تعليم دون مدارس قراءة في فلسفة إيفان إيليتش

 تكوين

المقدمة

لم تحظَ الأطروحات الفلسفية التي تتطرق إلى المدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية وتربوية بالقدر الكافي من الاهتمام داخل حقل الدراسات الفلسفية في القرن العشرين. وربما يكون الفيلسوف الأمريكي جون ديوي هو الاستثناء الوحيد من هذه الفرضية، إذ أولى ديوي اهتمامًا كبيرًا بفلسفة التربية بعامة، وبالمدرسة ودورها الاجتماعي بخاصة. وهذا ما نجده جليًّا في عديدٍ من كتبه التي عَبر فيها عن تأملاته بخصوص التربية الحديثة، وعن الدور الذي تلعبه المدرسة في هذا الخصوص. ومن أهم كتبه ما يلي: المدرسة والمجتمع، مدارس المستقبل، الديموقراطية والتربية، الخبرة والتربية، التربية اليوم، المبادئ الأخلاقية للتربية.

نلاحظ أن معظم كتب ديوي تحمل عناوين المدرسة والتربية، فقد كان شغله الشاغل هو تأكيد ضرورة تخلي التربية الحديثة عن الطرق التقليدية في التدريس، والقائمة على الحشو والتلقين وعلى العقاب البدني والنفسي للأطفال، ولتحقيق هذه المُهمة دعا ديوي إلى ضرورة الاستعانة بأحدث الدراسات في علم نفس عند إعداد المناهج الدراسية الحديثة للارتقاء بالطفل نفسيًا واجتماعيًا “فقد أوضحت الدراسات النفسية أنه عندما يمتلك الطفل فرصة المشاركة في الأنشطة، سيذهب إلى المدرسة في حالة ملؤها البهجة والمتعة (…) وسينهمك جميع الطلاب في ممارسة هذه الأنشطة، وتقل الفجوة بين الحياة في المدرسة وخارجها”([1]). يُشدد ديوي في هذا النص على فكرتين أساسيتين:

  • الفكرة الأولى، إيمان ديوي بالدور المهم الذي تلعبه الدراسات النفسية في معرفة التوجهات السيكولوجية للطلاب، وفي مساعدة المدرسين على توظيف هذه التوجهات بما يعمل على نمو شخصية الطلاب وتطورها، يُطالب ديوي “قادة التربية بأن يكونوا على دراية بعلم النفس التربوي”([2]).
  • أما الفكرة الأخرى، إصرار ديوي على ضرورة استثمار العمليات التربوية للخبرات والأنشطة اليومية للطفل، ونقلها إلى داخل المدرسة، كي لا يكون هناك اختلافًا كبيرًا بين ما يتعلمه الطلاب في المدرسة وما يوجد في المجتمع الخارجي.

أقرأ أيضا: لماذا نَدْرس الفلسفة في “كلية الآداب ويدرسها الألمان في “كلية الفلسفة“؟

لكن محاولة تطوير قدرات الطلاب ومواهبهم وجعلهم شركاء فاعلين في العملية التعليمية لن تؤتِ ثمارها المرجوة حال استمرار انعزال المدرسة عن المجتمع. فالمدرسة -وفق ما يرى ديوي– يجب أن تكون صورة مصغرة من المجتمع، فهي المؤسسة الاجتماعية التي يتكون الطفل داخلها، وينمو فيها ليكون قادرًا فيما بعد على الإسهام الفاعل في تطوير مجتمعه والارتقاء به. فمن الصعب -من وجهة نظر ديوي- التقاء الطفل بالمجتمع وأنظمته المعقدة والمتعددة دون المرور بالمدرسة، فهي البوابة الرئيسة للولوج إلى الأنظمة الاجتماعية، لذا يرى ديوي أنه من الضروري أن تكون البيئة المدرسية وما يتعلمه الأطفال داخلها وثيق الصلة بحياتهم الاجتماعية المُعاشة وليس منفصلًا عنها. وهذا ما طالب به قائلًا:

“يلزم أن نجعل في كل مدرسة من مدارسنا حياة اجتماعية مصغرة، أو حياة اجتماعية في بدايتها فاعلة بأنواع مهنها التي تعكس حياة مجتمع أكبر(…) فعندما تقدم المدرسة كل طفل إلى عضوية المجتمع وتدربه، تجعله يتشرب روح الخدمة وتجهزه بأدوات التوجيه الذاتي الفعال”([3]).

يُشدد ديوي في هذا النص على ربط التعليم بسوق العمل، فالأنشطة والمهارات والحرف: كالنجارة والحياكة والزراعة يجب تعلمها وممارستها داخل المدرسة، فلا يجد الطلاب فجوة بين ما يتعلمونه داخل المدرسة وبين مجالات العمل في المجتمع.

نظرية جون ديوي في التعليم

إذا نظرنا إلى نصوص ديوي في مجال التعليم سنجده مفكرًا متحررًا، حاول تخليص التعليم من الطرق التقليدية والبالية، واستحدث طُرقًا جديدة تقوم على المشاركة الإيجابية والنشطة للطلاب في عملية تكوين المعارف وصياغتها وممارسة المهارات. هذا التجديد الذي أحدثه ديوي هو ما أبرزه باتريك ريلي Patrick Riley قائلا: “عاملت المدارس الطلاب بوصفهم أوعية يجب ملؤها بالأفكار الصحيحة، بدلًا من جعلهم يتسألون ويستفسرون، وهذا ما رفضه ديوي عندما أعطى الأولوية للاستفسار والنقد، وتعليم الحرف التي تمكنهم من تقنيات الاكتشاف”([4]).

نقول نعم، تُعد تصورات ديوي بالفعل رائدة في مجال التعليم، وقد أحدثت أفكاره نقلة نوعية كبري في هذا المجال، بل وتدين عديدٌ من الأنظمة التعليمية في تطورها لأفكار ديوي بالكثير، لكننا لا يمكننا أن نغض الطَرْفَ عن أن ما قدمه ديوي هو نموذج تعليمي يتماشى مع متطلبات الأنظمة الرأسمالية، ويهدف إلى تطورها وتحقيق مصالحها، فجعْلُ المدرسة صورة مصغرة من المجتمع، يهدف حسبما نرى، إلى تكوين عقول الطلاب وصياغتها لقبول المجتمعات الراهنة، وإعدادهم ليكونوا أفرادًا فاعلين فيها، كما أن دعوته إلى تعلم الحرف والصناعات في المدارس ما هي إلا وسيلة لجعل الطلاب يتكيفون مع الحياة في المجتمع الصناعي المعاصر.

لهذا فإننا نرى أنه إذا كان ديوي قد نجح من ناحية الشكل في تحرير عقول الأطفال من التبعية للمناهج العقيمة القائمة على التلقين والانضباط والصرامة، وأدخل اللعب والأنشطة وتعلم المهارات ضمن مناهجه الجديدة، فخلف كل هذا توجد وشائج خفية تهدف إلى توليد تبعية من نوع جديد، وهي التبعية لمتطلبات الأنظمة الرأسمالية. إن أفكار ديوي عن التعليم، وعن دور المدرسة كما تجلت في كتابه المدرسة والمجتمع هي أيديولوجيا جاهزة الصنع تهدف إلى قولبة العقول وصياغتها بطريقة جديدة تتماشي مع منطق الرأسمالية وتطورها.

على أية حال، إذا كان ديوي قد دعا إلى ربط المدرسة بالمجتمع من أجل الحصول على تعليم حديث، فإننا نجد في المقابل أن الفيلسوف النمساوي إيفان إيليتش* يرفض مثل هذا الربط، ويؤكد أن التطور الحقيقي والحر للتعليم لن يحدث إلا بتحرر المجتمع من المدارس. المدارس هي العقبة الكبرى التي يجب إزاحتها من الطريق، إذا أردنا بلوغ تعليم مستقل ومتحرر من التبعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذه الأفكار هي ما روَّجَ لها في كتاباته بعامة، وفي كتابه مجتمع بلا مدارس بخاصة.

ايفان ايليتش مجتمع بلا مدارس

يُعلن إيليتش منذ البداءة عداءه الشديد للتعليم المدرسي، إذ يراه ظاهرة عبثية غير معقولة يجب تفكيكها والتخلص منها، لأن وجودها يتنافى مع حرية التعليم الحقيقية. وهذا ما يؤكده قائلا:

“إن المدارس هي المكان الأسوأ للحصول على التعليم”([5]).

هذا الحكم العام الذي يصدره إيليتش تنتفي معه المطالبة بإمكان إصلاح التعليم المدرسي، فمحاولات الإصلاح لديه تنطوي على إهدار للطاقات المادية والبشرية، دون وجود أي مردود حقيقي ومُجدٍ. فمادامت مُهمة المدرسة هي الدفع بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية قُدمًا، سيكون هَمُّ القائمين على التعليم هو ربط المعرفة بالمصلحة لإنتاج ذوات مفيدة اقتصاديًا واجتماعيًا، ولن يولِ هؤلاء اهتمامًا للذوات التي تتطلب المعرفة لذاتها، تلك الذوات الحرة التي لا تريد أن تخضع لما يُمليه عليها الآخرون قسرًا كما هو الحال في التعليم المدرسي “فالتعليم المدرسي الإلزامي ليس معقولا، ولن يكون أكثر معقولية إذا حاولنا بلوغه عن طريق تطوير مؤسسات بديلة، فلا البرامج التعليمية الإلكترونية، ولا زيادة مسئولية المدرسين، سوف تحرر هذا النمط من التعليم”([6]). هذا النزوع لرفض الإصلاح التعليمي، وضرورة البحث عن حلول راديكالية، هو ما عبر عنه إيليتش بصيغة أخرى عندما قال:

“تتطلب أزمة التعليم الراهنة مراجعة جذرية لكل فكرة عن التعليم، بدلًا من إعادة النظر في المناهج المستخدمة”([7]).

عيوب التعليم المدرسي لدى إيليتش

إن العاملين الأساسين اللذين يرتكز عليهما نقد إيليتش العنيف للمدرسة هما: إنتاجها لمعارف تهدف إلى خدمة الأوضاع القائمة، وفرضها القسري لأنماط من المعرفة على المتعلمين، دون الوضع في الحسبان رغباتهم وميولهم الخاصة. وسوف نعرض لهذين العاملين وما يرتبط بهما من عوامل أخرى بالتفصيل في أثناء عرضنا لمساوئ التعليم المدرسي عند إيليتش، ومن أبرز هذه المساوئ ما يلي:

1ــــ التكلفة الاقتصادية

يستهل إيليتش نقده للتعليم المدرسي بنقد التكلفة الاقتصادية الهائلة التي تُنفق في هذا المجال، إذ تُنفق معظم الدول القدر الأكبر من ميزانياتها على المدارس، إذ يصل ما تنفقه إلى ثلث الميزانية لتحسين جودة المنتج التعليمي وتطويره، لكن من دون مردود حقيقي في المقام الأخير. وهذا ما توضحه الإحصائيات التي يستند إليها إيليتش، إذ “تُنفق الولايات المتحدة ما يقرب من ثمانين بليون دولارًا سنويًا على التعليم (…) وهو ما يعادل ميزانية وزارة الدفاع في أثناء الحرب ضد فيتنام، ورغم ذلك لم تستطع أن تقدم تعليمًا مقبولًا ومتساويًا للجميع”([8]).

ليست الدول الغنية وحدها من تُنفق أموالًا طائلة من ميزانياتها لتطوير التعليم، بل تحاول الدول الفقيرة اللحاق بها؛ اعتقادًا منها بأن تطوير التعليم سوف يحقق الازدهار والرخاء الاقتصادي. لكن تُوضح الممارسات الحقيقية زَيْفَ هذا الاعتقاد “ففي بيرو عندما تبين أن ثلث الميزانية العامة غير كافٍ لتقديم سنة من التعليم المقبول للجميع، قرر المجلس العسكري تأجيل الإنفاق على المدارس”([9]). إن ما يُبرزه إيليتش في هذا النص هو أن زيادة ميزانية التعليم تكون على حساب التقليل من ميزانيات أخرى أكثر أهمية مثل: الصحة والحد من الفقر والمجاعة والحد من التلوث والحفاظ على البيئة. وهي أشياء يستفيد منها البشر أكثر من استفادتهم من التعليم المدرسي بنظامه الراهن. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع نفقات التعليم أصبح عبئًا ثقيلًا ليس على ميزانية الدول فحسب، بل على ميزانية الأسر والمواطنين بما تفرضه عليهما من ضرائب التعليم والتطوير.

ليس إيليتش وحده من ينتقد التكاليف الاقتصادية الهائلة المُقترنة بسيادة التعليم المدرسي في المجتمعات الغربية المعاصرة، بل يتفق معه المفكر التربوي إيفريت ريمر Everett Reimer صاحب كتاب موت المدرسة، الذي يرى في المدارس “الشكل الأكثر عدوانية للضرائب، والتي تُدعم بأموال الفقراء”([10]).

إعادة توجيه هذه الأموال وتحويلها إلى دعم نقدي مباشر يصل إلى أيدي الراغبين في التعليم، لينفقوه على ما يريدون تعلمهُ بعيدًا عن إشراف المدارس والقائمين على العملية التعليمية برمتها، وإحلال نموذج تعليمي بديل جديد كُلية، هو مطلب إيليتش للتغلب على المساوئ الاقتصادية الناجمة عن التعليم المدرسي “فالحل الأفضل هو أن تُوجه الاستحقاقات التعليمية والمنح الدراسية إلى أولياء الأمور والطلاب للإنفاق على ما يختارونه من تعليم، فما نحتاجه هو ضمان حق كل مواطن في الحصول على المصادر التعليمية المشتقة من الضرائب “([11]). إن ما يريده إيليتش هو أن تصب أموال النفقات التعليمية المأخوذة من دافع الضرائب في خدمة الطلاب وتعزيز استقلالهم المعرفي وشعورهم بذواتهم وتطوير قدراتهم ومواهبهم الخاصة، لا أن تصب من أجل التوسع في المنشآت التعليمية وتطوير المناهج الدراسية واستخدام وسائل تكنولوجية متقدمة في عملية التعليم، فهذا كُله يعمل في المقام الأخير لتحقيق مصالح الأنظمة وليس لتحقيق مصالح الطلاب والراغبين في التعليم.

لكن ثمة مجموعة من التساؤلات تطرح نفسها في هذا المضمار وهي: ما الذي يدفع بالدول إلى تعليم مواطنيها وإنفاق كل هذه الأموال على التعليم؟ هل السبب هو حبها لمواطنيها ورغبتها في أن يكونوا مثقفين وسعداء؟ أم أن هدفها هو ترقية الوجود الحسن لهم وجعلهم يعيشون حياتهم بحسب ماهيتهم الحقيقية، وهو ما لا يتحقق إلا بفضل التعليم؟ أم أن هدفها يتجاوز أماني الأفراد ورغباتهم إلى الحفاظ على مصالح الأنظمة السياسية والاقتصادية للدول وتحقيق وَحْدة الدولة وتجانسها؟ هذا ما سنوضحه في الصفحات القادمة.

2- خدمة الدولة القومية

إذا نظرنا إلى مجمل أعمال إيليتش فلن نجده يتطرق بالتفصيل إلى الدور الذي أدته المدرسة لخدمة الدولة القومية، بل اكتفى بأنها عملت لدعم الفكر القومي وترسيخه في العقول. ويُرجع إيليتش بداءة ظهور التعليم المدرسي إلى نشأة الدولة القومية وصعود البرجوازية، فالهدف من تأسيس المدارس منذ القرن السادس عشر هو تحقيق مصالح الدول القومية. وهو ما وضحه قائلًا: “لقد تبنت الدول القومية التعليم الإلزامي، وفرضته على كل المواطنين”([12]). إن ما ينوه إليه إيليتش في هذا النص هو أن المدارس قد لعبت دورًا بالغَ الأهمية في تقوية دعائم الدولة القومية، عندما عملت من طريق توحيد المناهج الدراسية لتحقيق التجانس والوَحْدة السياسية والاجتماعية بين المواطنين، وصهرهم جميعا في بوتقة الدولة المركزية، القادرة على إنهاء الصراعات الناجمة عن الاختلافات العرقية والدينية واللغوية، لتحقيق الأمن والاستقرار، ومن ثم فإن دعم الدولة للتعليم هو جزء لا يتجزأ من سياستها الداخلية للحفاظ على وَحْدتها وتحقيق أمنها واستقرارها.

هذا الدور المهم الذي أدته المدرسة في استقرار الدول القومية وتطورها هو ما أبرزه ريمير بطريقة أكثر وضوحًا من إيليتش عندما تحدث عن الأهمية الكبرى للمدارس في دعم التوجهات القومية وترقيتها في ألمانيا، ويقول ريمير في هذا الصدد: “دَرَّست المدارس اللغة الألمانية وجعلتها اللغة الرسمية للتعليم، واللغة الموحدة للدولة، وصُممت المناهج الدراسية لخدمة الاحتياجات العسكرية والسياسية للأمة الألمانية، لقد عملت المدارس لإنتاج مواطن يتلاءم مع متطلبات الدولة القومية الألمانية”([13]). يُبرز ريمير في هذا النص كيف أن المدارس تُمثل أدواتًا مهمة في يد الدول والأنظمة، تعمل من طريقها لقولبة وعي المواطنين وصياغته وتشكيله بما يتلاءم مع مقتضيات هذه الأنظمة، فهدف التعليم هو إعداد المواطن الصالح المتعاون ليكون في خدمة وطنه، وليس إعداد الفرد المتفرد والمستقل الذي يدرك العالم والأشياء حوله وفقًا لتصوراته، وليس وفقًا للتصورات التي غُرست في عقله عن طريق التعليم، لذا تتجلى خطورة استغلال المدارس في تحقيق أهداف السياسات القومية، عندما تُرسخ في عقول الطلاب ضرورة أن يتنازل الفرد عن حريته وإرادته لصالح الكل، وهو ما يؤدي إلى قمع الفردية والاستقلال الشخصي.

إن طغيان المدرسة على الحرية لخدمة المصالح القومية هو ما يكشف عنه جودمان Goodman الذي يرى أن التعليم المبني على تحقيق المصالح القومية سيقمع بالضرورة حريات الأفراد لصالح الأنظمة “فالمدارس بسبب طبيعتها المؤسسية تقمع الفردية عندما تُخضعها للاحتياجات القومية”([14]).

تكمن خطورة سيطرة الدولة على التعليم وتكريسه لخدمة أغراضها فيما يلي: وأد التفكير النقدي الذي يتعارض مع توجهات الأنظمة السائدة، وغرس قيم الخضوع والتبعية في الطلاب، وتربية النشْء على الإذعان للسلطات والتماهي معها. وقد عَبَّر رسل عن بالغ قلقه من هيمنة الدولة وتدخلها في رسم السياسات التعليمية، لأن هذا سوف يؤدي إلى انتشار التعصب والحروب. ويستشهد رسل على ذلك بما حدث في ألمانيا النازية التي استغلت المناهج التعليمية في ترقية النوازع القومية والحروب العنصرية، وهو ما ترتب عليه “انتشار القوميات المتعصبة، فلم يعد للبشر في بلد ما قواسم مشتركة مع الآخرين في البلدان الأخرى، وغابت فكرة الحضارة المشتركة التي تقف في وجه الحروب الضروس”([15]).

ليس الفلاسفة وحدهم من يساورهم التخوف من استغلال أنظمة التعليم القومية المتعصبة في ترقية الحروب والنزاعات، بل يشاركهم عديدٌ من الأدباء في هذا التخوف، إذ يحذر عديدٌ من الأدباء من مَغَبَّة سيطرة الدولة على التعليم وتدخلها في وضع مقررات تساعدها على تحقيق سياستها الداخلية والخارجية. وهذا ما نجده في رواية كل شيء هادئ في الميدان للأديب الألماني إريك ماريا ريماك الذي يُحمل مواد التاريخ والتربية الوطنية المسئولية عن الحروب والدمار وقتل الأبرياء، فالتعليم يكون على حساب الحق والسلام، وهذا ما يوضحه ماريا على لسان أحد أبطال روايته قائلًا: “إن الموضوع يبدو عجيبًا إذا فكر فيه الإنسان. فنحن هنا للدفاع عن وطننا، والفرنسيون والإنجليز هناك للدفاع عن أوطانهم، فأين الحق إذن في الجانبين؟ ولماذا تنشأ الحروب؟ ارجعوا إلى كتبكم المدرسية”([16]).

على أية حال، لم تتوقف المدارس عند تحقيق مصالح الدول القومية، بل استُغلت لتحقيق مصالح البرجوازية. فبحلول القرن التاسع عشر اضطلعت المدرسة بتحقيق هدف آخر وهو تعزيز التطور الصناعي، عن طريق تعليم المواطنين ليكونوا جيوشًا من العمال والموظفين المتخصصين لتلبية الاحتياجات المدنية والعسكرية، وأصبحت المدرسة هي بوابة العبور إلى المجتمع الصناعي الحديث. هذا الدور الذي لعبته المدرسة في التخديم على المجتمع الصناعي هو ما أبرزه إيليتش قائلًا: “منذ قرنين كانت المدرسة هي المؤسسة التي دمجت الإنسان في الدولة الصناعية (…) فكان التعليم المدرسي هو الوسيلة الضرورية لأن تصبح عضوًا مُفيدًا في المجتمع الصناعي”([17]). ويؤكد إيليتش على المعنى نفسه في موضع آخر عندما يقول: “يتكون الأطفال في المدارس لخدمة المجتمعات الصناعية”([18]).

يُشدد إيليتش في النصين السابقين على أن التعليم المدرسي قد أصبح منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن وسيلة لتحقيق مصالح الطبقات المسيطرة، وقد نجحت هذه الطبقات في استغلال المدارس لتحقيق مصالحها الاقتصادية، وفرض قيمها المتعلقة بزيادة الاستهلاك من طريق المناهج الدراسية. وكل هذا يرفضه إيليتش الذي يؤكد دائمًا أن التعليم ينبغي أن يكون غاية في ذاته، وليس وسيلة مرتبطة بتحقيق أية منافع أو فوائد بعيدة عن شخص المتعلم ذاته، وهو ما يعجز التعليم المدرسي بنظامه الحالي عن تحقيقه لأسباب أيديولوجية “فالمدرسة هي عملية مُخطط لها، تسعى في تشييد عالم مخطط له، ولتكوين إنسان يُؤدي أدوارا محددة في هذا العالم”([19]).

إقرأ أيضا: المناهج والتطرف مع وزير التعليم المصري الأسبق د.طارق شوقي

تُعد المدرسة وفقًا للنص السابق، مؤسسة للسيطرة والضبط الاجتماعي، فهي تعمل لتنشئة إنسان متكيف مع الأنظمة القائمة، يقوم بتأدية أدوارًا محددة ومرسومة سلفًا بواسطة المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتعليمية. لكن يرفض إيليتش هذا التصور، ويؤكد في المقابل ضرورة احترام المجتمع لحق المُتعلم في تعليم حر، إذ “يجب أن يضمن المتعلم حريته في التعليم الذي يريده، دون الالتزام أمام المجتمع بتعليم محدد، وعلى المجتمع احترام خصوصية كل إنسان في التعليم”([20]).

إذا كان إيليتش يرفض ربط التعليم بتحقيق غايات أخرى تتجاوز الاهتمامات الشخصية الخالصة، فإن ديوي يحتفي في المقابل بربط المدرسة بالمجتمع والاقتصاد، ويؤكد أن التطورات الاقتصادية الحادثة في القرن التاسع عشر قد اقترنت بظهور أنماط جديدة من المدارس، غرضها النهوض بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات، مثل “المدارس الفنية، كمدارس الهندسة وغيرها، ومدارس إعداد المعلمين. أما الأولى فكانت لتلبية احتياجات التطور التجاري والصناعي. والأخرى للتدريب المهني واكتساب الثقافة”([21]). هذه المدارس هي ما عدها ديوي خُطوة كبرى في سبيل التقدم والتطور الاقتصادي، لكنه أخذ عليها افتقارها إلى الورش والمعامل والمختبرات التي تربط التعليم النظري بالممارسات العملية.

نحن إذن أمام فيلسوفين على طرفي النقيض، يرى ديوي أن ربط التعليم بالمجتمع من طريق المدارس يُؤدي إلى التطور الاقتصادي والاجتماعي، في حين يرى إيليتش أن الربط بينهما يؤدي إلى التردي الاجتماعي، وقمع حرية المتعلم لصالح أطراف أخرى هي الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما سوف يؤدي إلى حدوث تفاوت هائل بين المتعلمين وغير المتعلمين.

3- التعليم المدرسي والتفاوت الطبقي

لا يقف نقد إيليتش للتعليم المدرسي بوصفه خطرًا يُهدد حرية المتعلم، بل يمضي إلى أبعد من ذلك عندما يرى في التعليم وسيلة لتكريس التفاوت الطبقي والتمايز الاجتماعي بين المتعلمين وغير المتعلمين، إذ يحظى المتعلمون بامتيازات اقتصادية وطبقية لا تتوافر لغير المتعلمين، فلقد أصبح التعليم المدرسي مَطلبًا ضروريًا لتبوء أي مكانة اجتماعية، كما أصبح معيارًا حاسمًا للحصول على فرصة عمل، إذ “يعتمد الالتحاق بوظيفة ما على مدة الحضور في المدرسة، فالأدوار الاجتماعية تُخصص بناءً على المناهج والمقررات التي يجب أن يجتازها المرشح للوظيفة”([22]).

إن الالتحاق بأي وظيفة يكون مشروطًا بالمدة الزمنية التي يقضيها المتعلم في المدرسة، ومقرونًا بالمقررات والمناهج التي يتلقاها، وكلما زادت عدد الساعات والمناهج زادت فرص المتعلم في اللحاق بسوق العمل. وهذا هو المعيار للأفضلية بين البشر “فاثنتا عشرة سنة من التعليم المدرسي في مدينة نيويورك تُعد شرطا ضروريًا للعمل في الصرف الصحي”([23]).

لقد أصبح التمايز بين المتعلمين وغير المتعلمين في المجتمعات المعاصرة قاعدة راسخة تُبررها وتفعلها التشريعات القانونية، التي بدلًا من أن تُشرع للمساواة بين البشر أصبحت تسن قوانينًا للمُحاباة والتمايز بين المتعلمين وغير المتعلمين. ويروي إيليتش إحدى الوقائع التي تؤكد محاباة التشريعات والقوانين للمتعلمين، فيقول: “في الثامن من مارس عام 1971 أصدر رئيس المحكمة قرارًا ضد شركة دك Duck، يقضي بتعيين الحاصلين على المؤهلات الدراسية الأعلى، ويؤكد أن الدرجة المدرسية هي التي تقيس قدرة الإنسان على أداء الوظيفة، فالشهادة هي المعيار الحاسم للأداء الوظيفي”([24]). أن ما يُنوه إليه إيليتش في هذا النص هو أن حصر الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية في المتعلمين وحدهم دون سواهم، هو ما يُؤسس لمجتمع طبقي تختفي فيه كل ملامح المساواة والعدالة بين المتعلمين وغير المتعلمين، والسبيل الوحيد لدى إيليتش للتخلص من هذا المجتمع الطبقي هو القضاء على المدارس.

إن تصورات إيليتش عن اقتران التعليم المدرسي بتأسيس مجتمعات طبقية، يجعل ثمة التقاء بينه وبين عديدٍ من المقاربات الماركسية عن التعليم، صحيح أن الفلاسفة الماركسيين لم يؤكدوا أهمية التعليم في عملية التغير الاجتماعي، ولم يعزوا إليه دورًا كبيرًا بقدر ما عزوا إلى الصراع الطبقي والفعل الثوري، إلا أن تحليلاتهم للمجتمع تُلقي بالضوء على الأبعاد الاجتماعية والسياسية للتعليم، ودوره في إعادة إنتاج المجتمعات الرأسمالية، إذ تعمل المؤسسات التعليمية في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة على السيطرة والاستغلال، وهذا ما يؤكده ألتوسير قائلًا: “تميل الطبقات المُسيطرة التي تعمل لتحقيق مصالحها الخاصة إلى تغيير المناهج الدراسية لجعلها أكثر انسجامًا مع متطلبات رأس المال (…) ولهذا  تتطلب أجهزة الدولة الأيديولوجية الحضور الإجباري للطلاب في المدارس، كي تغرس في عقولهم أيديولوجيا الطبقات الحاكمة والمسيطرة”([25]). نلاحظ في هذا النص وجود تشابه كبير إيليتش وألتوسير في رؤيتهما بأن التعليم يُمثل قوة أيديولوجية ناعمةً تعمل لصالح طبقات بعينها، وترسخ لقيم هذه الطبقات ومبادئها.

لكن ثمة اختلاف جوهري بين إيليتش والماركسيين فيما يتعلق بالطرح الذي يقدمه كلٌّ منهما لمواجهة المخاطر الناتجة عن التعليم المدرسي، إذ لا يطالب الماركسيون بتخليص المجتمع من التعليم المدرسي كما هو الحال لدى إيليتش، بل يطالبون بوجود مؤسسات تعليمية بديلة في ظل المجتمعات المعاصرة، لا تقوم في بنيتها على أساس التفاوت والقمع والسيطرة كما هو حال المؤسسات التعليمية البرجوازية، بل تعمل لتطوير وعي الطلاب بالأنماط الاشتراكية للتنظيمات والعلاقات الاجتماعية العادلة، وهذا ما يؤكده مايك كول Mike Cole  في كتابه الماركسية ونظرية التعليم عندما يقول: “سيكون الاهتمام الأعظم للتعليم هو تطوير الوعي الاشتراكي”([26]).

لكن لا يرى إيليتش فروقًا جوهرية في طبيعة التعليم المدرسي بين النظامين: البرجوازي والاشتراكي، فبنية المدرسة ومناهجها موسومة بالاستبداد والتفاوت مهما اختلفت الأنظمة، فهي من إنتاج الأنظمة السائدة وتعمل لتحقيق مصالحها، لذا “لا يهم إن كان المنهج مُصممًا لتعليم مبادئ الليبرالية أو الاشتراكية أو الفاشية. ولا يهم إن كان هدف المدرسة هو تخريج مواطنين سوفييت أو أمريكان ما دامت الأنظمة لا تُضفي قيمة على المواطن إن لم يكن حاصلًا على شهادة”([27]). إن ما يُشدد عليه إيليتش في هذا النص هو استحالة أن يُحقق التعليم المدرسي العدالة والمساواة بين المواطنين، فالمدرسة هي الوعاء الذي يتكون داخله الامتياز والتفاوت بين البشر، فهي جزء لا يتجزأ من أي نظام وتعمل لصالحه، ولهذا ينتهي إيليتش إلى رأى حاسم لا ريب فيه وهو أن النظام المدرسي يُعد خُطوة على طريق الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وهذا ما يُعلنه بوضوحٍ قائلًا: “إن المحافظة على نظام المدرسة يُمثل خُطوة جادة على طريق الفاشية المُوحى بها بواسطة نظام يُعقلن التمييز الهائل الناتج عن التعليم المدرسي”([28]).

بينما يُحمِّل إيليتش المدرسة المسئولية عن التفاوت الطبقي، نجد أن هاري بريجهاوس Harry Brighouse لا يُرجع هذا التفاوت إلى بنية المدارس ومناهجها، بل يُخلي مسئولية المدارس عن غياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين المتعلمين وغير المتعلمين، ويُرجع هذا التفاوت إلى عجز الدولة والأنظمة القائمة وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات مواطنيها، فإلقاء اللوم على المؤسسات التعليمية أو المناهج الدراسية يُخفي الأسباب الحقيقية المسئولة عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية البائسة التي تؤدي إلى تفشي الظلم والجهل والجريمة. وهو ما يحذر منه بريجهاوس قائلًا: “إن العقاب على اقتراف الجرائم يتضمن إنكارًا للحقوق غير المغتربة التي أخفقت الدولة في أن تقدمها لتعليم مواطنيها، لتجعلهم يصلون إلى مستوى يتجنبون معه البطالة والانحطاط الاجتماعي”([29]).

ليس بريجهاوس وحده من يُبرئ ساحة المدارس من المسئولية عن غياب العدالة والمساواة بين البشر، بل يتفق معه عالم الاقتصاد الأمريكي صامويل باولز Samuel Bowles الذي يرفض تصورات إيليتش لأنها تغض الطَرْف عن السياق الاقتصادي الذي تنشأ فيه المدارس. ويؤكد باولز أنه لا سبيل إلى تغيير التعليم إلا بالقضاء على الاقتصاد الرأسمالي القائم في جوهره على الاستغلال والتفاوت، فمحاولات تقديم نموذج تعليمي جديد قبل الإطاحة بالرأسمالية لا طائل من ورائها، لأنها تحاول معالجة العرض دون المساس بأصل المرض المُتمثل في شرور الرأسمالية، وهذا ما يبرزه باولز قائلًا: “أخفقت حركة الإصلاح التعليمي بسبب رفض مساءلة السلطة والملكية في الاقتصاد الرأسمالي (…) فالمفتاح للإصلاح التعليمي الحقيقي هو التحول الديموقراطي للعلاقات الاقتصادية”([30]).

بالتأكيد لن ترقَ تصورات بريجهاوس وباولز لـ إيليتش المؤمن دائما بوجود صلة وثيقة بين التعليم المدرسي والانحطاط الاجتماعي. فإصلاح الأوضاع يبدأ لديه بإلغاء المدارس، فهي الخُطوة الأولى للتخلص من الشرور الاقتصادية والاجتماعية السائدة وليس العكس، ولهذا يُطالب إيليتش بسن قوانين تعمل للقضاء على المدارس، وما يترتب على وجودها من آثار بالغة السوء، كالتفاوت الطبقي وغياب العدالة والمساواة. وفي هذا الصدد يقول إيليتش: “يجب سن القوانين التي تمنع التفاوت على أساس التعليم (…) فحماية المواطن من أن يكون غير مؤهل لشغل وظيفة ما بسبب المدرسة، يجعل من إلغاء المدارس اتجاهًا ضروريًا”([31]).

على أية حال، لا تتوقف خطورة التعليم المدرسي عند تكريس التفاوت الطبقي وإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، بل يُضيف إيليتش بُعدًا سلبيًا جديدًا للتعليم، ويتمثل هذا البُعد في أن المدارس تُربي النشْء منذ صغرهم على الامتثال والخضوع للسلطة.

4- التعليم المدرسي والسلطة

يرى إيليتش أن التعليم المدرسي يقوم في جوهره على ترقية مبدأ السلطة الأعلى للمعلمين، التي يجب أن يذعن لها الآخرون، فالعلاقة بين المدرسين والطلاب، من وجهة نظر إيليتش ليست علاقة بين ذوات متفاعلة ومتشاركة في صنع العملية التعليمية، بل هي علاقة الوصي والمرشد والمتخصص بالقاصر الذي لا إرادة له، ولا قدرة له على الاختيار أو التمييز بين الصواب والخطأ. هذه العلاقة التي يُمارس من طريقها المدرسون السلطة على الطلاب تُعطي لهم الحق في اقتحام أخص خصوصياتهم وانتهاكها تحت اسم الوصاية والإرشاد. وهذا ما يُميط عنه إيليتش اللثام قائلًا: “المدرسون هم الوحيدون المخول لهم التنقيب في الشئون الخاصة لطلابهم، كما لو كانوا يتعاملون مع جمهور من الأسْرَى”([32]).

ولا يتوقف إيليتش عند الكشف عن سلطة المدرسين، بل يمضي إلى أبعد من ذلك عندما يقوم بحصر أشكال السلطات المتعددة التي يمارسها المدرسون على الطلاب، إذ تتنوع سلطتهم ما بين سلطة أخلاقية تُحدد لهم معايير الخير والشر والصواب والخطأ والحق والباطل. وفي هذه الحالة يفرض المدرسون رؤيتهم وتصوراتهم الخاصة للقيم الأخلاقية على الطلاب. وهناك أيضًا السلطة النفسية التي يُمارسها المدرسون على الطلاب وأولياء الأمور عندما يُحددون بالنيابة عنهم أنسب الطرق التي تؤدي إلى تطوير الحياة الشخصية للطلاب، وأفضل المناهج التي يرونها ملائمةً للارتقاء بهم عقليًا ونفسيًا “فأمام سلطة المدرسين يُصبح التلاميذ بلا حماية”([33]).

إن استغلال المدرسين لسلطاتهم يجعل من وجود المدرسة عقبة في طريق الممارسات الليبرالية أمام الطلاب، ويحول دون تحقيق المبادئ الراسخة لحماية الحقوق والحريات الفردية، لذا فالمدرسة والليبرالية من وجهة نظر إيليتش على طرفي النقيض. وهذا ما يؤكده قائلًا: “المطلب بأن المجتمعات الليبرالية يُمكن تأسيسها على أعتاق المدارس الحديثة هو مطلب ينطوي على مفارقة، فكل الوسائل لحماية الحريات قد أُلغيت في تعامل المدرسين مع الطلاب (…) فسلطات المدرسين تسهم في تشويه الطلاب أكثر من القوانين التي تَحد من حريتهم في الاجتماع والمسكن”([34]). إن ما يحذر منه إيليتش في هذا النص هو أن طغيان سلطة المدرسين على الطلاب تمنع استقلالهم الذاتي، وتغرس فيهم قيم التبعية والخضوع الدائم للسلطات. فتربية النشء على الخضوع لسلطات المدرسين هي الركيزة الأولى لإعداد مواطن يخضع للسلطات السياسية والاجتماعية فيما بعد.

ليس إيليتش وحده من يُنبهنا إلى خطورة سلطة المدرسين على المجتمعات الليبرالية، بل يتفق معه أيضًا بول هـ. هيرست Paul H. Hirst الذي ينطلق في تعريفه للتعليم الليبرالي من أنه “التعليم الذي لا يخضع لبلوغ أي غاية أخرى سوى الاستقلال العقلي والشخصي للطلاب”([35]). وهو ما لا يتحقق في ظل أنظمة التعليم الراهنة بسبب سيادة النزعات السلطوية لدى المدرسين.

لكن إذا كان إيليتش يُقرن بين التعليم المدرسي وغياب الليبرالية، فهناك تيار مناهض لأفكار إيليتش تُمثله أطروحات برتراند رسل شيخ الليبراليين المعاصرين، الذي لا يُقيم تعارضًا بين التعليم المدرسي ومبادئ الليبرالية. صحيح أنه يُحذرنا كثيرًا من المخاطر المتأصلة في عملية التعليم مثل: تربية النشء على الخوف، والخضوع لسلطة المدرسين الذين أصبحوا بدورهم موظفين في الدولة، يُنفذون أوامرها التي تُمليها عليهم، إلا أنه يُشدد على ضرورة منح قدر من السلطة للمدرسين، لكن السُلطة التي يقصدها رسل ليست قائمة في جوهرها على الاستبداد وقمع حريات الطلاب كتلك التي يتحدث عنها إيليتش، بل أنها تشبه السلطة الأبوية في حبها واعتنائها بموضوعها، وبفضل ممارسة هذه السلطة الرشيدة يعزو رسل إلى المدرسين دورًا جوهريًا في الارتقاء والنهوض بالحضارة، يقول رسل: “المدرسون هم حراس الحضارة أكثر من غيرهم (…) ولا يمكن لإنسان أن يكون مُدرسًا جيدًا إن لم يمتلك مشاعر حب جياشة تجاه تلاميذه، وإن لم يمنحهم القيم التي يؤمن بها”([36]). وهكذا نخلص إلى أنه إذا كان للمدرسين دورًا هدامًا لدى إيليتش كونهم مصدرًا للتشويه العقلي والنفسي للطلاب، فدورهم الإيجابي والبنَّاء لا يُمكن إنكاره لدى رسل، الذي لا يرى غضاضة في الجمع بين سلطتهم المحدودة وآليات عمل المجتمعات الليبرالية.

ولا يُعد رسل وحيدًا في المُطالبة بضرورة منح المدرسين قدرًا من السلطة، وإنما يتفق معه أيضا فيلسوف التربية الإنجليزي ريتشارد ستانلي بيترز R.S Peters الذي يرى أن قدرًا من السلطة ضروري بوصفه مصدرًا للتوجيه والإرشاد لا للسيطرة والتحكم. ويمضي بيترز إلى أبعد من ذلك حينما يطالب بتأجيل إعطاء الحرية للصغار حتى تنضج عقولهم في أثناء عملية التعلم وتحصيل المعرفة، إذ “يجب إرجاء الحرية في حالة الأطفال لتصبح فيما بعد حرية أعظم (…) فالسلطة ضرورية، وليست معارضة لمصلحة الطلاب الذين يوشكون على الدخول في أشكال الحياة المتنوعة”([37]). إن ما يُشدد عليه بيترز في هذا النص هو أن تأجيل منح الحرية للأطفال ينبع من قصورهم وافتقادهم إلى القدرة على التمييز بين الأشياء، فهم في حاجة إلى وصي أو مرشد كي يأخذ بأيدهم إلى الطريق الصحيح.

أما دوركايم فلا يذهب إلى أن السلطة جزءًا من عملية التعليم، بل يميل إلى الاعتقاد بأن السلطة هي العنصر الجوهري الذي لا غنى عنه، فمن دونها لا يُمكن أن تسهم عمليات التعليم بقدر فعال في التنشئة الاجتماعية، ولهذا يُطالب دوركايم بضرورة منح المدرسين سلطة أخلاقية على الطلاب، كي يغرسوا فيهم قيم الطاعة والانضباط والصرامة، فهذه القيم هي التي تخلق فيما بعد مواطنين يتمتعون بالحرية والإرادة المستقلة، فالحرية واستقلال الإرادة لدى دوركايم نتاج للانضباط. ورغم تأكيده أهمية السلطة، فلا يقصد دوركايم أن تكون سلطة المدرسين على الطلاب سُلطة قهرية واستبدادية، بل لا بُد أن يقلل من حدتها الحنان، حتى لا تتحول إلى نوع من القسوة والجفاء، وهذا ما يُطالب به قائلًا: “إن السلطة هي الصفة الأساسية للمعلم، وليس ذلك لأنها تحقق النظام الخارجي، بل لأن عليها تتوقف الحياة الأخلاقية في الفصل (…) وهل بنا من حاجة لأن نؤكد أننا حين نتكلم عن سلطة المعلم وعن دور هذه السلطة، فلسنا نعني بأي حال أنه يجب أن يقود الفَصْلُ كما تُقاد الكتيبة العسكرية؟”([38]). فلا مجال إذن لدى دوركايم للتعارض بين سلطة المدرسين وحرية المجتمعات، فالانضباط هو السبيل إلى بلوغ الحرية المسئولة.

ومن جهتنا نميل إلى الاعتقاد بأنه لا تعارض بين السلطة ومبادئ الليبرالية، فسلطة الحد الأدنى وفق تعبير أئمة الليبرالية مثل: لوك ومل ورسل وبوبر… مطلوبة لحماية الحريات الفردية والاستقلال الشخصي، وتسيير شئون الأفراد والمجتمعات، فغياب السلطة هو سمة من سمات المجتمعات الفوضوية وليست الليبرالية. أما فيما يتعلق بعلاقة المدرسين بالطلاب ووسم هذه العلاقة بالسلطة الاستبدادية كما هو الحال لدى إيليتش، فهو في تصورنا توصيف يجانب الصواب، فالعلاقة بين المدرسين والطلاب ليست قائمة في جوهرها على ممارسة السلطة المطلقة، بل إنها مُقترنة بحقبة زمنية محددة، يلتقي بعدها الطلاب بالمجتمع وبالمجال العام ليكتسبوا معارفًا وحقائقَ جديدة، ويمارسون أشكالًا جديدة من السلوك، فهذه العلاقة ليست مبنية على السلطة بقدر ما تقوم على العناية بالذوات الصغرى والمسئولية عنها، هذه الذوات التي تحمل كل إمكانات الوجود الفاعل بالقوة، وتحتاج إلى كل مقومات الرعاية حتى تتحول إلى ذوات مستقلة وفاعلة، ولن يتسنى لها هذا إذا تُركت لشأنها من دون رعاية وتوجيه وإرشاد.

ومن جانب آخر فإننا نعتقد أنه في كل الأنظمة سواء أكانت ليبرالية أم شمولية ما كان لعملية تلقين أفكار بعينها وغرسها أن تتم بواسطة الممارسات السلطوية والتعسفية، لأن هذه الممارسات تُولد في نفوس الطلاب قدرًا من الكراهية والتمرد، فمحاولة إدماج الطلاب في النظام وتشربهم بأيديولوجيته لن تحدث إلا عن طريق الإقناع، وليس بواسطة فرض الرأي بالقوة أو بممارسة السلطة، وقد عبر رسل بعبارة شديدة الإيجاز، لكنها بالغة الدلالة عن أن استخدام القوة والعنف مع الأطفال لن يؤدِ إلى النتائج المرغوبة، بل يأتي دائمًا بنتائج عكسية “فالأطفال المجبرون على الطعام يكرهون الطعام، والأطفال المجبرون على التعليم يكرهون المعرفة”([39]).

5- احتكار المعرفة

يُضيف إيليتش إلى العيوب السابقة التي يعزوها إلى التعليم المدرسي عيبًا جديدًا وهو احتكار المدارس للمعرفة، إذ يروج المدرسون والقائمون على السياسات التعليمية أن المدارس هي المؤسسات الوحيدة القادرة على إنتاج معارف ذات قيمة، فالتعليم الحقيقي والفعال هو نتاج للحضور المدرسي، وأن كل المحاولات لتحصيل المعرفة خارج إطار المؤسسات التعليمية لا جدوى من ورائها، بل يجب مقاومتها والتصدي لها، لأنها نتاج للهواة وغير المتخصصين. هذا التوجه السائد في أنظمة التعليم المعاصرة هو ما يُبرزه إيليتش قائلا: “يحدد المدرسون للمجتمع ما الذي يجب تعلمه، ويصنفون كل ما يُتعلم خارج المدرسة بأنه بلا قيمة”([40]).

لقد أصبحت المدارس من وجهة نظر إيليتش، أشبه بالمشاريع الرأسمالية الاحتكارية التي تستغل المستهلكين (المُتعلمين)، وأصبحت المعرفة أشبه بالسلعة التي تُباع وتُشترى، ولا تسمح هذه المؤسسات التعليمية الاحتكارية بأي شكل من أشكال المنافسة، بل تسعى في القضاء على من يسعون في تحصيل المعرفة بطرق أخرى غير المدارس، فهي تُقيد من فرصهم ما داموا غير حاصلين على شهادات مدرسية مُعتمدة تقيس مقدار ما تعلموه في المدارس، فيُهمشوا اجتماعيًا ويُقصوا اقتصاديًا. هذا النزوع للتقليل من قيمة التعليم غير المدرسي هو ما يكشف إيليتش النقاب عنه قائلًا: “يوسم التعليم القائم بالاعتماد على الذات بالسطحية وعدم المصداقية”([41]).

لاقت عملية تحول المعرفة إلى سلعة قابلة للاحتكار كثيرًا من الانتقادات التي تنطلق من فكرة أن السلعة هي أحد أشكال الملكية الخاصة التي تُعطي إلى صاحبها الحق في استثناء الآخرين من استخدامها دون مقابل، وإذا انتقلنا بمفهوم السلعة إلى مجال التعليم، سوف يؤدي ذاك إلى الحد من انتشار المعرفة واحتكارها لتحقيق الحد الأقصى من الفوائد. لذا يرفض جون أونيل John O’ Neill الهبوط بالمعرفة إلى مستوى السلعة، فالمعرفة ليست أحد أشكال الملكية الخاصة، بل إنها ملكية عامة وميراث مشترك للبشرية، ولهذا لا يمكن أن تنسحب قوانين الملكية الخاصة بأي حال على المعرفة “فنظرية النسبية لأينشتين ليست ملكًا لفرد خاص، بل ملكية مشتركة”([42]).

لكن إذا كان أونيل ينطلق من الأبعاد الاقتصادية في رفضه لاحتكار المعرفة، فإن إيليتش يُشدد على أبعاد أخرى وهي خطورة هذا الاحتكار على خيال الإنسان وعقله. فهو عقبة كؤود أمام مُبادرات الإنسان الحرة في تحصيل المعرفة، ويشل قدراته العقلية والإبداعية، ويجعله تابعًا يعتمد على المؤسسات التي تستغله في كل شيء. وينتهي إيليتش إلى رأي حاسم يصف به ممارسات هذه المؤسسات التعليمية الاحتكارية بأنها “أقرب إلى سلوك العصابات والمافيا”([43]).

إن مكمن الخطورة في الأنظمة التعليمية الراهنة هو أنها تتعامل مع المعرفة والتعليم على أنهما سلعتان مطروحتان للاستهلاك، لا يجب أن يَفلتا من قبضة السوق في المجتمعات الرأسمالية والاستهلاكية، ويوضح إيليتش الآلية التي تُنتجُ بواسطتها هذه السلعة المُسماة بالتعليم وكيفية توزيعها، فيقول: “يبدأ إنتاج المناهج بالبحث العلمي الذي يتبناه المهندسون التربويون، انطلاقًا من تنبؤهم بمطالب المستقبل، وفي حدود الميزانية المقررة، ثم تبيع المدارس المناهج التي هي حزمة من المعلومات، إذ يُسلم المدرس -الموزع- المُنتج النهائي إلى الطالب المُستهلك”([44]). هكذا تتحول عملية إنتاج المعرفة والمناهج الدراسية إلى صناعة هدفها الأول والأخير هو الربح، وإنتاج ما يحتاجه السوق من متطلبات، بغض النظر عن قيمة هذه المعرفة.

وكلما زاد استهلاك الطالب للسلع التي تنتجها المؤسسات التعليمية، ارتفعت أسهمه في سوق العمل، فحصوله على شهادة مُعتمدة تُفيد امتلاكه لهذه السلع المعرفية هو الضامن لحياة أفضل ولمستوى معيشة أرقى “فبقدر ما يستهلك الفرد من تعليم، بقدر ما يَحْصُل على مخزون أكبر من المعرفة التي تجعله يرتقي في سلم الهيراركية الرأسمالية والسمو الاجتماعي”([45]).

إن اقتران الحصول على السلع المعرفية بالرقي الاجتماعي والازدهار الاقتصادي يجعل من وجود المؤسسات التعليمية مطلبا جماهيريًا، وسوقًا كبيرًا لاستقبال الزبائن الطموحين إلى مزيدٍ من التقدم. ولا تترك هذه المؤسسات عملية جذب الزبائن للصدفة أو لرغبات الأفراد، بل تفرض عليهم اللحاق بهذا السوق عندما ترسخ في عقولهم أن الحصول على المعرفة هو مفتاح الخلاص الدنيوي لديهم، إذ “تدفع المدارس الطلاب إلى استهلاك المناهج والمعارف الأكثر، والتقدم إلى المستويات الأعلى، إنها تعلمهم مطابقة رغباتهم مع قيم السوق والرفاهية”([46]).

وينتهي إيليتش من تحليله الاقتصادي لظاهرة المدرسة إلى أنها لا تختلف في بنيتها عن المشاريع والاستثمارات الرأسمالية الكبرى التي تهدف إلى تحقيق الحد الأقصى من الأرباح “فالمدرسة هي المثال الأفضل على وجود نوع جديد من المشاريع خلفا للمصانع والشركات”([47]). تختلف السلع التي تُنتجها المؤسسات التعليمية عن السلع الأخرى في أنها سلع غير مادية وغير مرئية، لكنها تُضفي على هذه السلع قيمة مهمة عندما تربطها بالحياة الأفضل ومستوى المعيشة الأعلى.

لقد استطاعت المؤسسات التعليمية أن تخلق لدى البشر دافعًا ذاتيًا للإقبال على التعليم، فلم يعد التعليم مفروضًا على البشر بواسطة القوانين الإلزامية، بل أصبح هدفًا يسعى الجميع في بلوغه لتحقيق سعادتهم ورفاهيتهم. فالبشر يتسارعون للحاق بالمدارس، بسبب ارتفاع مستويات الاستهلاك والرفاهية لمن يحظون بامتلاك الشهادات الدراسية الأعلى، للدرجة التي أصبحوا يُمثلون معها نموذجًا يسعى الكل في محاكاته داخل المجتمعات المعاصرة، إذ “يُحدد الاستهلاك الذي يستهلكه خريجو الجامعات في كل بلد معيار استهلاك الآخرين، فالكل يطمح في معدل استهلاك خريجي الجامعات نفسه”([48]). ومن ثمَّ تلعب الجامعة دورًا كبيرًا في فرض معايير الاستهلاك، وهو ما يُعد تعضيدًا لاستمرارية الرأسمالية، فكلما ازدادت الفجوة بين خريجي الجامعات وغير المتعلمين في معدلات الاستهلاك، اندفع غير المتعلمين إلى التعليم للحاق بالمستوى الاستهلاكي نفسه.

لكن يرفض إيليتش هذه النظرة ويؤكد في مقابل أيديولوجيا المؤسسات الاحتكارية أن معظم المعارف تُحصل وتُكتسب خارج المدرسة ومن دون مساعدة المدرسين “لقد تعلمنا معظم معارفنا خارج المدرسة، وينجز الطلاب القدر الأكبر من تعلمهم دون مدرسيهم وخارج العملية التعليمية المخطط لها (..) إذ يتعلم الإنسان كيف يفكر ويعيش ويحب ويشعر، دون المدارس”([49]). إن ما يشدد عليه إيليتش في هذا النص هو أنه ليس للمدرسة ولا للمدرسين فضلًا كبيرًا في اكتساب الطلاب لمعارف أو مهارات جديدة، فخبراتهم ومعارفهم تنتج من تفاعلهم مع الأسرة، ومع الرفاق، وفي المجتمع الذي يعيشون فيه، فهؤلاء هم المصدر الأساسي الذي يستمد منه الطلاب معارفهم وقيمهم. كذلك نلاحظ في النص السابق أن إيليتش يُعطي الحياة والحب والمشاعر الأولوية على تعلم العلوم الطبيعية والرياضية، التي لا يرد ذكرها لديه كثيرًا، ولا يعني هذا أنه يُغفل دورهما في الرقي والتقدم، لكنهما يحتلان لديه مكانة ثانوية إذا ما قُورنا بترقية مشاعر الحب والحياة.

ولا يتوقف إيليتش عند دحض أيديولوجيا احتكار المعرفة، بل يمضي إلى أبعد من ذلك عندما ينظر إلى المعارف التي تقدمها المدارس والمدرسين بوصفها تفتقر إلى الدقة والكفاءة التي يحظى بها غير المتخصصين في كثيرٍ من الفروع المعرفية “فمعظم مدرسي الفنون والحرف أقل مهارة وإبداعًا من الحرفي الأصلي، كما أن معظم مدرسي اللغات الإسبانية والفرنسية لا يتحدثون اللغة بطلاقة ودقة كما يتحدثها طلابهم بعد نصف عام من التدريب الكفء”([50]).

افتقاد كثيرٍ من المدرسين إلى الكفاءة والمعرفة الموسوعية هو ما جعل الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير Jacques Ranciere يدعو في كتابه المدرس الجاهل إلى ضرورة الاعتراف بالجهل المشترك بين الطلاب والمدرسين لتقويض فكرة احتكار المدرسين للمعرفة الدقيقة. فهو يرى أن هذا الاحتكار ينتج عنه علاقة غير متساوية بين المدرسين والطلاب، هذه العلاقة رغم أنها تشوه عملية التعليم برمتها إلا أنه احتُفي بها بدلًا من تفكيكها، وهذا ما يوضحه رانسيير بالمثال التالي قائلا: “عندما يسأل الطالب مدرسه عن شيء ما، لا يعرفه سيجيبه المدرس أن هذا السؤال سابق لأوانه، أو أنك لم تفهم الدرس جيدًا، أو أنك سوف تأخذه في مقررات السنة الدراسية القادمة”([51]). يشير رانسيير في هذا النص إلى غطرسة المعلمين واعتقادهم بأنهم وحدهم الذين يحتكرون المعرفة التي لا يمكن لأحد غيرهم أن يمتلكها، لكن ما يُريده رانسيير هو أن تقوم عملية التعليم على المعرفة المتبادلة والبحث المشترك بين المدرس والطالب، لا أن تقوم على الاستعلاء والتباهي المزعوم بامتلاك ما لا يعرفه الآخرون واحتكاره.

على أية حال إن تصدي إيليتش لاحتكار المعرفة ليس تأملًا فلسفيًا، وإنما حركة ثورية تتطلب حشد الجهود للتحرك في مستويين: الأول، هو السعي في إنارة وعي الأفراد بزيف هذه الأيديولوجيا، وحثهم على التعلم الذاتي والحر، ثم اتساع دائرة الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي تمهيدًا للمطالبة بالتخلص من ظاهرة المدارس، وما تنتجه من آثار ضارة في المستويين: الفردي والاجتماعي، تلك الخُطوة الأولى هي ما يطالب بها إيليتش قائلا: “كل منا مسئول شخصيا عن تحرره من المدرسة، ولا أحد يُعذر إذا أخفق في ذاك”([52]).

أما الخُطوة الأخرى، فتتمثل في اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية لدعم المبادرات الفردية للتعليم الحر بواسطة الإجراءات القانونية والتشريعية، إذ يصبح القانون هو الضامن لحرية التعليم، وتصبح قوانين منع الاحتكار قوانينًا مُلزمة للجميع ولا يجب انتهاكها، وأن تتكون أحزاب سياسية تتبنى مطالب التعليم الحر وإلغاء المدارس، وهذا المطلب هو ما يُعلنه إيليتش قائلًا: “ينبغي تعديل الدستور ليمنعَ احتكار التعليم المدرسي”([53]).

على أية حال إن الدور الذي تعزوه المؤسسات التعليمية إلى نفسها في الارتقاء بالبشر اقتصاديًا واجتماعيًا وفي تحقيق خلاصهم الدنيوي، جعل إيليتش يرى أن ثمة تشابهًا بين دور المدرسة والمدرسين في عصرنا الراهن ودور الكنيسة ورجالها في العصور الوسطى، فمثلما كان الانتماء إلى الكنيسة هو الضامن للخلاص الأبدي، كذلك فإن الانتماء إلى المدرسة هو الضامن للتخلص من الفقر والجهل، وهو السبيل إلى الانتماء إلى جماعة المتعلمين الذين يحظون بكل الامتيازات، فإذا كانت الكنيسة هي بوابة العبور إلى مملكة السماء، فإن المدرسة هي بوابة الالتحاق بالمملكة الأرضية، وهذا ما يُبرزه إيليتش قائلًا: “حلت المدرسة محل الكنيسة (…) وأصبحت أكثر صرامة مما كانت عليه شعائر الكنيسة في الأيام الأسوأ لمحاكم التفتيش”([54]).

ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: إذا كانت المدارس لدى إيليتش تُمثل امتدادًا للاستبداد الديني الذي كان سائدًا في العصور الوسطى، بل وبذرة للتفاوت الطبقي وتكريسًا للسيطرة والاستغلال، فلماذا لا يثور عليها البشر ويتحرروا منها كما تحرروا من السلطات الدينية والسياسية في العصور السابقة؟ ولماذا لم يحطموها كما حطموا سجن الباستيل رمز الاستبداد والقهر؟

يرى إيليتش أن هناك سببين يعوقان عملية القضاء على المدارس والتحرر منها، يرجع السبب الأول، إلى أنه قد ترسخ في الوعي الجمعي أن التعليم هو السبيل إلى الرقي الحضاري والثقافي وإلى سمو الأفراد والمجتمعات، وأنه لا غنى عن المدارس في أي مجتمع مُتمدن ومتحضر، فلم تكن المدارس أبدًا رمزًا للقهر مثل السجون والمعتقلات، ولهذا السبب نجد أن كل الانتقادات التي تُوجهُ إلى السياسات التعليمية بعامة وإلى المدارس والجامعات بخاصة، يكون غرضها هو تحسين أداء هذه السياسات وتطويرها، ومحاولة تلافي العيوب النفسية والاجتماعية الناجمة عنها، ولهذا تختفي تمامًا الأصوات المُطالبة بالثورة على المدارس والدعوة إلى إلغائها، ولا تُمثل في المستوى التشريعي أو السياسي، فالمطالبة بإلغاء المدارس مرادفة للعودة إلى المجتمعات البربرية، وفي نظر إيليتش يحدث نوعًا من الإحراج الاجتماعي لمن يرفع مثل هذا الشعار، وهذا ما يُؤكده قائلًا: “إن الإنسان الذي يُشكك في الحاجة إلى المدارس يُهجمُ عليه ويُتهم بالقسوة البربرية”([55]).

أما السبب الآخر، الذي يعوق عملية التحرر فيعود إلى إرادة الأنظمة التعليمية وقدرتها على تزييف الوعي الفردي وتضليليه والتلاعب به من طريق ما يُسميه إيليتش “المناهج الخفية”، إذ تعمل هذه المناهج بطريقة ضمنية لتحقيق أهداف الأنظمة القائمة، إذ تُرسخ في عقول المتعلمين أنهم أحرار، وأن الأنظمة تعمل لصيانة حرياتهم والدفاع عنها، فتُحدث بذلك تماهيًا بين مصلحة الأفراد ومصلحة الأنظمة.

6- المنهج الخفي

عند مقاربة المنهج الخفي لدى إيليتش سنجده لا يُقدم تعريفًا واضحًا، بل يتوقف عند الكشف عن آليات عمله، من طريق عرض دوره الوظيفي في المنظومة التعليمية، وهو ما يُمكنه من أن يضع يديه على دوره في تزييف الوعي، ودوره في تكريس هيمنة النظام القائم، لكن قبل ذلك لا بُد أن نوضح أن المنهج الخفي هو النقيض التام للمنهج الواضح أو العلني، هذا المنهج الذي يُعرفه كريستوفر وينش Christopher Winch بأنه “الخُطة أو الإستراتيجية الموضوعة لإنجاز الأهداف التعليمية التي تتنوع ما بين عمليات صياغة المعرفة وتطور الاستقلال الشخصي وتطور المهارات والاتجاهات بطريقة عمدية وواضحة”([56]). يُشير وينش في هذا النص إلى أن المنهج العلني هو تصورات واعية، تتسم بوضوح الهدف والرؤية اللذين تضعهما المؤسسات، ويجب أن يلتزم بتنفيذهما القائمون على العملية التعليمية لبلوغ الأهداف المرجوة.

أما المنهج الخفي فلا يُخطط له علانية، ولا يُوضع بطريقة واعية وصريحة أمام القائمين على تنفيذ السياسات التعليمية سواء أكانوا مدرسين أم مديرين. إنه بالأحرى نتاجٌ لتوجهات وأيديولوجيات غير معلنة يُريد أن يغرسها النظام في عقول الطلاب بواسطة التعليم. ويعمل هذا المنهج بطريقة مستقلة عن وعي الأفراد وإرادتهم، فهو الذي يُخضعهم لأهدافه وليس العكس، وهذا ما يُوضحه إيليتش قائلًا: “يؤسس المنهج الخفي سياقًا للتعليمات التي تعمل فيما وراء تحكم المدرس أو مجلس المدرسة”([57]).

ولا يقف إيليتش عند كشف طريقة عمل المنهج الخفي، وإنما يُوضح متطلباته التي يمكننا أن نحدد انطلاقًا منها أهدافه المستترة، إذ يتطلب المنهج الخفي أن “يجتمع طلاب مرحلة عمرية محددة، في مجموعات مؤلفة من ثلاثين طالبًا، تحت سلطة مدرس متخصص، لعدد كبير من مرات الحضور، وأن يحضر المتعلم الحد الأدنى لسنوات الدراسة، كي يحصل على حقوقه المدنية”([58]). يتضمن هذا النص مجموعة محددات وهي: تحديد الفئة العمرية للمتعلمين وأعدادهم وعلاقتهم بالسلطة وعدد مرات الحضور والحقوق المدنية. وتهدف المُحددات السابقة إلى تحديد أعداد المتعلمين في كل سنة بما يتطلبه سوق العمل المستقبلي، كما تهدف إلى تنشئة الطلاب على الاعتراف بوجود السلطة التي يمثلها المدرسون والتي يجب الإذعان لها وعدم مخالفتها. ويشير عدد مرات الحضور إلى ضرورة الالتزام والخضوع. فهذه هي الشروط الضرورية للعضوية في المجتمع المعاصر والتمتع بمزاياه، ومن دون استيفاء هذه المحددات يكون المرء عبئًا على المجتمع ولا يحق له المشاركة في الحقوق التي يكفلها للمتعلمين. إن الوظيفة الجوهرية للمنهج الخفي وفق ما يراها إيليتش، هي ربط المتعلم بالأنظمة السائدة وجعله يتماهى معها ولا يتمرد عليها، إذ “تعمل المناهج الخفية كطقس لتعليم الوجود في مجتمع الاستهلاك”([59]).

ولا تختلف رؤية هنري جروكس Henry A. Giroux لوظيفة المنهج الخفي عن التصور الذي قدمه إيليتش، إذ يرى جروكس أن المنهج الخفي لا يتجلى في الأهداف المُعلنة لأسس المدرسة، ولا في الموضوعات التي يطرحها المدرسون، لأنه وسيلة “للسيطرة الاجتماعية، ولترقية التماثل الطبقي، إضافة إلى دوره الكبير في ارتباط الطلاب بالنظام السياسي”([60]).

أما ميشيل أبل Michael Apple فيشير إلى بُعدٍ آخر مختلف عما قدمه جروكس، وهو أن المنهج الخفي لم يعد حيلةً تستخدمها الأنظمة لتدجين الطلاب وتربيتهم على الخضوع للسلطة فحسب، وإنما يكمن دوره الأكثر خطورة في تهيئة الطلاب لقبول الامتيازات الطبقية وسيطرة طبقة على باقي الطبقات، ومن ثمَّ لم يعد المنهج الخفي وسيلة لتحقيق التجانس الاجتماعي والسياسي، بل أصبح دوره هو فرض التكيف مع الأوضاع الاجتماعية السائدة وعدها أمرًا طبيعيًا، فالمنهج الخفي “عنصر مهم في الإبقاء على الامتيازات الاجتماعية السائدة، وفي الإبقاء على المصالح التي غالبا ما تكون مصالح للفصيل الأقوى من السكان”([61]).

على أية حال إن اتفاق عديدٌ من المفكرين على خطورة التعليم المدرسي ومناهجه بوضعهما الراهن، لم ينتج عنه اتفاق في تشخيص الدواء اللازم لعلاج هذه المشكلة، بل نجد اختلافًا جذريًا بين إيليتش الذي يدعو إلى التخلص من المدارس نهائيًا، وبين عديدٍ من المفكرين الذين يُطالبون بالإبقاء على التعليم المدرسي بشرط التحرر من الرأسمالية لتحقيق العدالة والمساواة والحرية الذين تلاشوا تمامًا في ظل الأنظمة الرأسمالية.

فإذا كان عديدٌ من المفكرين أمثال: صامويل باوليز، ميشيل أبل، هنري جروكس. يرون أن نقطة البداءة في الإصلاح التعليمي هي تغيير النظام الاقتصادي، فإن إيليتش يرى أن التغير الاقتصادي والاجتماعي إنما يبدأ بالقضاء على المدارس. فهي النوُاة الأولى التي تعمل لتلبية احتياجات الرأسمالية واستقرارها من الناحيتين الأيديولوجية والاقتصادية. فإذا قُضي على المدارس فلن تقوم للرأسمالية قائمة، فمن وجهة نظر إيليتش “يجب أن تبدأ أي حركة للتحرر الإنساني بالتخلص من المدارس”([62]).

وفي حالة تحرر المجتمع من المدارس سوف يتأسس مجتمع يُطلق عليه إيليتش اسم المجتمع المُبهج       Convivial    Society الذي لا يقوم في جوهره على تراكم رؤوس الأموال، وترقية قيم التنافس والصراع والتفاوت الطبقي، بل يقوم على ترقية قيم الاستقلال وتأكيد الذات والعفوية والتلقائية والإعلاء من شأن هذه القيم على حساب قيم الاستهلاك.

والسؤال الآن كيف يُمكن تحرير المجتمعات من المدارس؟ هل عن طريق الثورات العنيفة التي تُطيح بالمؤسسات التعليمية بعامة وبالمدارس بخاصة؟ أم عن طريق إنارة الوعي بعقم التعليم المدرسي وبؤس أهدافه؟

في الحقيقة ورغم صعوبة المُهمة، يجتهد إيليتش ليقدم لنا نموذجًا بديلًا عن التعليم المدرسي، يعتمد هذا النموذج على ترقية تعليم حر يقوم على رغبة المتعلم في اختيار ما يتعلمه، تعليم في ذاته ولذاته، تعليم يحقق لذة المعرفة المنزهة عن المصلحة ومتعتها، تعليم ليس موجهًا لتحقيق أيديولوجيات الأنظمة، ولا إلى التلاعب بالبشر وتضليل وعيهم لتحقيق مصالح طبقة على حساب باقي الطبقات الأخرى. والسبيل إلى بلوغ هذا النموذج التعليمي الجديد ليست الثورات العنيفة والدامية، فـ إيليتش يرفض اللجوء إلى العنف بوصفه وسيلةً للتغيير: “فالثورات ضد المدرسة ليست مرعبة (…) ولن يكون التحرر من قبضة المدارس مصحوبًا بالدماء”([63]).

إن الثورة التي يُريدها إيليتش هي ثورةٌ ثقافية، ثورة في الوعي البشري ضد المؤسسات التي تُقدم خدماتها إلى الجمهور بوصفها سلعًا يجب اقتناؤها، ثورة ضد الممارسات الاحتكارية للمعرفة والأدوات، ثورة تهدف إلى “تغيير الواقع الشخصي والعام، وتُجدد رؤيتنا لما ينبغي أن تمتلكه وتريده الموجودات البشرية”([64]). نلاحظ في هذا النص أن ثورة الوعي التي ينشدها إيليتش تهدف إلى تغيير علاقة البشر بالملكية وعالم الأدوات اللتين أصبحتا بمنزلة الأوثان التي خلقها البشر ثم خَرُّوا لها ساجدين، وعدوها مصدرًا لشعورهم بالسعادة والطمأنينة والاستقرار، لكن بدلًا من أن يتحكم البشر في توجيهها إلى غايات إنسانية، أصبحت هي التي تتسيد عليهم وتتحكم فيهم وتوجههم حيثما تريد رغمًا عنهم ودون إرادتهم، ولهذا يدعو إيليتش إلى قلب تلك العلاقة وعكسها، ليسترد الإنسان ذاته المُستلبة في الأدوات، والخُطوة الأولى لبلوغ هذا الغرض هو التحرر من الوعي الزائف الذي غُرس في عقول الأفراد في مراحل التعليم عن طريق المدارس.

تمهيدًا لتلك الثورة، ولإثارة الوعي بمخاطر التعليم المدرسي، يطرح إيليتش مجموعة من الأسئلة التي تُحفز الذهن وتدفعه إلى إعادة مساءلة الأمور البديهية ومراجعتها التي كانت بمنأى عن الشك، والهدف من هذه الأسئلة المصيرية هو إظهار خطورة التحدي المفروض علينا، فيتساءل قائلًا: “هل سوف يستمر البشر في التعامل مع التعليم بوصفه سلعة يجب اقتناؤها؟ أم إننا سوف نسعى في تحقيق استقلالية المتعلم ومبادراته الخاصة في تقرير ما سيتعلمه، بدلًا من أن يتعلم ما هو مفيد للآخرين؟”([65]). وسينطلق إيليتش في مواجهته لهذا التحدي برسم ملامح نظام تعليمي جديد يُطلق عليه اسم التعليم الشبكي. 

7- التعليم الشبكي:

للوصول إلى التعليم الحر الذي يطرحه إيليتش بوصفه بديلًا جديدًا عن التعليم السائد، نجده يضع استراتيجية تقوم في جوهرها على ما يُسميه بالتعليم الشبكي Educational Web. ولا يقصد إيليتش بهذا المصطلح التعليم عبر شبكة الانترنت، فلم تكن هذه التقْنية قد تطورت آنذاك لتسمح بالتبادل الحر والمفتوح للمعارف والمعلومات كما يحدث الآن، بل إن ما يقصده بالتعليم الشبكي هو تبادل مصادر المعرفة بين الأفراد وبعضهم البعض. فمن يمتلك مصدرًا للمعارف ينبغي أن يجعله في متناول الآخرين، ومن يُتقن مهارة ما، فعليه أن يُعلمها للآخرين. التعليم الشبكي لدى إيليتش هو التعليم التشاركي الذي يقوم على المشاركة المتبادلة والفعالة بين الأفراد وبعضهم في عملية التعلم. هذه الشبكة هي ما يوضح إيليتش هدفها قائلًا: “تُوفر الشبكة التعليمية مصادر المعرفة وتجعلها في متناول الأفراد، لتضمن استقلالية المتعلم وحريته في استخدام هذه المصادر”([66]). هكذا يُصبح نموذج التعليم الجديد مشروعًا مُجتمعيا قائمًا على إرادة الأفراد وحريتهم، ويصبح تعليمًا للجميع بواسطة الجميع، فالهدف من الشبكات التعليمية هو العمل لتقويض احتكار المعرفة ومصادر التعلم وجعلها في متناول الجميع.

بجانب الأهداف السابقة للتعليم الشبكي يُضيف إيليتش هدفًا جديدًا يتمثل في تحقيق المساواة بين البشر، وإتاحة الفرصة لكل إنسان في أن يتعلم، فالهدف من النظام التعليمي الجديد هو القضاء على التفاوت الطبقي ومنح الامتيازات بسبب التعليم، إذ “يهدف التعليم الشبكي إلى إعطاء الفرص المتساوية للجميع في التعليم والتدريس”([67]).

إن أهداف التعليم الشبكي لدى إيليتش هي النقيض التام لما تقوم عليه، وتنتجه المؤسسات التعليمية الراهنة. فإذا كان التعليم المدرسي قائمًا على الحضور الإلزامي، وفرض المناهج على الطلاب، واحتكار المعرفة، وتكريس التفاوت الطبقي، فإن التعليم الشبكي يقوم على ترقية حرية المتعلم في اختيار أوقات التعلم، وفي اختيار المحتوى المعرفي الذي يريده، كما أنه يقوم على إتاحة مصادر المعرفة للجميع وعدم احتكارها، ومن ثمَّ “فإن معكوس المدرسة هو شيء ممكن، فبدلًا من توظيف المدرسين وإجبار الطلاب على إيجاد الوقت والإرادة للتعلم، يُمكننا أن نزود المتعلم بروابط جديدة لمعرفة العالم من طريق التعليم الشبكي المُطَوِّر لذاته”([68]). ويؤكد إيليتش الأهداف نفسها في موضع آخر عندما يرى أن النسق التعليمي الجديد يجب أن يرتكز على توجهات مضادة للتعليم المدرسي، يُجملها فيما يلي:([69])

  • تزويد كل الذين يردون التعليم بالحصول على المصادر في أي وقت من حياتهم.
  • تسهيل مشاركة المعرفة وتبادلها مع الآخرين.
  • تسهيل عملية الاتصال الواسع مع الجمهور.

لكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: من الذي سوف يتكفل بالإنفاق على تمويل هذا المشروع التعليمي الجديد؟

تتنوع مصادر تمويل التعليم الجديد، وآليات تنفيذها في أرض الواقع لدى إيليتش ما بين “زيادة ميزانية التعليم إلى حدها الأقصى، إضافة إلى الاستفادة من أموال المدارس والتجهيزات المدرسية لتصب في مصلحة التعليم الجديد، وكذلك إعادة توجيه الأموال التي تُنفق على الإعلانات نحو التعليم الشبكي”([70]).

عندما نتأمل مصادر تمويل التعليم الشبكي لدى إيليتش يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: كيف يمكن أن تتوفر هذه التمويلات؟ هل ستقدمها الأنظمة طواعية للحصول على نظام تعليم يؤذن بأفولها حال تطبيقه؟ أم سينتزعها المواطنون من الأنظمة بالقوة؟ في الحقيقة يتركنا إيليتش دون إجابة شافية عن هذا السؤال، لكننا نعتقد من مجمل فلسفة إيليتش أن توفير مصادر لتمويل التعليم الشبكي تفترض ضمنًا وجود موافقة مجتمعية كُبرى للضغط على الأنظمة لتوفير التمويلات اللازمة ولإحداث تعديلات تشريعية وقانونية، وتأسيس أحزاب سياسية للتحرر من التعليم المؤسسي، وهذا ما نستنتجه من النص الذي يقول فيه: “يجب ترجمة أهداف التعليم الشبكي إلى ضمانات دستورية وقانونية”([71]).

على أية حال، يمضي إيليتش ليوضح آليات تنفيذ الشبكة التعليمية في الواقع، إذ ستمكننا التمويلات من الحصول على الأدوات التعليمية وانتشارها في نطاق واسع لخدمة المتعلمين “فالمال مطلوب لتشييد مكتبات كبيرة من أشرطة الكاسيت المُسجل عليها المعارف والمعلومات، مع ضرورة وجود منافذ في القرى البعيدة تحوي أشرطة للتعليم (…) وهذه الأدوات يجب أن تتوافر في المكتبات والوكالات المؤجرة والمعامل والمتاحف والمسارح وفي أماكن الاستخدام اليومي للمصانع والمزارع حتى تكون مُتاحة للطلاب”([72]). إن ما يُشدد عليه إيليتش في هذا النص هو ضرورة عدم تركيز الأدوات والوسائل التعليمية في أيدي أقلية تحتكرها لتحقيق مصالحها الخاصة، بل يدعو إلى انتشارها في نطاق واسع ودون مقابل، كي تسهل عملية التعلم لمن يريد وفي أي وقت يريد.

ويدعو إيليتش إلى الإفادة من مُنجزات التكنولوجيا ودورها الرائد في تسهيل انتشار المعرفة وتبادلها، لكن لن يتسنى هذا من دون إعادة توجيه دفة التكنولوجيا وجعلها في خدمة الإنسان. فبدلًا من استخدامها في زيادة السلطة والسيطرة، يجب استخدامها لزيادة قدرات البشر على التواصل والتفاعل الإيجابي والبناء مع الآخرين “فمثل هذا الاستخدام يؤسس البديل المركزي في التعليم (…) فالإلكترونيات الحديثة ومطابع الأوفست وأجهزة الكمبيوتر والهواتف، يُمكنها أن تُقدم معنىً جديدًا للحرية”([73]). ينضم إيليتش بهذا النص إلى زُمرة الفلاسفة القائلين بحياد التكنولوجيا، فهو يرى أنه في حالة تحرير التكنولوجيا من سيطرة الرأسمالية سوف تكون وسيلة لتحرر البشرية وتقدمها الحقيقي، وهو بهذا يسير على خطى ماركس وعديدٌ من الماركسيين أمثال: ماركيوز وفروم، الذين يؤكدون أن التكنولوجيا سوف تكون أداةً لتحرير الطبقات العاملة حال انتزاعها من البرجوازية.

هناك نقطة أخرى يُبرزها إيليتش وهي أن التعليم سوف يُحررنا من قبضة سوق العمل، ومن خدمة مصالح الأنظمة الرأسمالية، وسوف تزدهر الفنون والآداب بعد طغيان النظرة المادية والكمية على شتى مناحي الحياة الإنسانية. سوف يتحول التعليم إلى فاعلية ونشاط إنساني أكثر ثراءً وتنوعًا، وسوف يهدف إلى تحقيق البهجة والسعادة الشخصية، وهذا ما نستنتجه من النص الذي يقول فيه إيليتش: “مع تحرير التعليم سوف يتخصص بعضهم في الموسيقى الكلاسيكية، وآخرون في الألحان الشعبية وموسيقى الجاز، وتتنافس دور السينما الواحدة مع الأخرى، وستكون هناك شبكة لتداول الأعمال الفنية”([74]).

لكننا نجد أنفسنا بصدد السؤال التالي: إذا كان التعليم الشبكي هو التعليم الحر الذي لا يخضع للرقابة أو السيطرة الاجتماعية، والذي يركز فيه إيليتش على تعلم الموسيقى والفنون والآداب، فماذا عن الفروع المعرفية الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع لضمان تطوره واستمراره والتي تعد ضرورية لتأسيس المجتمعات الحديثة؟

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال أن نوضح في البداية طبيعة المجتمع الذي يرغب فيه إيليتش وشكله بعد تحرره من المدارس والتعليم والإلزامي. يدعو إيليتش إلى تأسيس مجتمع مبهج، وهو مجتمع بسيط في بنيته، وليس معقدًا كالمجتمع الصناعي، يُحقق فيه الأفراد احتياجاتهم بأنفسهم وبالتعاون فيما بينهم، وليس باللجوء إلى المتخصصين الذين يقدمون خدماتهم بوصفها سلعًا يجب شراؤها، وتتسم احتياجات الأفراد في هذا المجتمع بأنها لا تنزع نحو الاستهلاك المفرط والوفرة والرفاهية: “فالبهجة تُشير إلى عكس الإنتاجية الصناعية، فهي تعبير عن التفاعل المُبدع والمستقل بين البشر، وبين البشر وبيئتهم، وهذا بالتعارض مع المطالب المفروضة عليهم بواسطة الآخرين”([75]).

إن المجتمع الذي يقترحه إيليتش المُتسم بالبساطة والمحدودية، يعتمد في تطوره واستمراريته على ما يسميه إيليتش بالمهارات Skills التي يضعها بديلًا عن التخصصات السائدة في المجتمعات المعاصرة. والمهارة لديه أشبه بالحرفة أو الصنعة التي يتعلمها الإنسان من أصحاب المهارات، أو يتعلمها بالاعتماد على نفسه بلجوئه إلى المصادر المتوفرة للتعليم الذاتي مثل: أشرطة الكاسيت أو الأفلام. ويتسع مفهوم المهارة لدى إيليتش ليشمل تعلم عديدٍ من الممارسات بداءة من إصلاح الساعات والسيارات إلى تشييد المنازل، بالإضافة إلى تعلم التمريض والجراحة: “فلو شُجعت الممرضات على تدريب الممرضات الأخريات، فلن يكون هناك نقص في العاملين بالتمريض (…) فلا أرى ما يمنع تعلم المهارات المعقدة مثل الجراحة بالطريقة نفسها التي نتعلم بها العزف على الكمان”([76]). ويؤكد المعنى نفسه في موضع أخر عندما يقول: “ليس هناك سببًا يمنع أن يكون لدى المرء القدرة على قيادة السيارة وإصلاح التليفزيون، وأن يكون في الوقت نفسه مثل القَابِلة”([77]).

إن ما يريد أن يقوله إيليتش في النصين السابقين هو أن تعلم المهارات سوف يحرر المجتمع من أصحاب النزعات التخصصية ضيقة الأفق، ومن تقييم المرء بناءً على المقررات والشهادات التي يحصل عليها. فلا فارق من وجهة نظره بين الإنسان الحاصل على شهادة في الطب، وأي إنسان تعلم تلك المهنة ويُمارسها من دون الالتحاق بكلية الطب. فالفارق بينهما سيحدده المرضى الذين يعالجونهم. وينحاز إيليتش في المقام الأخير إلى ممارسات غير المتخصصين. ففي المجال الطبي على سبيل المثال، يرى إيليتش أن التقدم الحادث في صحة البشر وتقليل أعداد الوفيات وزيادة متوسط عمر الفرد، يعود إلى النظافة وشرب المياه النقية، أكثر مما يعود إلى وفرة المستشفيات والأطباء المتخصصين اللذين يُنظر إليهم دائمًا بوصفهم أصحاب سلطة، ويقدمون سلعًا خدمية غير مفيدة للمرضى هدفها الوحيد تحقيق المكاسب للأطباء.

إن هدف إيليتش هو أن يتحول تعليم المهارة إلى مشروع مجتمعي يشارك فيه كل أعضاء المجتمع. ولهذا يدعو إلى ضرورة تأسيس مراكز لتعلم المهارات المتنوعة. فكل إنسان يريد أن يتعلم مهارة ما ينبغي أن يذهب إلى مركز لتعليم المهارات، ويبحث عن مُعلم لتلك المهارة. وكل صاحب مهارة يُريد أن يُعلم مهارته ينبغي أن يبحث عن الأفراد المهتمين بهذه المهارة. ولتعميم الفائدة وانتشارها في نطاق كبير بين قطاعات عريضة من السكان يُطالب إيليتش بإنشاء “مراكز تعليم المهارات في أماكن العمل نفسه“([78]).

كذلك لا يستثني إيليتش الأطفال من هذا المشروع، فهو لا يريد أن يُقيد التعليم في فئة عمرية محددة، ولا أن يُختزل في طبقة اجتماعية بعينها، بل يجب تقديمه لكل البشر من كل الأعمار ولكل الطبقات، لذا يدعو إلى ضرورة مشاركة الأطفال حتى يتعلموا ممارسة هذه المهارات منذ الصغر. وهذا ما يطالب به قائلًا: “ينبغي صرف حوافز ضريبية خاصة للذين يوظفون الأطفال من سنة الثامنة إلى الرابعة عشر ساعتين يوميًا في ظل ظروف عمل إنسانية”([79]). إن ما يريد أن يقوله إيليتش في هذا النص هو أن التعليم مشروعٌ مفتوح يبدأ منذ الطفولة ويمتد إلى آخر الحياة، ولا يجب أن تحده أي معوقات في أي مرحلة من مراحل الحياة.

الخـاتمة:

هكذا أوشكت رحلتنا مع إيليتش على الانتهاء، وهي رحلة جديدة مليئة بالمحطات الخِصْبة. اتفقنا معه أحيانًا واختلفنا معه أحيانًا أخرى، لكننا إذا نظرنا إلى مُجمل إسهامات إيليتش النقدية في التعليم المدرسي، سنجد أن ما ينشده في مجتمع بلا مدارس، هو ضمان الحد الأقصى من الحريات الفردية. فالحرية والعدالة والمساواة هي المقولات المركزية التي تظهر من وراء نقده للتعليم المدرسي. فما يُريده إيليتش هو أن تسود الحرية الحقيقية -وليست الحرية المزيفة- شتى مناحي الحياة الإنسانية، حرية أن يقرر الإنسان مصيره وأن يحدد أهدافه وأمنياته لنفسه وبنفسه دون أي تدخل من أحد.

إن قناعات إيليتش، وهو في ذلك ليس استثناءً، بل يتفق معه غالبية الفلاسفة المعاصرين التواقين إلى الحرية، هي أن تلك الحرية مستحيلة المنال في ظل الأنظمة السائدة التي جعلت من الإنسان صنمًا لا رُوحَ ولا عقل ولا إرادة له، واختزلته في ترس في آلة الإنتاج والاستهلاك، لا هم له سوى السعي في مزيدٍ من الاستهلاك والامتلاك وبلوغ الوفرة والرفاهية.

أصبحت المجتمعات الغربية المعاصرة من وجهة نظر إيليتش، أشبه بحلبة المنافسة التي لا يحكمها سوى قوانين القوة والصراع والبقاء للأصلح ولهذا فليس من المُستغرب أن يُطرح الفقراء والضعفاء والمهمشين خارج إطار المنافسة، إذ تنظر إليهم هذه المجتمعات بوصفهم حجر عثرة في طريق التقدم ينبغي إزاحته والتخلص منه، لكن هذه المجتمعات القائمة على التنافس والصراع، وعدم نظرتها بعين الاعتبار للطبقات الدنيا وحرمانها المزايا الاقتصادية والاجتماعية، يتطلب مساءلتها لعدم قدرتها على توفير الشروط الملائمة لبلوغ مجتمع يُصبح الإنسان فيه غاية في ذاته.

هذه المُساءلة النقدية للمجتمعات والأنظمة المعاصرة هي ما تتجلى في كل كتابات إيليتش، الذي يرى فيها أن المدرسة جزءٌ من النظام وتُعبر عن مصالحه، فهي التي ترسخ في عقول النشء تصورات عن المواطن الصالح الذي ينبغي أن يُحب وطنه ويحقق مصالحه، لكن خدمة الوطن هي دعوة زائفة لتحقيق أغراض أخرى، فالخدمة الحقيقية لن تكون للأوطان، بل ستكون للأنظمة السائدة، فالوطن والنظام أصبحا مترادفين، واختُزل الوطن في الأنظمة والحكومات، فالمدارس وأنظمة التعليم الراهنة تعمل لإنتاج مواطنين يتماهون مع الأنظمة.

كذلك فإننا نتفق مع إيليتش في أن الهدف من ربط التعليم المدرسي بالسوق ومجتمع الاستهلاك هو تحقيق مصالح البرجوازية ودعم الأنظمة الرأسمالية التي تستثمر أموالها في التعليم. لكن جعل المدارس والتعليم أدوات في أيدي الأنظمة تُحقق مصالحها، جعل إيليتش يرى أنه لا مندوحة لنا من تقويض الأساس الذي يزود الرأسمالية بالموارد البشرية والعقلية إذا أردنا التحرر من مجتمعات القمع والاستغلال.

ولن يتسنى لنا هذا التحرر إلا بإعادة تربية النشء، وتعليمهم بطريقة مغايرة، لبلوغ أهداف مغايرة للأهداف التي رسختها المدارس في عقولهم. إذن يأتي تغيير التعليم في البداءة ويعقبه التغير الاجتماعي والاقتصادي، فما ينبغي أن يُرقيه التعليم الجديد هو تغيير التوجهات والاحتياجات البشرية، لتأسيس مجتمع جديد يقوم على أنقاض المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.

كذلك فإننا نرى أن المجتمع الجديد الذي يُلقبه إيليتش بالمجتمع المُبهج أو المُفرح أشبه بالمجتمعات العضوية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ترى أن المجتمع مثل الكائن الحي الذي يقوم في جوهره على التآزر والتعاضد بين الأعضاء، فهو مجتمع يحقق الاكتفاء الذاتي والضروري من الحاجات لأعضائه، إن مشروع إيليتش يستهدف الإطاحة بالمجتمعات القائمة، مجتمعات الوفرة والبذخ والرفاهية، وتشييد مجتمعات جديدة تملؤها الحرية والحب والسعادة والإنسانية.

لكن رغم أهمية أطروحات إيليتش وجدارتها بشأن تحرير التعليم من التبعية للأنظمة التي عملت لإنتاج إنسان مُتكيف مع عالم الصناعة والتكنولوجيا، إلا أن أطروحاته قد تخللها عديدٌ من النقاط التي نختلف معه فيها. وتأتي في مقدمة هذه النقاط، اختزاله لكل مراحل التعليم في التعليم المدرسي، وكأن عقل الطلاب يتوقف عند التعليم المدرسي ولا يكون بعدها قادرًا على تطوير نفسه. فلم يتعامل إيليتش مع التعليم المدرسي بوصفه مرحلةً مؤقتة وانتقالية. وغض الطرْف عن أن الطلاب ينتقلون بعد ذلك إلى مراحل أعلى من التعليم تتطور فيها عقولهم ووعيهم وطريقة رؤيتهم إلى العالم. فما نريد أن نقوله هو أن سلبيات التعليم المدرسي مثل: ممارسة السلطة على الطلاب، والوصاية على عقولهم، سوف تُتجاوز وسوف يتحرر منها الطلاب في مراحل التعليم اللاحقة. فالعقل والوعي الإنسانيين لا يتسمان بالسكون أو الوقوف عند نظرة ثابتة ومتحجرة للعالم والأشياء. ولا يمكن أن تستمر هذه النظرة على الوتيرة نفسها منذ بداءات التعليم المدرسي وحتى المراحل المتأخرة من الحياة، بل إنهما ديناميكيان يتطوران بتطور الحياة والمواقف الإنسانية.

كذلك نظر إيليتش إلى إرادة الإنسان وحريته في ظل المجتمعات المعاصرة بوصفهما بلا جدوى ولا يُمكن أن يُغيرا من الأمر شيئا، لكن هذه النظرة السلبية تضع الإنسان في موضع المفعول به لا الفاعل، وتنفي عنه كل إرادة أو قدرة على تغيير واقعه المليء بالتناقضات والصراعات. فلم ينظر إيليتش إلى الإنسان بوصفه الفاعل الذي يُمكن أن يُغير العالم بفضل ملكاته العقلية والنقدية والإبداعية.

إن تاريخ الإنسان هو تاريخ النضال والكفاح المستمران، سواء أكان هذا النضال نضالًا ضد الطبيعة أم ضد السلطات الدينية والسياسية. وقد نال الإنسان الحديث بفضل كفاحه ونضاله كثيرًا من الحقوق والحريات التي ما كان لأحد من أسلافنا أن يسمع عنها أو يحلم بها من قبل. فالطبيعة البشرية تتضمن في جوهرها قوى سالبة ونافية تتمرد دائمًا على الأوضاع الجائرة، وخير دليل على ذلك هو ما قامت به حركات الطلاب في فرنسا في مايو 1968 عندما ثاروا على أنظمة التعليم ومناهجها التي كانت سائدة آنذاك، وعندما تمردوا على مجتمع الاستهلاك الذي حَوَّل الدولة إلى مجموعة من المشروعات الكبرى التي تُحقق مصالح أصحابها، فرفض الطلاب أن يكونوا أدواتًا تتلاعب بها الأنظمة، ورُضِخَ لمطالب الطلبة التي عمت مظاهراتهم فرنسا وعديدًا من الدول الأوروبية. إن ما نريد أن نقوله هو إنه إذا كان التعليم أداة لصياغة أيدولوجيات بعينها، فهو يتضمن عُنصرًا ثوريًا يكمن في الوعي.

أما فيما يتعلق بأطروحاته بشأن منح الحرية للطلاب في اختيار ما يريدون تعلمه، فهي في الحماية والتنشئة لا يمكن أن تنطبق بحال من الأحوال على الأطفال الذين تقل أعمارهم، وفقًا لاتفاقية حقوق الطفل عن ثمانية عشر عام، فلن يستطع الأطفال استخدام هذه الحرية استخدامًا رشيدًا، ولذلك أعطت الاتفاقية إلى الوالدين حق المسئولية عن أطفالهما، ومنحت لهما الوصاية عليهم.

كذلك ذهب عديدٌ من الفلاسفة المدافعين عن الحرية إلى وضع قيود على ممارسة الطفل لحريته بنفسه ومن دون معونة أو إرشاد من أحد. فروسو وكانط طالبا بضرورة وجود وسائط بين الطفل وعالمه، ومن أهم هذه الوسائط الأسرة والمدرسة. فروسو يعهد بتربية إميل إلى مُربي حكيم يُنمي فيه الطبيعة الفطرية “فالإنسان إذا تُرك منذ ميلاده إلى نفسه بين الآخرين، فإنه سيكون أشد الكائنات تشوهًا (…) فالنبات يُشكَّل بالفلاحة، والناس يُشَكَّلون بالتربية”([80]). وكذلك يعهد كانط بالتربية إلى الأسرة أو إلى المُربي الخصوصي في حالة التربية الخاصة، وإلى المدارس في حالة التربية العامة “ومُهمة التعليم العام في المدارس هي تكميل التربية المنزلية بتكوين رجال مهرة”([81]).

أما فيما يتعلق بالحل الذي قدمه إيليتش والمُتمثل في إلغاء المدارس، فهو في تصورنا حلٌ مجافٍ للواقع الموضوعي وبعيدًا عن إمكان التحقيق الفعلي. وهو من وجهة نظرنا غير مرغوب، إذ تلعب المدارس -رغم تحفظنا على استغلالها بوصفها أداة- في أيدي الأنظمة دورًا لا يُمكن إنكاره في اكتساب الطلاب لمهارات وخبرات اجتماعية أكثر مما يكتسب في الأسرة، إضافة إلى المهارات المعرفية. كذلك فإن قيم الولاء والانتماء التي يتعلمها الطلاب في المدارس لها أهمية كبرى في المحافظة على وَحْدَة الدولة وعدم انقسامها، لكن كل هذا يجب أن يتزواج مع حرية الفرد واستقلاله الذاتي، اللذين إن لم يتحققا في مراحل التعليم الأولى، سوف يتحققان في مراحل التعليم الجامعي .

صحيح لم يعد التعليم في عصرنا الراهن حبيسَ المؤسسات التعليمية التقليدية كالمدارس والجامعات، فهناك مجالات جديدة للتعليم خارج إطار المدرسة مثل: التعليم عن بعد والتعليم المفتوح، وبالفعل تسمح هذه المجالات بقدر أكبر من الحرية للمتعلم في اختيار ما يريد تعلمه، وأصبحت عملية وضع المقررات والمناهج الدراسية تخضع إلى معايير عالمية واتفاقيات دولية، لتجاوز النزعات القومية ضيقة الأفق، ولتوفير فرص عمل للبشر خارج أوطانهم، إلا أن هذا يخضع في المقام الأخير لتحقيق مصالح الدول الكبرى.

إننا لسنا في حاجة إلى إلغاء المدارس، بقدر ما نحن في حاجة إلى إحداث تعديلات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية والسياسية السائدة. نحن في حاجة إلى أنظمة تعمل لترقية وتفعيل قيم العدالة والمساواة وتقليل حدة التفاوتات الطبقية، نحن في حاجة إلى تعليم يُعلي من قيم السلام والتآزر بين البشر، تعليم إنساني يكون الإنسان فيه هو الألف والياء، والقيمة الكبرى التي تسبغ على سائر القيم كل ما لها من قيمة، ولن يتسنَ لنا بلوغ هذه الأهداف في ظل الأنظمة القائمة في جوهرها على الصراع، لكن عندما يحل محل هذه الأنظمة أنظمة أخرى أكثر عدلًا ستكون المدارس هي المؤسسات التي تربي النشء على قيم العدل والحب والسلام.

وأخيرًا فإن اختلافنا مع إيليتش في عديدٍ من النقاط لا يُقلل من قيمة الطرح وجِدته الذي قدمه إلينا، ففلسفة إيليتش في جوهرها تُمثلُ نقدًا عنيفًا للرأسمالية، لكنه قدم هذا النقد بطريقة جديدة، فلم يَسِر في الدرب نفسه الذي سار في كثيرين. فلم ينطلق في نقده للرأسمالية من العامل الاقتصادي كما فعل ماركس والماركسيون، بل انطلق من تحليل ظاهرة المدرسة للكشف عن خطورة الدور الذي تمارسه في استمرار الرأسمالية وتطورها.

 

قائمة المصادر والمراجع

أولا: المصادر الأجنبية

  • Illich Ivan, Deschooling Society, New York, Harrow Books, 1973.
  • id, After Deschooling What? New York, Harper Row, 1973.
  • , Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution, New York, Penguin Books, 1973.
  • , Tools for Conviviality, London, Fontana, 1975.
  • , Disabling Profession: Ideas in Progress, London, Marion Boyars, 1977.
  • , toward a History of Needs: Include Energy and Equity, Berkely, Heyday Books, 1978.

ثانيا: المراجع الأجنبية

  • Apple Michael W., Ideology and Curriculum, London, Routledge, 2002.
  • Bowles Samuel, Gintis Herbert, Schooling in Capitalist America: Educational Reform and The Contradictions of Economic Life, Chicago, Haymarket Books, 2011.
  • Brighouse Harry, School Choice and Social Justice, Oxford, Oxford University Press, 2000.
  • Cole Mike, Marxism and Educational Theory: Origins and Issues, London, Routledge, 2008.
  • Curren Randall (ed), A Companion to The Philosophy of Education, London, Blackwell Publishing Ltd, 2003.
  • Dewey John, Democracy and Education: An Introduction to The Philosophy of Education, Delhi, Aakar Books, 2004.
  • Giroux Henry A., Theory and Resistance in Education: A Pedagogy for The Opposition, Massachusetts, Bergin & Garvey Publishers, 1983.
  • Hartch Todd, The Prophet of Cuernavaca: Ivan Illich and The Crisis of the West, Oxford, Oxford University Press, 2015.
  • Hirst Paul H., Knowledge and The Curriculum: A Collection of Philosophical Papers, London, Routledge, 1974.
  • Marshall James D., Michel Foucault: Personal Autonomy and Education, London, Kluwer Academic Publishers, 1996.
  • O’ Neill John, The Market: Ethics, Knowledge and Politics, London, Routledge, 1998.
  • Ranciere Jacques, The Ignorant Schoolmaster: Five Lessons in Intellectual Emancipation, Translated by: Kristin Ross, Stanford, Stanford University Press, 1991
  • Reimer Everett, School is Dead: An Essay on Alternatives in Education, London, Penguin Education Specials, 1971.
  • Russell Bertrand, Unpopular Essays, New York, H. Wolff Book co, 1950.
  • Russell Bertrand, Education and Social Order, London, Routledge, 2010.
  • Winch Christopher, Gingell John, Philosophy of Education: The Key Concepts, London, Routledge, 2008.

ثالثا: المراجع العربية:

1- دوركايم إميل، التربية الأخلاقية، ترجمة/ السيد محمد بدوي، مراجعة/ على عبد الواحد وافي، القاهرة، المركز القومي للترجمة،

2015

2- ديوي جون، المبادئ الأخلاقية في التربية، ترجمة/ عبد الفتاح السيد هلال، مراجعة/ أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ت

3- ديوي جون، المدرسة والمجتمع، ترجمة / أحمد حسن الرحيم، مراجعة / محمد ناصر، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة،1978

4- ريماك إريك ماريا، كل شيء هادئ في الميدان الغربي، القاهرة، دار الهلال، عدد 395، 1985

– عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كنت، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980 5

[1] – John Dewey, Democracy and Education: An Introduction to The Philosophy of Education, Delhi, Aakar Books, 2004, p: 210

[2] – جون ديوي، المبادئ الأخلاقية في التربية، ترجمة/ عبد الفتاح السيد هلال، مراجعة/ أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ت، صـ119

[3] – جون ديوي، المدرسة والمجتمع، ترجمة / أحمد حسن الرحيم، مراجعة / محمد ناصر، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1978، صـ 50

[4] – Randall Curren (ed), A Companion to The Philosophy of Education, London, Blackwell Publishing Ltd, 2003, p:105

* هو فيلسوف نمساوي ولد سـنة 1926 في فيينا بالنمسا، وتربى في ضيعة جده في جزيرة براك على ساحل البحر الأدرياتيكي. والده بيرو أرستقراطي من كرواتيا، ووالدته هيلين ألمانية من عائلة يهودية، اعتنقت المسيحية الكاثوليكية فيما بعد، وقربته والدته من المثقفين مثل الفيلسوف اللاهوتي جاك ماريتان، والشاعر ريليكه، والفيلسوف الصوفي رودلف شتاينر. عندما مات والده سافر وهو وأسرته إلى إيطاليا، وفي فلورنسا أنهى إيليتش دراسته الثانوية في مدرسة ليوناردو دافنشي العلمية. في عام 1944 قرر أن يصبح كاهنا، وبعد الحرب العالمية الثانية كان إيليتش يأمل في العودة إلى النمسا، لكنه لم يستطع بسبب عدم اكتمال أوراق السفر. حصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ بأطروحة عن مفهوم التاريخ العالمي عند أرنولد توينبي ومشكلة المعرفة في التاريخ. وصل إيليتش إلى الولايات المتحدة عام 1951 لاستكمال دراساته، لكنه أصبح مفتونا بالمجتمع البورتريكي في نيويورك، وخدم في إيبراشية بورتريكو في نيويورك حتى أصبح نائبا لرئيس الجامعة الكاثوليكية، وفي عام 1956 انتقل إلى كيورنيفكا في المكسيك، حيث أدار مركز التشكل بين الثقافات الذي تحول قيما بعد إلى مركز التوثيق بين الثقافات، وفي النهاية استقر به المطاف في ألمانيا، وتوفي عام 2002. ومن أشهر مؤلفاته: مجتمع بلا مدارس Deschooling Society سـنة 1970، والاحتفال بالوعي: دعوة لثورة مؤسسية Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution سـنة 1971، أدوات للبهجة Tools for Conviviality  1973، والطاقة والعدالة Energy and Equity سـنة 1974، واللعنة الطبية Medical Nemesis سـنة 1976، وعدم التمكين  للتخصص Disabling Profession سـنة 1977، والكنيسة والتغير والتطور The Church, Change, and Development  سـنة 1970، والحق في البطالة المفيدة وأعدائها المتخصصين The Right to Useful Unemployment  and its professional Enemies سـنة 1978، وتاريخ الاحتياجات Toward A History of Needs سنة 1978.

Todd Hartch, The Prophet of Cuernavaca: Ivan Illich and The Crisis of the West, Oxford, Oxford University Press,2015, p:4-6

[5] – Ivan Illich, Deschooling Society, New York, Harrow Books, 1973, p:17

[6] – ibid., p: xix

[7] – ibid., p: 65

[8] – ibid., p: 8,9

[9] – Ivan Illich, After Deschooling What? New York, Harper Row, 1973, p: 4

[10] – Everett Reimer, School is Dead: An Essay on Alternatives in Education, London, Penguin Education Specials, 1971. 

[11] – Ivan Illich, Deschooling Society, p:6

[12] – ibid., p:10

[13] – Everett Reimer, School is Dead: An Essay on Alternatives in Education, op.cit.,

[14] – Christopher Winch, John Gingell, Philosophy of Education: The Key Concepts, London, Routledge, 2008, p:55

[15] – Bertrand Russell, Unpopular Essays, New York, H. Wolff Book co, 1950, p:114

[16] – إريك ماريا ريما، كل شيء هاديء في الميدان الغربي، ترجمة/ محمود مسعود، القاهرة، دار الهلال، عدد 395، 1985، صـ15

[17] – Ivan Illich, Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution, New York, Penguin Books, 1973, p:108, 105

[18] – Ivan Illich, Deschooling Society, p:66

[19] -ibid., p:110

[20] – Ivan Illich, After Deschooling What? op.cit., p: 21

[21] – جون ديوي، المدرسة والمجتمع، مرجع سبق ذكره، صـ 79

[22] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:11

[23] – ibid., p:14

[24] – Ivan Illich, After Deschooling What? op.cit., p:3

[25] – Mike Cole, Marxism and Educational Theory: Origins and Issues, London, Routledge, 2008, p:31

[26] – ibid., p:29

[27] – Ivan Illich, toward a History of Needs: Include Energy and Equity, Berkely, Heyday Books, 1978, p:70

[28] – Ivan Illich, Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution, op.cit., p:101

[29] – Harry Brighouse, School Choice and Social Justice, Oxford, Oxford University Press, 2000, p:133

[30] – Samuel Bowles, Herbert Gintis, Schooling in Capitalist America: Educational Reform and The Contradictions of Economic Life, Chicago, Haymarket Books, 2011, p:14

[31] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:12, 11

[32] – ibid., p:31

[33] – ibid., p:31, 32

[34] – ibid., p:31

[35] – Paul H. Hirst, Knowledge and The Curriculum: A Collection of Philosophical Papers, London, Routledge, 1974, p: 24

[36] – Bertrand Russell, Unpopular Essays, op.cit., p:117,118

[37] – James D. Marshall, Michel Foucault: Personal Autonomy and Education, London, Kluwer Academic Publishers, 1996, p: 73, 78

[38] – إميل دوركايم، التربية الأخلاقية، ترجمة/ السيد محمد بدوي، مراجعة/ على عبد الواحد وافي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015، صـ154

[39] – Bertrand Russell, Education and Social Order, London, Routledge, 2010, p:18

[40] – Ivan Illich, Disabling Profession: Ideas in Progress, London, Marion Boyars, 1977, p:15

[41] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:2

[42] – John O’ Neill, The Market: Ethics, Knowledge and Politics, London, Routledge, 1998, p:147

[43] – Ivan Illich, Disabling Profession, op.cit., p:15

[44] – ibid., p;41

[45] – Ivan Illich, Toward a History of Needs, op.cit., p:71

[46] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:41

[47] – ibid., p:48

[48] – ibid., p: 35

[49] – ibid, p:29

[50] – ibid., p:15

[51] – Jacques Ranciere, The Ignorant Schoolmaster: Five Lessons in Intellectual Emancipation, Translated by: Kristin Ross, Stanford, Stanford University Press, 1991, p:21

[52] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:48

[53] – ibid., p:11

[54] – Ivan Illich, Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution, op.cit., p:107,108

[55] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:60

[56] – Christopher Winch, John Gingell, Philosophy of Education: The Key Concepts, op.cit., p:50

[57] – Ivan Illich, Toward a History of Needs, op.cit., p:70

[58] – Ivan Illich, After Deschooling What? op.cit., p:8

[59]–  Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:33

[60] – Henry A. Giroux, Theory and Resistance in Education: A Pedagogy for The Opposition, Massachusetts, Bergin & Garvey Publishers, 1983, p:54

[61] – Michael W. Apple, Ideology and Curriculum, London, Routledge, 2002, p:48

[62] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:47

[63] – ibid., p:49

[64] – Ivan Illich, Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution, op.cit., p:149

[65] – Ivan Illich, After Deschooling What? op.cit., p:2

[66] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:70

[67] – ibid., p:77

[68] – ibid., p:73

[69] – Ivan Illich, Tools for Conviviality, London, Fontana, 1975, p:33

[70] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:85,86

[71] – ibid., p:75

[72] – ibid., p:77,78

[73] – Ivan Illich, Toward a History of Needs, op.cit., p:86,92

[74] – ibid., p:84

[75] – Ivan Illich, Tools for Conviviality, op.cit., p:24

[76] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:90,88

[77] – Ivan Illich, Toward a History of Needs, op.cit., p:88

[78] – Ivan Illich, Deschooling Society, op.cit., p:15

[79] – ibid., p:85

[80] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كنت، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، صـ117

[81] – المرجع السابق، صـ123

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete