تكوين
مقاربة ماريتان للحضارة المسيحية الجديدة
بعد أن انتهى ماريتان من نقد الحداثة وأنساقها المعرفية والاقتصادية والسياسية ووضح جوانب النقص التي تعتريها، شرع في بناء تصور جديد عن الحضارة يقوم على أنقاض التصور الحداثي لها. وإن كان هذا لا ينفي -من وجهة نظره- وجود بعض الجوانب الإيجابية والبناءة في الحضارة الحديثة، مثل: الديموقراطية التي يقول عنها:
“ربما تكون الديموقراطية الغربية مليئة بالعيوب، لكنها في النهاية هي الطريق الوحيد الذي تمر من خلاله الطاقات التقدمية للبشرية”([1]).
ومن ثمَّ سوف تكون المهمة الملقاة على عاتق ماريتان هي تحقيق الموائمة بين إيجابيات الحضارة الحديثة ومقتضيات الحضارة الجديدة التي ينشدها، والتي تقوم في جوهرها على الإيحاءات المسيحية المستلهمة من الكتاب المقدس، ويطلق عليها ماريتان مصطلح الحضارة المسيحية الجديدة تمييزًا لها عن الحضارة المسيحية في العصور الوسطى. لكن هل سينجح ماريتان بالفعل في الاستبقاء على المنجزات الإيجابية للحضارة الحديثة ويدمجها في حضارته المسيحية الجديدة؟ أم أنه سيجد نفسه مدفوعًا بسبب نوازعه الدينية إلى رسم تصور حضاري لا يختلف عن حضارة العصور الوسطى في شيء سوى في الاسم فقط؟ سنحاول فيما يلي الإجابة عن هذه الأسئلة.
منذ البداءة ويصر ماريتان على أن سبب إخفاق الحضارة الحديثة يعود إلى تخلي الإنسان عن الإيمان بعمل الله والروح القدس، إذ أَسند الإنسان الحديث إلى العقل وحده مهمة تشييد الحضارة، وهو ما نتج عنه كل الكوارث التي أشار إليها ماريتان من قبل، والتي كان من أخطرها تدمير الإنسان والحضارة في الحربين العالميتين، ويصف ماريتان بؤس هذا الوضع قائلًا: “صُنعت في العصر الحديث عديدٌ من المحاولات لتأسيس الحضارة والمجتمع الدنيوي على العقل وحده، لكنه العقل المنفصل عن البشارة والكتاب المقدس، فأصبح بسبب انفصاله هذا عاجزًا عن تحقيق وحدة البشرية”([2]). الداء الحضاري لدى ماريتان سببه الابتعاد عن تفعيل التصورات المسيحية المستلهمة من الكتاب المقدس في المجالات السياسية والاقتصادية. والعلاج -من وجهة نظره- لن يكون إلا برد الاعتداد مرة أخرى لهذه الإيحاءات الدينية الإنجيلية وتفعيل دورها في مجال الممارسة بشتى أشكالها، وهو المطلب الأساسي لتشييد الحضارة المسيحية الجديدة التي يريدها.
السؤال الآخر المطروح على ماريتان سيكون عن الكيفية التي سوف يتحقق بها الانتقال من الديني إلى الدنيوي؟ خاصة في ظل وجود أنظمة استقرت فيها العلمانية استقرارًا لا يمكن أن تبرحه بسهولة؟
رغم صعوبة التحدي المفروض، يجد ماريتان سبيله إلى المصالحة بين الديني والدنيوي باستدعاء التصور الأوغسطيني وإحيائه عن انتماء الإنسان إلى مملكتين: مملكة الله، ومملكة العالم. وهو التوصيف نفسه الذي يُصادق عليه ماريتان، وإن كان باستخدام مصطلحين آخرين: العالم الدنيوي والعالم المتجاوز للدنيوي، أو الجسد السياسي والكنيسة. فهو يؤكد عكس التصورات العلمانية التي ترسخ لانفصال واستقلال كل منهما عن الآخر، إن الكنيسة والجسد السياسي لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما أبدًا، لأن الاثنين يشتركان معا في تحقيق مهمة واحدة وهي بلوغ الكمال الإنساني بشقيه الروحي والمادي، هذه الضرورة المُلحة للاتحاد بينهما هي ما أبرزها ماريتان قائلًا:
“طالما أن الشخص هو عضو في الكنيسة وعضو في المجتمع السياسي، فلا بُد من التعاون بينهما”([3]).
إذن تحقيق كمال الشخص هو ما يُملي على ماريتان حتمية هذا التعاون بين الديني والسياسي.
لكن ألا ينتاب ماريتان تخوفًا من توغل إحدى السلطتين في اختصاصات الأخرى؟ وخاصة أن الأحداث والتجارب التاريخية سواء في العصور الوسطى أو في العصر الحديث، قد علمتنا أن هناك استحالة حقيقية في التعاون بينهما. فالحضارة الغربية لم تشهد تقدمًا حقيقيًا إلا بعد انفصال السياسي عن الديني. هنا سيحاول ماريتان تقديم تصور يتماشى مع رؤيته للحضارة المسيحية الجديدة التي ينشدها، مؤكدًا أنه سيتلافى فيه الأخطاء التي شابت العصور الوسطى.
إقرأ أيضًا: الحداثة ما بعد العلمانية
فمن وجهة نظر ماريتان لم يعد الغرض الأساسي من التعاون بين السياسي والديني في الحضارة المسيحية الجديدة هو تحقيق الوحدة الدينية أو تشييد الامبراطورية المقدسة، لكن تحقيق كمال الأشخاص. وهكذا يُصبح بلوغ الكمال الإنساني هو الغاية الأساسية من تعاون المؤسسات السياسية والدينية في تصور ماريتان الجديد للحضارة، ويقول في هذا الصدد: “ليست الوحدة الدينية هي المطلوبة من التعاون بين النظامين السياسي والديني، كما كان الحال في العصور الوسطى. لكن أصبح المطلوب هو وحدة الشخص وكماله. فبينما كان إنسان العصور الوسطى يعيش في الدولة، إلا أنه لم يكن مواطنًا إلا من طريق الكنيسة ومن عضويته فيها. أما الآن فلم تعد وحدة الدين شرطًا مسبقًا للوَحْدة السياسية. فالمواطن الحديث يتمتع بحقوقه المدنية سواء كان عضوًا في الكنيسة أو لم يكن”([4]). نستنتج من هذا النص ما يلي:
- أن ماريتان لم يعد يجعل من المسيحية الكاثوليكية ضامنًا لنيل الحقوق السياسية والمدنية مثلما كان الحال في العصور الوسطى.
- ونستنتج أيضًا أن توجه ماريتان هنا أقرب إلى الفكر الحديث الذي ترسخ بعد الثورة الفرنسية، والذي أقر بمبدأ المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق واللون والدين. وهو التوجه الذي أيده ماريتان بنفسه في تقديمه لكتاب حقوق الإنسان الذي صدر عن اليونسكو UNESCO عام 1948 والذي طالب فيه بضرورة السمو على التفكير القومي الضيق من أجل تبني مفهوم الإنسانية العالمية، إن” البشر المختلفون إيديولوجيًا ودينيًا وحضاريًا وحتى متعارضين في اتجاهاتهم الرُوحية يُمكنهم الاتفاق بخصوص الحقوق الإنسانية لكن بشرط: وهو التخلي عن طرح سؤال لماذا هذا دون ذاك؟ لأنني أرى أن هدف اليونسكو عملي“([5]). ما يُريده ماريتان هو البعد عن المعارك الأيديولوجية التي لن تؤدِ إلا إلى جلب مزيدٍ من الشقاق والاختلاف بين أصحاب التوجهات الأيديولوجية المتنوعة والمتعارضة. فالغاية لديه هي الاتفاق على تحديد الأهداف الإنسانية العالمية: كالحق في الحياة والحرية… بغض النظر عن التصورات الأيديولوجية المتعددة لمفهوم الحرية أو الحياة أو تفسير الاشتراكية أو الليبرالية لهما. والجدير بالذكر هو أنه لن يتحقق بلوغ هذه الأهداف الإنسانية العالمية إلا بتعاون السياسي والديني معًا.
أما عن كيفية حدوث هذا التعاون بين السياسي والديني في الحضارة المسيحية الجديدة، فيؤكد ماريتان أنه لن يتم على طريقة العصور الوسطى، التي جعلت من السياسي ذراعًا دنيويًا للكنيسة، أو بجعل الملوك ينفون الهراطقة، أو باستخدام السيف للاستيلاء على الشئون الدنيوية بحجة تحقيق بعض الأهداف الرُوحية. فهذه الممارسات لا يُمكن قبولها في عصرنا الراهن. ففي عصرنا هذا “ستخول للكنيسة الوظائف الأسمى للتنوير الأخلاقي حتى عندما يتعلق بالمبادئ السياسية والاجتماعية. إذ ستحرك السلطة الأخلاقية للكنيسة الوعي والضمير الإنساني، ليس انطلاقًا من الضغط على السلطات الدنيوية، بل بفضل التنوير الرُوحي الممتد لأرواح المواطنين. حينئذ سيكون للكنيسة دورًا بناءًا في توجيه الأشخاص نحو تحقيق كل خير سياسي“([6]). يُشير ماريتان هنا إلى أن النظام المسيحي الجديد سوف يتجنب الممارسات البائسة للعصور الوسطى التي كانت سببَ الإخفاق في التوفيق بين الديني والدنيوي، إذ تبنت طرقًا عنيفة وغير مقبولة، وهو ما أدى إلى فشلها، فسلطة الكنيسة لديه رُوحية وأخلاقية فقط.
لكن ما المقصود في النص السابق بأن يكون للكنيسة دورًا تنويريًا وأخلاقيًا في الموضوعات السياسية والاجتماعية؟ وهل سيكون هذا الدور دورًا استرشاديًا يقتصر على تقديم الرأي والمشورة؟ أم أنه يريد أن يعزو إلى الكنيسة سلطة فرض آرائها ولو بالقوة؟! وألا يتعارض هذا مع فكرته السابقة التي أكدها مرارًا وتكرارًا عن تمايز الديني عن الدنيوي؟ وهل نقده السابق لحقبة العصور الوسطى نابعًا لديه من إيمان حقيقي بأنه كان بالفعل عصرًا ظالمًا ومظلمًا؟ وإن كان ذلك كذلك فكيف نُفسر إعجابه وولعه الشديد بهذه الحقبة وفلاسفتها، إلى الدرجة التي رأى معها أن حل مشكلاتنا الحضارية الراهنة لن يتسنَ إلا بتطبيق فلسفة القديس توما الإكويني في عصرنا الراهن؟” فالإكويني هو مُرشدنا في إعادة تأسيس الحضارة المسيحية الجديدة”([7]). هل معنى هذا أنه يُظهر عكس ما يُبطن، بمعنى أن نقده الظاهري للعصور الوسطى كان لتجنب اتهامه من كثيرين بأنه يريد أن يُرجعنا مرة أخرى إلى هذه العصور البائدة؟ أم أنه كان مُشبعًا بحب هذه الحقبة حتى النخاع؟ سنجيب عن هذه الأسئلة المتعلقة بموقفه الحقيقي من دور الكنيسة الراهن ومن العصور الوسطى، لكن بعد أن نتعرض لسمات الحضارة المسيحية الجديدة لديه، لنضع أيدينا على أهم ما يُميزها عن الحضارة الوسيطة والحديثة.
يضع ماريتان مجموعة من السمات التي تتسم بها الحضارة المسيحية الجديدة، وأول سمة تكمن في كون هذه الحضارة واقعية وقابلة للتحقيق الفعلي، فكونها مثالًا مأمولًا لا يعني أنها مرادفة للتصورات الطوباوية التي لا تتحقق إلا في المستوى الفكري، وبعيدًا عن الواقع ومقتضياته. قابلية هذا المثال للتحقيق هي ما عبر عنها ماريتان قائلا:
“إنه ليس وجودًا محضًا في مستوى العقل، لكنه مثال قابل للتحقيق ويتطلب وجوده شروطًا تاريخيةً محددة، (…) ولأنه يتضمن ارتباطًا حقيقيًا بالوجود المتعين، فهو يقدم إطارًا ومسودة تحضيرية لتصبح فيما بعد مُحددة للمستقبل”([8]).
إذن مهمة هذا التصور الذي يُقدمه ماريتان هو الإعداد للمستقبل، فالتغيير المسيحي المنشود لن يكون على المدى القريب، بل على المدى البعيد.
السمة الثانية للحضارة المسيحية الجديدة هي أنها تقوم في جوهرها على التعددية لضمان أكبر قدر من الحرية للأشخاص، وهذه المهمة يُناط بتحقيقها إلى الجسد السياسي المستلهم من المسيحية، إذ “ستكون البنية العضوية التي تتضمن التعددية المتطورة والمتميزة عن العصور الوسطى سمة من سمات الحضارة المسيحية الجديدة”([9]). التعددية لدى ماريتان مفهومٌ عامٌ يضم تحته عديدًا من التصورات الفرعية مثل: التعددية الاقتصادية والدينية والرُوحية.
أما عن النظام الاقتصادي في الحضارة المسيحية الجديدة فهو يقوم في جوهره على تصورات مُغايرة تمامًا للنظامين: الرأسمالي والاشتراكي. وإن كنا نميل إلى الاعتقاد بقربه من الاشتراكية، فهو يقول: “تتطلب مصالح الأشخاص في الاقتصاد الصناعي بالعهد الجديد جماعية الملكية (…) فبدلًا من الاقتصاد الرأسمالي دعنا نفترض ضرورة وجود نظام تكون بنيته الاقتصادية والرُوحية في انسجام مع التصور المشاعي والشخصاني للحياة الاجتماعية. ومن جهة أخرى، سوف تُعاد مكانة الاقتصاد الزراعي الذي يهدف إلى تجديد الاقتصاد العائلي والملكية العائلية وإحيائهما”([10]). يُقدم ماريتان تصورًا لنموذجًا اقتصاديًا يتعامل مع الإنسان بوصفه غايته الأسمى، فليست الفائدة وتراكم رؤوس الأموال والثروات هي الغاية لديه، ولا يهدف هذا النموذج إلى ترقية الجوانب المادية فحسب، وإنما إنه يجب أن يُسهم في ترقية الجوانب الرُوحية للإنسان. وإن كان ماريتان يتركنا دون أن يوضح كيفية ترقية الجوانب الاقتصادية للأبعاد الرُوحية في الإنسان.
إقرأ أيضًا: تطرف الديني ضد الحداثي: جاك ماريتان نموذجًا
لكن ثمة سؤال وهو: ألا تتعارض المشاعية التي تقوم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج مع فكرته عن الملكية الزراعية؟ أم أنه الحنين الذي يلازمه لإعادة إحياء النظام الاقطاعي الذي كان سائدًا في العصور الوسطى؟ وهل أتسم رفض ماريتان للملكية الخاصة بأنه رفض بات قاطع يتماشى مع فكرته عن المشاعية؟ أم أن فكره يتذبذب بين تأييد الملكية وإلغائها؟
في الحقيقة يتسم موقف ماريتان من الملكية الخاصة بالتناقض، إذ يرفض في نصه السابق الملكية الخاصة. لكننا نجده يؤكد في نصوص أخرى كثيرة على أهميتها لدى الإنسان، إذ يعدها دافعًا أصيلًا لفاعلية الإنسان، ويقول ماريتان في هذا الصدد مقتفيا أثر الإكويني: “إن الخيرات المادية يجب أن تكون خاصة فمن دونها تُعاق الأنشطة الفاعلة للشخص، لكننا لا ينبغي أن ننسى أنها يجب تخدم أيضًا الخير العام (…) فعلاج إساءة استخدام الملكية الخاصة لا يجب التماسه في إلغائها، فهي ليست شرًا، لكن يكمن الشر عندما تُختزل مزاياها في عدد قليل من الأشخاص”([11]). يتضح من هذا النص رفض ماريتان للتفاوت الطبقي الهائل بين من يملكون ومن لا يملكون، لكنه لا يرفض الملكية الخاصة في ذاتها.
لكن كيف نُفسر هذا التناقض الحاد بين تأييده للملكية الخاصة تارة ورفضه لها تارة أخرى؟ نعتقد من النص السابق ومن مجمل النصوص التي وردت في سياق فلسفة ماريتان أنه لم يكن رافضًا للملكية الخاصة، بقدر ما كان رافضًا للظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي الناتج عن إساءة استغلال الملكية، وليس أدلُّ على ذلك من تأييده وترديده الدائم لأقوال البابا بيوس الحادي عشر Pius xi فيما يتعلق بحقوق الإنسان الذي يرى حق الملكية حقًا أصيلًا للأشخاص، حين يقول:
“حقوق الأشخاص كما حددها البابا بيوس هي الحق في الحياة والسلامة الجسدية (…) والحق في الملكية وحرية استخدام هذه الملكية”([12]).
ولهذا نعتقد أن ادماجه لمقولة المشاعية في النظام الاقتصادي للحضارة المسيحية الجديدة، كان بمنزلة مراوغة ماريتانية لسحب البساط من تحت أقدام الشيوعية السوفيتية التي انجذب إليها ملايين العمال في أوروبا، وآمنوا بها وبمبادئها. لذلك سعي ماريتان في تقديم البديل المسيحي لها، إذ يتفق هذا البديل مع الشيوعية في إلغاء الملكية الخاصة وتحقيق طموحات الطبقة العاملة في العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، لكنه يتميز عنها في أنه نموذج مسيحي مؤمن، يجمع بين مزايا الديني والاقتصادي، ولا يُضحي بإحداهما لصالح الآخر، وهذا هو ما نستنتجه من نصه الذي يقول فيه: “لقد ابتعدت الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر عن المسيحية، لذا يجب علينا أن نفكر في إعادة دمجها هي والجماهير مرة أخرى”([13]).
على أية حال لن تقتصرَ حضارة ماريتان المسيحية على التعددية الاقتصادية، بل الأهم هي التعددية الرُوحية التي يعدها ماريتان سمة جديدة وفريدة لم تكن موجودة في العصور الوسطى. التعددية الروحية في الحضارة المسيحية الجديدة ستكون مكفولة ومضمونة بواسطة القوانين المدنية “ففي ظل الحضارة المسيحية الجديدة يعيش المؤمنون وغير المؤمنين معًا ويشتركون في تحقيق الخير العام الدنيوي، ويجب أن تضمن التشريعات والقوانين هذه الحريات الرُوحية. فالجسد السياسي المسيحي يجب أن يتسامح -وليس يوافق- مع طرق للعبادة ابتعدت عن الطريق القويم”([14]). بالفعل لم تكن التعددية الدينية والرُوحية موجودة في العصور الوسطى، إذ كان يُحرق الهراطقة أحياءً، ولم يجرؤ أحد ليس فقط على المجاهرة بعقيدة مخالفة للمسيحية الرسمية، وإنما على الإدلاء برأي مخالف لرأي الكنيسة الرسمي.
لكن اللافت للانتباه هو أن ماريتان يُقارن دائمًا بين الحضارة المسيحية الجديدة، ومسيحية العصور الوسطى. وكأن علينا أن نختار ما بين هذا وذاك، دون وجود طرح ثالث. وفي حقيقة الأمر أن التعددية التي يدعو إليها ماريتان في مملكته المسيحية الجديدة في القرن العشرين موجودة ومتحققة بالفعل منذ القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر ومستمرة في الوجود. فمنذ القرن التاسع عشر لم تعد تتدخل الدول أو تفرض على ضمائر الأشخاص وعقولهم نمطًا معينًا من الممارسات والعبادات، وهذا متحقق دون الحاجة إلى تأسيس نموذج مسيحي جديد كالذي ينادي به ماريتان.
وفي النهاية يُمكننا أن نُجمل سمات الحضارة المسيحية الجديدة لدى ماريتان فيما يلي:
- أنها مُستلهمة من الإيحاءات الإنجيلية والمسيحية، وتقوم في جوهرها على المحبة والتسامح.
- رغم ذلك فإنها تقوم على التمايز بين الديني والدنيوي وليس على الانفصال بينهما.
- إنها قابلة للتحقيق لو ساد الوعي المسيحي بأهميتها، لكنها في ظل الظروف الراهنة قد تتحقق على المدى البعيد.
- ولأنها تؤمن بالشخصانية فتسعى في ترقية الجوانب الرُوحية للإنسان، وتربطه بالمتجاوز للدنيوي.
- رغم ذلك فهي لا تُهمل الجوانب الدنيوية والمادية وتسعي في تحقيق الخير العام الدنيوي.
- أنها تقوم في جوهرها على الحرية والتعددية وبخاصة في المجالات الرُوحية.
آثرنا عرض تصور ماريتان كاملًا عن الحضارة المسيحية الجديدة، وبينَّا أهم سماتها لديه. وفي رأينا أن تصوراته ليست سوى مناورة لإدخال بعض التعديلات الطفيفة على أفكار العصور الوسطى حتى تتماشى مع المفاهيم السائدة عن الحرية والديموقراطية المعاصرين. فهناك شواهد ونصوص كثيرة تجعلنا نميل إلى تأكيد انحيازه للسلطة الدينية على حساب أي سلطة أخرى، وكذلك تفضيله لحقبة العصور الوسطى على أي حقبة أخرى.
سوف يتهاوى تصور ماريتان عن الحضارة المسيحية الجديدة، وتنهار التعددية والحرية، وكذلك التمايز بين الديني والدنيوي عندما نجده يوسع من مجال عمل السلطة الكنسية ويقحمها في اختصاصات عمل السلطة الدنيوية ويُخول لها دورًا رقابيًا كبيرًا على الأفكار والعقول، بل ويجعل منها وصية على سلوك الأفراد وممارستهم، وهو ما يُروج له قائلًا:
“لن تترك الكنيسة الإنسان لنفسه، لأنها لو فعلت فسوف تخفق في تحقيق مهمتها الإيمانية، وفي المحافظة على أرواح الأشخاص، لكنها سوف تتدخل لتواجه الفلسفات الخاطئة، وتمارس سلطتها المقدسة على الفلسفة، فالكنيسة مدعوة بواسطة الله لحماية سلامة العقل والنظام”([15]).
هكذا يُقدم ماريتان ضمن تصوراته عن الحضارة المسيحية الجديدة أيديولوجيا جاهزة الصنع لتبرير وجود محاكم تفتيش معاصرة تكون مهمتها الرقابة على الأفكار ومصادرتها وحجرها، ومنع تطور العلوم وتقدمها بحجة أن هذا يتعارض مع رؤية الكنيسة ورجال الدين المدعوين من الله لتنفيذ مهمة حماية الإيمان والنظام. فما يريده ماريتان -من وجهة نظرنا- هو العودة إلى حكم رجال الدين، وأن يكون للبابا وللكنيسة الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء يخص الإنسان والمجتمع والحضارة.
كذلك تتهاوي فكرتي التعددية الدينية والتسامح الديني اللتين تغنى بهما كثيرًا في تصوره عن الحضارة المسيحية الجديدة، إذ ينظر ماريتان إلى الكاثوليكية بوصفها الديانة الوحيدة الحقيقية. فهي الوحيدة المولودة من قلب الروح القدس، في حين يُقلل من قيمة كل ما عداها من ديانات، فالديانات الأخرى نتاجًا لتطور تاريخي وثقافي وليست ديانات سماوية حقيقية
“فكل الديانات الأخرى غير الكاثوليكية هي أجزاء مُكملة لثقافات معينة، وتتحدد وفقًا لمناخ عرقي وتكونات تاريخية، لكن الكاثوليكية وحدها هي التي أتت إلينا من قلب الله، لذا فهي وحدها المتعالية، والمتجاوزة للعنصري والأُممي”([16])
.لا تختلف هذه الفكرة الماريتانية عن فكرة شعب الله المختار في شيء، لكن ماريتان استبدل باليهود الكاثوليك، فالله -لدى ماريتان- قد أختار الكاثوليكية وحدها لتنبع من رُوحه المقدسة. وتكمن خطورة هذه الفكرة، لدينا في أنها تقدم إلى الكاثوليك تبريرًا للشعور بالسمو والتعالي على أصحاب الطوائف والديانات الأخرى، وهو ما يترتب عليه نتائج بالغة الخطورة في مجال الممارسة السياسية والاجتماعية.
قناعات ماريتان هذه هي التي لم تجعلنا نتردد عندما طرحنا -فيما سبق- السؤال الاستنكاري الخاص بكيفية التمايز وعدم الانفصال بين الديني والدنيوي. فماريتان الذي يطالب بالرقابة الدينية على الفلسفات والعلوم، وبأفضلية الكاثوليكية على كل الديانات الأخرى، لن يتوانَ عند حدوث تعارض بين السلطتين إلى حسم المسألة لصالح الأولى على حساب الأخرى.
بل إنه يمضي في تطرفه إلى أبعد من ذلك حينما يُعطي إلى الكنيسة أحقية التدخل في الشئون الدنيوية. فهذا -من وجهة نظره- رسالة مقدسة موحى بها لإصلاح أحوال البشرية، في حين أنه يُحَرم على السلطات الدنيوية أن تتدخل في أي شيء يتعلق بالكنيسة المقدسة، إذ يقول:
“للكنيسة حرية تطوير مؤسساتها الخاصة، وأن تحكم نفسها بنفسها دون أي تدخل من الجسد السياسي (…) فهي ليست جزءًا من الجسد السياسي، بل هي الكل، إنها مملكة عالمية مطلقة تمتد فوق العالم وفوق أي جسد سياسي”([17]).
ومن ثمَّ سوف تكون الشئون الدنيوية في مرتبة أدنى من مرتبة الكنيسة وسلطاتها، وهو ما يترتب عليه توجيه الدنيوي لبلوغ أهداف محددة هي خدمة الجوانب الدينية المقدسة التي تحددها الكنيسة بنفسها للحضارة والتاريخ.
فالمتجاوز للدنيوي هو الغاية الحقيقية القصوى، وما الدنيوي إلا وسيلة لبلوغ هذه الغاية، إذ “يعرف المسيحيون أن هناك خيرًا يتجاوز العالم الدنيوي، ويعرفون أيضًا أن الغاية الأسمى للشخص هو الله (…) وكذلك يعرفون أن خضوع الجسد السياسي للقيم المتجاوزة للدنيوي يهدف إلى بلوغ الغاية الأسمى المتعالية. فنظام الحياة الأبدية أسمى من الحياة الدنيوية والعرضية”([18]). كل هذه الشواهد وغيرها تجعلنا نُرجح كفة الاعتقاد الذي افترضناه منذ البداءة وهو أن تفكير ماريتان أقرب إلى العصور الوسطى منه إلى أي عصر أخر، حتى ولو أدعى غير ذلك. وسوف نتعرض فيما هو آتٍ لموقفه التفصيلي من هذه الحقبة.
طرحتُ فيما سبق سؤالًا عن مكانة العصور الوسطى في فلسفة ماريتان، وهل تعامل ماريتان مع هذه الحقبة بوصفها من رفات الماضي البغيض الذي يجب نسيانه، بل وتجاوزه إلى آفاق إنسانية أكثر رحابة، كما يُصرح هو في أحيان كثيرة بذلك، خاصة عندما يقول:
“أصبحت العودة إلى حقبة العصور الوسطى شيئًا من المستحيل تصوره مرة أخرى”([19])؟
أم أن هذه الحقبة تمثل لديه أزهى عصور التاريخ التي بلغت فيها القداسة حدًّا جعل ماريتان يرفض أي اتهام لها بالظلامية، بل وكان يتمنى من كل قلبه العودة إليها مرة أخرى؟ إذ نجده يتخذ موقفًا نقديًا من كل الفلسفات التي ناصبت العصور الوسطى العداء، إذ يقول: “تُخطئ الفلسفات المعاصرة عندما تصر على أن المبادئ التي طُبقت في العصور الوسطى من المستحيل تطبيقها اليوم بأي شكل من الأشكال، بدعوى أنها مبادئ خاطئة وفاسدة، وأنها يجب أن تتلاشى بسبب تطور الأفكار والمجتمعات، لكن مثل هذا الموقف من العصور الوسطى هو موقف خاطئ (…) لأن مبادئها صحيحة ويجب أن تُطبق بطرق أخرى في عصرنا الراهن”([20]). نحن إذن أمام نصين على طرفي نقيض بخصوص موقف ماريتان من حقبة العصور الوسطى، إذ يُشير في نصه الأول إلى استحالة العودة إليها مرة أخرى، في حين يُطالب في نصه الثاني بتطبيق مبادئ هذه الحقبة، وهو ما يعكس إيمانه الكامل بهذه المبادئ.
إقرأ أيضًا: مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجز الثالث
لكن ما يجب أن نُشير إليه هو أن موقف ماريتان الفلسفي كان مُكرسًا برمته لإبراز أفضيلة العصور الوسطى على سائر الحقب التاريخية الأخرى. فهي لديه العصر الوحيد الذي تحققت فيه المصالحة الكاملة بين الإلهي والإنساني، عندما أدرك الإنسان عمل نعمة الروح القدس داخله، وعندما جعل من قلبه ورُوحه وعقله أرضًا خصبة لنمو هذه الرُوح وعملها. فقد وعى إنسان هذا العصر أن كل ما يفعله إنما هو تحقيق للمشيئة الإلهية. ويعبر ماريتان عن هذه العلاقة الجدلية بين الإلهي والإنساني، فيقول:
“عرف مسيحيو العصور الوسطى أن العالم قد أصبح جسدًا، وأن الرُوح القدس قد هبطت على هذا الجسد”([21]).
لقد تحددت غاية إنسان العصور الوسطى في الخلاص، وقد عَرف الإنسان الطريق الصحيح لبلوغ هذا الخلاص، لقد ترك تكوين ذاته وعالمه للإرادة والمشيئة الإلهيتين تُسَيِّرُهما نحو الخير والكمال. آمن إنسان هذا العصر -من وجهة نظر ماريتان– إيمانًا مطلقًا بأن المبادرة الأولى للخير والكمال تأتي من الله، وما على الإنسان إلا أن يستجيب لهذه المبادرة، وهو ما قد تحقق بالفعل في العصور الوسطى.
إيمان إنسان العصور الوسطى بوجوده في العالم الذي أصبح مقدسًا بفضل حلول الرُوح القُدس فيه، قد جعله ينظر إلى الأشياء الدنيوية بوصفها وسائلَ محضة مساعدة لنيل الخلاص، لهذا قبل بخضوعها إلى السلطات الرُوحية، هذا الخضوع هو ما يُطالب ماريتان بتحقيقه ويحتفي به الآن قائلًا:
“في العصور الوسطى رغم أن أشياء قيصر كانت متميزة عن الأشياء التي تنتمي إلى الله، إلا أنها كانت وسائلَ نفعية وتمهيدية لبلوغ الحياة الأبدية”([22]).
ولتأكيد هذه الأطروحة الذي لازمته منذ بداءة تفلسفه يُضيف عبارة أكثر وضوحًا فيقول: “في العصور الوسطى كانت الغاية العامة التي يُكرس الجسد السياسي نفسه من أجلها هي تأسيس البنية القانونية والاجتماعية لخدمة الأغراض الرُوحية”([23]). لقد كان ماريتان مؤمنًا -شأنه شأن إنسان العصور الوسطى- بضرورة خضوع الدنيوي للسلطات الدينية والرُوحية لتحقيق الكمالات الإنسانية. وما فكرة التمايز بينهما لديه سوى أطروحة لمسايرة الأفكار العلمانية الحديثة، لكنه في حقيقة الأمر لم يُؤمن أبدًا بهذه العلمانية التي وسمها بالكفر والإلحاد في كثيرٍ من المواضع.
يحظى خضوع الدنيوي للديني لدى ماريتان بعديدٍ من السمات الإيجابية التي تجلت في المستويين: السياسي والاقتصادي. أما في المستوى السياسي، فقد عمل هذا الخضوع لتحقيق شكل من أشكال التلاحم والترابط بين الحكام والمحكومين، وهو ما تجلى بوضوح في وجود الحكومات البطريركية التي تقدم الحاكم بوصفه أبًا للمحكومين، ويتعامل مع أبناءه من الرعايا انطلاقًا من مبادئ الحب والرحمة، وقد أعلى ماريتان من قيمة الحكومات الأبوية قائلًا: “كانت الوحدة بين الحاكم والرعية سمة أساسية من سمات العصور الوسطى، فالسلطة السياسية تأسست على مصطلحات الأبوة والعائلة، وأضفى عليها الإيمان المسيحي سموًا لتماشيها مع فكرة الأبوة العالمية لله”([24]).
في الوقت الذي كرس فيه جون لوك مؤلفاته السياسية مثل: رسالة في التسامح ومقالتان في الحكم المدني، لنقد مفهوم السلطة الأبوية وتفنيدها وما ينتج عنها من ممارسات استبدادية تُطيح بحقوق المحكومين، بحجة أن الحاكم (الأب) صاحب سلطة مطلقة على المحكومين (الأبناء) لأنهم قُصَّر وهو يعرف أكثر منهم، ويُقرر بالنيابة عنهم، ومن ثمَّ لا يجوز مخالفته أو التمرد عليه. يأتي ماريتان في القرن العشرين ليُعلي من قيمة الحكومة الأبوية مرة أخرى. فالحكام المسيحيون -من وجهة نظر ماريتان– سوف يعاملون محكوميهم بالعدالة والمساواة والمحبة، بسبب في العقيدة والإيمان الكاثوليكي، وهو ما ينتجُ عنه وجود مجتمعٍ مُتحدٍ سياسيًا.
أما في المستوى الاقتصادي، فقد نجح خضوع الدنيوي للديني في إخضاع الاقتصاد للمقولات اللاهوتية والدينية، وهو ما ترتب عليه وجود شكل من أشكال الرحمة بين أصحاب الأعمال والعمال. فلم تقم العلاقات الاقتصادية على الجشع والطمع والاستغلال كما هو حال الاقتصاد الرأسمالي، كذلك لم يشعر الإنسان في العصور الوسطى بالاغتراب عن نفسه أو الآخرين، لأنه لم يكن وسيلة يستغلها الآخرون لتحقيق الثراء. بل ساد تصور عام بأن الأنشطة الاقتصادية ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لنيل الخلاص، وقد أبرز ماريتان هذا التعاون المُثمر وأثره في الإنسان في المجتمع الوسيط قائلًا: “كانت الطائفة العمالية تضم أصحاب الأعمال والعمال، ورغم وجود أغنياء وفقراء إلا أنه لم يحدث أبدًا أن اختزل العامل إلى سلعة أو أداة فحسب، لقد كانت العصور الوسطى قائمة على التكامل العضوي”([25]).
وينتهي ماريتان من تقييمه لحقبة العصور الوسطى بعبارة شديدة الإيجاز شديدة الدلالة ولا لبس فيها، تُوضح هذه العبارة مدى إعجابه وانحيازه الحقيقي لهذه الحقبة، إذ يقول:
“لقد تحققت المملكة المسيحية الحقيقية في العصور الوسطى”([26]).
وما يريده ماريتان هو أن يستنسخ هذه المملكة بكل تفاصيلها لينقلها إلى عصرنا الراهن، حتى ولو تم ذلك على طريق التضحية بكل الإنجازات التي حققتها البشرية خلال العصرين الحديث والمعاصر.
وأخيرًا نرى أنه رغم عدم المعقولية التي شابت قراءة ماريتان للحداثة التي ترجع بقدر كبير إلى منطلقاته الدينية التي أوصلته إلى رفض كل ما يتعارض مع الإيمان المسيحي الكاثوليكي، وأوصلته أيضًا إلى الارتماء في أحضان العصور الوسطى للدرجة التي تمني معها العودة إليه مرة أخرى، إلا أنه يُبقي لهذه القراءة بعض الجوانب الإيجابية التي تجلت في نقده للرأسمالية وما نتج عنها من ممارسات غير أخلاقية، وكذلك مطالبته بضرورة خضوع العلم لنوع من الحكمة حتى لا ينحرف عن تحقيق أهدافه الإنسانية، وحتى لا يتحول إلى أداة للقمع والهيمنة والسيطرة.
هل المسيحية هي الحل؟!
قدم ماريتان حضارته المسيحية الجديدة لتكون المنقذ من الضلال الذي آلت إليه الحضارة الغربية، فهي وحدها القادرة على تجاوز إخفاقات الحضارة الحداثية العقلية والعلمية وما نتج عنها من دمار حالي. وانتهى إلى الاعتقاد بقدرة المسيحية ورجال الدين على التصدي للأزمات والتحديات الراهنة، بل وقدرتهما أيضًا على إيجاد مجتمع بديل تتحقق فيه الحرية والعدالة والمساواة والمحبة والتآزر الحقيقيين.
المسيحية -من وجهة نظر ماريتان- دين ودولة. إنها المرشد الأمين للسلوك الفردي والاجتماعي الذي إذا سار الإنسان على دربه، أرتقى إلى أعلى درجات الكمال الأخلاقي والرُوحي الذي يشفيه من الأمراض العضال التي ابتلته بها الحضارة المعاصرة مثل: التشيؤ والاغتراب والطمع والجشع، وسوف يصل إلى أعلى مراحل التناغم مع ذاته والآخرين. وهي أيضا المنارة المُضيئة التي يجب أن يصبو رجال السياسة صوبها، إذا أرادوا بلوغ المثل العليا السياسية: كالوحدة والاستقرار. إيمانه بهذه المعتقدات هو ما دعاه إلى استنساخ تصورات فلسفية وسياسية واقتصادية تنتمي إلى مرحلة العصور الوسطى محاولًا بثها في جسد الحضارة المعاصرة ورُوحها.
والسؤال المطروح، هل يُعد الدين قادرًا بالفعل على لم شمل البشرية وتوحيدها على اتباع الفضائل والسمو الرُوحي ومكارم الأخلاق؟ وهل العودة مرة أخرى إلى الدين وسلطة رجاله يُمكن أن تفي بتحقيق الكمالات للبشرية كما يَدعي ماريتان؟ في الحقيقة تدعو جميع الأديان سواء كانت سماوية أو وضعية، إلى التحرر من الشهوات واللذات المادية وإلى محبة الآخرين وإلى معاملة البشر كونهم غايات في ذاتهم.
لكن تكمن خطورة الدين في أنه يقدم نفسه كونه الحق المطلق والطريق الأوحد للخلاص، ويزرع في نفوس معتنقيه أنهم على الصواب المُبين وكل من عداهم في كفر وضلال، بل ويستحقون العقاب في الدنيا والآخرة على عدم إيمانهم. هكذا تقوم بنية الدين على ثنائية: المؤمن وغير المؤمن، وهذا ما نجده حتى في الأديان السماوية، ففي اليهودية شعب الله المختار في مقابل الأمميين، وفي المسيحية المسيحيين مقابل الوثنيين، وفي الإسلام المؤمنين مقابل الكافرين، بل ونجد أن كل ديانة تنقسم إلى عديدٍ من الطوائف التي تَدعي كل واحدة منها أنها تمتلك الفهم والتفسير الصحيح للدين، وما عداها على خطأ.
ويحفل تاريخ الحضارة الغربية بعديدٍ من الصراعات والحروب الدامية بسبب الخلاف والاختلاف بين الطوائف في فهم النصوص المقدسة وتأويلها، مثل: حرب الثلاثين عامًا بين الكاثوليك والبروتساتنت التي راح ضحيتها ما يقرب من ثمانية مليون نسمة في القرن السابع عشر. وعانت حضارتنا العربية حروبًا طاحنة بين السنة والشيعة، وما نزال نعاني تبعاتها حتى اليوم.
بالإضافة إلى هذا نجد أن دور الدين وتأثيره ينحسر في اتباعه والمؤمنين به فقط، ويقل هذا التأثير أو ينعدم عندما يتوجه إلى أصحاب الديانات الأخرى. أمام هذه المعضلات نجد أنه من الصعب الاتفاق مع ماريتان في التعويل على الدين وحده في التصدي لمشكلات الحضارة التي يجب أن تقوم في جوهرها على النسبية والتعددية وقبول الآخر.
نحن لا نذكر هذه المعضلات كي نستبعد إسهام الدين في حل المشكلات، فلا شك أن الدين عنصرٌ مهم لا يُمكن إغفاله بأي حال، لكن لا بُد من تجاوز النظرة الأحادية والبحث عن آفاق أكثر شمولًا، أفاق لا تُقصي أحدًا ولا تستبعد أحدًا من مجال الفاعلية الإنسانية وإسهاماتها الحضارية البناءة، والتمتع بمزاياها وعدم جعلها حكرًا على العالم الغربي وحده.
وفي الأخير نقول نعم، لقد أتت الحداثة بمجموعة من الوعود مثل الوعد بالحرية، وانتهى الأمر بالمعاناة من ويلات الحروب والأنظمة الشمولية والاستبدادية، كما وعدت الحداثة بالوفرة المادية والرفاهية، وانتهى الأمر إلى معاناة البشر من الفقر، وتكديس الثروة والسلطة في جانب والبؤس والشقاء في الجانب الآخر، لكن هل يُمكن أن نُحَمِّل مسئولية هذا الاخفاق إلى طموحات الفلاسفة وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل للبشرية؟!
قلما نجد بين الفلاسفة المحدثين والمعاصرين دعاةً للحروب والعنصرية، وإن حدث ووجدت قلة تُبرر ذلك مثل: هيجل، سيقابلها كثيرون من المناصرين للحرية والعدالة والمساواة. كثيرون يناصرون قضايا الإنسانية والتحرر ليس في العالم الغربي فحسب، وإنما في عالمنا العربي. إنهم فلاسفة يتسمون بالموضوعية والإنصاف مثل: جارودي، سارتر، كلود ليفي شتراوس، رسل، بوبر وكثيرين آخرين. كثيرون يحلمون بمستقبل أفضل للإنسان، لكن لا تقع مهمة تحقيق هذا المستقبل الأفضل على كاهل الفلاسفة، بل تقع على عاتق رجال السياسة المسئولين عن اتخاذ القرارات وتنفيذها في أرض الواقع، فما يُفسده رجال السياسة يُصلحه الفلاسفة.
إن الحداثة مشروعٌ لم يكتمل بعد وفق تعبير هابرماس، وسمة أساسية من سمات العقل الحداثي هو قابليته للتصحيح الذاتي وتعديل المسار. إن العلمانية والعلم والتقدم التكنولوجي والدولة المدنية الحديثة وسلطة القانون في تحديد الحقوق والواجبات والتصدي للعنف والفوضى. هي أهم إنجازات الحداثة والتنوير التي يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها بأي حال من الأحوال.
ولا يعني هذا أن الحضارة تخلو من العيوب وجوانب النقص. فالحضارة الآن في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في إنسانية الإنسان وعدم رؤيته وسيلةً لخدمة غايات أخرى. كذلك يغيب عن الحضارة الغربية مراعاة الأبعاد الاجتماعية في المستوى الدولي. ولن تُتلافى هذه العيوب بواسطة رجال الدين، بل بواسطة القوانين والأخلاق الإنسانية التي يرسم ملامحها الفلاسفة العظام.
المراجع:
([1]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 60
([5]) Unesco (ed), “Human Rights: Comments and Interpretation with Jacques Maritain”, in PHS3, 1948, July, pp: i, ix
([6]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 164
([7])jacques Maritain, St. Thomas Aquinas, op.cit., p: 87
([8]) jacques Maritain, Integral Humanism:Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 128
([12]) Jacques Maritain, Scholasticism and Politics, op.cit., p: 112
([13])jacques Maritain, Integral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 229
([15]) jacques Maritain, St. Thomas Aquinas, op.cit., p: 127
([17]) jacques Maritain, Man and The State, op.cit., p: 152
([21])Jacques Maritain, Science and Wisdom, op.cit., p: 21
([22])jacques Maritain, Integral Humanism: Temporal and Spiritual Problems of a New Christendoom, op.cit., p: 149
([26]) Jacques Maritain, On the Philosophy of History, Edited by: Joseph W. Evans, New York, Charles Scribner’s Sons, 1957, p: 157