تكوين

 عُثِرَ على قطعة أثرية مكتملة في أثناء تنقيب عالم آثار وفريقه في أحد المواقع الأثرية. تَجمهر فريق العمل كله بما فيهم عالم الآثار، حول القطعة مبهورين بجمالها. بعد معالجتها وفقًا للأصول، بدَؤوا دراستَها ليتعرفوا من طريقها على معلومات كثيرة تُشير إلى زمن المجتمع الذي وُجِدَت فيه. ثُمَّ عُرِضَت في أحد المتاحف. وكانت عبارة عن جرة فخارية تُستخدم لشرب الماء أو حفظه. وبعد فترة زمنية عُثِرَ في موقع آخر على جرة فخارية تعود إلى زمن أحدث من زمن الجرة السابقة، لكنها كانت مزخرفة برسومات.

بين الجرة الأولى والثانية لا فارق في الشكل، لكن العلامة الأبرز تكمن في مسألة التزيين، أي التجميل المُضاف إلى القطعة المستخدمة. وهذا ما يُدخلنا إلى عنصر آخر في هذه الأداة المصنوعة. فالأولى كانت مخصصة للاستخدام، وكذلك الثانية، لكن الإضافة في القطعة الثانية تتمثل في إدخال عنصر جمالي يندمج مع الوظيفة الاستعمالية للجرة. فيصبح عنصر الجمال -أي عملية التزيين- جزءًا لا يتجزأ من الجرة، ما يُضفي عليها قيمة أعلى من قيمتها الاستعمالية. فالجمال هنا لا قيمة استعمالية له، بل قيمته متجذرة في مفهوم الإنسان للجمال.

وما يزال الجمال يحمل قيمه حتى وقتنا الراهن، لكن قيمه أصبحت في مقام آخر، وكذلك استخداماته أصبح في مكان آخر. فحاليًا هناك تركيز كبير على جسد الإنسان، طبعًا وسلعًا كثيرة أيضًا، لكن لنبقى في الجمال الجسدي للإنسان ومحاولات جعله في أبهى أشكاله. فانتشرت النوادي الرياضية صاحبة الإعلانات الباهرة التي تُوحي بتحويل أكثر الأجساد ترهلًا إلى أجساد جميلة. وإن لم تكن (أو تكوني) من هواة النوادي الرياضية، فالبديل موجود: عمليات تجميل. من عمليات نحت الجسد، وصولًا إلى عمليات تجميل محددة لأجزاء دقيقة منه، حتى لو كان إصبع القدم الصغير!

لذا البحث عن الجمال وقيمِه المعيارية وعنه، ليس بتلك المسألة المحصورة في عالمنا الراهن. فقد تفكر فيه الفكر البشريُ منذ البذور الأولى لتكون الحضارات، وهذا الأمر جليٌّ من الآثار الأولى التي خلَّفها الإنسان، منذ فترة ما قبل التاريخ. وقد تكون عمليةُ تزيين الفخاريات وجدران المعابد والقصور في الحضارات السابقة، من أبرز الأدلة على اهتمام الإنسان بمفهوم الجمال.

لم يكتفِ الإنسان بتجميل الأشياء، بل حاول أن يُجمل جسده ليتوافق مع نظرته لمفهوم الجمال. وبعامة يُمكن القول إن الجمال ينقسم إلى جمالين:

  • جمال الطبيعة، ما تنتجه الطبيعة من دون أي تدخل بشري في عمل الطبيعة. مثلًا جمال الوردة في البراري. وردة تنمو وتتكون وتأخذ كل صفاتها الطبيعية من دون أي تدخل بشري، أو جمال الغابات الطبيعية، وهذا ما يُمكن أن يقال عنه (الطبيعة البكر أو الطبيعة العذراء).
  • جمال من صنع الإنسان، عندما يتدخل الإنسان بأي شكل كان في الطبيعة، ليخلق شكلًا معينًا. على سبيل المثال الأزهار المُهجنة، بالإضافة إلى محاولات الإنسان لصنع أشياء جميلة لا تُنتجها الطبيعة، مثل: البناء والملابس والشوارع والموسيقى والنحت والرسم… فكل هذه “الصناعة” مهما كانت مستويات جمالها، ليست بجمال طبيعي مهما حاول أن يدعي الإنسان هذا، فكلها سلع مصنعة بطريقة جميلة من أجل البيع وهي من صنع الإنسان. لذا يُمكن أن نطلق عليها أنها عملية “تجميل”.

ووصل الأمر إلى حدود تسليع جسد الإنسان بعد تجميله، ليتحول الإنسان من طريق هذه العملية إلى جسد مُجَمَّل، ليكون سلعة مثله مثل أي سلعة من سلع السوق. هنا ندخل إلى أكذوبة تسليع جمال كاذب.

ما يزال الجمال يُمثُّل عنصرًا أساسيًا في المجتمع البشري حتى يومنا هذا، لكنه لم يعد كما كان في الماضي. فمنذ هيمنة مفهوم السوق، وهو يعمل جاهدًا على تسليع كل ما يمكن تسليعه، حتى وصلت هذه الآلية إلى الجمال ذاته!

لتحويل الفكرة إلى سلعة، لا بُد أولًا، من صناعة نموذج يُجسِّد هذه الفكرة. نموذجًا يُحتذى به يُطرح في الأسواق. وكان نموذج الجمال هو البداءة، مع ظهور عالم التلفزيون والممثلين التلفزيونيين (ذكورًا وإناثًا). ولم نذكر السينما هنا لأن التلفزيون – بحكم دخوله كل منزل- كان أكثر تأثيرًا في تكوين أفكار المشاهدين.

وقد يكون البطل أو البطلة التلفزيونية أول نموذج للجمال تم تسويقه، ثم تطور الأمر ليشمل السينما أيضًا في صناعة النماذج، بدءًا من جايمس دين وصولًا إلى مارلين مونرو، مرورًا بما تبعهما من نجوم مثل جون ترافولتا وتوم كروز وغيرهم

مَثَّلت هذه النماذج الجمالية سلعةً حاول الجميع تقليدها في الشكل. والشكل هنا كان في الملبس والتصرف وقصات الشعر … لكن مع الوقت أصبح هناك أمور أكثر تفننًا في صناعة النموذج الجمالي المعد للتسليع. فكان بداءة نموذج مستحضرات التجميل. لا يعني هذا أنها لم تكن متواجدة، ولكنها تحولت لتصبح ضرورة من ضروريات “الجمال”. وأصبح البقاء بعمر الشباب معيارًا أساسيًا للجمال الخارجي، فكان لتزاوج عالم عرض الأزياء مع عالم السينما والشاشة الصغيرة دورًا فاعلًا في صناعة النموذج المُجَمل بواسطة مساحيق التجميل.

من هنا تكون في الوعي الجمعي أن محاولة تقليد هذا النموذج المُصنع سوف يمنح الجمال والشباب لكل من يستطيع اقتناء واستخدام هذه المستحضرات ويتمتع بجميع مواصفات هذا النموذج. فأخذت أدوات سوق التجميل بالتوسع وبدء ضخ الاستثمار بها لأن مستهلكيها في تزايد لاقتناعهم بالنموذج المُصنع. فأصبح سوق مستحضرات التجميل يحظى بحصة كبيرة من السوق العالمية. فقد وصلت قيمة أدوات التجميل في السوق العالمي إلى ما يقرب 300 مليار دولارًا في عام 2022! ومن المتوقع أن تصل إلى ما يقرب 417 مليار دولارًا في عام 2030.

أرقام تُشير إلى ارتفاع مستمر في المبيعات على الرغم من الأزمة العالمية! كيف لهذا السوق ألا ترتفع حصته وقد أصبح من مستلزمات الحياة اليومية لمعظم نساء العالم، الأغنياء والفقراء. وبخاصة الفقراء لأن ما يطالهم من عمليات تكوين المفاهيم الخاطئة أعمق بكثير من الأغنياء. فالأغنياء يستطيعون تغطية تكاليف هكذا منتجات لكن الفقراء يعملون بجهد أكبر ويتعرضون لاستغلال أكبر من أجل تغطية تكاليف هذه المستحضرات التجميلية! وبخاصة بعد أن عملت هذه النماذج الجمالية المصنعة على تغيير في بعض القيم الاجتماعية. وتبقى النساء صاحبة الحصة الاستهلاكية الأكبر من هذا السوق، فوفقًا لتقرير صادر عن الحكومة الأسترالية في عام 2020، أن النساء العاملات يستحوذون على حصة 47% من سوق مستحضرات التجميل.

فهل هذا يعني أن على النساء أن يكن جميلات للحصول على عمل؟ وجمالهن لا يُستكمل إلا باستخدام أدوات التجميل؟ هل أصبحت عملية التجمل بواسطة مستحضرات التجميل مسألة حياتية في بعض المجتمعات للحصول على زوج أو رفيق؟ أم أن التجمل يرفع من الشأن والموقع الاجتماعي؟ أسئلة تعكس إشكاليات تشير إلى مدى تأثير هذه الشركات المُصنعة لأدوات التجميل في النسيج الاجتماعي في جميع أنحاء العالم.

لم يتوقف الأمر عند مستحضرات التجميل، فقد عمد مروجو النموذج إلى الذهاب إلى أبعد من هذا. فالمستحضرات التجميلية مستحضرات دائمة الاستهلاك، بمعنى على المستهلك أن يستمر بعملية الشراء على مدى الحياة. فكان الحل بالدخول إلى عالم الطب. فعمل المسوقين لإدخال تجميل الجسد داخل حيز التسليع من طريق كل الوسائل المتاحة:

  • الصورة المتحركة، مثل: السينما والتلفزيون والشبكة العنكبوتية وتفرعاتها، بالإضافة إلى عالم الغناء والموسيقى وظهور مشاهير هذا العالم. فتحول هؤلاء المشاهير إلى أصحاب الملايين، وأصبح هذا الممثل أو تلك الممثلة أو المغني او المغنية نموذجًا للجمال الجسدي والأناقة.

هنا دخل مفهوم الجمال الجسدي، ليصبح سلعة فتطور فرع الطب التجميلي لكثرة الاستثمار في هذا الحقل. والنماذج كثيرة منها على سبيل المثال المغنية جنيفر لوبيز وأخبار مؤخرتها والتأمين عليها بمبلغ 27 مليون دولار خير دليل على هذا، والمغنية ماريه كاري تُؤَمِّن على ساقيها بمبلغ مليار دولار، وهولي مديسون تُؤَمِّن على ثدييها بمليون دولار… واللائحة تطول!

وبهذا دخل الطب التجميلي وعمليات التجميل إلى حقل المنافسة، وأخذ يحتلُّ مركزًا في سوق الجمال. فقد بلغت حصة عمليات التجميل ما يقرب 56 مليار دولارًا في عام 2022 ومن المتوقع أن تصل إلى ما يقرب 201 مليار دولارًا في عام 2031!

من طريق هذه العملية التسويقية أصبح الجمال الطبيعي لا قيمة له ما لم يكن متطابقًا مع قيم النموذج المُصنع. تشويه لقيمة الجمال أوهم الشباب، وضمنًا بعض من هم فوق هذه الفئة العمرية، أنه مخلوق “قبيح” ما لم يكن جسده أو جسدها متطابقًا بالشكل مع هذا “الفنان”، وتحديدًا الممثل أو الممثلة أو المغني أو المغنية. استخدام كلمة “مغني” أو “مغنية” لم يأتِ عن عبث بسبب الفارق الكبير بين كلمة “مغني” و”مطرب” فحاليًا يندر وجود المطربين والمطربات ويكثر وجود المغنين والمغنيات.

و”القبح” الجسدي مسألة غير مقبولة بالأعراف الاجتماعية، بسبب هيمنة فكرة الجمال المشوهة، والحل لهذه المسألة عملية تجميل الجسد ليصبح “جسدي” كـ “جسده” أو “جسدها”. وهنا استحوذ الشكل الجسدي حيزًا كبيرًا على ذهن الأغلبية وأصبحوا مهمومين بكيفية تأمين تكاليف عمليات التجميل، ومساحيق التجميل وبخاصة تلك المساحيق التي تخفي تجاعيد الزمن، للحفاظ على أجسادهم و”جمالها” وفقًا للنموذج المحتذى، وبخاصة مع الهوس بالبقاء بعمر الشباب شكلًا لا مضمونًا. متناسين أن عملية تجميل الجسد لا تُلغي الفوارق بين “المقلد” و”الأصل” ولا تُطيل من عمر الإنسان، ولا تُعيده إلى عمر الشباب…

فأصبحنا اليوم نعيش في ظل وهم جمال جسدي مزيف يزيد من أعبائنا المالية، وبخاصة زيادة الأعباء المالية على الطبقة الفقيرة، ويزيد من أرباح شركات مساحيق التجميل وأرباح أطباء التجميل.

كما أن هناك بُعد سلبي آخر لتشويه مفهوم الجمال، في المستوى النفسي والاجتماعي. فقد صيغ معيار جمالي محدد على الجميع اتباعه، وإلا أصبح “قبيحًا”. ما يؤدي إلى نوع من النبذ الاجتماعي لهذا “القبيح” جسديًا وهذا بدوره يؤدي إلى انعكاسات سلبية على المستوى النفسي. فعلى سبيل المثال لا الحصر ما يتعلق بمسألة الزواج ومدى العلاقة بين مفهوم الجمال والزواج، وتحديدًا في مجتمعاتنا العربية. بالإضافة إلى هذا هناك مسألة عدم قبول الشخص لشكله، وما يولد هذا الرفض من أمراض نفسية.

لا يعني هذا أن على طب التجميل أن يتوقف عن التطور ويلغى من عالم الطب. بل على العكس، فهو اختصاص مهم لمعالجة التشوهات الجسدية، سواء كانت ناجمة عن: تشوهات ولادية أو إصابات عمل أو حروب أو أي مسببات أخرى تؤدي إلى تشوهات جسدية.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فهناك البُعد النفسي والاجتماعي الذي يمكن أن يلعبه الطب التجميلي بإعادة الدمج الاجتماعي والصحة النفسية. وكذلك الأمر بخصوص مستحضرات التجميل، فهي عملية تزينية متعارف عليها منذ أقدم العصور، لكن أن تصبح ضرورة معيشية لخدمة أرباح السوق فهذا أمرٌ غير مقبول.

من هنا يُقال: “ما أجملك!” حاليًا، ليس المقصود جمالُ الشخص، لأن جمالَه -أو جمالَها- لم يعد جمالًا طبيعيًا، بل أصبح جمالَ عملية التجميل أو جمالَ مستحضرات التجميل. فالغزل هنا في المستحضر أو بمهارة الطبيب الذي قام بعملية التجميل. والأصح أن الغزل موجَّهٌ ليس إلى الشخص، بل إلى النموذج المُصَنَّع. لتصبح عبارة “ما أجملك” تعني: أنت جميل (أو جميلة) لأنك تشبه “جمالَ” النموذج المُصَنَّع. وما أنت -أيها “المُجَمَّل”- سوى مستهلِكٍ، تُسهم بطريقة مباشرة في صناعة النماذج المصنَّعة. فغدًا سيكون هناك نموذج جديد، وما عليك سوى الذهاب إلى طبيب تجميل، أو تغيير مستحضر تجميلي، لتواكب عصرَ تصنيع النماذج المُصَنَّعة.

انزياح في أسلوب العمل

هناك أمرٌ آخر مطموس في كل هذه العملية -نادرًا ما يُذكر- ويتعلق بالتغيير في أسلوب العمل. فالإنسان منذ ظهوره وهو في صراع مع الطبيعة لإنتاج وسائل عَيشه. في البداءة اعتمد اعتمادًا كُلّيًا على قوته العضلية ووعيه بكيفية إنتاج هذه الوسائل. ومع تطور وعيه، بدأ بتطوير وسائل إنتاجه، من تدجين الحيوانات وصولًا إلى اكتشاف الزراعة واستقراره… وفي جميع هذه المراحل، اعتمد غالبًا على قوته العضلية، مُستعينًا بالقوة العضلية للحيوان لإنتاج مستلزمات عيشه.

لكن منذ الثورة الصناعية، حدث انزياح رئيس في عملية الإنتاج، وخاصةً ما يتعلق بالعمل. ولن ندخل هنا في جميع أبعاد الثورة الصناعية، بل ما يهمنا هو بُعدُ الاستخدام العضلي. فقد اكتشف الإنسان الآلةَ (المحركَ البخاريَّ)، وهنا بدأ الانزياحُ من الاعتماد على القوة العضلية نحو الاعتماد على قوة الآلة في عملية الإنتاج. انزياحٌ تدريجي اُستُهِلَّ مع المحرك البخاري، ليصل اليوم إلى عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

هذا الانزياح أدى إلى أدنى جُهد عضلي بشري في عملية الإنتاج بكافة تفرعاتها، وأصبحت معظم أعمال الإنسان مكتبية، أي أن الإنسان يجلس في مكتب وينجز عمله بأقل حركة -جُهد عضلي- ممكنة. حتى تلك الأعمال التي كانت في حاجة إلى جُهد عضلي أصبحت قليلة جدًا وتسير باتجاه الانقراض.

ومن أبسط الأمثلة على ذلك عملية التسوّق. فحاليًا تتدنى تدريجيًا حاجة النزول إلى السوق للتسوّق، بغض النظر عن السلعة أو السلع المراد شراؤها، إذ يُمكن التسوّق إلكترونيًا عبر المواقع الإلكترونية، لتصل السلعة المشتراة إلى بيت المشتري دون حاجة إلى السير في المحال التجارية واختيار السلع يدويًا. كما تتم عملية الدفع إلكترونيًا عبر بطاقات الائتمان المصرفية.

وهكذا تتم كل عملية تسوّق بأقل جُهد عضلي ممكن، فتنجز من البداءة إلى النهاية والمشتري جالس على أريكته يشاهد التلفاز. حتى عملية توصيل السلع المشتراة تتم بأقل جُهد عضلي، نظرًا لأن وسائل النقل الحديثة -من الدراجات النارية إلى السيارات- لا تحتاج إلى جُهد عضلي كبير للتعامل معها.

أدى التدني في الاستخدام العضلي -بسبب التغيير في طبيعة العمل والتطور التكنولوجي- إلى تراكم الدهون في الجسم، مما يتسبب في الإصابة بالسمنة وما يرتبط بها من أمراض صحية. فإنسان اليوم في طبيعة طعامه مثله مثل إنسان الأمس في طبيعة طعامه، لكن بمجهود عضلي أقل بكثير.

لذلك ظهرت الحاجة إلى النوادي الرياضية وأنظمة الريجيم… من أجل الحفاظ على موروث فكرة الجمال الجسدي، وإبرازه بالصورة النمطية الراسخة في الذاكرة الجمعية. صورةٌ تستخدمها جميع وسائل الإعلام لتكريسها، رغم استحالة تحقيقها بسبب الانزياح نحو الاعتماد على قوة الآلة.

والهدف من ترسيخ هذه الصورة هو إدخالها في آليات التسليع، حيث تستفيد الصناعات الاستهلاكية من هذه العملية، فتوفر جميع الوسائل الممكنة لتسويق صورة الجسد الجميل. هذا كله يحدث رغم علم جميع أطراف عملية التسليع باستحالة الوصول إلى هذه الصورة الجميلة، في حين تُطمس كل العوامل التي أدت إلى التغيرات في شكل الجسد البشري، من السمنة إلى الأمراض المرتبطة بنمط الحياة الحديث.

ها نحن اليوم نشهد تسليع كل ما يُمكن أن يُولِّد جمالًا كاذبًا، من مساحيق التجميل إلى عمليات التجميل، وعمليات شفط الدهون، وأنظمة الريجيم… لحظة! فلنتوقف قليلًا عن الجري خلف هذه الأكاذيب التسويقية الاستهلاكية، ولنفكر في إيجاد توازن بين القوة العضلية للإنسان في عملية الإنتاج وقوة الآلة. أليس هذا خيارًا أكثر حكمة من الانسياق وراء كل ما يُضَخُّ في عقولنا من آليات السوق؟

لا يعني هذا الدعوة إلى التخلي عن الآلة في عملية الإنتاج أو التوقف عن تطويرها، بل ندعو هنا إلى الخروج من أوهام تسليع الجمال الكاذب. إنما المقصود هو السعي نحو الجمال الحقيقي، ليس الجمال الجسدي فحسب، وإنما جمالية الإنسان.

الجمال عند الفلاسفة

فقد حولت الأسواق قيمة الجمال التي بحث عنها الفلاسفة منذ ما قبل الفلسفة اليونانية وصولًا فلاسفة اليوم إلى سلعة كاذبة مطروحة بالأسواق وخاضعة لقوانينه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وهذا ما كان له تأثير كبير في تعميم فكرة الجمال السلعي الكاذب، في لبنان ما قبل الازمة الاقتصادية التي أصابته طرحت بعض مصارفه إعلانات في الشوارع تدعوا فيه الناس إلى الاقتراض من المصرف للقيام بعملية تجميل!

وهنا تبرز الإشكالية الجوهرية: صراع المفهوم الفلسفي للجمال مع آليات التسليع الحديثة. فبينما ظل الفلاسفة منذ أفلاطون حتى فلاسفة اليوم يبحثون عن معنى الجمال ومعاييره، ها هي آليات السوق تحوّله إلى سلعة خاضع فيها لآليات السوق.

هذا التناقض يضع الفكر الفلسفي أمام تحدٍ: كيف يُمكن استعادة المفهوم الجمالي من براثن السوق الاستهلاكية؟ وكيف نُعيد إلى الجمال بُعده الإنساني المتعالي عن قيمته السلعية الخاضعة لقوانين السوق؟ إنها معركة فكرية ضد نماذج الجمال “المُعلّبة” التي تفرضها صناعة التجميل وجمال المشاهير الكاذب.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete