأترك المجال للقراء لتطبيق ما يُمكن استفادته من المقالات السابقة في استشكال ومقاربة ما سأقوم بطرحه من تساؤلات، وذلك بالاعتماد على إستراتيجيات التفكير التي تطرقنا لها: كالوقوف على البداهات والشك المنهجي والنقد البناء وأخذ الوقت في التحليل وإعادة التحليل لدراسة المسألة من جميع جوانبها والأخذ في الحسبان أن الأمر يتعلق بوجهات النظر وليس بحقائق لا تقبل النقاش، بالإضافة إلى اعتماد مبدأ النسبية والتعدد والاختلاف في مقاربة هذه الإشكالات.
إليكم إذن بعض الإشكالات التي تحتاج إلى نقاش عميق في مجتمعنا والتي يُمكن أن نجد لها أجوبة بالاعتماد على مبادئ التفكير الآنفة الذكر:
- كيف يُمكن الانخراط في سيرورة الديمقراطية وحقوق الإنسان مع الحفاظ على الخصوصية المغربية والثقافة المغربية؟ وهل أصلًا هناك تعارض بين الخصوصية المتمثلة في الأعراف والقيم والثقافة المغربية وبين الكونية المُتمثلة في التعدد والاختلاف وحقوق الإنسان؟
- كيف يُمكن الحفاظ، بل تدبير التعدد الثقافي واللُّغوي في المغرب من عربية وأمازيغية وحسانية وفرنسية وإسبانية وذلك بحكم التاريخ الذي جعلنا متعددين ثقافيا ولُغويًا؟
- كيف يُمكن إعادة قراءة التراث الإسلامي قَصْد الإجابة عن تساؤلات راهنة خاصة بخصوص قضية المرأة ومسألة المساواة بين الجنسين وغيرها من الإشكالات التي تجد جذورها في الماضي وتحتاج إلى إعادة تأويل وقراءة متجددة على ضوء معطيات الواقع الحالي؟
- كيف يُمكن التأسيس لثقافة التعدد والاختلاف الديني بالمغرب اعتمادًا على قراءات متنورة للتراث الإسلامي وبلورة ثقافة قوامها المواطنة والتسامح في ظل انتشار تيار أصولي لا يقبل الاختلاف ولا التعدد باسم الهُوية الواحدة والوحيدة؟
- كيف يُمكن بكلمة واحدة الخروج من كل أشكال الحَجْرِ والوصاية الثقافية والسياسية والأيديولوجية التي تحاول أن تحكم عقولنا وتحد من حريتنا في التعبير والإبداع، للدخول في مجتمع قوامه الاحترام والتعدد والتسامح والتربية على المواطنة وحقوق الإنسان.
أتمنى أن أكون قد لامست في هذه المقالة الجوانب المُهمة في الموضوع، وطرحت بعض التساؤلات التي ما تزال تفرض نفسها علينا في حاضرنا، مُبينًا بذلك أن التساؤل والنقد والتحليل وعدم التسليم بما يُقال وما ينشره الإعلام هو الطريق الأمثل لخلق مجتمع مُبدع وليس تابعًا، مُنتج وليس مُستهلكًا، واعٍ وليس مُستلَبًا.
هذا وأتمنى في الأخير أن تتحصل لدينا الرغبة في بلورة مثل هذه الإشكالات في أذهاننا، وإعادة إحياء فلسفة التساؤل والاستفهام لدينا، وذلك للسير قدما، نحو فكر أنقى، ومجتمع أرقى.