تكوين
السنة من المفاهيم التي تداولها الخطاب الديني على نحو ملتبس، ويتجلى هذا الخلط والارتباك عند المناقشة، التي تتحول إلى نوع من حوار “الطرشان”، يحتفظ فيه كلّ طرف بمدلوله الخاص محدّدا الإطار الذي يعمل فيه هذا المدلول، فيُعاد مناقشة القضية مرّاتٍ ومرّاتٍ دون الوصول إلى نتيجة نُؤسس عليها، وننطلق منها، فالعقل المسلم أمام خليطٍ من الأصول والماهيات، فقد يريد المتحدث، أو الكاتب دلالة، ويُدرك السامع، أو القارئ دلالة أخرى.
ولإزالة اللبس وكشف الغموض عن مدلول السنة نحتاج إلى التسليم المعرفي بأننا لسنا أمام مفهومٍ واحدٍ بل مفاهيم متعددة عرفتها الكلمة، فمدلول “السنّة” في القرآن الكريم يختلف عن مدلولها في الخطاب الديني، ومدلولها وصفا للروايات المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يختلف عن مدلولها في لغة علماء أصول الفقه، ومدلولها عند الفقهاء يختلف عن مدلولها عند الأصوليين الذين اختلفوا في تحديد سنة الأحكام.
أضف إلى ذلك أنّ سنة الأخبار كنصوص لغوية تدخل في إطار الأسلوبية العربية ذات الدلالة الاحتمالية على حدّ قول شيخ الأزهر محمود شلتوت: “ما من آية حصل من دلالتها اختلاف بين العلماء، وفي موضوعها حديث أو أحاديث، إلا كانت هذه الأحاديث أيضا محل خلاف بينهم، وقلّما نجد حديثا خلت دلالته ما بين العلماء من خلاف في دلالة آية من القرآن. ولعلّ ذلك يرجع إلى اشتراك القرآن والسنة في الأسلوبية العربية، وهي واحدة فيهما، كما يرجع إلى أسباب أُخرى تتعلق بثبوت الحديث، وعدم ثبوته، وقوته وضغفه”.([1])
ما هي علاقة السنة بالقرآن الكريم؟
وبالنظر إلى مدلول السّنة في القرآن الكريم نجد أنّها لم تخرج عن معناها اللغويّ المُتداول قبل الإسلام، فهي العادة المستمرة، والطريقة المعتادة، حسنة كانت أم سيئة، ومنه قوله تعالى: “قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ” [آل عمران:١٣٧]، “سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا” [الإسراء:٧٧]، “فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ”[الأنفال:٣٨]، “وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” [الأحزاب:٦٢].
بينما تنوّع مدلولها في لغة سنة الأخبار المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، والصحابة، بين معنيين، لا صلة لهما بالاستخدام المتداول في الخطاب الديني المعاصر، أولهما: العادة المستمرة، والطريقة المعتادة فلم يختلف معناها عن المعنى في القرآن ولغة العرب، ومنه قوله، صلى الله عليه وسلم: “من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وِزْرها ووِزْر من عمل بها إلى يوم القيامة”.([2])
ثانيهما: الطريقة العملية المضطردة في الدين التي نُقلت عن الرسول نقلا متواترا عمليا معروفا عند الكافة بلا اختلاف بينهم، وهي ما يُمكن أن نُطلق عليه “السنة العملية/ الفعلية هي التي حثّ القرآن على اتباعها، “قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم” [ال عمران: ٣١]، فمن السنن العملية التي قام بها الرسول، صلى الله عليه وسلم، أداء الصلاة، وأداء شعائر الحج.
وقد وردتْ بتلك الدلالة مقترنة بالكتاب في الخبر المُسند إلي النبي، صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله”.([3]) ويقابل “السنة” في لغة الأخبار المسندة إلي النبي، صلى الله عليه وسلم، كلمة “البدعة” التي فسّرها بقوله: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ”([4])، وأقرب الدوال في القرآن الكريم إلى البدعة كلمة “سبيل المجرمين، “وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ” [الأنعام:٥٥]، وكلمة “سَبِيل الْمُفْسِدِينَ”، “وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ”. [الأعراف:١٤٢]
ولم يخرج مدلول “السنة” في لغة مسلمي القرن الأول الهجري، الثامن الميلادي عن هذين المدلولين، فلم يكن هناك وجود لمدونة سنة الأخبار، فكان التدوين مقتصرا على القرآن الكريم، بمقتضى أمر نبوي “لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه”.
بدأ المسلمون محاولات تدوين المرويات عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أوائل القرن الثاني الهجري، فأطلقوا لأول مرّة كلمة “السنة” على الأحاديث والأخبار المُسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لتكتسب بذلك مدلولا جديداً في لغة المحدّثين، وهو يختلف عن المدلول الرابع الذي سيُضيفه الفقهاء إلى كلمة “سنة”، فهي عندهم صفة لما يفعله المسلم استحبابا لفعل أو قول أتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، فيُمدح المسلم على الاقتداء، ولا يُعاب على التّرك، وهي بذلك تختلف عن مدلولها الخامس عند الأصوليين، فتأتي “السنة” في لغتهم ليس بوصفها حكما من الأحكام الشرعية يُفيد “الاستحباب” كما يستخدمها الفقهاء، بل بوصفها مصدرا ودليلا من أدلة التشريع واستنباط الأحكام، فالسنة عندهم اسم لدليل من أدلة الأحكام، فيُقال: هذا الحكم ثبت بالسنة، إشارة إلى ما رُوي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أقوال، أو أفعال، أو تقريرات.
ونظراً لأنّ عملية استنباط الأحكام من السنة لا تعدو عن كونها اجتهاداً إنسانياً فقد وقع اختلاف حولها، فإذا كان جيل الصحابة ربط طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الواجبة إلهيًا بما يبلغه الرسول من الوحي فقط؛ لذلك تكرّر سؤالهم عن قول أو فعل الرسول: “هل هو الوحي أم الرأي والمشورة؟”، “أهو أمر من الله أم شيء يصنعه لهم؟” وكثيرا ما كانوا يطرحون اجتهادات أخرى، وكثيرا ما كان يطلب منهم ذلك، النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أشيروا عليّ”. فإنّه برحيل النبي -صلى الله عليه وسلم- والجيل الأول من الصحابة، تحوّلت في أواخر القرن الثاني الهجري المسلّمة التي تفرّق بين وجود شخصيّتين للرسول بمقتضى صفتيه “بشرا نبيا” – يصدر في أقواله وأفعاله عن الوحي المقدس تارة، وعن الرأي البشري تارة أخرى – إلى نقطة خلاف بين مدرسة الرأي/أهل الرأي، ومدرسة الخبر/أهل الحديث قبل أن يُحسم الخلاف بفعل السلطة السياسية وجمود العقلية الدينية لصالح مدرسة الخبر.
فتمسّك أهل الرأي، وفي مقدمتهم الإمام أبو حنيفة النّعمان، بأن السنة نوعان: “سنة الوحي” وهي ما صحّ من أقوال النبي، صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشارحة والمبينة لما ورد مجملا في تعاليم القرآن التي قد تختلف أفهام العلماء قديما وحديثا حول غير قطعي الدلالة منها. والنوع الثاني: “سنة العادات” المتغيّرة، وهي ما سوى ما تقدّم من أقوال وأفعال تُدرج في سياق الوجود الاجتماعي والزمني له صلى الله عليه وسلم.
واعتمدت مدرسة الرأي في موقفها الرافض؛ لأن تكون السنة في درجة مساوية للقرآن الكريم في التشريع، على ما بين القرآن والسنة من فروق:
- أولا: القرآن قد اتخذ له الرسول، صلى الله عليه وسلم، كُتّاباً يكتبونه، ويُرتّبونه بآياتهِ وسورهِ حسب ما أمرَ به من الله، بينما السنة لم يتخذ لها كُتّابا، ولم يكتب منها إلا القليل، بل ورد نهي عن كتابتها اكتفاء بحفظها في الصدور.
- ثانيا: القرآن نُقل إلينا بالتواتر حفظا وكتابة، بينما السنة نقلت في معظمها بطرق الآحاد، ولم يتواتر منها إلا أقلّ القليل.
- ثالثا: القرآن لم يُنقل منه شيء بالمعنى، ومنع ذلك فيه منعا باتا، بينما السنة أُبيح فيها ذلك، ونُقل كثير منها بالمعنى، ولا يخفى تفاوت الناس في فهم المعنى وأسلوب التعبير والنقل، وما يملكه اللفظ من تأثير في تحديد المعنى.
- رابعا: كان الأصحاب يراجعون النبي، صلى الله عليه وسلم، عند اختلافهم في حرف من القرآن الكريم، وكان يحكم بينهم فيه، إما بتعيين إحدى القراءتين أو بإجازتهما، بينما السّنة لم يعهد فيها شيء من ذلك.
أنه لو كانت الأحاديث جميعها تشريعا عاما كالكتاب، لأمر الرسول بتدوينها وحفظها، كما فعل ذلك في القرآن، وليس من المعقول أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم مصدرا لإيجاب أو تحريم يتعلق بأحكام خالدة. ثم لا يأمر – وهو الرسول المكلف بالبلاغ والبيان – بتدوين ما به البيان والبلاغ حفظا له من الضياع والاختلاف.
بل على عكس ذلك وجدت أحاديث تمنع من تدوين الحديث، منها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخضري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”([5])، ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: لمّا اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: “إيتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده “، قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا”.
إقرأ أيضاً: كتابة السنة ورواة الحديث
ولعل تأخّر التدوين أدّى إلى إثارة جدل حول ثبوت الكثير منها، مما دفع الإمام البخاري إلى أن يكتفي بأربعة آلاف حديث من ستمائة ألف حديث كان قد جمعها، كما نتج عن تأخير التدوين تعدد الروايات واختلافات المحدثين، واختلافات الفقهاء بعضهم مع بعض، والخلاف بين المحدثين والفقهاء في تصحيح حديث أو رفضه، والتّعويل عليه في الدلالة أو عدم التعويل.
وقد كانت هذه الفروق بين القرآن والسنة أصلا في انحصار مصدر العقيدة في القرآن، وعدم الاعتماد في ثبوتها على السنة؛ لأن العقيدة قائمة على اليقين والجزم، وأكثر السنة ظنّي الثبوت، فأفتى الأزهر في أربعينيات القرن الماضي “أنّ أحاديث الآحاد لا تُفيد عقيدة، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيبات.. قولٌ مُجمعٌ عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء”.([6])
ورأت مدرسة الرأي متمثلة في اجتهادات الإمام أبي حنيفة (٨٠-١٥٠هـ/٦٩٩-٧٦٧م) ضرورة التمييز تشريعيا بين القرآن الكريم النّص الأول الأصلي في التشريع وسُنّة الوحي المصدر الثاني الثانوي في التشريع، وضيّقوا من دائرة الاستدلال بها، فلا تدخل السنة إلى ميدان التشريع إلا بضابطين:
- الأول: النظر إلى مدى موافقتها لما جاء في القرآن الكريم، فاشترطوا لتكون السنة مشرِّعة أن تكون تابعةً للقرآن ونابعةً منه شرحا أو تعليقا – بالتخصيص أو التحديد، فلا تستقلّ عندهم بالتشريع، ولا يُقبل عندهم أي شبهة تناقض بينها وبين القرآن.
- الثاني: اشترطوا لمشروعية مرجعية النص الثانوي “السنة بالمفهوم الأصولي” أن يكون متواتر النقل أو مشهورا، أي أنهم أخرجوا من دائرة الأدلة الشرعية الأحاديث التي يرويها مجموعة قليلة من الرواة، التي يُطلق عليه اسم “حديث الآحاد”، وقدّموا الاستحسان العقلي عليها.
وهذا ما رفضته مدرسة “الخبر/أهل الحديث” التي أصرّت على التوحيد بين سنة الوحي وسنة العادات، وحُسم الخلاف لصالحها تراثيا بجهود الإمام الشافعي (١٥٠-٢٠٤هـ/٧٦٧-٨٢٠م)، الذي وسّع مفهوم السنة؛ لتشمل الأقوال والأفعال النبوية كلّها، بالإضافة إلى الموافقات الصريحة أو الضمنية على أنماط السلوك والممارسات الحياتية في عصر النبوة، فنقل بدر الدين الزركشيّ في كتابه البرهان مقولة شافعية تُؤسس لواقع خطابنا الديني، يقول فيها: “جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن وجميع القرآن شرح لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم”.([7]) هكذا أمست أقوال الأمّة لا سيما علماؤها مع السنة والقرآن الكريم شيئا واحدا مقدسا متعاليا على الزمن والمكان!!
وبإنجاز الإمام الشافعي لمسألة استقلالية السنة بالتشريع جعل النّص الثانوي مساوياً للنّص الأول في قوة الالتزام التشريعي، بل جعله البعض متقدّما على النص الأول/القرآن بنسخه لأحكام بعض آياته، ووُضعت مجموعة من الضوابط لقبول أحاديث الآحاد كلها، وجميع تلك الضوابط تتصل بالرواية للتحقق من اتصال سلسلة السند وصدق الرواة، وأفردها علماء الحديث بدراسات متنوعة، تتعلق بحجيتها وأقسامها، من جهة القبول والردّ، والصحة والضعف، ومن جهة ما يثبت بها من الأحكام وما لا يثبت، ومن جهة مركزها من الكتاب وتأثيرها فيه وعدم تأثيرها إلى آخر بحوثهم التي لم تطرّق إلا نادراً لآليات منهجية لاختبار صحة جانب الدراية/مضمون النّص.
ومضت قرون من التوقف والجمود أنتجت حالة من الخروقات الصوفية بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر عندما أصبح تراب البقيع حيث قبور الصحابة يُباع بوزنه ذهبا، مما كان له أثره في ظهور تيار سلفي مقاوم ليس للبدعة والخرافة فحسب بل لكل محاولة اجتهادية سيقوم بها الإصلاحيون انطلاقا من فقه المقاصد الذي يربط الأحكام بعللها ثبوتا وانتفاء، ورغم تعسّر بدايات السلفية المعاصرة في القرن الثامن عشر إلا أنّها نهضت بدعمٍ من بعض الأنظمة السياسية ومهادنة الأخرى، حتى أصبحت أكثر صور التّدين انتشاراً، وأقدرها على مزاحمة التديّن الصوفيّ، وأصبح المتدين في العالم الإسلامي يرى السنة بعيون التيار السلفي الذي قدّم مفهوماً أحادياً للسنة، وموقفا تراثيا واحدا في طريقة الاستدلال بها، وصوّر كلّ ما نُقل عنه صلى الله عليه وسلم بأنه شرْعٌ، واجب، أو مندوب، واستند – كخصمه التدين الصوفي – إلى الأحاديث الآحاد في تقديم مسائل العقيدة متجاهلين أن اليقين كسمة أصيلة للعقيدة لا يثبت إلا بالعقل ثم النقل المتواتر الذي رواه الكافة عن الكافة بلا خلاف، وتمسّك بظاهر الأخبار مدعيا “النصيّة القطعية” المستوجبة للوجوب أو التحريم، فمثل هذا الخطاب هو الأقدر على استمالة العامة بزعم أن الناطق بالحكم والحاسم للاختلاف في المسألة السياسية أو الاجتماعية هو صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً دون اعتبار لاحتمالية الدلالة التي تحملها بعض الأخبار، ودون النظر في أثر السياق الداخلي والخارجي في تحديد المدلول.
بهذه الظاهرية والحرفية توجّه الخطاب السلفي المنقسم على نفسه إلى قراءة الأخبار المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قراءة نفعية بدافع من واقعه بكلّ ما يحمله هذا الواقع من تخلّف أدى إلى سيادة حالة من السلبية تارة، وحالة من العنف تارة أخرى، فحرّمت “السلفية المدخلية” إبداء النصيحة للحاكم في العلن، ورأت في إتيان ذلك ما يتناقض مع أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، مستدعية من سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ.” وأنّ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيد الْجُعْفِي سأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا.. قَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ”. وعلى النقيض منها كفّرت “السلفية الجهادية” الأنظمة الحاكمة متبعة المنهجية السلفية نفسها في الاستدلال، ودخلت في حرب مفتوحة مع العالم مستدعية من السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب”، “بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي”، “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا “لا إله إلا الله”، “لقد جئتكم بالذبح”.
فأهدر هذا التوجه تعددية مفاهيم السنة، وتنوّع المواقف التراثية إزاءها، وساعده في ذلك جمود الخطاب الديني وقصور البحث في الإسلاميات فلم نستفد من تنوّع الموقف التراثي من السنة في إعادة تصنيف وتبويب السنة وفق رؤية مدرسة الرأي التي تُميّز بين سنة الوحي التي هي بيان نبويّ لمراد الله، وسنة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له صلى الله عليه وسلم.
فـ “لو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات ولم نخلط بعضها ببعض، ورتّبنا على كلّ منها آثاره، وأعطيناه حقّه، لسهُل على المسلمين أن يَتَفاهموا فيما شجَر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريعٌ خاص، أو مُؤقت”. ([8])
وتعطّلت جهود موسوعية ضخمة نحتاج إليها في دراسة متن وسند سنة الأخبار، مستفيدين مما توفّر لدينا من أدوات تكنولوجيا البحث والتحليل التي تستعين بالكمبيوتر في ضبط النتائج، فنطوّر مناهج نقد السّند التي عُرفت عند القدامى بمناهج (الجرح والتعديل)، مستفيدين من تجارب معاصرة في هذا المجال مثل”تطوّر منهج نقد “السند” تطوراً لافتاً عند علماء “الإسلاميات” في هولندا (أواخر القرن الماضي)، فصارت نقطة البدء منهجيا تتمثل في تحديد شخصية “الراوي “، الذي يمثل نقطة التقاء مشتركة في كل الأسانيد الخاصة برواية حدث بعينه أو واقعة بذاتها، أو قول مسند إلى النبي عليه السلام. وعن طريق تحديد هذا الراوي الأول – أو الأصلي – يتحدد العصر الذي شاعت فيه الرواية وانتشرت، كما يتحدد المكان الأصلي والبيئة أو البيئات التي انتشرت فيها. ويلي ذلك دراسة تاريخية تتبعية لسلسلة الإسناد التي تربط هذا الراوي الأصلي المشترك بمن يروي عنهم، وما إذا كان قد روي عنهم مرويات أخرى أم أنه لم يروِ غير الرواية، وما نوع المرويات الأخرى التي رواها عنهم إن وجدت. وباستمرار عملية التتبع تلك وما يُصاحبها من تفكيك لسلاسل الإسناد، يُمكن الوصول إلى تمييز الروايات “الأصيلة” من تلك “المنحولة” بدرجة أعلى من الدّقة، وبالجمع التركيبي بين نقد المتن ونقد السند يمكن الوصول إلى نتائج أكثر دقّة من النتائج التي توصّل لها أسلافنا”.([9])
من جانب آخر أدّت عملية تقنين سنة الأخبار بوضعها بين دفتي كتب أئمة الحديث إلى خلق قناعة مؤداها أن السنة “نص”، وتمّ تجاهل طبيعتها الأصلية، كخطابات شفهية تداولية، متعددة السياقات من جهة، ومتعددة المستقبلين التاريخيين من جهة أخرى، وتكمن خطورة التعامل مع سنة المرويات بوصفها “نصّا” في أنّ المسلمين استقبلوا السنة، رغم تعدد وتنوع مصادرها بوصفها وحي الله الذي يُخاطبهم، فهي تُشارك القرآن الكريم في كونها النّص المركزي في الثقافات الإسلامية في صورتيها المدونة العالية أو غير المدونة.
أخيرا ما دامت سُنّة الأخبار استقرت في صورة لغوية فإن هذا يستوجب دراستها وفق آليات الدّرس اللغوي، فنستكمل السّلم المعرفي الذي بدأه الدرس اللغوي التراثي عندما استوقف أبا عبيدة معمر بن المثنى (١١٠-٢٠٩هـ/ ٧٢٨-٨٢٤م) قضية المجاز والحقيقة، وركّز عبد القاهر الجرجاني (٤٠٠-٤٧١هـ/ ١٠٠٩-١٠٧٨م) على أثر السّياق الداخلي والخارجي في تحديد مدلول الخبر، ولن يُمكننا استكمال البناء على المدخل اللغوي للسنة دون الاستفادة من اللسانيات الحديثة في تحليل بنية خطابها، وأن نكفّ عن منهج القبول بالتسالم الذي لا يُفضي إلى العلم، وأن نُدرك ضرورة فهم مفردات علوم السنة والعقيدة والفقه وأصوله بدراسة تاريخ كلِّ مفردة من المفردات في ضوء المنهج العلمي؛ لنُفرز ما هو من الإسلام، وما هو غريبٌ عن فضائه، وذلك يُساعد على ديمومة الإيمان وسلامته وحيويته.
أ.د عبدالباسط سلامه هيكل
([1]) الإمام محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثامنة عشرة، ١٤٢١هـ – ٢٠٠١م، ص٥٠٥
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه ١٠١٧ برواية جرير بن عبدالله.
([3]) أخرجه الدارقطني في سننه، ج٤، ص٢٤٥ برواية أبي هرير رضي الله عنه.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه،٢٦٩٧ برواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
([5]) أخرجه مسلم في صحيحه، ٣٠٠٤ برواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([6]) مجلة الرسالة، ص٦١٧:٥١٥، عدد ٤٦٢، ١١ مايو ١٩٤٢.
([7]) بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة، ج١، ص٦.
([8]) مجلة الرسالة، ص١٥٣:١٥٠، عدد ٤٤٩، ٩فبراير ١٩٤٢م.