لِمَ الاختلاف…؟
قدرُ الإنسانية أن تعيش كل حياتها في الاختلاف، فهو المنطلق والأصل الأول، وهو أيضًا المُنتهى وخاتمة المشاريع الفوضوية التي تهدف إلى تنميط الإنسان، والسعي في إحداث حالة من التماهي والذوبان داخل مجموعات عقائدية أو عرقية أو لُغوية، ترى الحقيقة المُطلقة فيما أنتجه لها آباؤها، دون أن تكون لها القدرة على الاستيعاب أو النقد والتجاوز. قدرُ الإنسانية هو أن يحاول بعضهم طَمْسَ حقيقة الاختلاف، فيتجاوزها إلى حالة ما سماه برنارد شوفييه بجنون الإيمان[1]، أي الجنون الذي يفرزه إيمان المتعصبين، المحتكرين للحقيقة والناطقين باسمها والمعبرين عن جنونها، أو لنقل عن حماقاتها حين تتحول إلى تطرف عنيف. لم تكن فكرة التعصب يومًا فكرة معزولة عن سياقات تكونها، فالإيمان عنصر مهم في تركيبة التعصب والمتعصبين، ومهما حاولنا أن نؤنسن فعل الإيمان، فإن تداعياته قد تخرج عن حدود المتحكم فيه، حينما يتغذى على أسس مطلقة تتنافى مع أصل الاختلاف ونسبية الفهم والتحولات التي تخضع لها المجتمعات.
يشير “جنون الإيمان” إلى الحالة التي يصبح فيها الإيمان سواء تغطى بمبررات دينية أو سياسية أو عقائدية، وسيلةً للتطرف والانغلاق، مما يؤدي إلى فقدان العقلانية والقدرة على التعايش مع الآخرين. ويمكن أن تسفر حالة جنون الإيمان على مجموعة من الدلالات تكشف عنها المعطيات التالية:
- الإيمان غير المُنضبط بالعقل: عندما يتحول الإيمان إلى قوة عمياء، تُفقد صلته بالمنطق والحكمة. يُصبح الشخص مَهووسًا بقناعته الخاصة، غير قادر على رؤية التنوع الفكري أو احترام اختلاف الآراء.
- التعصب بوصفه وجهًا من وجوه الجنون: يشير شوفييه إلى أن التعصب ينشأ عندما يتجاوز الإيمان حدوده الطبيعية، ويتحول إلى هوس يدفع المتعصب إلى تصنيف الآخرين بوصفهم أعداء، هذا التعصب قد يؤدي إلى تصرفات غير عقلانية مثل الإقصاء، العنف، تبرير الظلم.
- فقدان الإنسانية: جنون الإيمان يعني أن الإيمان لم يعد مرتبطًا بالقيم الأخلاقية التي تدعو إليها معظم الأديان والمعتقدات، مثل التسامح والرحمة. بدلًا من ذلك، يصبح وسيلة لتبرير العنف ورفض الآخر.
- الاغتراب النفسي والاجتماعي: المتعصب ينسحب من الواقع الاجتماعي ويخلق عالمًا وهميًا يعزز شعوره بالتميز والعداء للآخرين. هذا الانسحاب يكرس ما يسميه شوفييه “جنون الإيمان“، يختلط فيه الإيمان بالعدوانية والانغلاق.
حينما نتأمل المعطيات السابقة فإننا نرى بأننا إزاء الحالة التي يتحول فيها الإيمان إلى مشكلة بدل أن يكون جزءا من الحل، فيمكن للفهم المطلق للمعتقدات السابقة والأفكار الجاهزة، أن تصبح أدواتَ تخريب ممنهجة لكل مظاهر الاختلاف والتنوع الإيجابي، بدل أن يكون الإيمان الحقيقي مصدرًا للسلام والإنسانية، متجاوزًا بذلك علاقته بالسلطة والهيمنة على الآخرين، أو استبعاد المختلفين ثقافيًا ودينيً، كأن دور الإيمان في حقيقة الإنسانية هو استعادة المعنى العقلاني والإنساني الذي تُجسده قيم الخير والعطاء والسلام، وليس ذلك الإيمان الفظ والقاضي بوسائل العنف أو التطرف على كل ما يمكنه أن يُمثل مصدرًا للتنوع والاختلاف.
سورة الفاتحة، من المنهج التجزيئي إلى المنهج الوَحْدَوي
من السور الجميلة التي يَفتتح بها الإنسان القرآن الكريم نجد سورة الفاتحة، فاتحة للكتاب، فاتحة لرؤية الإنسان لهذا الكون من طريق أسلوبها وطريقة كتابتها وخطابها وعمق معانيها. وإذا كان البعض يرى أن الفاتحة قد أسست في بعض تجلياتها لخطاب يزعم أصحابه أنه خطاب إقصائي، أو فيه دعوة إلى نبذ أصول الاختلاف، والسعي في تكريس المنهج الواحد والصراط الوحيد، وإقصاء الهداية على اليهود والنصارى، فإن إعادة القراءة التاريخية يمكنها أيضًا أن تجعلنا واثقين بأن النص الذي بين أيدينا، يمكن أن يكون أيضا دررًا من العطاء والاختلاف والمحبة، إذا ابتعدنا أيضا عن مبررات المنهج التجزيئي الذي طبع القراءات القديمة المأثورة.
منهج باقر الصدر في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم[2]
قبل أن نتحدث عن المنهج التفسيري الذي أنتج أزمة الفهم والمعنى في الدراسات القرآنية، والذي وَلَّدَ أيضا ردود فعل متباينة على عديدٍ من السورة القرآنية، يَحسن بنا أن نذكر بأن المنهج التفسيري الذي كان سائدًا لعقود من الزمن هو التفسير التجزيئي أو التفسير بالمأثور، فهو أحد المناهج التقليدية في تفسير القرآن الكريم، يُعنى بتفسير الآيات القرآنية بطريقة مجزأة وفقًا لترتيبها في المصحف الشريف، فيركز المُفسر في هذا النهج على شرح كل آية مستقلة عن غيرها من السور الأخرى، مع الأخذ في الحسبان أسباب النزول، معاني الكلمات، دلالات العبارات، دون السعي بالضرورة في ربطها برؤية شمولية أو موضوعية للقرآن ككل. وقد تميزت هذه الطريقة من التفسير بمجموعة من المميزات يمكن اختصارها فيما يلي:
- تسلسل الآيات وفق ترتيب المصحف: يبدأ المُفسر عادة من سورة الفاتحة وينتقل إلى سورة البقرة وهكذا، مُفسرًا الآيات بالتتابع، دون التركيز في تناول موضوع معين يمتد عبر سور متعددة.
- التفصيل اللُّغوي والبلاغي: يهتم التفسير التجزيئي بشرح المفردات وتوضيح الأساليب البلاغية والنحوية للآية، مما يجعلهُ مفيدًا لفهم النص من منظور لُغوي وأدبي.
- الارتباط بسياق الآية المباشر: تُفسرُ الآية ضمن سياقها المباشر، أي بالنظر إلى ما قبلها وما بعدها من آيات دون محاولة استقراء رؤية عامة تشمل كل القرآن.
- أسباب النزول: يعتمد التفسير التجزيئي اعتمادًا كبيرًا على الروايات المتعلقة بأسباب نزول كل آية أو مجموعة آيات لفهم معناها وسياقها.
- التركيز في المعاني الفردية: ينصب الجُهد على شرح كل آية بمفردها، مما قد يؤدي أحيانًا إلى إغفال العلاقة بين النصوص القرآنية بوصفها منظومة واحدة.
وإذا كانت خصائص التفسير التجزيئي قد وَلدت مجموعة من الانتقادات المرتبطة بالمنهج المُتبع والمعتمد في التعامل مع النص القرآني، فإن ميلاد التفسير الموضوعي أو التفسير التوحيدي جاء ليرمم هذا النقص وتداعياته على فهم النص القرآني، ومن بين الأسماء التي برزت في الدعوة إلى هذا المنهج نجد محمد باقر الصدر.
إقرأ المزيد: في الهرمنيوطيقا الإسلامية: الجزء الأول التفسير والتأويل والتفكيك
باقر الصدر وميلاد المنهج الموضوعي[3]
يُعد السيد محمد باقر الصدر (1935-1980) أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وقد قدَّم إسهامات بارزة في مجالات الفقه، الأصول، الفلسفة. ومن أبرز إضافاته في مجال الدراسات القرآنية هو منهجه في التفسير الموضوعي الذي يُعد نقلة نوعية في التعامل مع النص القرآني، وقد عكس هذا المنهج روح الاجتهاد والتجديد التي تبناها الصدر لفهم القرآن في سياق القضايا الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، وربط القرآن بمحيطه الاجتماعي، بدل أن يبقى حبيس الجوانب الإيمانية والتعبدية.
التفسير الموضوعي لدى الصدر هو منهج يهدف إلى استنطاق القرآن الكريم لاستخلاص رؤية متكاملة بخصوص موضوع معين، بدلًا من التفسير التجزيئي الذي يركز في شرح الآيات فرديًا وفقًا لترتيبها في المصحف. في هذا الإطار يرى الصدر أن القرآن ليس نصًّا يُفسر في معزل عن الواقع، بل هو مصدر للحلول الإلهية للقضايا الكبرى التي تواجه الإنسان والمجتمع.
- خطوات التفسير الموضوعي عند الصدر
- رصد الواقع الإنساني: يبدأ التفسير الموضوعي بتشخيص الواقع الذي تعيشه الأمة، وتحديد القضايا التي تحتاج إلى معالجة قرآنية، هذا يجعل التفسير مرتبطًا بمتطلبات العصر ومشكلاته.
- تحديد الموضوع: يقوم المُفسر باختيار موضوع محدد يكون محور البحث، قد يكون هذا الموضوع أخلاقيًا، اجتماعيًا، فلسفيًا مثل العدل، الحرية، معنى الحياة.
- جمع النصوص القرآنية ذات الصلة: تُجمع الآيات التي تتناول الموضوع مباشرة أو ضمنيًا، مع مراعاة سياقاتها المختلفة، هذا يتيح فهمًا شاملًا ومتعددَ الأبعاد للموضوع.
- استنطاق النصوص: يعمل الصدر لاستنطاق النصوص القرآنية من طريق التأمل والتدبر العميق، محاولًا الكشف عن المنظومة الفكرية والقيمية التي يطرحها القرآن بخصوص الموضوع.
- الربط بالواقع: بعد استنباط الرؤية القرآنية، تُسقطُ على الواقع وتُقاسُ درجة انسجامها مع قضايا العصر، مع تقديم الحلول التي يمكن أن يسهم بها القرآن في إصلاح المشكلات.
- أسس منهج الصدر
- وحدة النسق القرآني: يؤمن الصدر بأن القرآن يتميز بوحدة موضوعية وفكرية، وأن معانيه تتكامل لتكوين رؤية متماسكة بخصوص أي موضوع.
- القرآن كتاب هِداية: يُركز الصدر في أن الهدف الأساسي للقرآن هو الهداية، ومن ثم فإن تفسيره يجب أن يسعى في تقديم إرشادات عملية وفكرية تساعد الإنسان على تحقيق السعادة الروحية والاجتماعية.
- ارتباط النص بالواقع: يؤكد الصدر ضرورة فهم القرآن في ضوء المشكلات الحياتية، يكون فيها التفسير وسيلة لتقديم حلول تنطلق من القيم الإلهية.
- التجديد في منهجية التفسير: يرفض الصدر الجمود في مناهج التفسير التقليدية، ويدعو إلى تطوير أدوات جديدة لفهم القرآن بما يتلاءم مع متغيرات الزمان والمكان.
- نُبذة عن سورة الفاتحة:
قبل أن نُشير إلى رأي أحد المفكرين العراقيين بخصوص تاريخ سورة الفاتحة أود أن أشير إلى أن سورة الفاتحة من أوائل سور القرآن الكريم وأهمها بسبب معانيها الدينية، وصيغتها مشكَّلةٌ في قالب دعوي يُتلى في كل صلاة، تعد من السورة المكية نزلت في فترة مبكرة من الوحي ولها أسماء متعددة منها “أم الكتاب” كونها مفتاحًا للفهم الشامل للقرآن الكريم، و”السبع المثاني” لأنها تتكون من سبع آيات، وتُتلى في كل صلاة، كما أن لها مكانة عظيمة في الإسلام.
إقرأ المزيد: منهجية التعامل مع القرآن فيما قبل النص
وبالتأمل في السورة نجدها تعبر عن الثناء على الله وتوحيده، وإعلان العبادة له وحده، وطلب الهِداية إلى الطريق المستقيم، أما الظروف التي نزلت فيها السورة، فقد نزلت في وقت كان فيه المسلمون في بداءة الدعوة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه مقاومة شديدة من قريش، السورة كانت بمكانة بداءة توجيه العبادة نحو الله، وتأكيد دور الإنسان في العبادة والطلب المستمر من الله بالهداية، وقد ذكر الواحدي[4] في أسباب النزول أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد الزاهد ، أخبرنا جدي ، أخبرنا أبو عمرو الحيري حدثنا إبراهيم بن الحارث وعلي بن سهل بن المغيرة قالا: حدثنا يحيى بن [أبي] بكير ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا برز سمع مناديا يناديه: “يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا ، فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك . قال : فلما برز سمع النداء: “يا محمد ” فقال: لبيك ، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال: قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين )حتى فرغ من فاتحة الكتاب) وهذا قول علي بن أبي طالب.
أما عن فضلها فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه عديد من الأحاديث ما يؤكد مكانة سورة الفاتحة في القرآن، من أشهرها حديثه الذي قال فيه”: من صلى صلاةً ولم يقرأ بأم الكتاب فهي خِداجٌ –أي ناقصة– إلا أن يكون وراءه إمام. رواه البخاري.
تاريخية سورة الفاتحة عند جمال علي الحلاق[5]
هذا باختصار ما قِيل عن سورة الفاتحة، أما المُثير فهو الإشارات التي جاءت في كتاب “آلهة في مطبخ التاريخ“، الذي يتناول فيه جمال علي الحلاق سورة الفاتحة بوصفها أكثر من مجرد دعاء ديني في القرآن، ويعرضها ضمن إطار ثقافي وتاريخي له دلالات عميقة. يعتقد الحلاق أن الفاتحة تُمثل نموذجًا لُغويًا وثقافيًا يعكس علاقة الإنسان بالمقدس، وهو ما يُجسد تفاعل الإنسان مع السلطة الإلهية. فبدلًا من الاكتفاء بتفسير ديني تقليدي، ينظر الحلاق إلى السورة بوصفها ـمركَّبًا ثقافيًّا يحتوي على عناصر متعددة تتداخل فيها الدلالة اللغوية، الفلسفية، الاجتماعية.
ولنقف مع بعض من الإشارات التي جاءت بطرقة ملفتة في كتاب جمال علي الحلاق:
- سورة الفاتحة بوصفها مادةً تاريخية وثقافية: الحلاق يذهب أبعد من كون سورة الفاتحة نصًا دينيًا محضًا، فهو يعرضها بوصفها منتجًا تاريخيًا ثقافيًّا له دلالات تترابط مع التطور الزمني للإسلام والنص القرآني. فهو يشير إلى أن السورة قد نشأت في مرحلة سابقة على جمع القرآن بترتيبه الحالي، أي أنها كانت بمكانة دعاء شعبي استُخدمَ في بداءات الدعوة الإسلامية قبل أن يتخذ شكله الحالي ضمن السور القرآنيّة.
- التاريخ النصي لسورة الفاتحة: الحلاق يُشير إلى أن السورة قد تكون في أصلها جزءًا من دعاوى قبلية كان يتلوها بعض الأفراد في زمن ما قبل الإسلام، وأحدهم قد يكون زيد بن عمرو بن نفيل الذي يُذكر أنه كان من المهتدين قبل ظهور الإسلام، ومن ثم فالسورة قد كانت دعاءً معروفًا استخدمه بعضهم في وقت ما قبل أن يُدرج ضمن النصوص القرآنية.
- الاختلافات بين المصاحف: يلفت الحلاق إلى أن هناك اختلافات في المصاحف الأولية التي جمعها الصحابة، مثل مصحف ابن مسعود الذي لم يكن يحتوي على سورة الفاتحة، مما يثير تساؤلات بشأن تاريخ إدراج الفاتحة في القرآن، هذا يشير إلى احتمال أن السورة لم تكن في النسخة الأولى من المصحف كما هو معروف الآن.
- الإضافة والنسخ في القرآن: الحلاق يطرح تساؤلًا مهمًا بشأن كيف أضيفت بعض النصوص في القرآن عبر الزمن؟ ويُعطي مثالًا على سورة الفاتحة بأنها قد تكون قد خضعت لعملية إدراج أو تعديل مع جمع القرآن في المصحف، هو لا يذهب إلى حد التشكيك الكامل في النصوص، بل يشير إلى أنها خضعت لتاريخ طويل من التدوين والمراجعة في مرحلة جمع القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
- موقف الحلاق من النصوص القرآنية: على الرغم من هذه النظريات، فالحلاق لا يُنكر مكانة السورة الدينية في القرآن الكريم، لكنه يدعو إلى التحليل النقدي لفهم كيفية تكوين النصوص وتاريخها عبر الزمن، فهو يعرض سورة الفاتحة بوصفها جزءًا من المراجعات التاريخية للنصوص القرآنية، التي تكونُ رؤية أعمق لفهم علاقتنا بالنصوص الدينية.
إذًا يعتقد الحلاق أن سورة الفاتحة قد تكون قديمة جدًا، وربما أدرجت في القرآن بعد جمعه في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو يرى أن هذا التاريخ النصي يشير إلى تطور النصوص وإعادة تكوينها في ظل التحولات السياسية والثقافية التي مر بها المسلمون في تلك الفترة، مثيرًا بذلك إشكاليات تاريخية بخصوص تطور النص القرآني، ويُطالب بالتحليل النقدي لمراحل تدوين القرآن. لكن هذا الرأي من شأنه أن يُثير مجموعة من الاعتراضات، خاصة في بيئة عربية إسلامية ما تزال غير مهيأة لمثل هذا الواقع النقدي الحاد، ولعل أهم ما يمكن توجيهه لهذا النقد التاريخي نجد الاصطدام مع مجموعة من العوائق المنهجية، والتاريخية المتعارف عليها، على الأقل في مقاربة النصوص القرآنية.
- تأكيد الثبات النصي للقرآن: هناك نقطة حاسمة في التعامل مع النص القرآني في الساحة العربية والإسلامية، وهي التركيز في ثبات النص القرآني أو تواتره من ناحية النقل والمضامين، وبما أن جمال علي الحلاق يؤكد أن سورة الفاتحة قد تكون دعاءً جاهليًا، أو جزءًا من نصوص قديمة أدرجت في القرآن لاحقًا، فهذا يتعارض تعارضًا كبيرًا مع الواقع التاريخي الذي يؤكد بأن النص القرآني نزل كاملًا ومنجمًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، فقد كانت تكتب النصوص زمن نزولها، وليس مثلما ما حدث للروايات الحديثية التي جُمعت لاحقا: “وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا“ سورة الإسراء: 106، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا“ سورة الفرقان: 32. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا” رواه الترمذي: 3086، وقال حسن صحيح). وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
“كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل الوحي عليه أخذته برحاء شديدة وعرق عرقًا شديدًا مثل الجمان، ثم يسرّي عنه فأكتب وهو يملي عليّ” رواه أحمد في مسنده: 21606). - الاعتماد على الاختلافات في المصاحف: يُشير الحلاق إلى وجود اختلافات في المصاحف، مثل مصحف ابن مسعود الذي لم يتضمن سورة الفاتحة، غير أن هذا المصحف على الأقل ليس معتمدًا فيما سُمي بالقراءات العشر المتواترة، على الرغم من أن ابن مسعود كان من كُتاب الوحي، واشتهر بأن مصحفه كان خاليًا من الفاتحة والمعوذتين، كما لا شك في أن هناك بعض الاختلافات القرائية بين المصاحف القديمة، إلا أنها لا تَمَسُّ جوهر النص القرآني، في حدود ما جُمع في المصحف، خاصة زمن عثمان بن عفان، فقد استقر المسلمون على النسخ المتداولة من القرآن الحالي وقراءاته المتواترة.
- الإشارة إلى الأساطير والتاريخ الشعبي: يستخدم الحلاق في تحليله أساطير تاريخية، وروايات شعبيَّة بخصوص مصحف ابن مسعود وتاريخ نزول القرآن، وهي أمور ربما تحتاج إلى توثيق علمي دقيق. هذا الاعتماد على أساطير تاريخية غير موثقة بطريقة قطعية قد يُضعف من قوة فرضياته.
- النظرة الثقافية للأدوات الدينية: في حين أن الحلاق يُسلط الضوء على الأبعاد الثقافية والدينية التي تكونُ سورة الفاتحة، قد يكون من المفيد موازنة هذا الطرح مع المعنى الرُوحي الذي تعطيه السورة للمسلمين، الفاتحة ليست فقط نصًا تاريخيًا، بل هي شعار للعبادة وطلب الهداية التي توحد المؤمنين في كافة أنحاء العالم، بغض النظر عن السياق التاريخي الذي يمكن أن يؤثر في شكل السورة.
- الإفراط في التحليل التاريخي: قد يُنتقد الحلاق من طريق الإفراط في التحليل التاريخي، أو في المغالاة في اعتماد الروايات التاريخية في فهم نص له أدواته، ومنهجه، فهو يحاول تفسير سورة الفاتحة من طريق مقاربة تاريخية روائية قد تكون بعيدة عن روح النص الديني ومضامينه ورؤيته التوحيدية، وهنا قد يرى بعضهم أن هذه المقاربة تُقلِّل من القدسية الدينية التي يحملها القرآن عند المسلمين.
تأملات في سورة الفاتحة، هل تدعو سورة الفاتحة إلى الكراهية؟
حينما نستعمل المنهج التجزيئي في التعامل مع نصوص القرآن يمكن للقارئ أو الباحث أن يخلص إلى كل النتائج التي يريد الوصول إليها، لأن النصوص الأصلية داخل هذا المنهج تُوظف لأغراض الباحث وافتراضاته، وتصبح القراءة هنا عملية أيديولوجية بامتياز، أي أن الغاية منها الوصول إلى غاية معينة في ذهن الباحث، وهذه هي آفة التجزيء كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، لهذا ونحن نقارب موضوع سورة الفاتحة نجد بعض الباحثين قد ذهبوا إلى أن سورة الفاتحة قد دافعت عن ثقافة الكراهية والإقصاء، وكرست منهجًا عنصريًّا في التعامل مع المختلفين، في حين أن هذا الإسقاط لم يكن يتعامل مع سورة الفاتحة فحسب، بل تعامل مع عناصر خارجية عنها، مثل توجيهات المفسرين وروايات المحدثين ومعاني اللُّغويين، وما لم ننتبه لهذا المعطى، فسنسقط نحن أيضًا ضحايا هذا التجزيء، ونرتكب الخطأ نفسه في مقاربة النصوص الأصلية بعيدًا عن سياقاتها اللُّغوية والاجتماعية.
يُعد سامي عوض الذيب[6]، وهو باحث وأكاديمي متخصص في الشريعة والقانون، من الباحثين الذين قرأوا سورة الفاتحة قراءةً تجزيئيةً تَخرج بها عن حدود مكوناتها أو آياتها السبع، وقد سَمَّى كتابه “الفاتحة وثقافة الكراهية“، فقد عالج فيه سورة الفاتحة، وخصوصًا الآية السابعة من منظور نقدي وتحليلي، متحدثًا عن تأثير التفسيرات التقليدية، بخاصة تلك المُسماة بالتفسير بالمأثور أو التفسير بالأثَر، على العلاقات بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، وتحديدًا اليهود والنصارى، كما تؤكد عديدٌ من التفاسير، وسَلَّطَ الضوء على تداعيات هذه التفسيرات على الفهم الاجتماعي والثقافي، الذي من شأنه أن يُحدد نوع العلاقة مع المختلفين دينيًّا داخل سياقاتنا الاجتماعية، ولعل أهم الأفكار الواردة في هذا الكتاب نجد ما يلي:
- التفسير التقليدي للآية السابعة: يتناول الذيب تفسير الآية السابعة من سورة الفاتحة: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ». يشير إلى أن التفسير التقليدي لهذه الآية يربط “المغضوب عليهم” باليهود و”الضالين” بالنصارى، مستندًا إلى تفسيرات المفسرين الكبار، مثل الطبري وابن كثير، وكذلك بعض الأحاديث النبوية.
- النقد المُوجه للتفسير التقليدي: يرى سامي الذيب أن هذا التفسير يغرس ثقافة الكراهية والتمييز تجاه أتباع الديانات الأخرى، مما يُسهم في خلق فجوة كبيرة بين المسلمين واليهود والنصارى، كما يؤكد أن هذا الفهم للنصوص الدينية قد أدى إلى تأجيج الصراعات الدينية والطائفية على مر العصور.
- الأثر الاجتماعي والثقافي: يُشير الكاتب إلى أن التفسير التقليدي للآية السابعة لا يتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان الحديثة، ويؤدي إلى تفاقم ظواهر سلبية مثل الإقصاء، التعصب الديني، انتشار الأفكار المتطرفة، كما يوضح أن هذا النهج يُعزز النزعات العدائية في المجتمعات الإسلامية ويُضعف إمكانية التعايش السلمي مع الآخرين.
- إعادة قراءة النصوص الدينية: يدعو سامي الذيب إلى ضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية وتفسيراتها بما يتماشى مع القيم الإنسانية المعاصرة، ويطالب بمراجعة التراث الإسلامي وتحريره من التأويلات التي تُعزز الكراهية والتفرقة، مُشددًا على أهمية تبني قراءة عقلانية للنصوص المقدسة.
إذا تأملنا القراءة النقدية التي تضمنها كتاب “الفاتحة وثقافة الكراهية“، فإننا سوف نجد بأننا أمام محاولة جريئة لقراءة النصوص الدينية بمفاهيم معاصرة، تستحضر الأبعاد الحقوقية والوقائع المستجدة للمجتمعات الحالية، كما أنه في المقابل يُشير إلى الأزمة التي يخلقها التعامل مع التفسيرات الإسلامية بوصفها نصوصًا مقدسة في ذهنية المسلم المعاصر، في حين أن التفاسير أو العلوم الإسلامية هي محاولات اجتهادية في قراءة النصوص الدينية وفق ما وصل إليه السقف المعرفي لمجتمع من المجتمعات، وهكذا فمن هذه الناحية يُعد هذا الكتاب رغم الجدل الذي أثاره ورغم بعض المواقف من توجهات صاحبه، إلا أنه لا ينبغي لنا الإنكار بأن الكتاب أسهم في فتح نقاش واسع بشأن دور النصوص الدينية في تكوين القيم والممارسات الاجتماعي، ومن ثم فإننا سنكون من طريق مقاربة سامي الذيب لسورة الفاتحة أمام ما يُمكن أن نسميه بالأزمة أو التوتر الحاصل بين التفسيرات الدينية والممارسات الاجتماعية، وبما أننا نعيش في عالم متغير ومتحول من جميع المناحي، فإن الدعوة إلى إعادة القراءة والبحث عن مقاربات عقلانية للنصوص المقدسة تصير أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فهي الوحيدة التي يُمكنها أن تؤسس قيم التعايش والسلام وتكرسهما.
لكن هذا لا يمنع من أن مقاربة سامي الذيب قد اعترضتها بعض الثغرات المنهجية، ويمكن إجمالها فيما يلي:
- اعتماد التفسير التجزيئي: التفسير التجزيئي هو نوع من التفسير القرآني يقوم على تحليل آيات القرآن الكريم وفهمها فهمًا مُستقلًا عن سياقها العام أو عن الموضوع الكُلي للسورة، يعتمد هذا التفسير على تفكيك النصوص القرآنية إلى أجزاء صغيرة (آيات أو مقاطع)، ثم تفسير كل جزء بمفرده بناءً على معاني الألفاظ والقواعد اللُّغوية والأسباب المتعلقة بنزول الآية.
- تجاوز خاصية العالمية: يبدو أن سامي الذيب لم يُركز في النصوص الأصلية، بقدر ما كان مهووسًا بنقد التفسير الإسلامي للسورة، وبالتأمل في السورة نجد أن مطلعها يتحدث عن الحمد لله رب العالمين، والعالمية هنا تُنافي أي قيمة فيها نوع من حصر الرب لفئة معينة أو اتجاه محدد، فالربوبية ربوبية للجميع دون النظر في أشكالهم وجغرافيتهم وطبيعتهم الخاصة، كما تجذر في بعض العقائد الدينية العنصرية. ولعل الفهم الذي كان ينتقده سامي الذيب ليس هو على الأقل ما تنطق به نصوص أو آيات الفاتحة، بقدر ما هو تأويلات المفسرين التي كانت تُعبر عن واقعها بطريقة من الطرق، فقد ساد لدى كثيرين منهم نزعات عنصرية أو عقائدية، كما أن من خصائص هذا الرب وصفاته نجد الرحمن الرحيم، ومن رحمته هذه الربوبية العادلة التي تعامل الكل مهما اختلفوا في عقائدهم وأفكارهم معاملة أساسها التقوى، وليس الاختيارات الإيديولوجية، أو المناطقية الجغرافية.
- المغضوب عليهم ولا الضالين: قد جاء في عديدٍ من التفاسير بأن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، ومثال ذلك ما أورده ابن كثير في تفسيره[7] قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت سماك بن حرب، يقول: سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم، قال : جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا عمتي وناسا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له، فقالت: يا رسول الله، ناء الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمن علي من الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله! قالت: فمن علي، فلما رجع، ورجل إلى جنبه، ترى أنه علي، قال: سليه حملانا، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: يا عدي، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ قال: ما أفرك أن يقال: الله أكبر، فهل شيء أكبر من الله عز وجل؟ قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى. وذكر الحديث، ورواه الترمذي، من حديث سماك بن حرب، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. قلت: وقد رواه حماد بن سلمة، عن سماك، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: (غير المغضوب عليهم) قال: هم اليهود) ولا الضالين) قال: النصارى هم الضالون. وهكذا رواه سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم به. وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلي، أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: المغضوب عليهم -وأشار إلى اليهود- والضالون هم النصارى. وقد رواه الجريري وعروة، وخالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر، فالله أعلم.
وإذا لاحظنا هذا النص الطويل من الروايات التفسيرية لآية غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فسنجد بأن النص الأصلي لم يتحدث عن مُسمى اليهود ولا النصارى، ولكنها تأويلات المفسرين وتفسيراتهم الخارجة عن سياق الآيات الأصلية، وهو منهج مأزوم يدل على توتر حقيقي في المنهج التفسيري التقليدي، ومن ثم فالمغضوب عليهم والضالون يمكن أن يكونوا من أي فئة في الأرض بلا تحديد، وهو ما يجب الإشارة إليه في هذا المقام.
صراط مستقيم أم صُرُطٌ مستقيمة؟
بالتأمل أيضًا في سورة الفاتحة نجد الدعاء بالهداية إلى الطريق المستقيم، وهي دعوة قد يعدها بعضهم أحادية في التفكير واختزالية في الصواب، بيد أن سؤال الطريق المستقيم يُحيلنا إلى كتاب “الصراطات المستقيمة” للفيلسوف والمفكر الإيراني عبد الكريم سروش[8]، وهو أحد الأقلام الإيرانية المهمة التي أثارت جدلًا واسعًا في العالم الإسلامي من طريق مختلف أعماله، وقد تناول الكتاب موضوعًا فلسفيًا ودينيًا حساسًا يتمثل في تعدد القراءات الدينية واحتمالية وجود “صُرُطٌ مستقيمة” متعددة بدلًا من صراط واحد، وهو ما يُمثل نقدًا جريئًا للتصور التقليدي للوَحْدَة المطلقة للحقيقة الدينية.
تدور الفكرة المركزية للكتاب حول مبدأ تعددية الحقيقة الدينية فيرى سروش أن الحقيقة الإلهية مطلقة وغير محدودة، ولكن فهم الإنسان لها محدود ومتعدد بتعدد الثقافات، اللغات والأفهام، ومن هنا فإن “الصراط المستقيم” الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وفي سورة الفاتحة موضوع دراستنا الآن، يمكن أن يتجلى بأشكال متعددة، ويكون لكل فرد أو مجتمع طريقه الخاص إلى الله. ولعل أهم الأفكار التي تجلت من طريق هذا الكتاب نجد ما يلي:
– التعددية الدينية: يجادل سروش بأن التعددية الدينية ليست تهديدًا للإيمان، بل هي انعكاس لرحمة الله وسعة أفقه، ويرفض فكرة احتكار أي دين للحقيقة المطلقة، ويرى أن كل دين يحمل جوانب من هذه الحقيقة، مشيرًا إلى أن كل العقائد والمذاهب تسعى في الاقتراب من الله بطرق مختلفة.
- الفرق بين الدين وفهم الدين: يُميِّز سروش بين الدين نفسه بوصفه وحيًا إلهيًا مقدسًا، وبين فهم البشر لهذا الدين، فهو يقول إن النصوص الدينية مثل القرآن الكريم تتمتع بأبعاد لا نهائية، ومن ثم فإن التفسير البشري لهذه النصوص دائمًا ما يكون نسبيًا ومحدودًا بظروف الزمان والمكان.
- النسبية الثقافية في فهم الدين: يشير إلى أن فهم الدين متأثر بالثقافة التي يعيش فيها الفرد أو المجتمع، لذا، فإن الإسلام الذي يُمارَس في مجتمع عربي قد يختلف عن الإسلام في إيران أو تركيا، وهو ما يجعل الصراط المستقيم متلونًا بالظروف الثقافية والاجتماعية.
- الوحي والتاريخ: يرى سروش أن الوحي نفسه يتفاعل مع التاريخ، بمعنى أن الرسالة الإلهية تُقدَّم بطريقة تستجيب لاحتياجات المجتمع وواقعه الذي تُنزَّل فيه، هذا التفاعل بين الوحي والتاريخ يجعل الأديان متعددة الأشكال والأوجه عبر الزمن.
- التحرر من القراءة التقليدية: يدعو الكتاب إلى تحرير الفكر الإسلامي من القراءة التقليدية الحصرية التي تفرض فهمًا واحدًا على النصوص الدينية، ويؤكد أن التفكير النقدي والبحث عن معانٍ جديدة للنصوص يمكن أن يُثري التجربة الدينية.
وعلى الرغم مما أثاره كتاب الصراطات المستقيمة من ردود أفعال ردود أفعال متباينة، ناتجة عن واقع إسلامي مُحافظ ومُنغلق في كثير من تجلياته، إلا أن محاسنه أيضا لا يمكن إنكارها البتة، فهو دعوة إلى تجديد الفكر الديني وتعزيز التسامح والانفتاح على التعددية، وطرح تساؤلات جوهرية بشأن طبيعة العلاقة بين الإنسان والدين والحقيقة والوحي، وتقديم رؤية تعزز التسامح الديني في سياق عالمي يعج بالصراعات التي أساسها الفهم الشخصي للظاهرة الدينية، وفي كل الأحوال نحن نحتاج إلى قراءات، تُخرجنا من الواقع المغلق للفكر الإسلامي المعاصر، وكتاب عبد الكريم سروش دعوةٌ عميقة إلى إعادة النظر في القوالب الفكرية التقليدية، ولفتح آفاق جديدة لفهم الدين بعيدًا عن الجمود، من طريق رؤية عقلانية وإنسانية للتجربة الدينية.
المراجع:
[1] – شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017.
[2] – الصدر، محمد باقر. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن. الكويت. دار التوجيه الإسلامي. نشر إلكترونيا وأخرج فنيا برعاية شبكة الإمام الحسين للتراث والفكر الإسلامي. ملف PDF.ص: 17. وانظر كذلك:
[3] – محمد، باقر الصدر. المدرسة القرآنية. دار الكتاب الإسلامي. دون تاريخ الطبعة.
[4] – أبو الحسن، الواحدي. أسباب النزول. دار الكتب العلمية، 2000.
[5] – جمال، علي الحلاق. آلهة في مطبخ التاريخ قراءة في تاريخ سورة الفاتحة. منشورات الجمل، ط1،2012. ص: 153.
[6] – سامي، الذيب. الفاتحة وثقافة الكراهية. تفسير الآية السابعة خلال العصور.
[7] – تفسير ابن كثير https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura1-aya7.html
[8] – عبد الكريم، سروش. الصراطات المستقيمة قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية. ترجمة أحمد القبانجي. الانتشار العربي.