تكوين
تعرضت الرؤية التي تقرن بداية النهضة العربية الحديثة ببزوغ القرن التاسع عشر، في عديد من الدوائر الاستشراقية والعربية، للمراجعة طول النصف قرن الأخير؛ وذلك في مجموعة من الدراسات التي يبرز من بينها دراسات كل من بيتر جران ونيللي حنا ووليم الخازن وعبد الله العزباوي التي كشفت كلٌّ منها بطريقتها وبمنحاها في الفهم والتحليل عن عديد من وجوه التغيير التي حلت بعديد من مجالات الثقافة العربية في ذلك القرن(1)، وقد أفضت هذه الدراسات المتنوعة إلى تأكيد أن بواكير النهضة العربية الحديثة تعود إلى القرن الثامن عشر الذي ما نزال نجهل الكثير عن مقوماته الثقافية وعلاقتها بالمتغيرات الاجتماعية والحضارية. وحين يسلِّم المرءُ بأن النهضة العربية الحديثة قد بزغت في منطلق القرن التاسع عشر فإنه يرى، بقدر من الوضوح، أن هذه النهضة قد أكملت، بكل ما اعتراها من تحولات وتحديات وما شهدته من تقلبات وانتكاسات، قرنين كاملين من عمرها، وشرعت منذ ربع قرن إلا قليلا تقطع القرن الثالث من مسيرتها. ولعل مراجعة مسيرة الثقافة العربية الحديثة خلال القرنين المنصرمين تكشف عن مجموعة من الملامح التي تستلفت الانتباهَ لمراجعتها وتأملها والتعامل معها بوصفها علامات كاشفة عن عديد من ظواهر الثقافة العربية؛ لاسيما تلك الظواهر الكاشفة عن تأثيرها وفعاليتها في الواقع العربي. ونكتفي في هذا السياق بالوقوف عند ظاهرة كون الثقافة العربية الحديثة ثقافةً تعتد بالذاكرة وتُحِلُّها مقامًا عليًا من حيث الأدوار التي تقوم بها في حياة الجماعة العربية، ولعلنا نستطيع أن نتفهم طبيعة تلك الذاكرة وطريقة عملها ووظائفها حين نتفهمها على أساس من مفهوم “الذاكرة” المترسب في مجالات علم النفس حيث تبدو آلة تحفظ الخبرات الماضية، وتقوم باستعادتها واستحضارها، والتعرف عليها، مما يتيح لصاحبها إمكانات التعلم والفهم(2). وهو مفهوم يمكن بسطه على الذاكرة الجمعية التي تتصف بالطبائع ذاتها، كما تقوم بوظائف متشابهة، لكن هذين الأمرين يتسمان في حالتها بكونهما أكثر تعقيدا بكثير من الذاكرة الفردية حيث تنطوي تلك الذاكرة الجمعية على كم هائل من المواد المتنوعة التي تظل في حركة مراوحة بين الخمود والنشاط الذي يخضع لمجموعة كبيرة من المؤثرات التي تدفع تلك الآلة إلى أداء أفعال تنشيط وإخماد دائمة، كما تقوم تلك الالة بحفظ المواد وتنظيمها بطرائق متنوعة طبقا للأدوار التي تمارسها الفئاتُ الاجتماعية ذات الفعالية في تشغيل تلك الآلة وتنشيطها وتحريكها في فضاءات الواقع الاجتماعي. ومن هذه الزاوية توصف تلك الذاكرة الجمعية بانها “ذاكرة ثقافية”، كما توصف الثقافة في تحققها وفي وجودها التاريخي المتوالي بأنها “الذاكرة الجمعية” لمجتمعها. ومن ثم يستطيع من يتأمل علاقة الثقافة العربية الحديثة بتراثها الذي هو أيضا بديلٌ مماثل للذاكرة الثقافية أن يصف تلك العلاقة بأنها تعد، من جانب، دليل حيوية وتواصل مما يجعلها كاشفة عن متانة علاقة الثقافة العربية الحديثة بذاكرتها الثقافية الجمعية، لكن تلك العلامة تكشف عن كون “الثقافة العربية الحديثة” قد صارت لامتدادها الزمني الكبير والمتواصل “ذاكرة ثقافية” فعالة في حياة المجتمع العربي الحديث، لكنها تتبدي – عند النظر العميق والمتأني إليها- ثقافة مليئة بالثقوب التي تشير، بطريقة أو بأخرى، إلى أن هذه “الذاكرة” لا تحفظ، مما يجب أن تحفظه في طبقاتها المختلفة، إلا قدرا ناقصا من ذلك الكم الكبير، كما أنها تكتفي دائما برصِّ ذلك المحفوظ رصًّا آليا دون أدني تفعيل لأوليات المعرفة التاريخية التي تقتضي وضع المحفوظ في أنساق وأنظمة تتيح للأجيال الحالية والقادمة الاستفادةَ منها، كما تتيح للباحثين في الدراسات الإنسانية على تنوعها إدراكَ حقيقة الجهود المختلفة التي قامت بها الأجيال السابقة واكتشافَ الطرق التي استطاعت تلك الأجيال تفعيلَها لحل العقبات الثقافية التي واجهتها، والإلماحَ إلى جوانب من المساعي المضمرَة للتفاعل مع عديد من القضايا الثقافية والاجتماعية التي جابهتها هذه الأجيالُ عبر ما أنتجته نصوصها من مسكوتات عنها يمكن أن تكون ذات دلالة بالنسبة للقارئ الآني الذي يعاين مُنتَج الأجيال السابقة من صنَّاع النهضة العربية الحديثة.
النهضة العربية الحديثة
وتنجلي لوعينا المعاصر ظاهرةُ الثقوب الكثيرة التي تملأ ذاكرة النهضة العربية الحديثة من ملاحظة أن كمًّا ملحوظا من الإنتاج الفكري الذي قدمته معظم أجيال النقاد والمفكرين العرب المحدثين في القرن العشرين،الذي نكتفي هنا بتناول أمثلة منه، لم يُقدَّم بصورة كاملة ولم يُظهر على نحو دقيق يتيح للقارئ وللباحث في مسارات النهضة العربية الحديثة الاستنادَ إلى مجموعة من الموجِّهات والخرائط العامة التي تيسِّر له إمكانات الوقوف عند الأطر العامة لتشكل الاتجاهات النقدية والفكرية كي يقوم ذلك القارئ بقراءة هذا المنجَز للوقوف على خطوطه العامة ثم تجاوزها نحو درجات من القراءة العميقة للنصوص النقدية والفكرية، أو مجمل النصوص الثقافية، التي تجعله قادرا من ناحية على اكتشاف الجديد مما تُكنُّه هذه النصوص في بواطنها العميقة، وتتيح له من ناحية أخرى إمكانات الوقوف على عدد هائل من علاقات التفاعل سواء بين الخطابات الفكرية والنقدية من جانب، والخطابات السياسية والاجتماعية المعاصرة لها من جانب آخر، أو بين مكونات خطابات مجال من مجالات الثقافة في تواليها التاريخي.
ولعل من الأهمية بمكان بيان أن المنجزات والمنتجات الثقافية المختلفة التي تضمها الثقافة العربية الحديثة، بوصفها ذاكرة ثقافية جمعية، تتطلب من منتجي الثقافة العربية المعاصرة والباحثين في مجالاتها المختلفة القيام بمجموعة من العمليات المعرفية التي تبدأ من الجمع: جمع المنتجات الثقافية المختلفة جمعا مستقصيا، والتوصيف: الذي ينطوي على تقديم وصف دقيق لما تتضمنه هذه المنتجات الثقافية الوفيرة، والتصنيف الدقيق لكل منتج على حدة حيث يوضع في مجموعة المجالات الثقافية التي تنسرب معطياته في مساراتها المختلفة، ومن ثم يصبح القائمون بأعمال البحث العلمي في مجال من مجالات هذه الثقافة أو في عدة مجالات منها قائمين على إتمام هذه المهام بمهام أخرى ذات طبائع شمولية، وهي مهام بيان التيارات الرئيسية والتيارات الثانوية التي شكلت تلك الذاكرة، وبيان الأدوار المختلفة التي أداها صُنَّاع هذه الثقافة بمنتجاتها المختلفة في بلورتها وما أسهموا به من إضفاء ملامح معينة عليها أو إضفاء سمات خاصة بهم في مستويات تلك المنتجات بوصفها خطابات ثقافية دالة. ولعل الحصيلة النائية التي تنجلي عن تحقيق تلك المهام في تواليها وفي تفاعلها وجدلها معًا ستكون وضع مجموعة من الخرائط الفكرية الدالة التي تبين مكونات التيارات الثقافية المختلفة، وتكشف عن مستنداتها الثقافية والفكرية الحقيقية، وتدلل على الأدوار المختلفة التي قام بها صُنَّاع كل تيار في بلورته وإخراجه إلى الوجود العيني المباشر الذي يلتقي في سياقاته المتعددة صنَّاع الثقافة بمتلقيها. كما تفضي هذه العمليات الثقافية بوصفها دائرة متواصلة ذات فعالية مؤثرة في إتاحة نصوص الثقافة العربية الحديثة وخطاباتها المختلفة ليقوم منتجو الثقافة العربية المعاصرة ودارسوها بقراءات متجددة لها من منظورات لحظتهم التاريخية المتباينة بما يتيح للثقافة العربية المعاصرة إمكانات إنتاج ولادات متجددة لا تفقد فيها علاقاتها بالثقافة العربية الحديثة، كما تستثمر فيها مجموعةَ الخبرات التي راكمتها الممارسات الثقافية العربية الحديثة بما يجعل من عناصر البناء التي راكمتها الثقافة العربية الحديثة عناصر فعالة في أبنية الثقافة المعاصرة وخطاباتها المختلفة، كما يتيح لمنتجي تلك الثقافة الحديثة إمكانات القضاء على “السلبيات” التي صاحبت عمليات مراكمة الثقافة الحديثة في الوعي العربي الحديث وامتداداته المعاصرة.
وتواجه تلك المطامحَ المعاصرة مجموعةٌ من العقبات المتصلة بحفظ منتجات الثقافة العربية الحديثة بوصفها ذاكرة ثقافية، ولضيق المقام سنكتفي هنا بالوقوف عند عقبة واحدة آملين أن يتاح لنا، في إطار مستقبلي آخر، إمكانَ الوقوف عند غيرها من العقبات. ولعل النشر العلمي الدقيق والمستقصِي لكتابات أعلام الثقافة العربية الحديثة في مجالاتها المختلفة ولاسيما مجالي النقد والفكر مجرد خطوة أولى توفر المادة الأساسية التي يقوم أو سيقوم الدارسون المعاصرون، وكذا المنتمون إلى الأجيال القادمة، بدراستها وتجريب طرائق البحث المعاصرة؛ ولاسيما طرائق تحليل الخطاب والدراسات الثقافية والتاريخية الجديدة أو التحليل الثقافي ونظريات القراءة والتأويل وغيرها من التوجهات المعاصرة في إعادة قراءة ما تتضمنه كتابات أولئك النقاد والمفكرين؛ وذلك سعيا لإنتاج قراءات جديدة لها تجمع بين رؤيتها في ضوء جدلها مع سياقاتها الثقافية المرتبطة بسياقاتها التاريخية والاجتماعية، من ناحية، ومعاودة النظر إليها في ضوء واقع الثقافة العربية الحديثة، من جانب آخر. وذلك ما يجعل من نتاج القراءة سبيلا من سبل السعي إلى المستقبل. وستظل إمكانات القيام بهذه القراءات مقيدةً بما نُشر من كتابات أولئك المفكرين والنقاد نشرا علميا دقيقا. وسنكتفي في الفقرات التالية بتقديم بعض نماذج دالة على حقيقة وجود الثقوب في الذاكرة الثقافية العربية الحديثة؛ بما يتيح للقارئ تمثُّل النتائج التي ترتبت على رسوخ تلك الثقوب في طبقات تلك الذاكرة.
ولعل من يراجع حصيلة الجهود التي بدأت منذ عقود ليست طويلة في مصر وغيرها من دول العالم العربي لنشر كتابات المفكرين والنقاد سيلحظ، بقدر من اليسر، أن نسبة توازي 99% من النقاد والمفكرين لم تنشر كتاباتهم الكاملة حتى الآن، وحتى من نُشرت لهم كتاباتهم تحت مسمى “الأعمال الكاملة” فما تزال هذه “الأعمال الكاملة” ناقصة بشدة عديدا من كتابات هذا الناقد أو المفكر أو ذاك. ويمكننا أن نرى أن مراجعة المنشور من كتابات النقاد والمفكرين المحدثين ستكشف عن وجوه النقص العديدة التي تعرضت لها، وهي وجوه قد تكون قليلة أو محدودة في بعض الحالات لكنها بارزة ودالة، وربما صارخة، في معظم الحالات. فوجوهُ النقص تلك تنجلي فيما نُشر من كتابات نقاد ومفكرين كثيرين يشملون مجموعة من الأجيال التي تبدأ بالجيل الذي وُلد في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر وبدأ قرب نهاية العقد الأول من القرن العشرين جهوده الثقافية، وذلك من أمثال أحمد ضيف(1880-1945)، ومصطفى عبد الرازق(1885-1945)، وعلي عبد الرازق(1888-1966)، وأمين الخولي(1885-1966)، وأحمد حسن الزيات(1885-1968)، وعبد الرحمن شكري(1886-1958)، وعباس محمود العقاد (1889-1964)، وسلامة موسى(1887-1958)، وطه حسين (1889-1973)، وآخرين. ولا يختلف وضع هذا الجيل عن الجيل التالي الذي وُلد ممثلوه في العقدين الأولين من القرن العشرين وبدؤوا نشاطهم الثقافي في مرحلة الثلاثينيات من القرن نفسه من أمثال محمد مفيد الشوباشي (1899-1984)، وعثمان أمين(1905-1978) ، ومحمد مندور(1907-1965)، وشوقي ضيف (1910-2005)، وسهير القلماوي(1911-1997)، رشاد رشدي (1912-1983)، ومحمد القصاص(1912-1987)، ولويس عوض(1914-1989)، وعبد العزيز الأهواني (1915-1980)، ومحمد أحمد خلف الله (1915-1997)، وعبد القادر القط(1916-2003). ويتصل بهذا الجيل جيلٌ تالٍ نشأ أبناؤه في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين وقدم المتقدمون منهم إنتاجهم الثقافي بدءًا من العقد الرابع من القرن ذاته، وهذا ما تمثله أسماء مثل أنور المعداوي(1920-1965)، وعلي الراعي(1920-1999)، وشكري عياد(1921-1999)، و محمود أمين العالم(1922-2009)، و لطيفة الزيات (1923-1996)، وعبد العظيم أنيس(1923-2009)، وأحمد عباس صالح(1926-2006)، وفاطمة موسى(1927-2007)، وفؤاد دوارة (1928-1996)، ثم عز الدين إسماعيل (1929-2007). وثمة جيل رابع نشأت طلائعه في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين وهو يتألف من مجموعة من النقاد والمفكرين من أبرزهم رجاء النقاش(1934-2008)، وعلي شلش (1935-1993)، و غالي شكري (1935-1998)، وعبد العزيز حمودة (1937-2006)، وسامي خشبة (1939-2008)، و فاروق عبد القادر (1939-2010)، وغيرهم آخرون.
وحين نستعيد ما نُشر من كتابات أولئك النقاد والمفكرين سنلحظ بيسر أن هناك أشكالا متنوعة من النقص الملحوظ في ذلك المنشور المتاح، وهذا النقص يشكل ثقوبا حادة ومتعددة في بنية الذاكرة الثقافية العربية الحديثة؛ ومن مجالي تلك الثقوب: فقدُ قدر من هذه الكتابات قد يكون محدودا كما في حالتي طه حسين والعقاد، على سبيل التمثيل، لكنه قدرٌ لا يستطيع الدارس لكتابات أيهما إغفاله أو التغاضي عنه؛ فمرحلة بدايات طه حسين الناقد والمفكر لا تزال بحاجة إلى البحث والتقصي على الرغم من جهود دار الكتب التي أصدرت قبل سنوات عدة مجلدات تتضمن كتابات طه حسين غير المجموعة في مؤلفاته، في مختلف المجالات، وخصصت منها مجلدا للنقد الأدبي والإسلاميات، وما قام به عبد الرشيد صادق المحمودي من نشر مجموعة من المقالات الأولى لطه حسين تحت عنوان “الكتابات الأولى”(2002)، وترجمته لمجموعة من كتابات طه حسين بغير العربية التي نشرها تحت عنوان “من الشاطئ الآخر”(2008) (3)، بل إن كتابات طه حسين المنسية لا تقتصر على مرحلة البدايات وحدها بل تمتد أيضا إلى المراحل التالية لها التي صار فيها طه حسين علمًا كبيرا ومتميزا في كثير من مجالات الثقافة العربية الحديثة؛ فثمة مجموعة من كتاباته تلك متفرقة في مصادر مختلفة ومتباعدة وغير معلومة إلا على نطاق محدود جدا من الباحثين. وقد توصل الناقد والباحث التونسي الكبير عمر مقداد الجمني إلى الكثير منها عبر عمل دؤوب ومتواصل على مدى أكثر من أربعة عقود؛ لأنه واحد من أبناء مدرسة طه حسين في تونس، تلك المدرسة التي أسسها المفكر وأستاذ الأدب المقارن منجي الشملي (-2016)، فأنتج المقداد في إطارها مجموعة من الكتابات بالغة الأهمية عن إسهامات طه حسين الثقافية: الفكرية والأدبية؛ منها “طه حسين مؤرخا”(1998) بجزأيه.
إقرأ أيضاً: منطلقاتُ النهضةِ وشرنقةُ التنويرِ
وفي حالات أخرى متعددة سنجد أن القدر غير المتاح من الإنتاج النقدي والفكري لعديد من المفكرين والنقاد هو القاعدة أمَّا الاستثناء فهو ذلك القدر القليل المتاح من ذلك الإنتاج وهذا ما يتجلى من تأمل حالات مثل محمد مفيد الشوباشي وأحمد ضيف وسهير القلماوي وأحمد صالح عباس وآخرين ممن يشكل المتاح من كتاباتهم نسبةً محدودة منها على حين أن غير المتاح هو الكم الأكبر منها، لكنه متناثر في بطون الدوريات المختلفة أو إطار المؤلفات الجماعية التي شاركوا فيها. وقد اكتشف كاتب هذه السطور، منذ ثلاثة عقود، أن كتابات محمد مندور النقدية والثقافية والسياسية والاجتماعية المطوية في بطون الدوريات تشكل قدرًا يفوق الكائن في مختلف مؤلفاته؛ وعلى الرغم من هذا أباح الكثيرون من دارسي مندور لأنفسهم الحديث عن تحولاته وعن جهوده في الفكر السياسي والاجتماعي، كما أباحوا لأنفسهم ربط تحولات مندور النقدية بمتغيرات رؤيته السياسية والاجتماعية!! وقد نشر كاتب هذه السطور مجلدين من كتابات مندور المجهولة في مجالات الأدب والنقد()، وهناك ستة مجلدات أخرى تضم كتاباته المجهولة في مجالات السياسة والمجتمع والتعليم وقضايا الثقافة تتنظر الصدور الذي سيؤدي إلى إعادة النظر في عدد من الرؤى السائدة لدى دراسي مندور حول إسهاماته في تلك المجالات ورؤاه لقضايا المختلفة وتحولاته الفكرية المتعددة.
وفي مختلف الحالات الأخرى سنجد أن معظم النقاد والمفكرين الذين أشرنا إليهم في الفقرات السابقة لا يزال قدرٌ له أهميته من كتاباتهم مطويا في بطون الدوريات أو حبيسا في الكتب ذات التأليف الجماعي.
ويمكن للمرء أن يشير هنا إلى أن عددا قليلا من نقاد القرن العشرين ومفكريه في مصر هم الذين أتيح لكتاباتهم نشرُ كاملها، وهذا ما يتضح في حالات محدودة، أولاها كتابات يحي حقي (1905-1987) الإبداعية والنقدية وفي مختلف المجالات التي أسهم فيها، وتم هذا بفضل الناقد فؤاد دوارة(1928-1996) الذي بذل جهودا ذاتية مخلصة لإنجاز هذا العمل الثقافي المثمر؛ إذ لولاه لتبددت إسهامات يحي حقي الثقافية، على خصبها وتنوعها، بما كان يؤدي إلى تقليص الوعي الثقافي بها لدى أجيال المحدثين والمعاصرين من المصريين. وثاني الحالات كتابات عبد الحميد يونس (1910-1988) الذي قام المجلس الأعلى للثقافة بنشر أعماله الكاملة التي تضمنت مختلف كتبه، وضمت أيضا مقالاته التي جُمعت من الدوريات المختلفة. وأما ثالثة هذه الحالات فهي كتابات إبراهيم عبد القادر المازني (1890-1949) الذي قام عبد السلام حيدر بجمع مقالاته من الدوريات ثم صنفها تصنيفا موضوعيا ونشرها في عدة مجلدات، ثم أخذ يعيد نشر كتب المازني التي سبق صدورها، وحين يكتمل نشر هذه الأعمال الكاملة سيتاح للقارئ، الذي يود التعرف على مختلف إسهامات المازني الأدبية والنقدية، إمكانيةُ التعامل مع مختلف عناصره للوصول إلى صورة يمكن أن تكون دقيقة لإسهامات المازني في الحياة الثقافية المصرية الحديثة.
إن وصف ذاكرة الثقافة العربية الحديثة بأنها ذاكرة مثقوبة يعني عددا من الدلالات الثقافية التي يحسن استحضارها وإيجاز بعضها؛ فما يزال افتقادنا إلى نشرات علمية ودقيقة وشاملة للأعمال الكاملة للنقاد والمفكرين العرب المحدثين حجرَ عثرة حقيقية في سبيل الإحاطة الشاملة والدقيقة بالتيارات الكبرى في ميدان الفكر والنقد العربي الحديث، وفي سبيل الوقوف المتعمق على التحولات التي أصابت تيارا من التيارات الفكرية أو النقدية أو تجلية المنحنيات التي مرت بها كتابات هذا الناقد أو المفكر أو ذاك. وهذا ما يتجلى بوضوح في حالات كثيرة نكتفي بالإشارة منها إلى كتابات طه حسين التي تتطلب وعيا جادا بسياقات نشرها مما يسهم في إضاءة تحولاته الفكرية أو يتيح نمطا من الوعي “الجاد” بمكامن هذه التحولات(5)، وهو ما يمكن ضمُّه إلى ما لاحظناه من قبلُ بصدد كتابات محمد مندور، وهما محض شاهدين نسوقهما على سبيل التمثيل المحض وليست الاستقصاء الوافي بحقيقة الظاهرة.
وعلى أي مسعى جاد إلى وضع التاريخ الثقافي الشامل للنهضة العربية الحديثة أن يبدأ بنشر مختلف كتابات مفكري النهضة ونقادها نشرا كاملا وعلميا؛ فبدون هذا العمل ستظل عديد من الأحكام، التي تُتداول في المجال الثقافي العام حول بعض جوانب النهضة العربية الحديثة أو أعلامها أو كتَّابها، تعاني قدرا ملحوظا من عدم الدقة والركون إلى الأحكام العامة التي لا تستند إلى نوع من المعرفة الاستقصائية بما كان من أمرها. إن مرور ما يقرب من ربع قرن من القرن الثالث لعصور النهضة العربية الحديثة دون توفر المقومات المعلوماتية، الكاملة والدقيقة، المتصلة بذاكرة الثقافة العربية الحديثة يعني أننا نبدأ من معرفة ناقصة ومشوَّهة بقرنين اكتملا من نهضتنا الحديثة دون أن نكون قادرين على ترسيخ مجموعة من الأسس العامة للنظر إلى مقومات التاريخ الثقافي الذي تتبدى فيه منتجاتُ الثقافة القومية في مختلف الدوائر التي تفاعلت معها من ناحية، كما تظهر فيه تلك المنتجات في إطار سياقاتها الجزئية المتصلة بمجالها المعرفي من ناحية ثانية، وفي إطار علاقات التفاعل بينها وبين السياقات الأخرى المترابطة معها من ناحية ثالثة. ولعل تشكل الوعي التاريخي بتجربة النهضة العربية في القرنين المنصرمين يعد رصيدا جذريا أساسيا لمراجعة ما تمَّ وإعادة تقييم ما أُنجر تطلعًا إلى اكتشاف الجديد الذي يلبى حاجةَ الحاضر، ولكن ذلك الاكتشاف لن يتحقق إلا بمراجعة الماضي القريب من مسيرة الثقافة العربية الحديثة التي يحسُن وصف قرنيها المنصرمين بأنهما أصبحا تراثا قريبا ومكوِّنا من مكونات الثقافة العربية المعاصرة، لكنه ذلك المكون الأقرب لنا ليس من حيث انتماؤه الزمني فحسب، بل لأن العديد من القضايا التي أثيرت في هذا التراث القريب ما تزال مثارةً حتى الآن. وذلك ما يجعل من النشر العلمي الدقيق لنصوص ذلك التراث القريب نشرا كاملا مقدمةً أولى تهيئ لنا نحن المعاصرين إمكانية قراءته قراءات جديدة تؤسس لأنماط من الوعي العميق به.
الهوامش
(1) نشير هنا إلى بعض مؤلفات جران ونيللي حنا خاصة، وهي:
– بيتر جران: الجذور الإسلامية للرأسمالية(1760-1840)، ترجمة محروس سليمان، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1992.
– نيللي حنا: ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية (ق 16- ق 18)، ترجمة رؤوف عباس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004.
(2) انظر: كمال دسوقي: ذخيرة علوم النفس، المجلد الثاني، مطابع الأهرام التجارية، 1990، ص – ص 852-854 حيث يعرض المفاهيم المختلفة لمصطلح “ذاكرة”، كما يعرض المصطلحات المختلفة التي تدخل “الذاكرة” في تكوينها.
(3) انظر: عبد الرشيد صادق المحمودي: طه حسين: الكتابات الأولى، تحقيق وتقديم، دار الشروق، القاهرة، 2002.
- طه حسين: من الشاطئ الآخر: كتابات طه حسين بالفرنسية، جمع وترجمها وعلق عليها، عبد الرشيد صادق المحمودي، المركز القومي للترجمة، 2008
(4) انظر: كتابات محمد مندور المجهولة، جزآن، جمع وتحرير ودراسة سامي سليمان أحمد، المجلس الأعلى للثقافة، 2009.
(5) انظر: محمد أبو الأنوار: كلام جديد عن طه حسين، مجلة علامات، العدد 56، 2005، ص – ص 83-103.