تطرف الديني ضد الحداثي: جاك ماريتان نموذجًا

 تكوين

لكن يرفض ماريتان هذا التصور الديكارتي، وما يثير حفيظته هو اعتقاده بأن ديكارت قلل من شأن اللاهوت لصالح الفلسفة، وجعل من الفلسفة بمناهجها العقلية أقدر من اللاهوت على إثبات حقائق الإيمان.

لكن يُمثل هذا التصور الديكارتي من وجهة نظر ماريتان، تهديدًا كبيرًا للعقيدة المسيحية، إذ يرى ماريتان أن ديكارت قد سعى في تأسيس العلوم الدينية على العقل وحده ووفقًا لقواه فقط، وبعيدًا عن نور الإيمان واللاهوت. وهو ما ترتب عليه أن “أصبحت الحقيقة منفصلة عن النواحي الرُوحية التي هبطت عليها من أعالي الرُوح”([1]). فما يريده ماريتان هو أن يستنير العقل ويهتدي بنور الحقائق الإيمانية والرُوحية. والإيمان الذي يقصده ماريتان هنا هو الإيمان بما لم ترهُ عين، وما لم تسمع عنه أذن.

فحقائق الإيمان أولية بدهية تسمو على مستوى تفكيرنا العقلي، مما يستعصي البرهنة عليها عقليًا وفلسفيًا. فالإيمان واللاهوت لدى ماريتان أسبق من العقل والفلسفة في إدراكهما للحقيقة بشتى صورها، وهو ما أكده قائلا:

“في الحقيقة تتلقى الفلسفة من الإيمان واللاهوت مساعدة دونها -قال اللاهوتيون- إنها لن تكون قادرة على إدراك طبيعتها الحقيقية، وقد تخفق الفلسفة في أن توجد لتكون معرفة عقلية إن لم تدرك حقائق اللاهوت”([2]).

ولا يقف ماريتان عند هذا الحد، بل يمضي لأبعد من ذلك، حينما يرد الاعتبار إلى اللاهوت مرة أخرى ويضعه على قمة العلوم جميعها “للاهوت نطاق سلطة على العلوم كلها، وأن سلطته يجب أن تمتد إلى موضوعات الإثنولوجيا والسسيولوجيا والسياسة، كما يجب أن تمتد إلى تأويل كل التاريخ الدنيوي”([3]). اللاهوت وفق ما يراه ماريتان، أسمى من كل العلوم العقلية، لأن موضوعه إلهي، ولهذا يجب أن يتسيد عليها وينيرها بنوره الذي دونه لن تكون شيئًا سوى علومًا زائفةً.

التمييز بين الله وعلم اللاهوت

تكمن المشكلة لدى ماريتان في عدم وجود معايير واضحة للتميز بين الله وعلوم اللاهوت؛ وهي العلوم التي تدرس الله التي هي منتج بشري في المقام الأول والأخير. لقد ساوي ماريتان بينهما في درجة يقينهما، معتقدًا بمعصومية اللاهوتيين من الخطأ، لكن هذه الهفوة هي ما تداركها ديكارت في كتابه مبادئ الفلسفة حينما مَيَّزَ بينهما تمييزًا واضحًا عندما قال: “(…) إن ما أنزله الله هو اليقين الذي لا يعادله أي يقين آخر، فإذا بدا أن ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بشيء يخالف ذلك، وجب أن نُخضع حكمنا لما يجيء من عند الله. أما الحقائق التي لم يرد عنها شيء في التنزيل فليس مما يتفق مع طبع الفيلسوف أن يسلم بصحة شيء لم يتحقق منه”([4]).

يشير ديكارت في هذا النص إلى أن حقائق الكتاب المقدس لا يعتريها الشك، فهي تتسم بالدقة واليقين. وأن أي تعارض بينها وبين العقل معناه قصورًا في العملية العقلية الاستدلالية التي يجب أن تُذعن في النهاية ليقين الوحي والكتاب المقدس، لكن ما عدا ذلك يُطالبنا ديكارت بإخضاع كل الحقائق لقاعدة الوضوح والبداهة التي تنص على أنه ألا أفترض شيئًا ما بوصفه يقينيًا ما لم يتبدَّ لي في وضوح وتميز أنه كذلك. ولم يستثنِ ديكارت من هذه القاعدة شيئًا حتى اللاهوت، داعيًا بذلك إلى أن نستبدل باللاهوت الديني لاهوتًا عقليًا وفلسفيًا.

دعوة ديكارت هذه لتطبيق قاعدة الوضوح والبداهة على اللاهوت هي ما جعلت ماريتان يرفض الديكارتية، إيمانًا منه بأن حقائق الإيمان واللاهوت ليست حقائق الرياضيات، فحقائق اللاهوت صوفية تتضمن بُعدًا وجدانيًا غامضًا. وبسبب تطبيق هذه القاعدة على العلوم الدينية، عانى اللاهوت كثيرًا في فلسفة ديكارت وتجرد من كل سماته العلمية التي كانت تُعزى إليه فيما سبق. وهو ما نتج عنه انفصال الفلسفة عن علم اللاهوت وحكمته انفصالًا تامًا. فديكارت وفق ما يراه ماريتان، لم ينشد خلاصَ الإنسان عن طريق الوحي واللاهوت، بل “قصد خلاص البشرية بواسطة العقل وحده”([5]).

لم يقف الخلاف بين ماريتان وديكارت عند الموقف من الفلسفتين: التأملية والعملية، ولا عند الموقف من اللاهوت فحسب، وإنما امتد ليشمل الميتافيزيقا والفيزيقا الديكارتية أيضًا. وتتمثل الميتافيزيقا الديكارتية في اليقين الأول، وجود الأنا المفكر وخلود النفس. وفي اليقين الثاني، وجود الله وصفاته الذي يُعد بدوره الأساس لوجود كل يقين أخر، وبالتحديد وجود العالم المادي.

من المعروف أن ديكارت يُشَبِّهُ الفلسفة في كتابه المبادئ بشجرة “جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي ترجع إلى ثلاثة علوم كبرى هي: الطب والميكانيكا والأخلاق“([6]). عندما شرع ديكارت في تأسيس نسقه الفلسفي فقد جعل الميتافيزيقا هي الأساس الذي سوف يُشيد عليه هذا البناء. فهي الأصل أو الجذر الذي ستقوم عليه الفيزيقا، ولم يهتم ديكارت بالفصل بين الميتافيزيقا والفيزيقا في درجة اليقين أو التدرج المعرفي أو إن إحداهما أسمى من الآخر، بل أقام بينهما حبلًا موصولًا. فاليقين الميتافيزيقي الذي مصدره الله، يتحول مع ديكارت إلى يقين فيزيقي مصدره القوانين المادية التي هي أيضًا من صُنْعِ الله.

لكن ماريتان المتأثر كثيرًا بفكرة هيراركية العلوم عند أرسطو وفلاسفة العصور الوسطى، يرى أن الميتافيزيقا تتسم بالسمو والأفضلية على الفيزيقا. ومن ثمَّ فلا يجب أن تكون علمًا مساعدًا لها، بل يجب أن تكون غاية الفيزيقا هي بلوغ الميتافيزيقا التي تتحدد لديه في إدراك ما هو متجاوز للطبيعة، ولهذا فليس من المستغرب أن ينتقد ماريتان الموقف الديكارتي من الميتافيزيقا قائلًا: “يصر ديكارت على جعل الميتافيزيقا الجزء الأول وليس الأخير، البداءة وليست النهاية، القاعدة وليست القمة (…) فديكارت قد أهتم بالميتافيزيقا لصالح الفيزيقا، وأنه وإن كان مهتما بالكمالات الإلهية المقدسة، فهذا كي يشتق منها القوانين الأولى للمادة، أنه يهبط من الله إلى الأشياء”([7]). إن ما يريده ماريتان هو أن تكون الميتافيزيقا غاية في ذاتها، وليست وسيلة لبلوغ اليقين الفيزيقي. فهما لديه علمان متمايزان: علم أدني وهو الفيزيقا، وعلم أعلى وهو الميتافيزيقا. والهيراركية المعرفية توجب توجه الأدنى نحو الأعلى وليس العكس.

لذا يكمن الخطر الأكبر للميتافيزيقا الديكارتية من وجهة نظر ماريتان، في أنها اختزلت الإله المسيحي؛ إله النعمة والمحبة والتضحية والفداء، في التصورات الوظيفية له، التي تجعل منه ضامنًا لوجود العالم والحقيقة واليقين، ولهذا ينتهي ماريتان إلى أن ديكارت قد دمر الميتافيزيقا بتصوراته هذه “فلقد أعد ديكارت للفساد الأخير للميتافيزيقا، فهدفه كان هجرة إله الميتافيزيقا المتجاوز للدنيوي والابتعاد عنه”([8]).

لقد آمن ديكارت على العكس من ماريتان، بوَحْدة العلوم وأن لجميعها مفتاحًا واحدًا، لذا أتت الفيزيقا لديه مرتكزة على الميتافيزيقا ومكملة لها ومترتبة عليها داخل نسقه الفلسفي، وهذا ما عبر عنه برنارد وليمز Bernard Williams قائلا: “لم يفصل ديكارت الفلسفة يومًا عن العلم، بل كان يؤمن أن الفلسفة ينبغي أن تكون في استمرارية دائمة مع العلم”([9]).

ولكي نضع أيدينا على الجديد الذي أضافه ديكارت فلا بُد أن نعرف أن تصورات العصور الوسطى عن الطبيعة كانت ترتكز على أن الطبيعة وقوانينها تسير وفقًا لفاعلية مقدسة تحددها قوانين العناية الإلهية “فالعالم الفيزيقي بنفسه الذي خلقه الله من أجل مجده يتجه بلون من ألوان الحب الأعمى تجاه خالقه، بل إن كل وجود وكل عملية في أي وجود، تعتمد في كل لحظة على إرادة قادرة على كل شيء”([10]). هذه التصورات المتوارثة من فلسفة أرسطو تقوم في تفسيرها للطبيعة على فكرة إن كل ما في الطبيعة يتجه ناحية الله في حالة من العشق والشوق. لقد فُسرت الطبيعة آنذاك ليس طبقًا لقوانينها الخاصة، بل طبقًا لفكرة الغائية الأرسطية. ورأى فلاسفة العصور الوسطى أن كل ما في الطبيعة يعمل طبقًا لغاية محددة قدرها الله، وهو ما نتج عنه أن الظواهر الطبيعية مثل: الزلازل والبراكين قد فُسرتا بوصفها عقابًا إلهيًا ضد البشر الآثمين. كذلك ساد اعتقاد أن في الطبيعة نَفْسٌ حية مصدرها الله، وهي مصدر التطور والنماء الحادث داخلها.

لكن أعاقت هذه التصورات تقدم العلوم الطبيعية وتطورها آنذاك، وظل الوضع على ما هو عليه إلى أن نبهنا ديكارت وبيكون إلى ضرورة استحداث مناهج جديدة لتفسير الطبيعة تفسيرًا علميًا. فأنطلق ديكارت رغم إيمانه بأن الطبيعة مخلوقة لله، من فكرة، أننا لا يمكن أن نتعامل معها إلا طبقًا لقوانين المادة: الامتداد. فشأنها شأن سائر الأشياء المادية تخلو من الرُوح أو النَّفْس، فهي لا تخضع إلا للعدِّ والقسمة والتجزئة.

ولعل اختراع ديكارت للهندسة التحليلية قد أفاد كثيرًا في تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرًا آليًا ميكانيكيًا، فكل ما في الطبيعة يعمل طبقًا للقوانين الحتمية التي لا يُمكن أن يحيد عنها شيئًا، باستثناء الجوهر المفكر وحده. فكل الأجسام الآت وتخضع للقوانين نفسها، وهو ما عبر عنه ديكارت قائلًا: “هذا الجسم آلة، لكنها لما كانت مصنوعة بأيدي الله فهي إلى حد يجل عن المشابهة خير نظام”([11]). وقد أشار جون لويس إلى أهمية النقلة النوعية التي بدأها ديكارت في القرن السابع عشر في التعامل مع الطبيعة قائلا: “لقد حققت الثنائية الديكارتية غرضًا من الناحية التاريخية بإعطائها حرية كاملة للعلم الفيزيائي، في عالم كان ما يزال يصر على الإيمان بالأرواح والنفوس والله والمقاصد الإلهية”([12]). فالفيزيقا الديكارتية لم تكن تصورًا خاطئًا عن العالم، كما يظن ماريتان، بل كانت قاعدة صلبة انطلق منها العلم الحديث.

لكن ماريتان بنقده الدائم لديكارت قد رفض هذه النظرة الآلية الميكانيكية للطبيعة، ولا ينبع رفضه لها من إيمانه بأن للطبيعة قيمة في ذاتها أو أن لها نَفْس حية تعمل باستقلالية عن الإنسان ويجب احترامها، بل ينبع هذا الرفض من اعتقاده بأنها مخلوقة لله وهو الذي يسير شئونها. وتصوره هذا للطبيعة مطابق للتصور القديم والمسيحي عنها، ومعارضًا في الوقت نفسه للتصور العلمي الذي أرسى ديكارت بذوره الأولى، يقول ماريتان: “تعامل ديكارت مع الطبيعة بعنف، وبدد كل شيء يربط الأشياء بالرُوح، وهذا كي نصير سادة الطبيعة ومُلاكها، لكن هذه السيطرة العملية قد أصبحت الهدف النهائي للحضارة وأدت إلى أعظم الشرور”([13]). ينوه ماريتان هنا إلى أزمات الحضارة الغربية المعاصرة الناتجة عن تطور التكنيك وأثره في الإنسان والطبيعة، فالشر الأعظم يكمن لديه في تفوق العلم على الحكمة.

في الحقيقة لم يكن ماريتان يومًا معاديًا للتقدم التكنولوجي الذي بدأ بفضل تطور النظرة الآلية والميكانيكية للعالم، بل إن كل ما أراده هو أن يسير هذا التقدم تحت إرشاد المبادئ والقيم المسيحية “فالتكنيك والآلة أشياء جيدة، لكنهما إن لم يُتحكم فيهما ويخضعان بالقوة لخير الإنسان، أي للأخلاق الدينية والزهدية، فسوف تنهار الحضارة الإنسانية”([14]).

على أية حال لم يقتصر نقد ماريتان لديكارت عند حدود نزعته الآلية الميكانيكية بعامة، وإنما امتد ليشمل أيضًا منهجه الرياضي الذي قامت عليه هذه النزعة. وتكمن خطورة المنهج الرياضي الديكارتي وفق ما يرى ماريتان، في أنه يتعامل مع الأشياء بمنطق الكم والحساب فقط. ويغض الطَرْف عن ربط الأشياء بعلتها الأولى المقدسة. وهو ما يجعل معرفتنا بالأشياء تتسم بالسطحية، ولن نتوصل إلى معرفة حقيقية بماهية هذه الأشياء “فالعلم الديكارتي يهدف إلى تحويل الظواهر القابلة للملاحظة إلى صيغ رياضية ملموسة، لكنه لن يُعلمنا شيئا عن جوهر العالم المادي في كلية وجوده”([15]).

لقد أهتم معظم فلاسفة العصر الحديث بالمنهج الرياضي، إذ رأوا فيه سبيلًا ناجعًا للتقدم العلمي. فمالبرانش على سبيل المثال، كان شغوفًا بالرياضيات ولم يتعرض له ماريتان بالنقد لأنه رد كل شيء في النهاية إلى الله في مذهبه عن المناسبتية. فما ينتقده ماريتان لدى ديكارت ينسحب على آخرين مثل: مالبرانش وبسكال. كل هذا يجعلنا نعتقد أن سبب عداء ماريتان لديكارت لم يكمن في نظرته الآلية إلى الطبيعة ولا في منهجه الرياضي، بقدر ما يكمن في أن فلسفة ديكارت الجديدة قوضت الفلسفة المدرسية التي يتبناها ماريتان، ويظن أنها الفلسفة الوحيدة الصحيحة. ولهذا ينتهي ماريتان من قراءته لديكارت إلى التوصل إلى حكم حاسم لا لبس فيه وهو أن ديكارت قد “بدد كل طرق التصالح الأعظم، ورفض كل طرق الاتفاق والمصالحة التي كانت تحل بها الفلسفة المدرسية تناقضات الواقع، لقد ضل طريقه بسبب بعده عن الحقائق الأبدية”([16]).

لهذا لم يكن مُستغربًا لدينا أن يُقدم ماريتان في النهاية الفلسفة التوماوية بوصفها البديل الأقوى عن الفلسفة الديكارتية. فهو يرى أن فلسفة الأكويني لا تنطوي على تناقضات الثنائية الديكارتية: النفس والجسد، والعقل والمادة… إضافة إلى أنها أقدر على معالجة الأزمات والتحديات التي تفرضها علينا الحضارة المعاصرة، وذلك لأنها تجمع بين القطبين: المادي والرُوحي في وحدة واحدة منسجمة “فالفلسفة التوماوية تتضمن تأويلًا نسقيًا نستطيع من طريقه أن نجد حلًا لكل المشكلات التي نشأت بسبب تطور النظرة الديكارتية”([17]). ففلسفة الأكويني تُدرك الاحتياجات المادية للإنسان، لكنها لا تغفل أن الغاية الحقيقية للإنسان ليست هنا، بل في الحياة الأبدية. ففلسفة الأكويني جامعةً لكل القيم المعرفية والإنسانية والدينية. ولقد أبرز ماريتان قيمة الفلسفة الموسوعية للأكويني قائلًا: “لقد دافع الأكويني عن حقيقة النظام الطبيعي، وعن قيمة العقل، وعن الحقائق الموحى بها وحقائق الإيمان (…) لقد كانت المشكلة الكلية للحضارة وللنزعة الإنسانية هي ما تشغله. فالنزعة الإنسانية الحقيقية ممكنة بشرط أن تكون غايتها هي الاتحاد بالله، فغاية العقل هو الخضوع للرُوح القدس. وبغير ذلك سوف ينزلق نحو تدمير الإنسانية والفساد العالمي”([18]). الفلسفة التوماوية إذن وكما يراها ماريتان، هي التي سوف تُمكننا من القضاء على كل الفلسفات الفاسدة والشريرة مثل: المكيافيللية والديكارتية… التي أضرت بالإنسان والإنسانية والحضارة.

فالأكويني من وجهة نظر ماريتان، رسول العقل ومجدد النظام العقلي وطبيب الحقيقية. فهو لم يكتب للقرن الثالث عشر، وإنما لعصرنا. وكأن الزمان قد أدخر فلسفة الأكويني لتكون مُلهمة ومساعدة لنا في حل مشكلاتنا المعاصرة. رُوحانية الأكويني وموسوعيته العقلانية هي ما جعلت ماريتان يقتدي به دائمًا، ويرفض رفضًا مطلقًا أن يُطلق عليه من مجددي التوماوية، أو أنه ينتمي إلى التوماوية المحدثة، إيمانًا منه بأن فلسفة الأكويني لا تحتاج إلى أي تجديد أو تحديث، لأننا لو اقتفينا أثرها فلن نضل السبيل في بلوغ الحقائق بعامة والمقدسة منها بخاصة. وهو ما يؤكده قائلا: “لست توماويا محدثًا على الإطلاق، بل بالأحرى توماويًا قديمًا، وهذا كل ما أتمناه”([19]).

رأينا كيف كانت فلسفة الأكويني مُلهمة لدى ماريتان، وبخاصة في المزاوجة بين الرُوحي والعقلي، وكذلك تصوراته الميتافيزيقية. فهل سوف تكون مُلهمة له أيضًا في جانبها السياسي؟ هذا ما سنعرفه في مقاربة ماريتان لروسو، وكيف يرى أن تصورات الأكويني السياسية قدمت لنا نموذجًا رائعًا عن تداول السلطة وتحقيق الديموقراطية أكثر من تلك التي قدمتها فلسفة روسو.

ماريتان وروسو

تعد فلسفة روسو من الفلسفات المُلهمة لعديدٍ من الحركات التحررية في العالم. فلقد اتخذت الثورة الفرنسية من أراء روسو في الحرية والمساواة شعارًا لها. كذلك فإن تمجيده للحرية الفردية حدا بكثيرين أن يطلقوا عليه أبو الحرية الحديثة. فهو يبدأ كتابه العقد الاجتماعي بعبارة “ولد الإنسان حرًا، ولكنه في كل مكان مكبل بالأغلال”([20]). الإنسان لدى روسو مفطورًا على الحرية، لكنه فقد هذه الحرية الطبيعة بسبب تأثيرات الحضارة الصناعية والتنظيمات الاجتماعية التي أصبحت تفرض عليه أنماطًا محددة من الأفعال. وما كل فلسفة روسو إلا محاولة لرد هذه الحرية مرة أخري إلى الإنسان، لكنها لن تعود إليه بوصفها حرية طبيعية، بل سوف تعود في شكل حرية مدنية.

ويشير ماثيو سيمبثون Matthew Simpson إلى حيوية مقولة الحرية السياسية عند روسو ومركزيتها وأثرها في الفكر السياسي المعاصر، فيقول: “لم يكن روسو مهتمًا بالمشكلة الميتافيزيقية لحرية الإرادة، بل كان كل همه هو أن يعرف كيف يُمكن للبشر أن يقيموا مجتمعًا سياسيًا حرًا، وأن يبقوا أحرارا دائمًا؟ ولهذا أتمنى أن يقتفي كل المنظرين السياسيين اليوم أثر آرائه عن الحرية والالتزام والعقد الاجتماعي، لتكون مرشدًا لنا في عالمنا المعاصر”([21]).

لكن إذا كان سيمبثون يُشدد على فكرة الحرية كونها الفكرة المحورية في فلسفة روسو، فإن زيف ترتشتنبرج Zev M. Trachtenberg  يركز في أبعاد أخرى يراها الأهم، مثل: البعدين الثقافي والتربوي اللذين يعدهما الدعامة التي تقوم عليهما هذه الحرية. إذ يرى ترتشتنبرج أن لـ روسو فضلًا كبيرًا في ربط السياسة بالثقافة والتربية، فلقد “سعى روسو أكثر من أي فيلسوف آخر أن يكون للثقافة دورًا أساسيًا في الحياة السياسية. فهي التي تُمثل الاتجاهات الأساسية للأنظمة السياسية، وبفضلها تنجح مجهودات الأفراد التعاونية. إنها تصنع المواطن”([22]).

لكن هذه القراءات التي تحتفي بفلسفة روسو السياسية وترى فيها معينًا لا ينضب من الأفكار التقدمية والتحررية، تقف في وجهها عديدًا من الشواهد والقراءات الأخرى. إذ يرى ماريتان أن فلسفة روسو قد انطوت على بذور النزعات الشمولية التي تطورت بعد ذلك في الديكتاتوريات المعاصرة ممثلة في النازية والفاشية. إذ يصف ماريتان فلسفة روسو قائلًا:

“إنها فلسفة تنتهي إلى الشمولية، فهي تحمل بذور التحلل الكامل لمبدأ السلطة العادلة لصالح السلطة المطلقة”([23]).

ويتفق رسل مع ماريتان رغم اختلافهما الإيديولوجي الكبير في موقفهما النقدي من روسو، إذ يقرن رسل أيضًا بين فلسفة روسو والأنظمة الشمولية والديكتاتورية المعاصرة عندما يقول: “يُعد هتلر خلفا لـ روسو”([24]).

وينطلق ماريتان في نقده لفلسفة روسو السياسية من نقد أهم المقولات التي ارتكزت عليها هذه الفلسفة مثل السيادة، والإرادة العامة والسلطة السياسية. أما فيما يتعلق بمفهوم السيادة سنجد ماريتان يتطرق إليه ليس عند روسو فحسب، وإنما يعود إلى بداءات ظهور هذا المصطلح عند الفيلسوف الفرنسي جان بودان Jean Bodin في القرن السادس عشر، مشيرًا إلى أن بودان هو أبو النظرية الحديثة في السيادة التي صاغها ليُبرر بها السلطة المطلقة للملوك.

نعم، لقد دافع بودان عن السلطة المطلقة للملوك، معارضًا بها توغل سلطات البابا في المجالات الدنيوية، وفي سن القوانين المدنية، راسمًا بذلك فصلًا جديدًا من فصول الإطاحة بالسلطة الدينية، وممهدًا الطريق للنزعات القومية الناشئة حديثًا. ويُعرف بودان السيادة بأنها “السلطة الدائمة والمطلقة الموجودة في الكومنولث التي تتجسد في شخص صاحب السيادة”([25]). يقصد بودان بصفة الدوام هنا أن السلطة يجب أن تكون لصيقة بصاحب السيادة دائمًا ولا يمكن أن تنتزع منه، لأن من يُعزى إليه سلطة مؤقتة لا تتصف بالدوام مثل: الموظفين الرسميين فهم ليسوا أصحاب سيادة على الإطلاق، لكنهم عوامل مساعدة لصاحب السيادة. ولصاحب السيادة الحق في منح السلطة أو استردادها من هذه العوامل المساعدة كيفما يشاء. ومن العبث وفق ما يرى بودان، أن نتصور إن صاحب السيادة عندما يفوض الموظفين للعمل والإدارة فهو يتنازل عن سلطته لهم.

وكي تكون السلطة مطلقة يرى بودان أنه يجب على الشعب أن يتنازل عن سلطته كلية، وينقلها إلى صاحب السيادة ويجعلها في حوزته وملكيته، بالضبط مثلما يفعل الإنسان الذي يتنازل عن حق ملكيته لآخرين، لكن إذا خَوَّل الشعب هذه السلطة إلى أحد بالإنابة، أي إذا اعطاها له مؤقتًا، فإنه في هذه الحالة لن يكون صاحب سيادة، بل موظف. ويتمتع صاحب السيادة عند بودان بأنه الآمر الناهي، فلا يخضع لأي أوامر من الآخرين، وهو الذي يستأثر بسلطة سن القوانين، وإبطال القوانين أو تعديلها([26]).

إن فكرة تنازل الشعب عن سلطته كلية ونقلها إلى صاحب السيادة هو ما يرفضه ماريتان ويحذر منه، مُفترضًا أن التنازل الكلي هو السبب في وجود الأنظمة المطلقة والمستبدة التي تضع الحاكم فوق النظام السياسي. فلا تجعله يخضع لقانون أو لمساءلة، وبهذا تختفي كل ملامح الحرية والمسئولية في هذه الأنظمة، يقول ماريتان في هذا الصدد: “طالما أن الشعب قد جرد نفسه تجريدًا مطلقًا من سلطته الكلية ونقلها إلى صاحب السيادة، فلن تُعد السيادة جزءًا من الشعب. ويصبح صاحب السيادة كلًا منفصلًا ومتعاليًا على الشعب”([27]). إن ما يرفضه ماريتان هنا هو أن يكون صاحب السيادة أعلى من الجسد السياسي ومستقلًا عنه، فهو يرى أن صاحب السيادة وإن كان يمثل قمة الجسد السياسي، إلا أنه لا يعلو عليه ولا يستقل عنه، فما ينطبق على الكل ينطبق عليه كونه جزءًا ممثلًا لهذا الكل أو وكيلًا عنه.

إقرأ أيضًا: مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجز الثالث

فالخطأ الأساسي الذي وقع فيه بودان من وجهة نظر ماريتان، هو أنه تغاضي عن مصطلح مهم، وهو مصطلح الوكالة أو النيابة Vicariousness الذي يعزوه ماريتان إلى مفكري العصور الوسطى. وبموجب هذا المصطلح يُعطي إلى الشعب الحق في أن يكون شريكًا في العملية السياسية على غرار ما هو سائد في الأنظمة الديموقراطية الحديثة والمعاصرة، بل ويعطي إلى الشعب الحق أيضًا في أن يحكم نفسه بنفسه. وقد أبرز ماريتان خطأ بودان في غض الطَرْف عن مصطلح النيابة قائلا: “إن الخطأ الأساسي لمنظري السيادة هو أنهم نسوا مصطلح النيابة واستبدلوا به مصطلح الانتقال المادي. إن الوكيل عن الشعب يمتلك هذا الحق فقط بالمشاركة مع الشعب، ويجب أن نتذكر دائما أنه ما دام أن الملك مفوضٌ من الشعب، فيعد مشاركًا في السلطة بالثقة التي خولها له الشعب، وهذه الفكرة بعيدة كل البعد عن فكرة السلطة التي تُقتلع كلية من جذورها وتنتقل إليه”([28]).

في الحقيقة نستشعر من هذا النص أن ماريتان يحاول تجميل الصورة السياسية للعصور الوسطي، فهو يُقدمها وكأنها عرفت شكلًا حقيقيًا من أشكال الديموقراطية التي تقوم على اختيار الشعب لمن يحكمه ويمثله سياسيًا، إذ يدعي أن فكرة الوكالة أو النيابة كانت سائدة لدى مفكري العصور الوسطى، لكننا لا نجد لديه ذكرًا لاسم فيلسوف من فلاسفة العصور الوسطى الذين تحدثوا عن هذه الفكرة. فأشهر فلاسفة العصور الوسطى مثل القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني قد رفضا الديموقراطية بوصفها مرادفة لحكم الغوغاء.

لقد قامت الأنظمة السياسية في العصور الوسطى، كما هو معروف جيدًا، على فكرة الحق الإلهي المطلق للملوك، تلك الفكرة المقيتة التي بررت كل هيمنة واستبداد باسم الدين، من أجل تقاسم السلطة والثروات بين البابوات والملوك.

على أية حال يبقى رفض ماريتان للسيادة المطلقة وما ينتج عنها من ممارسات استبدادية بالمحكومين فكرة جديرة بالاعتبار. وأن هذا الرفض هو ما دعاه إلى استكمال مهمته النقدية على روسو، كون مفهوم السيادة مفهومًا جوهريًا في فلسفة روسو السياسية. فلكي “نفكر في الفلسفة السياسية بطريقة عقلانية ينبغي أن نطرح عن كاهلنا مصطلح السيادة المرادف للاستبداد والشمولية”([29]).

لكن الجدير بالذكر هو أن السيادة عند روسو ليست كنظيرها عند بودان، إذ لا يختزل روسو مفهوم السيادة في شخص واحد بعينه، وإلا ستكون في هذه الحالة مرادفة للمَلكيَة المطلقة. بل إن الشعب بمجمله هو صاحب السيادة، إذ يتنازل الشعب بمحض إرادته عن حريته لصالح المجموع الذي يطلق عليه روسو مصطلح الإرادة العامة. إذ “يُسهم كل واحد منا في المجموع بشخصه، وكل ما لديه من قدرة، تحت التوجيه الأعلى للإرادة العامة، ونلتقي كذلك في جسد المجموع كل عضو بوصفه جزءًا لا يتجزأ من الكل”([30]). يُعد الفرد عند روسو جزءًا من الكل (الإرادة العامة)، والكل لديه في خدمة الصالح العام للأفراد وتحقيق مصالحهم، لكن هذه العلاقة بين الفرد والكل هي ما أثارت عديدًا من الصعوبات والتساؤلات في فلسفة روسو. فماذا يحدث عندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة الكل؟ فأيهما تغلب المصلحة الفردية أم المصلحة العامة؟ يجيب روسو عن هذا السؤال قائلًا: “إن الإرادة العامة وحدها هي التي تستطيع توجيه قوى الدولة نحو تحقيق الهدف من إنشائها، وهو الخير المشترك، لأنه إذا كان تعارض المصالح الخاصة هو الذي جعل إنشاء المجتمعات ضروريا (…) فإن المصلحة المشتركة هي وحدها ما ينبغي أن يقوم به حكم المجتمع على أساسها”([31]). ينطلق روسو في نصه هذا من إعطاء الأولوية إلى فكرة الصالح العام أو الخير العام وتغليبه على المصلحة الفردية، فإذا حدث تعارضًا أو تناقضًا بين العام والخاص وجب أن نسعى في تحقيق المصلحة العامة على حساب المصالح الخاصة لضمان استمرار وجود المجتمع المدني وفاعليته.

لكننا لا ينبغي أن نتسرع وننسب إلى روسو التضحية بالحريات الفردية في مقابل حقوق المجتمع، فلا تعني المصلحة العامة لديه التخلي عن حرية الفرد وذوبانها في الإرادة العامة، بل على العكس، لقد كان شُغل روسو الشاغل هو الحفاظ على حرية الأفراد، وما العقد الاجتماعي إلا وثيقة للمحافظة على هذه الحرية.

لكننا يجب أن نميز لدي روسو بين مجالين لا يجوز الخلط بينهما: المجال الخاص وهو منطقة محرمة تخص الفرد وحده. والمجال العام ولا يجوز للفرد أن يطغى فيه على حقوق المجتمع، التي تخص ليس فردًا بعينه، ولكن الجميع ككل، مثل حق المجتمع في فرض التجنيد الإجباري على المواطنين، فهذا مما لا يجوز للفرد رفضه بحجة إنه يتعارض مع حريته الفردية الخاصة، فما للفرد للفرد وما للمجتمع للمجتمع. ويشير أندرو ليفين Andrew Levine إلى ضرورة التمييز بين الخاص والعام، إذ يرى أنه يمكننا التعامل مع إنسان روسو انطلاقًا من مستويين متمايزين: الفرد والمواطن، ولا يرى ليفين بينهما تعارضًا أو تناقضًا، بل يرى أنهما متكاملين: “إن المصلحة العامة قد تكون هي مصلحة الفرد بوصفه مواطنًا، والمصلحة الخاصة هي مصلحته بوصفه فردًا”([32]). ومن ثمَّ فالصالح العام عند روسو وفق ما يرى ليفين، هو محاولة للتوفيق بين الاقتضائين: العام والخاص. ولا تحمل فلسفة روسو في هذا الإطار أي توجه نحو الأنظمة الشمولية أو الديكتاتورية.

لكن رغم ذلك لا يرى ماريتان في فكرة الإرادة العامة سوى مظهرًا من مظاهر الاستبداد والشمولية، إذ يقول: “هناك فكرة عبثية موجودة في قلب فلسفة روسو وهي فكرة الإرادة العامة التي هي إرادة الشعب. وهي تتسم بأنها كلية وغير قابلة للتجزئة، وتنبع من الشعب كونه وَحْدة واحدة. وهي السلطة المتعالية والمنفصلة للملوك وقد انتقلت إلى الشعب في الوقت التي احتفظت فيه بالانفصال والتعالي”([33]). ما يريد ماريتان أن يقوله في هذا النص هو أن مفهوم روسو عن الإرادة العامة يُعد امتدادًا طبيعيًا لمفهوم السيادة عند بودان، فلا فرق لديه بين المفهومين، لكن يكمن الاختلاف بين بودان وروسو أنه في الوقت الذي يعزو فيه بودان السيادة إلى فرد واحد، يعزوها روسو إلى الشعب بمجمله. وهو ما سوف يترتب عليه من وجهة نظر ماريتان، أن ممثلي الشعب أو حكامه سوف يكونوا مجردين من حقهم في ممارسة أي سلطة، لأنهم لا يمتلكون أي سلطة فعلية، ما دامت السلطة الكلية غير القابلة للتجزئة موجودة في الإرادة العامة التي يُمثلها الشعب بمجمله.

لكن يغضُّ هذا التصور الماريتاني الطَرْف عن تسليط الضوء على الآلية المهمة التي يضعها روسو لممارسة مهام السيادة والسلطة وتسيير عمل المجتمع وتحقيق الصالح العام. هذه الآلية هي الدولة مُمثلة في سلطتها التنفيذية: الحكومة التي يَعهد إليها روسو بالحفاظ على الحريات. فالحكومة وفق تعريف روسو لها هي: “هيئة متوسطة تنشأ لتكون وسيلة للاتصال بين الرعايا ومقعد السيادة، ويُعهد إليها بتنفيذ القوانين وصيانة الحرية المدنية والسياسية. وأعضاء هذه الحكومة يُطلق عليهم الموظفون أو الملوك، أي الحكام”([34]). الشعب لدى روسو إذن هو مصدر السلطات، وهو يحكم نفسه بنفسه من طريق ممثليه: الملك والموظفين الذين يختارهم ويُخول إليهم السلطة لتحقيق حريته وعدالته ورفاهيته. ويحق للشعب من طريق مبدأ الرقابة الدستورية على الحكام أن يُطيح بهؤلاء متي أخلوا ببنود العقد الاجتماعي وشروطه، وهذه هي القيمة الحقيقية للممارسة الديموقراطية التي نجد أصولها في كتاب روسو: العقد الاجتماعي.

لا يقف الأمر مع كيفين أنستون Kevin Inston عند حد توصيف مجتمع روسو بالمجتمع الديموقراطي فحسب، وإنما يمضي إلى أبعد من ذلك، حينما يجعله مرادفًا للمجتمع المفتوح الذي يقوم على الإيمان بقيم الديموقراطية الحقيقية التي لا تُختزَل في عملية التمثيل السياسي فحسب، وإنما التي تضم أيضًا التعددية والنقد الذاتي، وهي قيم تدفع بالمجتمع دائما إلى تحقيق العدالة والحرية والمساواة، وتُجنبه خطر الوقوع في الدوجمائية بكل أشكالها. وهذا ما يوضحه أنستون قائلًا: “يعتمد المجتمع الذي ينشأ عن العقد الاجتماعي عند روسو على مواطنين أصحاب عقول ديمقراطية، قادرون دائمًا على إضفاء طابعًا حيويًا على الروابط المشتركة بينهم. ولتحقيق هذا يجب خضوع الذات والمجتمع للنقد الدائم”([35]).

لكن أمام كل هذه النصوص التي تؤكد إيمان روسو بالديمقراطية ينتهي ماريتان من قراءته له بأنه لا يختلف عن هوبز ونزعته الاستبدادية المطلقة في شيء ” فدولة روسو ليست شيئًا سوى تنين هوبز مُتوجًا بالإرادة العامة”([36]). يساوي ماريتان هنا بين روسو المُنظر للديموقراطية، وهوبز المُنظر للاستبداد في درجة إيمانهما بالنزوع الاستبدادي، رغم أن كل الشواهد والنصوص السابقة تؤكد عكس ذلك، لكن لم يُشر ماريتان إلى وجه التشابه الحقيقي بينهما، وهو تأسيسهما لفكرة أن الشعب هو مصدر السلطات. إذ يُعد الاستبداد المطلق لدى هوبز نتاجًا للإرادة الشعبية التي تُقرر بمحض إرادتها وجود حاكم مطلق للقضاء على حالة حرب الجميع ضد الجميع. فالشعب عند هوبز هو من يُقرر التنازل عن كل سلطاته، ويختار ممثله ويعهد إليه بسلطات مطلقة للتخلص من حالة الفوضى. وكذلك الحال عند روسو الذي خَوَّلَ للشعب الحق في اختيار ممثليه، لكنه لم يعهد إليهم بهذه السلطات المطلقة كما فعل هوبز. لكن لم ينظر ماريتان يومًا إلى فلاسفة العقد الاجتماعي بوصفهم من منظري الديموقراطية ولا من المدافعين عن الحرية في العصر الحديث.

على أية حال لم يقتصر نقد ماريتان لهذه الحقبة على الأنظمة السياسية فحسب، وإنما امتد ليشمل نقد الأنظمة الاقتصادية في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. هذا النقد هو ما سوف نكشف عن ملامحه عند تعرضنا لموقفه من الرأسمالية والاشتراكية.

ماريتان والرأسمالية

يقوم النظام الرأسمالي في جوهره على تدعيم السوق الحرة القائمة على المنافسة الضارية بين الأفراد، وكذلك على تشجيع الإنتاج والاستهلاك إلى حدهما الأقصى، وهو ما ينتج عنه البقاء للأقوى اقتصاديًا. ويكون إقصاء الفقراء وحرمان غير القادرين خارج حلبة المنافسة الاقتصادية هو نتيجة ضرورية مترتبة على ما سبق. فبسبب السعي الدائم في تحقيق الربح والمصلحة على حساب الآخرين، تسود قيم الأنانية والجشع والاستغلال. ولقد حذرنا ماركس مبكرًا من المخاطر الاجتماعية والأخلاقية المترتبة على انتشار هذا النزوع غير الأخلاقي للرأسمالية عندما قال: “إن العجلات الوحيدة التي يحركها الاقتصاد السياسي الرأسمالي هو التعطش للثروة والحرب بين الأطماع المتنافسة”([37]).

وإذا ما تطرقنا إلى موقف ماريتان النقدي من الرأسمالية سنجده لا يخرج عن الإطار الماركسي العام، في كراهيته أيضًا للاستغلال والظلم والقمع والإفقار. ورغم التباين الأيديولوجي الهائل بين ماركس وماريتان الذي تتضح بعض معالمه في أن رفض ماركس للرأسمالية ينبع من تحليله العلمي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الظالمة التي تشهدها الطبقة العاملة، ومطالبته بالثورة للقضاء عليها، إضافة إلى اتخاذه موقفًا نقديًا حادًا من الدين كونه مبررًا لترسيخ الأوضاع الاقتصادية الظالمة آنذاك. نجد أن رفض ماريتان للرأسمالية ينبع من منطلقات دينية مسيحية مُستلهمة في أغلبها من الكتاب المقدس ومن كتابات القديس توما الأكويني. وهو ما يعني أن الرأسمالية قد وحدت بسبب ممارستها غير الإنسانية كثيرًا من التيارات المختلفة، بل والمتعارضة في التصدي لها. وهذا ما سوف يتضح عندما نتعرض تفصيليًا إلى موقف ماريتان النقدي منها.

يدرك ماريتان في مستهل نقده للرأسمالية التعارض الجوهري بين الرأسمالية والفقر. فالرأسمالية تقوم كما ذكرنا آنفًا، على زيادة الإنتاج والاستهلاك واستمرار دوران رأس المال لتحقيق مزيدٍ من الرباح، وهو ما لا يتحقق إلا في ظل وجود طبقات غنية تتمتع بالقدرات الاستهلاكية الكبيرة. أما الفقراء فهم الوقود الذي يَحترق من أجل استمرار عجلة رأس المال ودورانها. هذا التعارض الحاد هو ما أبرزه ماريتان قائلًا: “إن رُوح الرأسمالية هي رُوح كراهية الفقر واحتقار الإنسان الفقير”([38]).

ولا يقف ماريتان عند إبراز السمات اللاأخلاقية للرأسمالية فحسب، وإنما يمضي ليوضح أيضًا الأبعاد السيكولوجية والسوسيولوجية المترتبة على فكرة الاستغلال، وهي الفكرة المعروفة في الفلسفة الماركسية بالاغتراب، يقول ماريتان: “يوجد الإنسان الفقير ليكون وسيلة للإنتاج ولتحقق الفوائد فقط، وليس بوصفه شخصًا. ويوجد الإنسان الغني ليكون مستهلكًا فقط، وليس بوصفه شخصًا. ومأساة هذا العالم هو أنه يحافظ على تطوير هذا الاقتصاد القائم على الربا”([39]). لقد تعاملت الرأسمالية مع الإنسان بوصفه وسيلة لا غاية في ذاته، وأحالته إلى ترسٍ صغير في آلة الإنتاج والاستهلاك الضخمة، واختزلت دوره في خدمة هذه الآلة، إما مُنتجًا وإما مستهلكًا. واختُزلت كل العلاقات الإنسانية من جراء ذلك إلى المصلحة والفائدة، وتجردت الأبعاد الإنسانية من نزوعها الإنساني، فشعر الإنسان بالاغتراب عن نفسه وعن الآخرين، وشعر أيضًا بالاغتراب عن عمله بسبب سيادة الآلة وهيمنتها عليه.

وهنا نلاحظ مدى تأثر ماريتان الكبير بأفكار ماركس عن الاغتراب. لقد كان ماركس أول من نبهنا إلى أضرار الرأسمالية في هذا المجال حينما قال: “حيثما استولت البرجوازية على السلطة لم تبقَ على صلة الإنسان بالإنسان إلا المصلحة الجافة والدفع الجاف، وأغرقتها في مياه الحساب الجليدية المشبعة بالأنانية، وجعلت من الكرامة الشخصية قيمةَ تبادل لا أقل ولا أكثر”([40]).

نستنتج مما سبق أن نقد ماريتان لحالة الاغتراب السائدة في المجتمعات المعاصرة لا تتجاوز النقد الماركسي لمفهوم الاغتراب، لكن يُضيف ماريتان إلى ماركس أن الاغتراب لم يعد يقتصر على الطبقة العاملة وحدها، بل إن الأغنياء أيضًا أصبحوا مغتربين. ومن ثمَّ أوجدت الرأسمالية حالة عامة للاغتراب لا فرق فيها بين البروليتاريا والبرجوازية. كما نلاحظ أيضًا أن ماريتان قد قدم في نصه السابق مصطلحًا جديدًا يصف به الإنسان الذي يريده، وهو الإنسان المسيحي المؤمن بعمل الله فيه وفي التاريخ والمجتمع، وهذا المصطلح هو مصطلح الشخصانية personalism الذي سنتعرض له في حينه.

لكن تبقى النقطة الأهم في نقد ماريتان للرأسمالية التي شغلت حيزًا كبيرًا من اهتمامه وكتاباته، هي إغفال الرأسمالية لفكرة الخير العام common good. يقول ماريتان: “يتمتع الإنسان في ظل النظام الرأسمالي الليبرالي بوجود حياة سياسية واجتماعية، لكنها حياة دون خير عام مشترك”([41]). يُقرن ماريتان في نصه هذا بين الرأسمالية والليبرالية، ويرى أنهما قد أوليا كل اهتماماتهما إلى تحقيق الصالح الخاص على حساب الصالح العام. ولا سبيل إلى التخلص من كل آفات الرأسمالية وشرورها إلا برفض الفلسفات الليبرالية التي أعطت الأولوية للمصلحة الخاصة والفردية على حساب الصالح العام.

لكننا نلاحظ أن ثمة خلطًا بين الرأسمالية والليبرالية، فالرأسمالية بوصفها نظامًا اقتصاديًا يقوم -كما ذكرنا آنفا- على المنافسة والمبادرة الحرة للأفراد، ورفع يد الدولة عن التدخل في المنظومة الاقتصادية، وتركها لآليات السوق الحرة إعمالًا لمبدأ آدم سميث دعه يعمل دعه يمر. ويرى المدافعون عن منطق النظام الرأسمالي أن المنافسة والطمع والأنانية ما هي إلا فضائل مطلوبة في ذاتها لترقية رفاهية الأفراد، فمن طريق سعي كل فرد في تحقيق مصلحته ورفاهيته سيتحقق الصالح العام.

أما الليبرالية بوصفها نظامًا سياسيًا فهي تقوم على الإيمان بقيمة الفرد وحريته وحقوقه التي لا يجب المساس بها مثل: الحق في الحياة والحرية والملكية. والحرية في إطار الليبرالية ليست مرادفة للفوضى، وليست أيضًا حريةً مطلقة. إذ يقول كثيرون من الليبراليين إن حرية قبضة يدك تقف عند أنف جارك. وهو ما يعني أنه ليس للفرد حق التعرض لحريات الآخرين بأي حال. كذلك لا تقوم الليبرالية عند مؤسسيها الأوائل: لوك ومل وكانط، ولا عند الليبراليين المعاصرين مثل: رسل وبوبر وهايك… على فكرة نزع يد الدولة عن التدخل في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الدولة لديهم هي الضامن لتحقيق حريات الأفراد الرشيدة، ولها دورًا مهمًا في تقنين الممارسات الاقتصادية، فتتصدي لسياسة الاحتكارات، ويناط إليها تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا ينبغي أن تُترك أبدًا لمبادرات الأفراد.

لكننا نجد أن ماريتان قد تعامل مع مصطلحي الرأسمالية والليبرالية بوصفهما مترادفان، وعد الليبرالية هي النظام السياسي الحاضن للرأسمالية التي تترعرع بممارستها غير الإنسانية في حِضنه، فساوى بينهما في المساوئ والعيوب، ورأى أن ما ينسحب على الرأسمالية من انتقادات ينسحب أيضا على الليبرالية. فهي لديه مصدرًا للشرور، لأنها لم تضع في حسبانها لا العدالة الاجتماعية ولا الصالح العام.

لكن يتسم التصور الماريتاني من وجهة نظرنا، بأنه مجانب للصواب، لأن الرأسمالية لم تستطع أن تُجدد نفسها وتحافظ على استمرارية وجودها إلا بفضل مراعاتها للأبعاد الاجتماعية التي شدد عليها بعض الفلاسفة الليبراليون والتي تدعو إلى تدخل مؤسسات الدولة لتحقيق التوازن بين الملكيات الخاصة والخير العام، وهو المذهب المعروف فلسفيًا باسم مذهب التدخل interventionism الذي تَجَلَّى بوضوح لدى أبرز ممثلي التيار الليبرالي المعاصر: رسل وبوبر وهايك.

على أيه حال يُعد سؤال الخير العام سؤالًا قديمًا جديدًا مطرُوحا على الفلاسفة منذ القدم وحتى عصرنا الراهن، ويتبلور هذا السؤال فيما يلي: في حالة تعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجموع فأيهما نُغَلِّب؟ يرى ماريتان أن هذا السؤال كان سؤالًا جوهريًا ومطرُوحًا بإلحاح على الفلسفتين: القديمة والوسيطة اللتين حاولتا إيجاد شكل من أشكال التوفيق بين الفرد والمجتمع. لكننا من وجهة نظر ماريتان، نعدم وجوده في الفلسفة الحديثة، وبخاصة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، بسبب سيادة النزعات الليبرالية المتزمتة التي يُطلق عليها ماريتان فلسفة الحريات الفوضوية. هذا التناقض بين الفلسفتين القديمة والوسيطة من جهة، والحديثة والمعاصرة من جهة أخرى، بخصوص مكانة الخير العام فيهما هو ما أبرزه ماريتان قائلًا: “لا يوجد أحد قد أكد أهمية وأسبقية الخير العام بقدر ما فعل الأكويني، الذي أكد بدوره مقولة أرسطو بأن خير الكل أكثر أهمية من خير الأجزاء (…) في حين عايش القرن التاسع عشر أخطاء النزعة الليبرالية الفردية المتطرفة”([42]).

نقول نعم، لقد أهتم أرسطو ومن قبله أفلاطون بمسألة الصالح العام، لكن المُلاحظ أنهما لم يُحققا توازنًا بين العام والخاص، بل غَلَّبا الصالح العام للمدينة على مصالح الأفراد الخاصة والجزئية، للدرجة التي أعلن فيها أفلاطون، ومن بعده أرسطو أن صلاحية الفرد لا تتحدد إلا بمقدار خدمته للدولة التي تُقرر بنفسها ماهية هذا الصالح العام. بل ويحق للدولة لديهما، أن تتدخل حتى في أبسط الحقوق الفردية وتقمعها وقتما تريد. وهو ما عبر عنه أفلاطون في محاورة الجمهورية قائلًا: “إنك خُلقت من أجل الكل، وليس الكل هو الذي خُلق من أجلك”([43]). والمعني نفسه بالصياغة نفسها تقريبًا هو ما أكده أرسطو في كتابه السياسي عندما قال: “لا يُمكن الشك في أن الدولة هي بالطبع فوق العائلة وفوق كل فرد، لأن الكل هو بالضرورة فوق الجزء، ما دام أنه متى فسد الكل فليس بعده من جزء”([44]).

ولا نجد اختلافًا كبيرًا لدى الأكويني عن أسلافه اليونانيين بعامة، وعن أرسطو بخاصة في مناقشته لأطرُوحة الصالح العام وعلاقته بالخاص، “فالصالح الخاص لا يُمكن أن يوجد دون الصالح العام للأسرة أو للمدينة أو للملكة (…) وبما أن الإنسان جزءٌ من الدار، ومن المدينة فعليه أن يعتد بما يصلح له من خير”([45]). وهو ما يعني أن الإنسان يجب أن يُكيف مصالحه الخاصة مع مقتضيات الصالح العام، ولا يجب عليه أن يطغى على الصالح العام لتحقيق مصالحه.

ولا يقف الأكويني عند هذا الحد، بل يمضي ليطابق بين إرادة الفرد وإرادة الدولة، مطالبًا بانصهار الإرادة الفردية في الإرادة الكلية للدولة لما في ذلك من نفع للاثنين: الفرد والدولة. ولقد لخص إيف كاتان Yves Cattin علاقة الفرد بالدولة لدى الأكويني قائلًا: “الفرد والدولة لدى الأكويني متطابقان تطابقًا نسبيًا. وليست العملية السياسية إلا الفعل الذي به يتعرف كل إنسان على ذاته في الدولة (…) وعلى هذا النحو فإن إقرار كل فرد بالدولة هو إقرار بذاته، ولكنه كذلك إقرار لما في ذاته من اقتدار على تجاوز يُلزم بالخروج من مجال الحياة الخاصة، وبابتغاء ما تبتغيه الدولة، أي، المصلحة المشتركة”([46]). نلاحظ في هذا النص مدي التقارب الشديد بين تصورات الأكويني وتصورات هيجل الذي رأي أيضًا أن الفرد لا يُحقق ذاته إلا في الدولة وبواسطتها، فالدولة (الكل) لدى كل منهما هي الفكرة المقدسة على الأرض.

آثرنا عرض آراء الفلاسفة الذين استشهد بهم ماريتان وعدهم أفضل من مَثَّل الاهتمام بالصالح العام. لكننا بالخلاف لماريتان، لم نرَ في نصوصهم سوى دعوات لتأييد النزعات الجمعية collectivism التي لا تُقيم وزنًا لحريات الأفراد الخاصة، التي يجوز الإطاحة بها متى اقتضى الأمر ذلك. فلم نجد لديهم نصوصًا تدعم المساواة والعدالة بين البشر، وهو ما يعني أن هناك فئات من البشر لا تُدرج حقوقهم ومصالحهم في الحسبان. فأفكار أفلاطون وأرسطو السياسية بررت اللامساواة بوصفها أمرًا طبيعيًا بين السادة والعبيد، وكذلك تمييز أوغسطين والأكويني بين المسيحيين والوثنيين وتنديدهما بالحرية والديموقراطية.

لكن يتبقى لنا مقاربة تصورات الفلاسفة المحدثين عن الخير العام، لنعرف مدى صحة ما ينسبه إليهم ماريتان. وسوف نتطرق إلى توضيح هذه الفكرة لدى اثنين من أئمة الفلسفة الليبرالية هما: جون لوك، وجون ستيورات مل. لاستجلاء حقيقة اتهام ماريتان لليبرالية بأنها غضت الطرف عن الخير العام، أم أنها استطاعت في حقيقة الأمر تقديم مقاربة للتوفيق بين مقتضيات الخير العام والمصالح الفردية؟ يقول جون لوك في كتابه مقالتان في الحكم المدني: “أعني بالسلطة السياسية حق سن الشرائع، وتطبيق عقوبة الموت وما دونها من عقوبات للمحافظة على الملكية الخاصة، واستخدام قوة الجماعة في تنفيذ هذه الشرائع ودفع العدوان الخارجي عن البلاد، وكل ذلك من أجل الخير العام وحسب (…) ولا يُعقل أن تمتد سلطة المجتمع إلى أبعد ما يقتضيه الخير العام“([47]). يُشير لوك في هذا النص إلى أن وظيفة السلطة السياسية تتحدد ليس في حماية الملكية الخاصة للأفراد فحسب، وإنما في حماية حق المجتمع نفسه من تجاوزات من يهددون صالحه العام. فالسلطة مطلوبة لحماية الفرد والمجتمع، لكن يحذرنا لوك في الوقت نفسه من توغل السلطة على حقوق وحريات الأفراد باسم حماية الصالح العام. وليبرالية لوك بهذا تعطي إلى المجالين: العام والخاص الضمانات التشريعية التي تكفل حقوق كل منهما، فلا تتوغل واحدة منهما على الأخرى. وهو ما يعني أن ليبرالية لوك لم تُغفل يومًا الصالح العام من أجل حماية المصالح الخاصة للأفراد، كما يزعم ماريتان.

ولا يقف الأمر مع الفيلسوف الليبرالي البرجماتي: جون ستيورات مل عند حد التوفيق بين الخيرات الخاصة والعامة، بل يمضي مل إلى أبعد من ذلك حينما يُقرر أن مصلحة المجموع تتضمن مصلحة كل فرد من أفراده، ونادى أيضًا بضرورة أن يتخلى الفرد عن مصلحته وسعادته في سبيل الآخرين، متى كفل هذا التصرف سعادتهم وحقق مصالحهم. رافضًا بذلك آراء والده جيمس مل وصديقه جيرمي بنتام اللذين طالبا بإعلاء المصلحة الخاصة على العامة. لقد حدد مل الخطوط الفاصلة بين حق الفرد وحق المجتمع، أو بتعبير آخر الخط الفاصل بين الخاص والعام، إذ يقول: “إن ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه، وما يخص المجتمع فهو من حق المجتمع. لكن ما دام أن الفرد يعيش في رحاب المجتمع ويتمتع بحمايته، يرى نفسه مدينًا له، ومُطالبا بسلوك معين إزاء أفراده، وبناء على ذلك فعليه أن يتحاشى الإضرار بمصالح الغير، وعليه أن يتحمل نصيبه من التضحية التي يتطلبها المجتمع، كحمايته من الأذى ودفع العدوان عنه، وإن أهمل ذلك حَقَّ عليه عقاب المجتمع عن طريق القانون”([48]). يؤكد مل هنا أن للمجتمع حقوقًا عامة يجب على الفرد أن يلتزم بها ولا يتخطاها، ومتى حاول الفرد تجاوز الحق العام، وجب عليه عقاب المجتمع بتهمة انتهاك الصالح العام. وهو ما يعني أيضًا أن فلسفة مل لم تخلُ من اهتمامه بالصالح العام، كما يدعي ماريتان، بل إنه كان مهمومًا همًا كبيرًا بحقوق المجتمع. ولهذا لا ينبغي علينا أن نُحمل أخطاء الرأسمالية وممارساتها الفجة إلى الفلسفات الليبرالية كما فعل ماريتان.

فرض علينا نص ماريتان السابق المتعلق باختزال الخير العام في الفلسفة القديمة وفلسفة الأكويني وحدهما، واستثناء القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر من أي فلسفة للخير العام إلى الاستفاضة بعض الشيء لتوضيح مصداقية حكم ماريتان من عدمه في تعامله مع الفلسفات الليبرالية، والتي حَمل عليها ماريتان كثيرًا بسبب نزوعها غير المسيحي. ولقد تبين لنا فيما سبق أن رواد الفلسفة الليبرالية من أمثال: لوك ومل لم يتعرضا لأطرُوحة الخير العام في ضوء مصطلحات الكل والجزء، وأسبقية وأولوية الكل على الأجزاء، كما هو الحال لدى أرسطو والأكويني. بل تعرضا لها في ضوء مصطلحات الحقوق والواجبات التي تُحدد مجال اختصاص وعمل كل منهما، وتضمن عدم تعدي الواحد منهما على الآخر. كما نُلاحظ أيضا أن الخير العام لديهما يشمل الخيرات المادية فقط، ولا علاقة له بالخيرات المتجاوزة للدنيوي، وهو ما يرفضه ماريتان كما سنرى.

ويجب أن نضع في حسباننا أيضًا أن نقد ماريتان لليبرالية بدعوى أنها تُعلي من الخير الخاص على حساب الخير العام، لا تعني أنه يُطالب بسلب حقوق الأفراد الخاصة وحرياتهم من أجل تحقيق الخير العام، فهذا المطلب لديه يُعد من سمات النُظم الشمولية والاستبدادية التي تضحي بالفرد من أجل الكل، وهو ما انتقده ماريتان كثيرًا في النظام الاشتراكي. إن ما يريده ماريتان هو عدم التضحية بحق طرف على حساب الآخر، وقد رأى تحقق هذه المعادلة بدقة كاملة في العصرين القديم والوسيط فقط.

الخير العام لدى ماريتان يختلف اختلافًا جذريًا عن نظيره في الفلسفة الليبرالية. فلا يختزل ماريتان الخير العام في حفظ النظام العام أو في حفظ أمن المجتمع وسلامته ولا في توفير السلع والخدمات المادية والترفيهية فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى الاهتمام بالأبعاد الأخلاقية والرُوحية. فالخير العام يضم وفق توصيف ماريتان له “ليس فقط مجموعة السلع المادية والخدمات والطرق والمواني والمدارس والقوة العسكرية للدولة ومنظومة القوانين العادلة (…) الخير العام يشمل كل هذا وأكثر. إذ يشمل أيضًا التكامل الاجتماعي والفضائل السياسية والثراء الرُوحي والقيم الأخلاقية والشعور بالصداقة والسعادة. فضمان تحقيق هذه الأشياء يُضفي على الشخص طابع الكمال والحرية الحقيقية”([49]). إن توسيع ماريتان لمفهوم الخير العام وجعله يضم إثراء الجوانب الرُوحية والدينية والأخلاقية، يضيف إلى الدولة وظائف أخرى غير الوظائف التقليدية المتعارف عليها. وهكذا سوف تصبح الدولة هي الضامن لتحقيق الكمالات الرُوحية والأخلاقية لمواطنيها. لكن هذا التصور يستلهمه ماريتان من الفلسفة اليونانية بعامة، ومن فلسفة أرسطو بخاصة، إذ يرى أرسطو أن الإنسان لن يمكنه تحقيق فضائله وكمالاته إلا في الدولة ومن طريقها، وهو ما يؤكده قائلًا: “فلا يكفي أن تقوم المدينة بتوفير الوسائل المادية من شق الطرق والمصارف، وإنما ينبغي أن تُهيئ لمواطنيها طريق الفضيلة وتحقيق السعادة”([50]).

ولتحقيق هذا الغرض يُطالب ماريتان المؤسسات التعليمية والتربوية بممارسة دورها الإنساني والأخلاقي الذي لا يجب أن يختزل التعليم في عمليات التوجيه السياسي والإيديولوجي فحسب، وإنما أن يكفل تحقيق السعادة والفضيلة للمواطنين بوصفهما عنصرين جوهريين من عناصر الخير العام. فالتعليم وفق ما يراه ماريتان “يجب أن يُسهم في تحقيق الخير العام، لأنه مرتبط بالوعي وبالشعور بالمسئولية تجاه المجتمع ككل”([51]).

ولا يقف ماريتان عند ربط الخير العام بالسعادة والفضيلة الدنيوية، بل يتجاوز ذلك بكثير حينما يقرر أن الهدف النهائي للخير العام هو أن يسمو بالإنسان إلى نيل الخيرات المطلقة والأبدية، وأن يكون وسيلة له في تحقيق خلاصه الأخروي. وهذا ما عبر عنه قائلا: “ما دام الأشخاص يتجاوزون النظام الاجتماعي ويتوجهون نحو المتعالي، فإن الخير العام بجوهره يجب أن يساعد في تقدمهم تجاه الخيرات المطلقة التي تتجاوز المجتمع السياسي وتتعالى عليه”([52]). في هذا النص يُعيد ماريتان إنتاج صياغة القديس أوغسطين نفسها بأن الإنسان ينتمي إلى مملكتين: المملكة الأرضية والمملكة السماوية. وأن الهدف النهائي للإنسان هو بلوغ مملكة السماء، حيث مجتمع القديسين والمختارين، لذا فإن الحياة في المدينة الأرضية يجب أن تتكفل بتهيئة كل السبل التي تُمكن الإنسان من بلوغ المملكة السماوية. ولا يختلف الأمر لدى ماريتان كثيرًا، فهو مؤمن بالأطرُوحة الأوغسطينية نفسها، ويسعى جاهدًا في إعادة تكوين وتأهيل الإنسان والمجتمع وفقًا للتصورات المسيحية الكاثوليكية لبلوغ هذه الغاية، وهو ما سيتضح لاحقًا في أفكاره عن الحضارة المسيحية الجديدة.

بناء على تصورات ماريتان السابقة للخير العام، وبتحديد الهدف النهائي منه بأنه متجاوز للدنيوي، نصل إلى نتيجة حاسمة وهي أنه لا الرأسمالية ولا الفلسفات الليبرالية يمكن أن تساعد الإنسان في تحقيق ما يصبو إليه ماريتان وينشده. ويكون السؤال ماذا عن الاشتراكية التي رأي فيها ماريتان كثيرًا من العناصر المشتركة مع المسيحية؟  فهل ستستطيع بفضل العناصر المسيحية الموجودة فيها أن تقدم شيئًا في طريق الخلاص الإنساني؟

ماريتان والاشتراكية

نزعة ماريتان المسيحية قد تُنبئنا مقدمًا بموقفه من الاشتراكية الماركسية. فالشائع هو العداء الشديد بين الماركسية والدين. إذ يرى ماركس أن الدين مثل الأيديولوجيا فهو وعي زائف يُبعد الإنسان عن الإدراك للعالم الحقيقي ومشكلاته الواقعية. فهو يُمثل وفق توصيف ماركس له زفرة الخليقة المضطهدة، وهو أيضًا قلب عالم لا قلب له، ورُوح عالم لا رُوح له. إضافة إلى رؤية الماركسية بأن الدين قد لعب دورًا مهمًا في تكريس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القرن التاسع عشر، فقد ” كيُفت أفكار المسيحية اليوم لتبدو أن السماء تحرس نظام المجتمع البرجوازي”([53]).

رغم هذا العداء الواضح بين الماركسية والدين، إلا أن ماريتان يرى أواصر قربى تجمع بينهما إذ “توجد بين العناصر الأولية للشيوعية عديدًا من التصورات المسيحية مثل فكرة المشاعية communion التي أعطت إلى الشيوعية قوتها الرُوحية التي سعت الشيوعية في أن تحققها في الحياة الاجتماعية”([54]). ما يريد أن يقوله ماريتان في هذا النص هو أن الشيوعية الماركسية ضمت بين طياتها عديدًا من الأفكار المسيحية، وهو ما جعل ملايين البشر يلتفون حولها ويؤمنون بمبادئها. وكأن لسان حاله يقول إن ما أعطى للشيوعية قيمتها وقوتها بوصفها فلسفة تحررية هي هذه العناصر التي استلهمتها من المسيحية.

القاسم الآخر الذي يراه ماريتان مشتركًا بين المسيحية والشيوعية هو موقفهما الإنساني من الفقراء. كانت المسيحية في بداءتها ديانة للفقراء والمَعُوْزِين والعبيد، ولقد قال السيد المسيح في أكثر من موضع: “طوبى للفقراء لأنهم يرثون ملكوت السموات”، “وسعداء أنتم أيها الفقراء لأن مملكة السماء لكم”. الأمر نفسه نجده لدي ماركس الذي كرس كل مجهوداته للدفاع عن العمال الفقراء والمهمشين والمضطهدين. لا ليرثوا ملكوت السموات، بل ليحققوا العهد الألفي السعيد على الأرض عند تحقيق الشيوعية، لقد وصف ماريتان الشيوعية بأنها “تحمل مبدأ الإخلاص للفقراء، لقد أحبت الفقراء”([55]).

لكن هذه القواسم المشتركة بين المسيحية والشيوعية لم تُلغِ وجود اختلافات جذرية بينهما جعلت ماريتان يرفض الشيوعية رفضًا مطلقًا، بل ويعدها أخطر من البدع والهرطقات التي تعرضت لها المسيحية في قرونها الأولى. فهي وفق ما يراها، فلسفة إلحادية ترفض وجود الله وفعله رفضًا صريحًا ومطلقًا. إذ فرغت رسالتها الإنسانية من أي مضمون مسيحي، واستبدلت بالإله المسيحي الإله التاريخي والاقتصادي، لقد أكدت الشيوعية وفق ما يرى ماريتان، “رفض الله رفضًا مطلقًا باسم الديناميكية التاريخية للنزعة الجماعية التي من طريقها تصل البشرية إلى تحقيق كمالها”([56]). يرفض ماريتان المادية التاريخية التي تؤكد أن العامل الحاسم والمحدد في تطور المجتمعات هو وسائل الإنتاج، كما يرفض أيضا فكرة أن استيلاء البروليتاريا على وسائل الإنتاج لتحقيق العدالة الاجتماعية سوف يرتقي بالإنسان إلى بلوغ الكمال، فالكمال لا معنى له خارج الإطار المسيحي الكاثوليكي.

إقرأ أيضًا: الحداثة ما بعد العلمانية

ينبع هذا الرفض الماريتاني لمفهوم الكمال بمعناه الماركسي، من اختلاف رؤية كل من ماريتان وماركس للإنسان. فماركس لا يرى الإنسان إلا في واقعه الاقتصادي والاجتماعي المُعاش، وقد ارتبطت نظرته للإنسان بالتصورات العلمية القائمة على التحليل الاقتصادي والاجتماعي، لمعرفة ما في الواقع من شرور ومحاولة القضاء عليها لبلوغ الكمال، وهو ما سوف يتحقق في المجتمع الشيوعي فقط. يقول ماركس: “إن الشيوعية بوصفها التخطي الإيجابي للملكية الخاصة وبوصفها التملك الحقيقي للماهية الإنسانية هي أيضًا عودة الإنسان الكاملة إلى ذاته بوصفه كائنًا اجتماعيًا (…) إنها الحل الحقيقي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان، إنها لغز التاريخ وقد حُل وهي تعرف نفسها كونها هذا الحل”([57]).

أما نظرة ماريتان إلى الإنسان فتقترن لديه بعلاقته بالله المقدس والمتعالي الذي يعمل فيه. فإنسان ماريتان كما ذكرنا من قبل، يحمل ميراث الخطيئة الأصلية، لكنه تحرر بواسطة فعل الفداء الذي قدمه له السيد المسيح. إذن تحدث عملية التحرر الإنساني لدى ماريتان بفضل المحبة الإلهية التي يجب أن يستجيب لها الإنسان.

اختلاف نظرة ماركس وماريتان بخصوص ماهية الإنسان أدى إلى اختلاف رؤية كلًا منهما لمفهوم الخلاص الإنساني وكيفية بلوغه. فالخلاص لدى ماركس لا يحمل أي مقاربة دينية، بل نجده مرادفًا للتحرر من قيود المجتمع البرجوازي. ولن ينال الإنسان خلاصه إلا عندما تستولي البروليتاريا على السلطة وتحطم الدولة البرجوازية. وبعد ذلك ستذبل الدولة من تلقاء نفسها، وتنتهي ديكتاتورية البروليتاريا التي ما هي إلا مرحلة انتقالية لبلوغ المجتمع الشيوعي الذي سوف يخلو من كل أشكال الظلم والاستغلال والصراع

“ففور أن تستولي البروليتاريا على السلطة الاجتماعية، وبواسطة هذه السلطة تُحول وسائل الإنتاج الاجتماعية المنزلقة من أيدي البرجوازية إلى ملكية المجتمع بأسره (…) ويبدو الناس في آخر الأمر سادة كِيانهم الاجتماعي، وبهذا يصبحون سادة الطبيعة، سادة أنفسهم، أحرارًا”([58]).

وهو ما يعني أن الخلاص أو التحرر عند ماركس هو فعل إنساني خالص لا معونة فيه من قوى خارجية، ووسيلته هي الثورة والاستيلاء على وسائل الانتاج الرأسمالية، وغرضه هو بلوغ العهد الألفي السعيد الذي يرفع شعار: للكل حسب حاجته وللكل حسب طاقته.

لكن يرفض ماريتان بالطبع الرؤية الماركسية للخلاص، ويري خلف منها وشائج خفية تهدف إلى تدمير الإنسان أكثر مما تهدف إلى تحرره، إذ يتساءل مستنكرًا “كيف يحدث هذا التحرر والخلاص؟ إنه من طريق البروليتاريا، وبواسطة الحرب الطبقية التي بدت لماركس مثل الوحي! لكن ما يجب أن نضعه في حُسباننا هو أن الدور الأهم ليس للاقتصاد لكن للنواحي الإنسانية العميقة وبالأخص النواحي الرُوحية. فرفض الله بوصفه غاية للحياة الإنسانية والأخلاقية هو البداءة الأبسط لكل خطيئة مميتة”([59]). يرفض ماريتان في الأطرُوحة الماركسية فكرة أن البروليتاريا هي حاملة رسالة الخلاص الإنساني. فهي لم ترن وفق ما يرى، إلا إلى تحقيق الخيرات الدنيوية فقط. في حين أن للخلاص الماريتاني معنيً أعمق يرتبط بصفاء الرُوح والاتحاد بالله، ولا يتحقق هذا إلا من طريق الله وبواسطته.

انطلاقًا مما سبق يصل ماريتان إلى نتيجة مهمة مفاداها أنه لا يوجد فرق بين النظامين: الرأسمالي والشيوعي في موقفهما من الإنسان. فليس من الصحيح من وجهة نظر ماريتان، أن الشيوعية تسعى في بلوغ الجوهر الإنساني الحقيقي الذي كان مُغتربًا في المجتمعات الرأسمالية، بل كان كل همها هو تحقيق الوفرة المادية للإنسان أسوة بالمجتمعات الرأسمالية. فانجرت مثل نظيرتها الرأسمالية إلى عبادة التكنولوجيا والسيطرة عليها بوصفها الوسيلة الأهم لخلاص الإنسان، ونست العنصر الإلهي في الإنسان المتمثل في الرُوح. فأصبح الإنسان في النظامين مستهلكًا للتكنولوجيا تسيطر عليه دون وعي منه. وهو ما أدى إلى حالة من حالات الاغتراب الكلي والشامل للإنسان في النظامين الرأسمالي والشيوعي، فلقد “ضُحيَ بالإنسان لصالح النزعة الصناعية التي أصبحت بمنزلة الإله للمجتمع الصناعي”([60]).

لكن رغم معارضة ماريتان للاشتراكية الماركسية إلا أنه يقدر لها في المقام الأخير، أنها كانت صاحبة الفضل الأول في التمرد على والثورة ضد، الأوضاع المستبدة والظالمة التي جردت الإنسان من إنسانيته. فلا أحد يستطيع أن يُنكر أهميتها في إثارة الوعي وتنبيهه بأخطار الرأسمالية. لقد قدمت الاشتراكية محاولات دؤوبة لرد الاعتداد بالإنسان مرة أخري، وإن جَانبها الصواب فذلك لبعدها عن الطريق المسيحي الصحيح، يقول ماريتان: “مهما كانت فداحة أخطائها، فقد كانت الاشتراكية في القرن التاسع عشر بمنزلة احتجاج الضمير الإنساني ضد الشرور. لقد كانت عملا عظيمًا لأنها أسست لمحاكمة الرأسمالية وأيقظت الشعور بضرورة العدالة وبكرامة العامل”([61]).

والسؤال المطرُوح على ماريتان الآن هو إذا كان النظامان الرأسمالي والاشتراكي متساويين في العيوب، فكيف يمكن حدوث التغير الذي ينشده ماريتان؟ أو كيف ستتحقق الحضارة المسيحية التي يريدها؟ هل سوف يتم هذا بالإقناع أم بالمؤامرة أم بالثورة ؟ يجيب ماريتان عن هذا السؤال قائلًا: “من المستحيل بلوغ المجتمع المسيحي بواسطة الثورات أو بأي طريقة أخرى (…) إن إعادة التجديد الاجتماعي المسيحي سيكون عملا من أعمال القداسة وإلا فلن يكون شيئا”([62]). وهو ما يعني أن التغيرات السياسية والاجتماعية التي يأمل ماريتان في حدوثها والتي يتحقق بفضلها الكمال الإنساني الكلي، مستقلة لديه تمام الاستقلال عن الإرادة الإنسانية. فهي عمل من أعمال العناية والتدبير الإلهيين اللذين لا يملك الإنسان تجاههما شيئًا سوى انفتاح قلبه ورُوحه لتلقي عمل الرُوح القدس فيهما، وهذا وحده كفيل بحدوث التغير.

ولا يرى ماريتان استحالة في حدوث ذلك، لأنه قد تحقق بالفعل وعلى أكمل وجه في العصور الوسطى “فمسيحية العصور الوسطى هي النموذج الذي تميز باستجابة الإنسان لحركة الرُوح القدس، فقد كان كل شيء يحدث بفضل المقدس، وموجهًا تجاهه ومحميًا بواسطته، فكان هناك عملًا إلهيًا فُند بواسطة الرُوح القدس”([63]). يتضح من هذا النص وما سبقه من نصوص أن ماريتان لم يتخلَ يومًا عن استلهام تصوراته السياسية من فلاسفة العصور الوسطى. فشأنه شأن القديس أوغسطين يرى أن التاريخ مسرحية يؤلفها الله ويمثلها الإنسان، فكل شيء في التاريخ محدد مسبقًا وما على الإنسان إلا تأدية دوره المرسوم له.

إقرأ أيضًا: الحداثة بين الفكر والممارسة

ونجد أنفسنا بصدد سؤال آخر وهو أنه إذا كان المجتمع نتاجًا لعمل الرُوح القدس، فما هو سر انهيار العالم المسيحي في العصور الوسطى؟ إذ سار تحت رعاية الرب وعنايته وفق تعبير ماريتان في نصه السابق؟ في الحقيقة لا نجد لدى ماريتان إجابة عن هذا السؤال سوى تحميل مسئولية الإخفاق إلى الإنسان وحده، لأنه أصم أذنيه عن سماع صوت الرُوح القدس وعملها فيه وفي المجتمع والتاريخ. كما أننا لا نجد لدى ماريتان أيضًا تفسيرًا لاستمرار الحضارة الغربية وتقدمها وتطورها التي انسلخت عن أصولها المسيحية منذ أفول العصور الوسطى وحتى الآن، وخاصة أن هذا التقدم يسير على نحو مستقل عن عمل وعناية الرُوح القدس.

نقول نعم، لقد تعرضت الحضارة الغربية للكثير والكثير من النكبات والأزمات والتحديات الإنسانية مثل: الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية وغيرها، لكنها استطاعت تجاوزها ومضت في طريقها قُدمًا إلى الأمام بفضل أفكار الإنسان المُبدعة وأفعاله الخلاقة التي يحددها بنفسه ولنفسه دون معونة خارجية من السماء. ولم نجد فيلسوفًا أو مُفكرًا يُطالب بما طالب به ماريتان من عودة إلى إحياء أفكار العصور الوسطى مرة أخرى، حيث هيمنة الديني وتحكمه في الدنيوي، وإعادة تغليب التفسيرات الدينية للتاريخ مرة أخرى.

لقد تحدث فلاسفة كثيرون بعضهم مثل توينبي فيلسوف الحضارة ومؤرخها الشهير، وكذلك شبنجلر عن ضرورة الاهتمام بإثراء الجوانب الرُوحية والدينية في الحضارة المادية المعاصرة، لإحداث نوعًا من أنواع التوازن داخل الإنسان نفسه بين ما هو مادي وما هو رُوحي “فكل تقدم فكري لا يُصاحبه تسامٍ رُوحي يُنذر بالخطر”([64]). لكننا لا نجد لدي أي منهما مُطالبة بالارتداد إلى حضارة العصور الوسطى مرة أخرى.

لقد سعي ماريتان شأنه شأن كثيرون في محاولة التوفيق بين الاقتضاءين المادي والرُوحي باستخدام مصطلحين جديدين هما: الشخصانية personalism والفردانية individualism، لكن غلب على هذه المحاولة الإعلاء من شأن الرُوحي على حساب المادي. فهذا الأمر يُعد مطلبًا ضروريًا لتهيئة الإنسان المعاصر لتحقيق المدينة السماوية في الأرض.

الفردانية والشخصانية لدى ماريتان

يعرف جيه بي J. BI الشخصانية بأنها حركة اجتماعية تقترب من الاشتراكية المسيحية، وتؤكد الفاعلية الاجتماعية والمسئولية الشخصية. ويرى أنها بدأت مع إمانويل مونييه Emmanual Mounier عام 1930 الذي تأثر كثيرًا بوجودية كيركيجارد الدينية. أما عن ممارستها السياسية فقد قامت بمعارضة الفاشية وطالبت باتحاد العمال وضمت كثيرًا من المفكرين مثل هنري ديوميري Henry Dumery ومارسيل Marcel وماريتان ([65]). يقدم جيه بي في تعريفه هذا، الشخصانية بوصفها مذهبًا فلسفيًا واحدًا يضم المفكرين المطالبين بالإعلاء من حرية الشخص المقرونة بالمسئولية. يستوي في ذلك جميع المفكرين: المؤمنين وغير المؤمنين. كما لا نجد لدى جيه بي تمييزًا دقيقًا وواضحًا بين سمات كل من الشخصانية ونظيرتها الوجودية رغم تمايزهما.

لكن تدارك دريس ديوير Dries Deweer هذه السلبيات عندما وضح لنا كيف أن الشخصانية الفرنسية التي صك تشارلز رينوفيه Charles Renouveir ( 1815 ـ 1903 ) مبادئها في بداءة القرن العشرين قد ولدت في مجال الممارسة السياسية والاجتماعية من رحم حزب الفعل الفرنسي the Action Francaise الذي أسسه تشارلز ميوراس Charles Maurras الذي ضم عديدًا من مفكري النخبة الكاثوليكي. فلقد حاول ميوراس المعروف بميوله الإلحادية دمج المفكرين الكاثوليك ضمن تحالفه الذي ضم المؤمنين والملاحدة لمحاربة الفاشية.

لكن إدانة البابا بيوس الحادي عشر Pius xi عام 1926 لهذا الحزب قد وضعت نهايته، لأنه دعا إلى الفصل بين السياسي من جهة والإيمان والأخلاق من جهة أخرى. وأنقسم المفكرون بعد إدانة البابا للحزب إلى معسكرين: معسكر التوماوية الحديثة من جهة، والمعسكر التحرري من جهة أخرى. وقد رأى أنصار المعسكر الأخير أن الشخصانية معنية في المقام الأول بالبحث عن معني للإنسان في المجتمع الحديث. وهي تقوم على التعارض مع الأيديولوجيات المسيطرة مثل الشيوعية والفاشية والرأسمالية البرجوازية. فالشخصانية طريق ثالث بين الليبرالية المفرطة والشمولية الاستبدادية. وتهدف إلى أن تعزو إلى لإنسان دورًا أخلاقيًا واضحًا في ظل هذه الحضارة. لقد تطلع الشخصانيون التحرريون إلى رسم تصورًا تكامليًا عن الإنسان، تصورا يُدرك الشخص البشري في كليته وشموله، بدلًا من أن يختزله في عنصرًا مُنتجًا أو مواطنًا في أمة ما أو في أي جزء تابعًا، كما طالبوا بدمج البعد الرُوحي مع البعد المادي في الإنسان، وقد مثل مونييه هذا التيار خير تمثيل.

أما معسكر التوماوية المحدثة، فرغم إيمانه بالأفكار التي آمن بها أنصار المعسكر التحرري، إلا أنه قد مال إلى فكرة أن فلسفة العصور الوسطى هي الفلسفة المسيحية الأصيلة، وهي وحدها الكفيلة بإيجاد معنىً وغرضًا للإنسان المعاصر. لذا فقد طالبوا بضرورة أن تُكيف الفلسفة الحديثة والمعاصرة نفسها مع أفكار العصور الوسطى، فهو الفكر الأفضل الذي سوف يُمكننا من التغلب على أزمات الحضارة المعاصرة. ويُعد ماريتان أفضل من مثل هذا التيار([66]).

أما إذا تطرقنا لفكرة الشخصانية لدى ماريتان سنجده يبدأ بالمستوي الميتافيزيقي ويتدرج به وصولا إلى المستوى الاجتماعي. فهو يميز بين مستويين وجوديين في الإنسان: الأول هو مستوى الوجود الفردي، ويشير به إلى الجانب المادي في الإنسان. والآخر هو مستوى الوجود الشخصي ويشير به إلى الجانب الرُوحي في الإنسان. ويوضح ماريتان خصائص كلًا من هذين الجانبين قائلًا: “المادة هي الأصل الأول للفردانية وتتسم بالوجود الضيق، ومهددة دائمًا. أما الشخصانية فهي متأصلة في الرُوح وتشهد لوفرة الوجود الإنساني ومبادئه الرُوحية”([67]). نلاحظ في هذا النص أن ثنائية الفردانية والشخصانية لدى ماريتان تشبه الثنائية الديكارتية بين الجوهر المفكر والجوهر الممتد، لكنه اختلاف في المصطلحات فقط. ربما يكون هذا راجعًا إلى أن موقفه النقدي من الحداثة الديكارتية قد فرض عليه التخلي عن استخدام المصطلحات نفسها حتى وإن كان يقصد المعني نفسه. لكن الملاحظ هو أنه كما تتسم النفس لدى ديكارت بالخلود واللاتناهي والاستقلال عن الجسد، فكذلك الحال أيضًا لدى ماريتان الذي يُقر بخلود وأفضلية الجانب الشخصاني الرُوحي على الفرداني المادي في الإنسان.

لكن تتجاوز ثنائية: الشخص – الفرد لدى ماريتان في الإطار الميتافيزيقي، لتُسبغ بسبغة وجودية تُعبر عن رغبة عميقة لدى الإنسان في أن يكون هو ذاته الحقيقية الأصيلة وليست المغتربة كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة. إذ يشدد ماريتان في تعريفه للشخصانية دائما على أنها “معايشة المرء لذاته العميقة، والعمل على نمو ذاته الداخلية. وبقدر ما تتحكم ذاته هذه في الغرائز والرغبات الحسية، بقدر ما تتجه الشخصية نحو الكمال والحب”([68]). نلاحظ أنه بقدر ما تبتعد وجودية ماريتان عن الوجودية المعاصرة التي احتفت بالجسد احتفاءًا بالغًا، والموسومة لديه بالوجودية الملحدة، بقدر ما تقترب مما يسميه ماريتان وجودية القديس توما الأكويني التي هي في رأيه الوجودية الوحيدة الأصيلة.

إن وجودية الأكويني -من وجهة نظر ماريتان- تسعي في تأكيد الذات في عدة مستويات، أهمها المستويين: الصوفي والأخلاقي المرتبط لديه بحب الله وحب الآخرين، إنها ترتكز على “تأكيد أسبقية الوجود، لكنه الوجود الذي يتضمن ويحفظ الماهيات (…) لأنك لو ألغيت الماهية أو الجوهر فأنت بذلك تُلغي الوجود كله”([69]). عداء ماريتان الصريح للوجودية جعله يُصر دائمًا على قلب المقولة الوجودية الشهيرة “الوجود يسبق الماهية” والمقصود بها أن الإنسان يوجد أولًا، ثم تتحدد ماهيته بعد ذلك بناء على أفعاله وقراراته. فالإنسان في الوجودية ليس شيئًا سوى مشروعه الخاص المفتوح الذي لا يُمكن أن تَحده ماهية مسبقة، إذ يُضيف وجوده في كل فعل من أفعاله الحرة الجديد والجديد لماهيته. أما تصور ماريتان، فهو على العكس من ذلك تمامًا، إذ نجده يُشدد دائمًا على فكرة أن الماهية أو الجوهر هي الضامن الحقيقي للوجود، وهي التي تُحدد وجود الموجودات ومصيرها، مقتفيًا بذلك أثر أرسطو والأكويني.

الماهية لدى ماريتان

هذه الماهية لدى ماريتان هي ما ينزع إليها الشخص كونه رُوحًا ويستمد منها شعوره بالحب والكرامة. إنها الماهية الإلهية أو الجوهر الإلهي الذي نفخ في الإنسان رُوحا يستطيع أن يدرك بها ويتصل بواسطتها مع الوجود الإلهي. وعلى طريقة الشبيه يدرك الشبيه يعرف الإنسان الحياة الإلهية ويشارك فيها بواسطة رُوحه، ففيها قبسٌ من الرُوح الإلهية. مشاركة الإنساني للإلهي بواسطة الرُوح هو ما ينشده ماريتان قائلًا: “إن الحالة الأكثر عمقًا لكرامة الشخص تنبع من تشابهه مع الله، أنه على صورة الله ومثاله. وما دام أن الله رُوح فالشخص الإنساني يتوجه إليه بامتلاكه رُوحا قادرة على الحب والمعرفة”([70]).

وللشخصانية لدى ماريتان بُعدٌ ثالث تتجاوز فيه الرُوح ذاتها وعلاقتها بالله إلى المجال الاجتماعي، محاولة نقلَ الشعور بالحب والكرامة والأخوة إلى مستوى الممارسات الاجتماعية، حيث حياة الشخص مع الآخرين. ويصف ماريتان النزوع الاجتماعي للشخصانية قائلًا:

“تهدف الشخصانية إلى الاجتماع. فالمجتمع الحقيقي هو المجتمع المؤلف من الأشخاص الذين يسعون في العيش معًا بغرض تحقيق كمالاتهم، وكذلك لا بُد من توافر الإلحاح الداخلي للحب والمعرفة المطلوبان لتعزيز علاقة الشخص بالآخرين”([71]).

إن ما يُريده ماريتان هو تأسيس مجتمع شخصاني، لا مجتمع الفردانية الذي يعده مجتمعًا للذرات المنقسمة، مجتمعًا يعيش فيه الإنسان لذاته فقط، ويسعى فيه إلى تحقيق مصلحته واحتياجاته المادية ولو على حساب الآخرين. فهدف ماريتان هو بلوغ مجتمع يتمكن الإنسان فيه تحقيق كمالاته الرُوحية قبل المادية، وأن يتحقق فيه الاتصال الإنساني الحقيقي القائم على الحب والكرامة والاحترام بين الذوات الإنسانية. حتى لا يتملك الإنسان الشعور بالاغتراب والقلق المعاصرين.

يُعد المجتمع الشخصاني الذي ينشده ماريتان غاية ووسيلة في الوقت ذاته، فهو غاية لدى الشخص في حياته الدنيوية الذي يرى فيه ماريتان المجتمع الأمثل للتغلب على مساوئ النظامين: الرأسمالي والاشتراكي. فهو يبتعد عن النزعة الفردية الأنانية المحضة، كما يبتعد أيضًا عن النزعات الجمعية التي تُصهر وتُذيب إرادة الفرد في إرادة المجموع. وفي المقابل تؤكد النزعة الشخصانية لدى ماريتان قيمة الإنسان وحريته وكرامته واتصاله مع الآخرين عن طريق الحب، وهذه هي أسمى صور التجمعات الإنسانية من وجهة نظر ماريتان.

ويُعد المجتمع الشخصاني أيضًا وسيلةً لبلوغ غاية أبعد وهي تحقيق المدينة السماوية في الأرض، وهو ما جعل ماريتان يُطالب بالإعلاء دائمًا من شأن القيم الدينية والرُوحية داخل المجتمع، معتقدًا أنها السبيل الذي سوف تتحقق بواسطته المدينة السماوية على الأرض.

ونظرا لأهمية العوامل الرُوحية والدينية في تكوين ماريتان الشخصي والفلسفي فقد أشار دريس ديوير إلى دورهما المهم في تكوين النزعة الشخصانية لدى ماريتان، فيرى تمايزًا كبيرًا بين كاثوليكية ماريتان والكاثوليكية القومية التي طالبت بالفصل بين الديني والدنيوي، فيقول:

“إن إدانة البابا بيوس الحادي عشر لحزب الفعل الفرنسي (…) جعلت ماريتان يبتعد عن ميوراس، ويؤسس نزعته الشخصانية على عالمية المسيحية ورفعها فوق أي حضارة أخرى. فقد رفض ماريتان الفصل بين الإيمان والعالم أو بين الديني والدنيوي. فلدى ماريتان المجالين الرُوحي والسياسي متمايزان، لكنهما ليسا منفصلين. فالله وحده هو صاحب السيادة، وللمسيحيين مهمة دنيوية يسعون في تحقيقها”([72]).

الجمع بين الديني والدنيوي هو السمة الأساسية والبارزة في نزعة ماريتان الشخصانية، ومهما يدعي ماريتان بتمايز الدنيوي عن الديني، فإنه في النهاية يجعل الدنيوي خاضعًا للديني ويعمل تحت وصايته وإرشاده، وليس أدل على ذلك من أنه قد طالب في المجال المعرفي بجعل كل العلوم تخضع لعلم اللاهوت، كما طالب في المجالين السياسي والاجتماعي بسمو الكنيسة وأسبقيتها على الدولة، بل وبضرورة أن تتوجه كل الأنظمة الدنيوية إلى الغاية المطلقة القصوى: الله، وهو ما ستكشف عنه مقاربته للحضارة الجديدة.

 

المصادر والمراجع:

([1]) Jacques Maritain, Science and Wisdom, op.cit., p:35

([2]) Jacques Maritain, Distinguish to Unite: The Degree of Knowledge, Translated by: Gerald B. Phelan, New York, Charles Scribner’s Sons, 1959, p: 262.

([3])Jacques Maritain, Science and Wisdom, op.cit., p: 43

[4])) ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة وتقديم / عثمان أمين، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1993، صـ 107

([5]) Jacques Maritain, The Dreams of Descartes, op. cit., p: 178

[6])) ديكارت، مبادئ الفلسفة، مرجع سبق ذكره، صـ 14

([7]) Jacques Maritain, The Dreams of Descartes, op. cit., p: 91, 93

([8]) ibid., p: 96

([9]) Bernard Williams, Descartes: The Project of Pure enquiry, London, Routledge, 2005, p: 20

[10])) إتين جلسون، رُوح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، مرجع سبق ذكره، صـ 404

[11])) رينه ديكارت، مقال عن المنهج: لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، مرجع سبق ذكره، صـ 120

[12])) جون لويس، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة / أنور عبد الملك، بيروت، دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1983، صـ 86

([13]) Jacques Maritain, The Dreams of Descartes, op. cit., p: 177, 178

([14]) ibid., p: 183

([15]) ibid., p:101

([16]) ibid., p: 45

)[17]) Jacques Maritain, Distinguish to Unite: The Degree Of Knowledge, op.cit., p: xii

([18]) Jacques Maritain, St. Thomas Aquinas, op. cit., p: 46

([19]) Jacques Maritain, Existence and Existent, New York, Image Books, 1957, p: 11

[20]) ) جان جاك روسو، المختار من العقد الاجتماعي، ترجمة / عبد الكريم أحمد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، صـ 55

([21]) Matthew Simpson, Rousseau’s Throry of Freedom, London, Continuum, 2006, p: ix

([22]) Zev M. Trachtenberg, Making Citizens: Rousseau Political Theory of Culture, London, Routledge, 1993, p: 1.

([23]) Jacques Maritain, Scholasticism and Politics, op.cit., p: 96

[24])) برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث: الفلسفة الحديثة، ترجمة / محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، صـ 288

([25]) Jean Bodin, Six Books of The Commonwealth, Translated by: M. J. Tooley, Oxford, Alden Press, p: 25.

([26]) ibid., p: 26

([27]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 34

([28]) ibid., p: 35

([29]) ibid., p:49

[30])) جان جاك روسو، المختار من العقد الاجتماعي، مرجع سبق ذكره، صـ 72

[31])) المرجع السابق، صـ 87

([32]) Andrew Levine, The General Will: Rousseau, Marx, Communism, Cambridge, Cambridge University Press, 1993, p: 20

([33]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 44, 24

[34])) جان جاك روسو، المختار من العقد الاجتماعي، مرجع سبق ذكره، صـ 134

([35]) Kevin Inston, Rousseau and Radical Democracy, New York, Continuum, 2010, p: 143

([36]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 46

[37])) كارل ماركس، مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، ترجمة / محمد مستجير مصطفى، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1974، 68

([38]) Jacques Maritain, Intergral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 115

)[39]) ibid., p: 115

[40])) كارل ماركس، فردريك إنجلز، بيان الحزب الشيوعي، لا يوجد اسم المترجم، موسكو، دار التقدم، د.ت، صـ 40

([41]) Jacques Maritain, The Range of Reason, op.cit.,

([42]) Jacques Maritain, ” The Person and The Common Good ” in The Review of Politics, pp: 419-455

[43])) أفلاطون، الجمهورية، ترجمة وتقديم / فؤاد زكريا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، صـ 338

[44]))  أرسطو، السياسة، ترجمة / أحمد لطفي السيد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، صـ 96

[45])) إيف كاتان، علم الإنسان السياسي لدى القديس توما الأكويني، ترجمة وتقديم / أحمد على بدوي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013، صـ 177

[46])) المرجع السابق، صـ 293

([47]) جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة / ماجد فخري، بيروت، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959، صـ 138، 215

[48])) جون ستيورات مل، عن الحرية، ترجمة / عبد الكريم أحمد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، صـ 47، 48

([49]) Jacques Maritain, ” The Person and The Common Good ” in The Review of Politics, pp: 419-455

[50])) أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، القاهرة، دار المعارف، 1995، صـ 29

([51]) Jacques Maritain, Education at Crossroads, New York, Yale University Press, 1960, p: 99

([52]) Jacques Maritain, ” The Person and The Common Good ” in The Review of Politics, pp: 419-455

[53])) موريس كورنفورث، مدخل إلى المادية الجدلية: نظرية المعرفة، المجلد الثالث، ترجمة / محمد مستجير مصطفى، بيروت، دار الفارابي، 1981، صـ93

([54]) jacques Maritain, Intergral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 39

([55]) ibid., p: 88

([56]) ibid., p: 52

[57])) كارل ماركس، مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية، مرجع سبق ذكره، صـ96

[58])) كارل ماركس، فردريك انجلس، منتخبات في ثلاثة مجلدات، المجلد 3، الجزء 1، موسكو، دار التقدم، 1981، صـ 174

([59])jacques Maritain, Integral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 51, 63

)[60]) jacques Maritain, The Range of Reason,op.,cit.

([61]) jacques Maritain, Integral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 88

)[62]) ibid., p: 120

([63]) Jacques Maritain, Science and Wisdom, op.cit., p: 76

[64])) أحمد محمود صبحي، محاضرات في الايديولوجيات وفلسفة الحضارة، الإسكندرية، مؤسسة الثقافة الجامعية، 1985، صـ114

([65]) Robert Audi (ed) The Cambridge Dictionary of Philosophy, Cambridge, Cambridge University Press, 1999, p: 331

([66])Dries Deweer, ” The Political Theory of Personalism: Maritain and Mounier on Personhood and Citizenship ” in International Journal of Philosophy and Theology, 2013, pp: 1-19.

([67]) Jacques Maritain, p: 106

([68]) Jacques Maritain, Education at Crossroads, op.cit., p: 34

([69]) Jacques Maritain, Existence and Existent, op.cit., p: 13

([70]) Jacques Maritain, ” The Person and The Common Good ” in The Review of Politics, pp: 419-455

([71]) Jacques Maritain, Scholasticism and Politics, op.cit., p: 68

([72]) Dries Deweer, ” The Political Theory of Personalism: Maritain and Mounier on Personhood and Citizenship ” in International Journal of Philosophy and Theology, 2013, pp: 1-19.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete