تفكيك الخطاب الأصولي: مفهوم الخلافة أو تسييس المقدس

تكوين
  • الصراع على المفاهيم…

على الرغم من كل التطورات والتحولات التي عرفها مفهوم الدولة الحديثة والمعاصرة، لا تزال عديد من الأصوليات تحلم بأشكال من الدولة تنتمي إلى ما قبل الحداثة، أو ما قبل تكون ملامح الدولة الرأسمالية الليبرالية في صيغتها الحالية، مستعيدة أنماطًا تختلفُ اختلافًا جذريًّا عما اكتسبه الإنسان ووظفه في تاريخ طويل من ممارسة السلطة والاحتكاك مع الطبيعة والاجتماع البشري. ولأن هذه الأصوليات تقبع خارج التاريخ، بل تحاول أن تستعيد الماضي في حركة ارتكاسية إلى الوراء، فإنها حافظت ولا تزال على مفاهيم تنافي كل الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وتناقض حركة الإنسان الدؤوبة نحو المستقبل. لقد مَثَّلَ مفهوم الدولة تطورًا حاسما في فهم شكل الأنظمة السياسية وتركيبها التي عرفها العالم القديم، من ناحية التنظيم والهيكل والوظائف، وقد ظهرت هذه الفكرة ظهورًا واضحًا بعد الثورة الفرنسية في القرن 18 مع تطور الفكر السياسي الذي ربط الدولة بالسيادة الشعبية والفصل بين الدين والسياسة.

دومًا كانت هناك حرب الأصوليات مع الواقع المتغير، والمستجدات المعاصرة حربًا تستند إلى قاعدة مفاهيمية، لأنها تُدرك أهمية المفاهيم في تكوين العقل الأصولي والذهنية السلفية والتفكير الرجعي الارتكاسي، فالرهان على المفاهيم في واقعنا المعاصر هو رهان رابح، ومن يستطيع تكوين المفاهيم وصياغتها، وقولبة الناس في أنسجتها يفوز بالرهان، وبالفعل فالمفاهيم هي اللبنات الأساسية التي يَبني عليها الأفراد والمجتمعات أفكارهم وتصوراتهم، إذ باستخدامها تُحددُ معاني الأشياء والأفكار، مما يساعد في توضيح الفكرة ويجعلها قابلة للفهم والتفسير، كما أنها تُتيح للناس تبادل الأفكار والمعلومات والخبرات المكتسبة بطريقة دقيقة، ولولاها لتعذر أو لنقل لاستحال في كثير من الأحيان التواصل، ناهيك عن أنها هي الوسيلة التي يحللُ ويُفسرُ بدقة من طريقها الأحداث أو الظواهر، وبناء النقاشات الفكرية والعلمية، وتقديم وجهات نظر جديدة أو نقدية للمفاهيم السائدة. فإعادة صياغة المفاهيم وتطويرها يسمح بفتح مجالات جديدة للفكر، مما يسهم في تجديد المعرفة والتطور الثقافي والاجتماعي. وإجمالًا فالمفاهيم ليست كلمات أو مصطلحات، بل هي أدوات عقلية تنظّم العالم الذي نعيش فيه، وتساعد على فهمه والتفاعل معه بطريقة منظمة ودقيقة.

وانطلاقًا من هذه المعطيات فإننا أمام رهان المفاهيم، أو حرب المفاهيم لا نجد سبيلًا سوى أن نُعري ونكشف عن بعض جوانب هذه الحرب التي تلبس أشكالًا متعددة، والغاية هو تضليل الوعي، أو تزييف الحقائق بحثًا عن موضعة فقه سياسي، وموقعته من جديد في سياقات لم يعد قادرًا على الاندماج معها، بل له أن يطرح نفسه بديلًا منها. وهذا هو الموضوع الذي سنحاول أن نبحث فيه ونفكك بعضًا من جوانبه، ونشير إلى خطورته وتداعياته وتناقضاته مع الثقافة الحقوقية والمكتسبات الإنسانية والتراكمات التي حققتها البشرية في تعاطيها مع مفهوم الدولة. هنا يقف مفهوم الخلافة شاهدًا على الرهان الأصولي الخاسر، والتمسك بأشكال عتيقة في البناء السلطوي لدولة الخليفة أو ظل الله في الأرض أو غيرها من المفاهيم التي ما تزال تكتسب شرعية لدى بعض التنظيمات السلفية، وحركات الإسلام السياسي المراهنة على استعادة الخلافة كما تمثلت في التاريخ، والمِخيال الجمعي للعقل المسلم.

هنا يحق لنا أن نتساءل ماذا تعني الخلافة؟ وكيف سُيِّسَ المقدس في خطاب دعاة الإسلام السياسي؟

  • مفهوم الخلافة ومأزق الدولة الحديثة:

ترى الأصوليات الدينية مفهوم الخلافة النموذج السياسي الأوحد والأمثل للسلطة في الإسلام، وهي رؤية تنتجُ من فقه سياسي نضج في بيئات مختلفة، كما استند إلى شرعية روائية كبيرة جعلت من الخلافة الشكل الأرقى في المنظومة الدينية، فقد عُدت امتدادًا لحكم النبي محمد ﷺ، وتجسيدًا لوَحْدة المسلمين تحت رايةٍ واحدة. ولو تأملنا في السياق السياسي الإسلامي لوجدنا مجموعة من الروايات تؤطر هذا المفهوم وتجعله أساسًا لنظام الحكم في الإسلام، ولعل أهمها ما يلي: روى الإمام أحمد في مُسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون مُلكًا جبريًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت.” قال رسول الله ﷺ: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.” رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. قال رسول الله ﷺ: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم يكون بعد ذلك مُلكًا.” رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع ٣٥٣٢.

غير أن مفهوم الخلافة لم يكن ثابتًا عبر التاريخ، بل شهد تحولاتٍ جوهريةً في بنيته وأهدافه، طبقًا للظروف السياسية والاجتماعية التي سادت في كل عصر. فمن الخلافة الراشدة التي قامت على أساس الشُورى والبيعة، إلى الخلافة الأموية والعباسية التي أخذت طابعًا ملكيًا وراثيًا، وصولًا إلى العهد العثماني الذي عُدَّ آخر أشكال الحكم الإسلامي الذي تبنَّى هذا اللقب. ومع سقوط الدولة العثمانية في 1924، أضحى مفهوم الخلافة مثار جدل واسع، بين من يراه ضرورةً دينيةً وسياسيةً لاستعادة وَحْدة المسلمين، وبين من يراه نظامًا تجاوزه الزمن، ولم يعد ملائمًا لمتطلبات الدولة الحديثة.

في ظل هذه النقاشات تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الخلافة، من طريق مقاربةٍ تاريخيةٍ تحليليةٍ، لفهم أصوله وتحولاته وإمكانات استعادته أو استبداله بأشكالٍ أخرى من الحكم تتلاءمُ مع معطيات العصر، لكن قبل الخوض في مفهوم الخلافة لا بُد لنا من أن نوضح فوارق جوهرية بينها وبين المكتسبات الإنسانية التي جاءت بها الدولة الحديثة والمعاصرة. ويمكن اختصارها فيما يلي:

  • السيادة الوطنية: تتمتع الدولة الحديثة بسيادة غير قابلة للمساس على أراضيها وسكانها. السيادة تعني أن الدولة لها القدرة على بسط نفوذها في نطاق حدودها، ولا تخضع لأي سلطة خارجية. ذلك يشمل القدرة على اتخاذ القرارات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية بحرية دون تدخل من قوى خارجية.
  • الدستور والمؤسسات القانونية: يمثلُ الدستور في الدولة الحديثة القاعدة القانونية التي تنطلق منها كل التشريعات والقوانين التي تهدف إلى تنظيم علاقات الدولة مع المواطنين، وعلاقة المواطنين بعضهم ببعض. كما يفصل الدستور بين السلطات المختلفة: التنفيذية، التشريعية، القضائية، ويضمن حماية الحقوق الفردية والجماعية.
  • الفصل بين الدين والسياسة: في الدولة الحديثة السلطة العليا تكون للقانون، ويجب أن تكون مستقلة عن الدين. ويعزز هذا الفصل بين الدين والدولة من حرية الأفراد في ممارسة معتقداتهم الدينية وحرياتهم العقدية.
  • المواطنة وحقوق الإنسان: تقوم الدولة الحديثة على أساس المواطنة، التي يتمتع المواطنون فيها على قدم المساواة بحقوقهم وواجباتهم أمام القانون، وليس هناك مجال للمفاضلة بينهم إلا بمقدار وعيهم وإنتاجيتهم وحسن أخلاقهم داخل منظومتهم الاجتماعية، ويشمل ذلك حقوقًا مثل حُرية التعبير، الحق في التعليم، الرعاية الصحية، الحق في الانتخاب.
  • الديمقراطية: النظام الديمقراطي هو أساس الدولة الحديثة ويعني أن الشعب هو مصدر السلطة. لتتيحَ الديمقراطية للمواطنين اختيار حكامهم وممثليهم البرلمانيين، من طريق انتخابات دورية من أجل مراقبة أداء الحكومة، وجعلها خاضعة لإرادة الشعب.
  • التنظيم الإداري والاقتصادي: الدولة الحديثة تهتم بإدارة شئونها الداخلية والخارجية بطريق منظم، وتستخدم مؤسسات إدارية متخصصة في مجالات مثل التعليم، الصحة، الأمن، الاقتصاد، كما تلعب الدولة دورًا أساسيًا في تنظيم النشاط الاقتصادي من طريق وضع سياسات اقتصادية تسهم في النمو الاجتماعي ورفاهية المواطنين، مثل الأنظمة الضريبية والرعاية الاجتماعية.
  • الشرعية: إذا كانت الديمقراطية تستند إلى الإرادة الشعبية في الدولة الحديثة، فإن ذلك يعني أن الشرعية لا تأتي من حق إلهي كما هو حال نظام الخلافة في الإسلام. فالحاكم في الدولة الحديثة لا يُعدُّ خليفة لله أو مُمثلًا له على الأرض، بل هو مسئول أمام المواطنين، ويحكم بناءً على تفويض شعبي.
  • الحدود الجغرافية: من الخصائص الرئيسة للدولة الحديثة هي وجود حدود جغرافية مُعترف بها دوليًا، هذه الحدود تحدد مكان الدولة داخل المجتمع الدولي، وتتيح لها ممارسة سيادتها على أراضيها.
  • الدور الدولي: تلتزم الدولة الحديثة وتعمل طبقًا للقانون الدولي، ومقتضيات العلاقات الدولية التي تتضمن معاهدات، اتفاقيات، المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة. إذ تحترم بالضرورة قواعد القانون الدولي، مثل حقوق الإنسان وحل النزاعات بطرق سلمية.

وإذا وقفنا على هذه التباينات أمكننا أن نعكس كل ما قيل حينما نتحدث عن نظام الخلافة، ومن ثم نجد أنفسنا أمام ما أسميناه بمأزق الدولة الحديثة، بمعنى أن التنظير لنظام الخلافة وفق ما رُصِدَ في التراث الإسلامي في العالم المعاصر، يمكن أن يكون ضربًا من المستحيل، ليس فقط لأنه نظام ينتمي إلى الماضي، بل لأنه يحمل تناقضات عميقة، مع كل ما وصلت إليه الإنسانية في علاقتها بالدولة والاجتماع الإنساني. فإذا كان التاريخ يمشي بحركة مستقيمة، ويأبى الرجوع إلى الوراء فيما يتعلق بالعلوم الدقيقة والتقنيات، فإنه يأبى بالدرجة نفسها أن يقبل الأنظمة البائدة التي تنتجُ من أساطير الدولة التي تُديرها السماء.

لكن لماذا هذا الإصرار؟

لأنه كلّما تعمَّقنا في دراسة طبيعة الدولة وسيادتها وآليات ممارسة السلطة فيها، وجدنا أنفسنا أمام تاريخ طويل من الفكر الفلسفي المرتبط بنظرية الدولة. ولا يمكن المرور بهذا المسار دون التوقف عند مفاهيم السيادة والسلطة والحكم المطلق، بوصفها إشكاليات مركزية في الفكر السياسي المعاصر. وعند الانتقال إلى السياق الإسلامي، تبرز مفاهيم ذات طابع خاص، متأثرة بالاختلاف الثقافي، لكنها تتقاطع في كثير من الأحيان مع مفاهيم متداولة داخل المنظومة السياسية الحديثة. ففي التجربة السياسية الإسلامية، لم يعد هناك فصل واضح بين ما هو إلهي وما هو بشري في ممارسة السلطة، خاصة لدى أولئك الذين منحوا حكمهم طابعًا مطلقًا، وادَّعوا أنهم يحكمون بالحق الإلهي، سواء بوصفهم خلفاء لله أو نُوابه، أو على غرار ما عُرف في أوروبا في العصور الوسطى من حكم بالحق الإلهي.

الاقتراب فقط من مفهوم الدولة لدى التيارات الأصولية الإسلامية، والمنظّرين لمشروع الخلافة، يكشف عن مجموعة من المفاهيم التي تُطرح بوصفها أسسًا فكرية لمفهوم الدولة في إطار الإسلام السياسي. هذا الطرح الذي يتعارض تعارضًا جذريًّا مع مفهوم الدولة الحديثة، كما هو مُتعارف عليه في الأدبيات السياسية المعاصرة، لا يدفع الإسلاميين عمومًا إلى إعادة النظر في أفكارهم أو تقديم قراءة واقعية للواقع، بل على العكس يتمسَّكون بفكرة أصالة الدولة الإسلامية وضرورة إقامتها وفق منهج الخلافة، كما أنَّ بعضهم يعتمد مقاربة نفعية، يستفيد فيها من مقومات الدولة الحديثة ومن الحريات التي توفرها بعض الأنظمة، بهدف التمكين لمشروعه السياسي. ورغم ذلك لم يُقدّم دعاة الفكر السياسي الإسلامي موقفًا واضحًا بخصوص مفهوم الدولة، ولم تتبلور لديهم رؤية محددة للتداول السلمي للسلطة بعيدًا عن تأثيرات نظرية الخلافة، بل إن تنظيراتهم في هذا المجال تظل محكومة بكثير من الالتباس اللُّغوي والتشويه المنظّم لبعض المفاهيم، إلى جانب محاولة استيعاب الحقل السياسي الغربي وتطويعه لخدمة مشروعهم الأيديولوجي، رغم أن هذا المشروع وُلد في سياقات تاريخية مختلفة تمامًا.

ولتبيين مدى هذا التناقض يكفي الاطلاع على كتابات منظّريهم ودعاتهم، لنجد أنهم يبرّرون الجمع بين المتناقضات بوصفه جزءًا من العمل السياسي الشرعي، فهم على سبيل المثال، يدَّعون أن الديمقراطية وأنظمة الحكم المادية في الغرب ما هي إلا امتدادًا لمفهوم الشورى الإسلامي، وأن مدنية الدولة الغربية ليست إلا ترجمة متأخرة لمبادئ الإسلام السياسي، كما يزعمون أن مفهوم الحقوق في الإسلام سبق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مستشهدين بمدونات الفقه الإسلامي، وأن الحريات الثقافية جزء أصيل من التراث الإسلامي، رغم أن ممارساتهم الفعلية غالبًا ما تعكس رؤية مغايرة.

  • الخلافة: من سياق النَّشأة إلى التَّحريف

قبل الخوض في مفهوم الخلافة كما ورد في القرآن الكريم، من الضروري تقديم مقدمة منهجية تُساعد في فهم كيفية نشوء المفاهيم وتطورها وتحريفها عبر الزمن، خاصةً فيما يتعلق بالمفاهيم القرآنية. فقد خضعت الدراسات التي تناولت النص القرآني لتوجهات فكرية متعددة، مما أدى إلى تنوع القراءات واختلاف التفسيرات، تبعًا لمنهجيات الباحثين والمفسرين. ولم يكن هذا التنوع وليد اللحظة، بل هو امتداد للتفاعل الفكري المستمر داخل الثقافة الإسلامية عبر العصور.

منذ أن بدأ التعامل مع القرآن الكريم بوصفه علمًا مستقلًا، ظهرت اختلافات جوهرية أدت إلى نشوء مدارس تفسيرية متعددة، مثل: التفسير بالمأثور والعقلي والإشاري والفقهي، مما يعكس مدى غِنَى النص القرآني بالإيحاءات والمعاني والقصص، التي أفرزت احتمالات تأويلية متباينة، وصلت في بعض الأحيان إلى التناقض. ومع ذلك فإن الهدف ليس الانحياز إلى منهج دون آخر، أو الادعاء بصحة قراءة معينة وإقصاء غيرها، بقدر ما هو تسليط الضوء على مركزية النص القرآني في تكوين هذه القراءات والتأويلات المختلفة، بغض النظر عن المناهج والأدوات المستخدمة في دراسته.

لقد مَنَحَ النص القرآني، كما أشار محمد أركون[1]، قيمة رمزيةً ومعرفيةً ووظيفيةً جعلته محورًا للتفاعل الفكري بين المسلمين عبر العصور، غير أن هيمنة المدرسة السُنية التقليدية، التي عُرفت بأهل الأثر أدت إلى ربط القرآن بالروايات النبوية وأقوال الصحابة والتابعين، مما جعل النص التأسيسي نفسه في موضع ثانوي أمام الإنتاج الثقافي والديني اللاحق، الذي أصبح يُعبر عن تفاعل الإنسان مع الظاهرة الدينية أكثر مما يعكس جوهر النص القرآني نفسه.

إن هذا التفاعل المستمر مع النص أفرز نصوصًا موازية، اكتسبت التفاسير والشروح والتأويلات فيها مكانة شبه مقدسة، وأصبحت تنافس النص الأصلي في احتكار الحقيقة الدينية، وكما يُشير علي حرب[2]، فإن القراءة ليست انعكاسًا مباشرًا للنص، بل هي عملية تحريف وإعادة تكوين لمعانيه وفق السياقات المختلفة، وهو ما يجعل الوصول إلى “الحقيقة المطلقة” أمرًا مستحيلًا. وقد أكد الباحث عبد الجواد ياسين[3] أن التطورات السياسية والدينية أضافت أبعادًا تأويلية للنصوص، خاصة فيما يتعلق بمسألة السلطة، وهي أبعاد لم تكن حاضرة في زمن النزول.

  • المنهج المعرفي القرآني[4] لدى أبو القاسم الحاج حمد

أبو القاسم حاج حمد هو أحد المفكرين السُودانيين الذين حاولوا تقديم قراءة جديدة للقرآن الكريم من طريق ما يُعرف بـ “المنهج المعرفي القرآني“، وهو منهج يسعى في إعادة فهم النص القرآني وفق سياق حضاري ومعرفي شامل، يتجاوز القراءات التقليدية التي حصرت التفسير في نطاق النقليات أو الموروث الفقهي.

ويمكن حصر منهجه حصرًا مُختصرًا من طريق العناصر التالية:

  • التمييز بين “الوحي الإلهي” و”الواقع البشري”، يرى حاج حمد أن القرآن ليس نصًّا دينيًّا مُوجهًا للمؤمنين فحسب، بل هو خطاب كوني يتعامل مع الإنسان في أبعاده الكاملة، وهذا يستلزم تجاوز الفهم التراثي المحدود للنص، والبحث عن دلالاته وفق التحولات الحضارية والمعرفية المستمرة.
  • التفسير وفق النسق الحضاري، يؤكد حاج حمد أن القرآن يحتوي على مبادئ كونية تحكم حركة التاريخ والمجتمعات، وهو ما سماه بـ “السنن التاريخية“، يمكن من طريقها فهم النص في ضوء التغيرات الحضارية، وليس من خلال التفسير اللُّغوي أو الفقهي التقليدي.
  • إعادة تعريف المفاهيم القرآنية، من القضايا التي ركز فيها حاج حمد هي إعادة قراءة المفاهيم القرآنية مثل “الخلافة“، “النبوة“، “الشريعة“، فقد رأى أن هذه المفاهيم لم تعد تُفهم في سياقها الحقيقي بسبب التأويلات التاريخية التي حمَّلتها دلالات سياسية وفقهية لم تكن مقصودة في الأصل.
  • مقاربة علمية ومعرفية للنص، دعا حاج حمد إلى ضرورة التعامل مع القرآن بمناهج معرفية معاصرة، مستفيدًا من العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع رفضه للقراءة السلفية التي تقصر الفهم على التفاسير التراثية، وكذلك رفضه للقراءة الحداثية الغربية التي تنظر للنص القرآني بمعزل عن بعده الغيبي.
  • النقد الجذري للتراث الإسلامي، انتقد حاج حمد عديدًا من المسلّمات التي رسّختها المدارس الفقهية التقليدية، فقد رأى أن الفقه الإسلامي لم يستوعب البعد الكوني للنص القرآني، مما أدى إلى انغلاق الفكر الإسلامي في أطر جامدة لا تستجيب لمتغيرات العصر.
  • البعد التطبيقي لرؤية القرآن: لم يكتفِ حاج حمد بالنقد، بل حاول تقديم رؤية عملية لما يُسميه “التجديد الحضاري“، وهو يرى أن القرآن ليس كتابَ تشريعات، بل هو مشروع حضاري يُمكّن الإنسان من تحقيق الاستخلاف وفق رؤية متجددة تستفيد من كل التجارب الإنسانية الناجحة.

وإذا كانت رؤية حاج حمد وغيره تنطلق من قراءة القرآن الكريم من طريق منظور يُراعي المفاهيم القرآنية وسياقات تكونها، فإن مفهوم الخلافة القرآني ينطبق عليه ما نظر إليه حاج حمد كونه مفهومًا خضع لتغيرات كانت محكومة بسياق تجزيئي، يرى المفاهيم خادمةً للمشاريع العقائدية والسياسية لأصحابها. وهذا المنهج هو منهج معرفي نقدي يحاول تجاوز القراءات التراثية والحداثية للقرآن، من طريق قراءة جديدة تعتمد على فهم السنن التاريخية، وإعادة تعريف المفاهيم، والانفتاح على المناهج العلمية المعاصرة، مع الحفاظ على خصوصية النص القرآني بوصفه خطابًا إلهيًّا يتجاوز الأطر الزمنية والثقافية المحدودة.

وفي هذا السياق نجد أن مفهوم الخلافة كما ورد في القرآن يختلف اختلافًا جوهريًا عن المفهوم الذي حُمِّلَ لاحقًا عبر العصور، سواء في حقب ما بعد وفاة النبي محمد ﷺ أو في الأزمنة الحديثة، فقد استُدعي الماضي الذهبي وأُسقط على الحاضر من منظور معياري يرى في ذلك العصر نموذجًا للصلاح والنجاح.

وهنا يطرح مصطفى كمال مهدوي[5] تساؤلًا جوهريًا: كيف يُستَخْلفُ الله، وهو الموجود فوق كل وجود؟ فالخلافة كما صُدرت لا تكون إلا عن غائب، وحاشا لله أن يغيب عن خلقه لحظة واحدة، كما يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (فاطر: 15). فمفهوم “الخلافة” في اللغة العربية يدل على شيء متروك أو متأخر، كما في قوله تعالى: “وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا” (التوبة: 118)، أي تُرِكوا وتأخروا. وكذلك في قوله: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً”، أي كائنًا متروكًا في الأرض ليتصرف في شؤونها.

وقد كانت الملائكة أول من تساءل عن الحكمة من وجود هذا الخليفة في الأرض، قائلة: “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” (البقرة: 30)، مما يعكس فهمها الأولي بأن الخليفة سيكون مخلوقًا مخيرًا قد يفسد أو يصلح، وليس كائنًا مسيّرًا كغيره من المخلوقات الخاضعة لسنن الله الكونية.

ومن ثم فإن دراسة مفهوم الخلافة تقتضي العودة إلى معناه الأصلي في القرآن الكريم، بعيدًا عن التحولات التاريخية التي أضافت إليه أبعادًا سياسية واجتماعية لم تكن موجودة في زمن التنزيل، مما يتطلب إعادة النظر في التصورات السائدة حوله بعيدًا عن إسقاطات الماضي وأوهام العودة إلى نموذج مثالي متخيل.

  • الخلافة والتباس المفهوم: رؤية نقدية

المفاهيم بطبيعتها عصيّة على التحديد، لكنها قابلة للتتبّع والاستقراء، وكغيرها من الألفاظ والمصطلحات، تخضع لتحولات وتحريفات تفرضها متطلبات الإنسان وتغيرات الفكر، سواء لمواكبة التطور أو التكيف مع الطموحات والإحباطات. في هذا السياق لا تقتصر “الخلافة” على كونها نظامًا سياسيًا أو نموذجًا للدولة، بل تتجاوز ذلك لتصبح أداةً للهيمنة وبَسْطُ النفوذ، إذ تمنح السلطة إلى كِيان مطلق يَحدُّ من إمكان الممارسة السياسية المستقلة، ما دام كل شيء محكومًا بإطار ديني مقدّس وفكر يتجاوز حدود الزمان والمكان.

منذ وفاة النبي محمد، استمرَّ الجدل بخصوص طبيعة الدولة الإسلامية، مما أفرز أنظمة حكم متباينة، كلٌّ منها يستند إلى شرعية خاصة تتمحور غالبًا حول مفهوم “الخلافة“. وقد أَكَّدَ محمد عمارة [6]أن جوهر النظام الإسلامي يتمثل في “الاستخلاف الإلهي للإنسان“، يُتصور فيه أن الدولة الإسلامية تُدار بواسطة “خليفة” ينوب عن الله في الأرض، ملتزمًا بتطبيق الشريعة ونشر الدين. ووفق هذا المنظور يُفترض أن يتبع الإنسان طريق الحق الذي رسمته الشريعة، في حين تُناط بالحكومة مسئولية تنفيذ القوانين الإلهية لتحقيق العدل والتقدم.

طرح أحمد القبانجي[7] رؤيةً ناقدة لهذه الفكرة، إذ يرى أن الخلافة تتجاوز البعد البشري لتلامس المطلق الإلهي، يتحوّل الخليفة فيها إلى مُمثل للسلطة الإلهية في الحكم. وتُذكِّر هذه الرؤية بما أشار إليه مارسيل غوشيه[8] في حديثه عن الملكية في فرنسا، فقد كانت السلطة تُفرض من فوق إرادة البشر، إلى أن جاءت الثورات الحديثة وأعادتها إلى المجال البشري. قد يبدو الربط بين الخلافة الإسلامية والملكية المطلقة في أوروبا غير منطقي للوهلة الأولى نظرًا لاختلاف السياقات، إلا أن التشابه يكمن في استمداد الحاكم شرعيته من تمثيله للإرادة الإلهية، مما أرسى أنظمة حكم مطلقة. وقد طَوَّر فلاسفة مثل بودان وهوبز وميكيافيلي نظريات تدعم الحكم المطلق الذي لا يختلف في جوهره عن النظام الديني القائم على “الحق الإلهي“، وإن اختلفت المرجعيات.

ويؤكد أبو الأعلى المودودي[9] هذا الطرح حين قال: “الخلافة الراشدة لم تكن حكومة سياسية، بل كانت نيابة تامة عن النبوة”، فيما أضاف رشيد رضا[10] أن الخلافة والإمامة العظمى وإمارة المؤمنين، كلها مصطلحات لمعنى واحد، وهو “رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا”. تعكس هذه التعريفات طبيعة الخلافة بوصفها “نيابة عن النبوة“، مما يمنحها طابعًا مطلقًا يَحُول دون قيام ممارسة سياسية حرة، ويجعل العنف والقوة الوسيلة الوحيدة لضمان استمرار السلطة. يعود الإشكال الجوهري في هذه التصورات إلى مفهوم “الخلافة الراشدة“، وهو مصطلح لم يكن مُتداولًا في عصر النبي محمد، بل ظهر لاحقًا ليقتصر على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ. وقد أدى هذا التصور الذي كرسه علم الحديث بإضفاء عدالة مطلقة على الصحابة إلى تقديس التجربة السياسية الإسلامية، متجاهلًا العوامل التاريخية والإنسانية التي تتحكم في تطور الدول والمجتمعات.

نتيجة لذلك ظلت الخلافة مركزية في الفكر السياسي الإسلامي، مما منح السيادة طابعًا مطلقًا، فقد أصبح الخليفة يُمثل إرادة الله في الأرض. وقد بدا ذلك جليًا منذ حادثة السقيفة، التي دشّنت الصراع السياسي حول السلطة، وهو ما أكده محمد أركون، مُشيرًا إلى أن الهيمنة السياسية كانت المحرك الأساس لهذا التنازع، بدعم من منظومة مفاهيمية صاغها الفقهاء لتبرير شرعية السلطة، وهي الدينامية ذاتها التي نراها اليوم في خطابات الحركات الإسلامية تجاه الأنظمة الحاكمة.

 

المراجع:

[1] – أركون، محمد. الفكر الإسلامي نقد واجتهاد. ترجمة هاشم صالح. المؤسسة الوطنية للكتاب.

– أركون، محمد. (1996). تاريخية الفكر العربي. ترجمة هاشم صالح. (ط2).

[2] – حرب، علي. (1993). النص والحقيقة II. نقد الحقيقة (ط1). بيروت. المركز الثقافي العربي. ص: 6.

[3]– ياسين، عبد الجواد. (2000). السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. (ط2). بيروت. المركز الثقافي العربي. ص: 201.

[4] – أبو القاسم، حاج حمد. منهجية القرآن المعرفية. دار الهادي.

[5] – مهدوي، مصطفى كمال. البيان بالقرآن. على الرابط التالي: http://www.libya-watanona.com/adab/mmehdawi/mm10046a.htm

[6] – عمارة، محمد. (1998). هل الإسلام هو الحل: لماذا وكيف؟ (ط2). دار الشروق. ص: 67.

[7] – القبانجي. أحمد. الإسلام المدني. ثقافة إسلامية معاصرة (7). ص: 18. ملف PDF.

[8] – غوشيه، مارسيل. (2007). الدين في الديمقراطية مسار العلمنة. ترجمة وتقديم شفيق محسن. مراجعة بسام بركة. (ط1). المنظمة العربية للترجمة. ص: 28

[9] – المودودي، أبو الأعلى. (1978). الخلافة والملك. تعريب أحمد ادريس. (ط1). دار القلم. ص: 63.

[10] – رضا، محمد رشيد. (1988). الخــــلافــــة. الزهراء للإعلام العربي. القاهرة. ص: 17

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete