ثقافة الردّة ومحنة الاختلاف

تحكي واقعة الخلافة بملابساتها المختلفة،قصة التواشج بين العنف والمقدّس والتاريخ، وتؤسس لما بعدها من الوقائع والأحداث على امتداد التجربة السياسية الاسلامية، فأضحت بخصائصها الشرعية والتدبيرية موضوعاً للصراعات على تعدد وجوهها وتنوّع مشاربها، ومحرّكاً للفكر على تباين ثمراته وتباعد تجلّياته. ويستوي النص الديني، قرآناً وسنّةً، مع هذا المناخ العابق بالسجال المحموم، عباءةً يستظلّها كلّ ساعٍ، في قراءته هذا النصّ، إلى معانٍ وأحكام يحتجّ بها في ترجيح الاستخلاف على الشورى، الأحقّية لعلي أو لغيره، أو للتعبير عن رأيه في مسألة من المسائل، هي موضوع اختلاف أو خلاف.

إنه تاريخ طويل ومعقّد،يتماهى فيه الدينيّ والزمني،وتحرّكه،في كل الاتجاهات،لعبة القبض على المعنى من أجل الفوز بالجنتين:السلطة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

الاتفاق والإجماع على القرآن الموحى،والاختلاف على تفسيره،الإتفاق والإجماع على النبي الرسول المبلِّغِ ،والاختلاف على خلافته،إشكالية متعدّدة الرؤوس،حكمت العلم والعمل على امتداد التاريخ الاسلامي،وعبّرت عن نفسها في المذاهب والفِرَق والتيارات،في الملل والنِحَل،في العلوم الحادثة،التي نمت وتطوّرت على هامش النصّ الديني،في أصول الفقه وعلوم الحديث والتفسير والكلام والتصوّف…وقد بلغت حدّتها في الموقف من العقل ودوره في بناء المعارف وإنتاج الأفكار،واستقلاله في الحكم على الأفعال و الوقائع،العقل باعتباره ملكة خلاقة،تنماز بآليات مخصوصة،تبني بواسطتها مقدمات النظر والحكم.كان اتّخاذ موقف من هذه القضية،محك قياس هامش الخروج على سلطة النصّ المطلقة،وحقله الدلالي السائد، وإشارة إلى مدى تقبّل الفكر المختلف الذي قد ينتجه هذا العقل بأدواته البرهانية أو تفيض به تجارب العرفان أو يقود إليه أيّ نظام معرفي آخر،لا ينطلق من النصّ الديني،كمقدمة كبرى،تتعالى بفعل قدسيتها على البحث في شروط إنتاجها.

الدين والسياسة

هذا التداخل بين الدين والسياسة،فتح الباب واسعاً أمام توظيف الأحكام القرآنية والأحاديث النبوية واستثمارها في الصراعات الدائرة على الجبهات كلُّها،الإعتقادية والسياسية والمعرفية،وأحكام الردّة،لم تنجُ من لعبة إقحامها في دعاوى حماية الاسلام والدفاع عن العقيدة،هذه اللعبة التي أتقنها الجميع:سنّة وشيعة،وخوارج ومعتزلة وأشاعرة،متكلمون وسلفيون وإصلاحيون…الخ

تقف هذه المقالة عند عتبة الاجتهادات الفقهية ومدارسها المتعددة بشأن تطبيق أحكام الردّة،ولا تطمح إلى تفسير أسبابها التاريخية أو البحث في نياطها العقدية،إنما تكتفي بالنظر إليها في كونها نصّاً مقدّساً بين النصوص القرآنية التي تدرّس في المدارس الدينية ويجري تلقينها للأطفال في دورات لحفظ القرآن،تنظمها المرجعيات الشرعية وتشرف عليها،ويعود إليها المؤمنون في حياتهم اليومية،سعياً إلى ضبط سلوكهم وتقويم التزامهم واستقامة صراطهم،لكنه نصّ،يحمل ظاهره معاني عنفية،عقابية،لا يمكن تجاوزه،عند البحث في “العنف المقدّس…”لقد أسهمت هذه الأحكام في بناء ثقافة معادية لحق الاختلاف في الفكر والرأي،ترى إلى المسلم المختلف في قراءته للنصّ القرآني أو للنصوص الثواني التي لحقها ما لحقها من قدسيته،أقول،ترى إليه،في ما توسّلت به هذه القراءة من أدوات معرفية،وما استثمرته من ثراء ثقافي،تهديداً للعقيدة ومهبّاً لرياح التشكيك،وغير المسلم في بحر هذه الثقافة،يعتريه القلق ويداخله الخوف،لأنها تغتذي من روافد نصّية لا تترك له فرصة الاطمئنان إلى وجوده وحريته في الفكر والمعتقد.إن مراجعة سورة التوبة،لاسيما الآيتين”٥ و٢٩”(١)،وأحكامه المطلقة،المتعالية بأصلها وحقيقتها على الزمان والمكان،تبقيها مصدراً للتوظيف،يضرب في الكثير من صِيَغه وتجلّياته،حقوق الانسان.يقول محمد أركون في سياق تفكيكه للآية الخامسة من سورة التوبة:”نستطيع أن نفهم بسهولة،لماذا تحرج هذه الآية المسلمين الذين يؤمنون بالمفاهيم الحديثة لحقوق الانسان والحرية الدينية وحرية الرأي الشخصي في التفحّص الحرّ أو التفكير الحرّ”(٢).جاء تعليق أركون تأكيداً لما نصّت عليه المادة١٨،الفقرة١ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية:”لكلّ فرد الحق في حرية الفكر والضمير والديانة،ويشمل هذا الحق حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد باختياره،وفي أن يعبّر منفرداً أو مع آخرين بشكل علني أو غير علني،عن ديانته أو عقيدته،سواء كان ذلك عن طريق العبادة أو التعبّد أو الممارسة أو التعليم”،كما جاء في الفقرة٢،”لا يجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يعطّل حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها”.

لا شك أن هذه المفاهيم المعبّرة عن قيم إنسانية جامعة والتي صاغها العقل،شرعةً تحمي حقوق الانسان،تستوي في أصلها ومضمونها نقيضاً صلباً لمبدأ الردّة وأحكامها،وهي أحكام،كغيرها من أحكام الكتاب،تتّصف بالعمومية والشمول وعصمة المصدر وأحاديته(٣).

١-في المعنى الشرعي للردّة

أما الردّة،فهي فعل المرتدّ،الذي عرّفه الرسول بقوله:”المرتدّ هو التارك لدينه ،المفارق للجماعة”(٤)،وهي بهذا المعنى،تشترك مع الأصل اللغوي الذي يفيد الكفر حكماً،وإنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر،كجحد مُجمع عليه وكسبّ النبي،وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاءاً صريحاً بالدين،كالسجود للشمس أو الصنَم وإلقاء المصحف في القادورات وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب(٥)،ويرد في “فقه الإمام جعر الصادق”للشيخ محمد جواد مغنية”أنّ المرتدّ هو من يرغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد…(٦)،ويذكر الشيخ الأردبيلي،أن “الارتداد يتحقق في مسلم بالغ،عاقل،إما بفعل دال عليه،مثل عبادة غير الله…وإما بقول دال على الخروج على الاسلام والإهانة بالشرع والشارع والاستهزاء به سواءكان عناداً أو سخرية أو اعتقاداً…أو ينكر ما علم من الدين ضرورة،مثل إنكار  وجوب الصلاة والصوم والزكاة…وإما بمجرّد الهزل والمزاح”(٧).ويرِد في التنزيل بشأن المرتدّ،جملة من الأحكام(٨)منها قوله تعالى:”من يرتدّ منكم عن دينه فيمت وهو كافر،فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة،وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”(البقرة٢١٧)،وفي سياق تفسيره لهذه الآية يقول الطبري:”من يرجع منكم عن دينه دين الاسلام فيمت وهو كافر،وهو باقٍ على الردّة،فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا،يعني بطلت وذهبت،وبطولها ذهاب ثوابها،وبطول الأجر عليها والجزاء في الدنيا والآخرة،وقوله:أولئك هم فيها(النار)خالدون،يعني الذين ارتدّوا عن دينهم،فماتوا على كفرهم هم أهل النار المخلّدون فيها…من غير أمد ولا نهاية”(الطيري،جامع البيان في تفسير القرآن،ج١ص٢٠٧)،ويضيف النيسابوري،”أما في الدنيا…لا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناءاً،وتبين زوجته ويحرم الميراث.وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله تعالى:”وأولئك أصحاب النار فيها خالدون”(٩).وفي حديث للرسول عن يحيَ ابن مالك قال:”من غيّر دينه فاضربوا عنقه” ويعلّق مالك بن أنس على قول النبي أن المعنى المراد”من خرج من الاسلام إلى غيره”(١٠).

٢-الخطاب الديني المستثمِر في أحكام الردّة

لقد استثمر الخطاب الديني القديم والمعاصر تراثاً كثيفاً من هذه النصوص التي تحمل طابع التقديس،في نشر ثقافة يسود فيها جهاز مفاهيمي،من سماته التكفير والتبديل والتفسير والتأثيم والتنجيس،ثقافة ،ذهب روادها بعيداً في التوسّع بمعنى “التارك للدين والمفارق للجماعة”في تعريف المرتدّ،فإذا بالمعنى يخرج عن صيغة المطابقة التي تعني الخروج بالقلب واللسان والجوارح،إلى صيغة اقتصر فيها المعنى على مجرّد الاختلاف بالرأي،فأضحى معها كل مختلف عن ثوابت هذه الثقافة في فهمه للدين أو في قراءته لركن من أركانه أو في تأويله لحكم من أحكامه أو في نظره المخصوص إلى قيمة من قيمه،بمنزلة التارك للدين والمفارق للجماعة،والخطاب المنسوج بخيوط هذه الثقافة،يشهد بمنطوقه ومعقوله على المنسوب العالي للعنف المادي والمعنوي الذي تختزنه هذه الثقافة.

لن أتوقّف عند الظواهر العنفية في القول والفعل التي ولّدها التوسّع بمعنى الترك والمفارقة،لاسيما بين الروافض والنواصب وما خلّفتها التأويلات المتبادلة من مآسٍ لا تزال إلى اليوم ماثلة في الأذهان وفي الأعيان،تجتاح الأدبيات السياسية والعقدية لكلي الطرفين وتهيمن على الاستراتيجيات التربوية والتثقيفية والسلوكيات اليومية لكل منهما.لقد أفاض جورج طرابيشي(١١)في تسجيل وقائعها وتقصّي حقائقها وأبعادها،وإبراز مساحاتها الحبلى بالعنف والعنف المضاد والحافلة بسجالات الردّة ومستتبعاتها العقابية.

لقد منِيَ الفكر المختلف بضربات قاصمة جرّاء استفحال هذه الثقافة التكفيرية،لعلّ أضناها وقعاً في ما لقيَه الفلاسفة على يد حجة الاسلام الغزالي،لق صدّر كتابه الشهير”تهافت الفلاسفة”بالآتي:”فأني رأيت طائفة  يعتقدون في أنفسهم التميّز عن الأتراب والنظراء بمزيد من الفطنة والذكاء،وقد رفضوا وظائف الاسلام من العبادات واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات والتوقّف عن المحظورات واستهانوا بتعبّدات الشرع وحدوده،ولم يقفوا عند توقيعاته وقيوده،بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطاً يصدّون عن سبيل الله ويبعونها عوجاً،وهم بالآخرة كافرون… وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء كسقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم…”ويضيف”ولا يعدّون إلا من زمرة الشياطين والأشرار…”(١٢).

إرهاصات التحول الديني في تونس

رسم الغزالي في هذا المدخل،خطوطاً حمراء،من يتجاوزها من أهل الفكر من المسلمين،يضع نفسه في مهبّ التكفير،والفلاسفة،في قولهم أن الله لا يعلم الجزئيات،وأن العالم قديم،وأن الحشر للنفوس لا للأجساد،قد وقعوا في المحظور وأصاب الفلسفة ما أصابها ويصيبها إلى اليوم، جرّاء تكفير هم بعد القدح بشرعية عقلهم البرهاني.والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان استطراداً:ألم يكن حجة الاسلام في هذا الموقف التكفيري من الفلاسفة،واحداً من واضعي اللبنات الصلبة لثقافة الردّة،ومرجعاً يبنى عليه في التنظير لهذه الثقافة؟،لا سيما أن هذه المسائل بحسب ابن رشد”ليس يمكن أن يتقرّر إجماع فيها حتى يقال ههنا خرق للإجماع”،ففي مسألة العلم الالهي على سبيل المثال،يرى ابن رشد أن”الحكماء المشائين، أتباع أرسطو،لا يقولون أن الله لا يعلم الجزئيات أصلاً،بل يَرَوْن أنه يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها،ذلك أن علمنا للأشياء معلول لهذه الأشياء وبالتالي فهو سابق عليها،وإذاً فلا معنى لمقارنة علمه تعالى بعلمنا نحن،ولا معنى لوصف علمه تعالى بأنه جزئي أو كلي كما نصف بذلك علمن نحن،فإذا فالمعنى للاختلاف في هذه المسألة،مسألة تكفيرهم أو لا تكفيرهم”(١٣).

هذا النمط من الفكر الديني الذي قدّمه حجة الاسلام،بلغ مدىً أوسع مع ابن تيمية،وبات الأحمر مرسوماً بالخطوط العريضة،يقول:”ومعلوم بالإضطرار من دين المسلمين،أن من سوّغ اتّباع غير دين الاسلام،أو اتّباع شريعة غير شريعة محمّد فهو كافر،وهو كافر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال الله تعالى:”إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض،ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً،أولئك هم الكافرون حقاً وأعددنا لهم عذاباً مهيناً…ويضيف:واليهود والنصارى داخلون في ذلك،وكذلك المتفلسفة يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض،ومن تفلسف من اليهود والنصارى،وكفره من وجهين”(عزيز العظمة،ابن تيمية…رياض الريّس للنشر،بيروت،٢٠٠٠-ص٩٩).

٣-ثقافة الردّة ومعاقبة المختلف

تقع هذه الإشارات التكفيرية،موقعاً داعماً  ومصلِّباً لمبدأ معاقبة المختلف في فكره وتفكيره،في رأيه الحرّ المباين،وهي بهذا المعنى،تعزّز ثقافة الردّة وتقوّي سندها في الحجاج والتبرير،وتسهم إلى حدّ كبير في تسوية الأرض التي تقف عليها الحركات الاسلامية التي ترفع شعار”الاسلام هو الحلّ”،وتعمل له من خلال تنظيمات حزبية وتدعو إلى تبنّيه في خطابها الذي يتماهى فيه الدينيّ والسياسيّ تماهياً حادّاً،والذي طبع هوية العصر السياسية والثقافية بعد فشل الأيديولوجيات القومية والماركسية في رفع التحدّيات التي تواجهها غالبية المجتمعات الاسلامية،في السياسة والتنمية والعدالة.لم يتردّد هذا الخطاب في تسويغ ثقافة الردّة دفاعاً عن الشريعة الاسلامية،في وجه جاهلية تمثّلت في حكام أحجموا عن تطبيق أحكامها،ومسلمين سكتوا وتواطأوا ومفكّرين ضمّنوا كتاباتهم ما يبعث على الشك في عدالة مبادئها وسموّ مقاصدها،وفي كونها المعْبَر الوحيد إلى الخلاص من عذابات الدنيا والآخرة.جميعهم سعوا إلى استبدال حاكمية الله بحاكمية الانسان،وفي ذلك كل الافتئات على الألوهية ودعوة إلى الحكم بغير ما أنزل الله،وهو ذروة الكفر.ويرتّب سيد قطب على نظرية الحاكمية الإلهية التي صاغها المفكر الاسلامي أبو يعلى المودودي،بعد استحضار بذورها من تراث الخوارج،نتيجة مفادها أن “حاكمية البشر،إن حدثت فهي منازعة لحاكمية الله،وذلك كفراً بواحاً”.ويصيف أن الحاكمية من خصائص الألوهيته،مَن ادعى الحق فيها،فقد نازع الله أولى خصائص ألوهيته سواء ادّعى هذا الحق فرد أو طبقة أو حزب أو هيئة أو أمة أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية،وترتفع وتيرة الخطاب القطبي،فيقضي بأن منازعة الله الحكم،تُخرِج المنازع من دين الله حكماً…لأنها تخرجه من عبادة الله وحده،هذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعاً…،كذلك الذين يقرّون المنازع في ادّعائه ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه،فكلّهم سواء في ميزان الله”(١٤).

إنه خطاب مفعم بثقافة الردّة،يحسب مَن لا يجاريه في قراءته للدين،تاركاً لدينه،كافراً ومرتداً،حتى وصل الأمر إلى اعتبار المجتمعات الاسلامية،مجتمعات جاهلية لأنها لا تدين بحاكمية الله،ولا تلتزم أحكام الدين،وتذهب جماعة الجهاد الخارجة من رَحِم القطبية إلى اعتبار إقامة الدولة الاسلامية فرض ديني لأن الأحكام والفرائض لا تتمّ إلا بإقامتها ولاسبيل إلى إقامة هذه الدولة إلا بقتال الحكام لأنهم كفّار مرتدّون،بدأت ردّتهم منذ سقوط الخلافة سنة١٩٤٣،ويبلغ هذا الخطاب الذروة مع جماعة التكفير والهجرة الذين انتهوا إلى الاعتقاد أن المسلمين كفرة مرتدّون بمن فيهم الحكام لأنهم عصاة،وكل عاصٍ كافر،وتعتبر هذه الجماعة كل من لا ينضمّ إليها كافراً،وكل من ينشق عنها بعد الانضمام إليها كافراً،مرتدّاً يستحق القتل(١٥).

٤-ثقافة الردّة وتحريم الابداع

هذه الثقافة المسكونة بتوادّ سافر بين السياسة والعنف والمقدّس،أوجدت مناخاً إسلامياً مغالياً في تعسفه الأيديولوجي،سهّل عملية الانقضاض على المختلفين معها من أهل الفكر والإبداع والمتباينين عنها في وعيهم لقيمة الحياة،في قراءتهم للنصوص الدينية وفي نظرتهم إلى المعرفة وتعدد مصادرها وفي موقفهم من الحرية باعتبارها قيمة ذاتية للإنسان.فرمى دعاتها العديد من المفكّرين والمبدعين بتهمة الردّة،على خلفيةالاعتقاد أن”كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”(١٦)،بعد أن ذهبوا بعيداً في تفسير هذا الحديث الشريف،فجعلوا الإحداث وما ترتّب عنه في مجال العبادات،ينسحب على كل تحديث أو تجديد في العلوم والمعارف،وإبداع في الفنون على أنواعها.فالحكم على سلمان رشدي(١٧) بالردّة،لم يلتفت مطلقوه إلى كون”آيات شيطانية”،رواية فنية أدبية تحكي هموم وهواجس،تشارك المؤلف فيها فئات واسعة من الناس،فكانته الفتوى بقتله،قتلاً للعقل وللمخيّلة ولتجربة المؤلف بعناصرها المادية والروحية،وبشروطها الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي أسهمت في في إنتاج هذا العمل.لقد بلغت فتوى الامام الخميني بحق سلمان رشدي،من العنف مباغاً يكشف سماكة الحجاب الذي تترّست وراءه ثقافة الردّة وخطابها المستعلية على الانسان وما يختزنه من طاقات إبداعية خلاقة،فتوى “عابرة للقارات”كما يقول صادق جلال العظم،بإهداردم مفكّر وكاتب واعتبار تنفيذها واجباً على كلّ مسلم يتمكّن منه.والمسلم الذي يُقتل في سبيل أداء هذا الواجب،يُعدّ شهيداً وينال الخلود في الجنة.يعلّق العظم على مدى استفحال هذه الثقافة بالآتي:تواصل قوى الظلام التي اغتالتالمفكّرَيْن حسين مروّه وحسن حمدان،جهادها ضد العقل والمدافعين عنه،فتحرق الكتب وتُعدِم كل من كتب كتاباً لا يعجبها،وهو في هذا التعليق،يصدر عن دراية عميقة بما آلَ إليه التراث العقلاني المختلف،كما تجلّى في كتابات المعتزلة وابن رشد وابن عربي والفلاسفة عموماً،ولم يتردّد نصر حامد أبو زيد في مقارنة هذه الفتوى بموقف بعض رجال الكنيسة من الفيلم السينمائي”الإغراء الأخير في حياة المسيحla dernière tentation du christ”الذي وصفه بالموقف المستنير لأنهم رفضوا بشدّة مجرّد المطالبة بوقف عرض الفيلم أو مصادرته بدعوى أنه يعرض صورة عن المسيح تتناقض مع ما ورد في النصوص الدينية،وكانت وجهة نظرهم،أن المسيحيين المؤمنين أنفسهم،قادرون على على إسقاط هذه الرواية بالامتناع عن مشاهدتها ومقاطعة العرْض.راى أبو زيد في هذا الموقف تخلّياً عن “منطق الوصاية الذي يصرّ رجال الدين عندنا على ممارسته على العقول والقلوب”(١٨).

٥-العنف المقدّس يطارد العقل المستنير

لقد طبعت ثقافة الردّة الخطاب الديني المعاصر،حمل بعضه عنفها بالقول والفعل وسلّطه على العقول المستنيرة والكتابات المجدِّدة.لعلّ تجربة نصرحامد أبوزيد،الذي اكتوى بنار هذا الخطاب،ما يساعد على تلمّس معاناة الفكر المختلف واستشراف مستقبله.

انطلق أبو زيد في قراءته للخطاب الديني،من نقد مبدأ التركيز على حاكمية النصوص في مجالات الفكر والواقع كافة،وقصر الاجتهاد على الفروع دون الأصول،فيكون بذلك قد جمّدها وقضى على حيويتها ويكون قد قضى في الوقت نفسه على المصالح المرسلة والمقاصد الكلية،فيعيدها إلى النصوص مرّة أخرى وبالمفهوم الذي يطرحه لها،مع أنها (المصالح…والمقاصد)مبادئ لتأويل النصوص…”فالواقع،بحسب تعبيره،هو الأصل ولا سبيل لإهداره،من الواقع تكوّن النصّ ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه،ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدّد دلالته،فالواقع أولاً والواقع ثانياً والواقع ثالثاً”(١٩).

اجتهد نصر حامد أبو زيد في كتاباته(٢٠)بأدوات منهجية حديثة في سبيل تثبيت هذه المقدّمة،فاستغلّ أبناء ثقافة الردّة اجتهاده وأعماله،وجلّهم زملاء له في جامعة القاهرة واتّهموه بالردّة وادّعوا عليه بالآتي:نشْر عدة كتب وأبحاث ومقالات،تضمنت طبقاً لما رآه علماء عدول كفراً يخرجه عن الاسلام،الأمر الذي يُعتبَر معه مرتدّاً،ويحتّم أن تطبّق في شأنه أحكام الردّة،حسبما استقرّ عليه القضاء.مما ورد في الإدّعاء أن أبي زيد المدّعى عليه،نشر كتاباً عن “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية”،تضمّن العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة عندما قال:آن أوان المراجعة والانتقال إلى  مرحلة التحرّر،لا من سلطة النصوص وحدها،بل من كل سلطة تعوق مسيرة الانسان في عالمنا،علينا أن نقوم بهذا الآن قبل أن يجرفنا الطوفان.

النصوص المقصودة،كما يقول واضع التقرير(د.محمد بلتاجي حسن)هي القرآن والسنة ثم يسترسل في سرد مواطن الانحراف في هذا الكتاب،مشيراً إلى أن المؤلِّف أنكر على الشافعي تحويل العقل العربي إلى عقل تابع،يقتصر دوره على تأويل النصّ واشتقاق الدلالات منه،على خلفية اعتقاده أن القرآن يدلّ بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات والنوازل التي وقعت ويمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل،ويخلص إلى الاستنتاج،أن تأسيس مبدأ —تضمّن النصّ حلولاً لكل المشكلات—تأسيساً عقلانياً،يبدو كأنه يؤسس بالعقل”إلغاء العقل”،ما يعني بحسب قراءة صاحب التقرير لهذا الكتاب،أن إبقاء العقل لا بدَّ معه من رفض النصّ،والجمع بين الأمرين غير  ممكن وأن الذين يستسلمون للنصوص الشرعية على أن فيها حلول لكل المشكلات،فقد ألغوا عقولهم(٢١).،وتطال ثقافة الردّة الممثّلة بأصحاب الادّعاء كتاب”مفهوم النصّ:دراسة في علوم القرآن”،فيعلن واضع التقرير حول مضمونه(د.اسماعيل سالم عبد العال)أنه ينطوي على كثير مما رآه العلماء كفراً يُخرج صاحبه عن الاسلام،ومن علامات الكفر فيه قول المؤلِّف”أن الاسلام دين عربي…”وهذا القول يعارض آيات في القرآن تشدّد على عالميته”تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً”(أول سورة الفرقان)،واعتباره أن النصّ القرآني في حقيقته وجوهره منتج ثقافي.فكانت هذه الحيثيات الاتهامية ممّا احتجّ بها الادّعاء لإعلان نصر حامد أبوزيد،مرتداً عن الاسلام طبقاً لما استقر عليه القضاء وأجمع عليه الفقهاء،ولأن الردّة سبب من أسباب التفريق بين المرتدّ وزوجته،صدر الحكم بالتفريق بينهما وتبلّغته وجاهياً أمام محكمة الجيزة الابتدائية بتاريخ١٠-١-١٩٩٦(٢٢).

إنها إشارات،إلى بعض مبتنيات ثقافة الردّة،فيها بعض من حكاية الفكر المختلف،يُجلد هذه المرّة بسوط هذه الثقافة،لكنّ أسواطاً أخرى لم تقصّر في النيل منه على امتداد تاريخ الفكر الشمولي والوثوقي،فتصفية المنشقّين عن عقيدة من العقائد،والتنكيل بالمختلفين معها في الأصل،كلُّها وقائع تملأ الكثير من تجارب الأحزاب والمنظمات والطوائف،في كل منها طيف من أطياف الردّة،بل سيف من سيوفها،في حدّه الحدّ من التشكيك بمبادئها والاختلاف معها،لأن الاختلاف أوّل عوارض “الترك والمفارقة”.

إنها أيضاً تنبيهات إلى الآثار المدمّرة التي تحدثها ثقافة الردّة في مجتمع متعدّد الديانات والمذاهب والثقافات،عندما تستغلّ في خطابها التكفيري معاني العنف والعقاب التي تحملها بعض الآيات والأحاديث،وتقدّمها على آيات وأحاديث أخرى تدعو إلى الحوار والتسامح(٢٣).ما يهدّد وحدة المجتمع ويضرب استقراره،ويُحدث في نسيجه من الشروخ ما يصعب ترميمه…وثقافة الحرية، الضدّ الجميل الذي يُظهر قبح ثقافة العنف،تبقى بقيمها الانسانية والمعرفية والسياسية والاجتماعية الجامعة،باباً للخلاص من ثقافة،جعلت من الاختلاف كفراً ومن الحوار مع الآخر فرصةً يُعدّ نفسه فيها للإنصياع والتوبة.

————————

الهوامش والمراجع:

(١)-“فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد،فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة،فأخلوا سبيلهم،إن الله غفور رحيم”.

-“فاقتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون”

(٢)-محمد أركون،الفكر الاسلامي:قراءة علمية ص٩٣

(٣)-راجع:الغزالي،المستصفى من علم الأصول،ص٥٢

(٤)-النووي،شرح الأربعين حديثاً النووية،دار الكتب العلمية بيروت،١٩٨٢-ص٤٨/الجوهري،إسماعيل،الصحاح٢،دار العلم للملايين،بيروت ١٩٨٧ط١-ص٥٥٩

(٥)-راجع:النيسابوري،غرائب القرآن ورغائب الفرقان،تحقق الشيخ زكريا عميرات،دار الكتب العلمية،بيروت ط١-١٤١٦هـ

(٦)-محمد جواد مغنية،فقه الامام جعفر الصادق،ج٦،دار الجواد،بيروت١٩٨٢،ط٤-ص٣٠٨.

(٧)-م.ن.ص٣١٢

(٨)-“إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّوا الله شيئاً ولهم عذاب أليم”(آل عمران١٧٧).

“إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله،شاقّوا الرسول من بعد ماتبيّن لهم الهدى،لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم”(محمد٣٢).

“يا أيها الذين آمنوا،من يرتدّ منكم عن دينه،فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أدلة على المؤمنين أغرّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله”(المائدة٥٤).

“كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقّ وجاءهم البيّنات والله يهدي القوم الكافرين…أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنةالله والملائكة والناس أجمعين”(آل عمران٨٦-٨٧).

“ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين،نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا”(النساء١١٥).

(٩)-راجع:الطبري،جامع البيان في تفسير القرآن،ج٢-ص٢٠٧

(١٠)-راجع:مالك بن أنس،الموطأ،دار إحياء العلوم،بيروت ١٩٧٨،ط١ص٥٥٩

(١١)-راجع:جورج طرابيشي،هرطقات٢،عن العلمانية كإشكالية إسلامية،دار الساقي ٢٠٠٨/راجع:إبراهيم فوزي،تدوين السنة،رياض نجيب الريّس للنشر،١٩٩٤

(١٢)-الغزالي،تهافت الفلاسفة،دار الكتب العلمية،ط٢،بيروت ٢٠٠٣

(١٣)-الغزالي،فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت١٩٩٧

(١٤)-راجع:أبو الأعلى المودودينظرية الاسلام وهديه+سيد قطب،معالم على الطريق،دار الشروق،بيروت١٩٨٠

(١٥)-راجع:محمد عمارة،تيارات الفكر الاسلامي،دار الوحدة١٩٨٥

(١٦)-راجع:محمد عابد الجابري،التراث والحداثة،دراسات ومناقشات،م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٨١

(١٧)-راجع:صادق جلال العظم،ذهنية التحريم-سلمان رشدي وحقيقة الأدب،مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي،نيقوسيا١٩٩٤

(١٨)-راجع:نصرحامد أبو زيد،نقد الخطاب الديني،المركز الثقافي العربي،بيروت،ط٣-٢٠٠٧ص٢٥

(١٩)-المصدر نفسه،ص،١٠٥-١٠٦

(٢٠)راجع:نصر حامد أبو زيد،مفهوم النصّ/إشكاليات القراءة وآليات التأويل/النصّ،السلطة،الحقيقة.

(٢١)-نصر حامد أبو زيد،التفكير في زمن التكفير:ضد اجهل والزيف والخرافة،دار ابن سينا للنشر،القاهرة١٩٩٥،ص٢٦٩-٢٧٠

(٢٢)-المصدر نفسه،ص٢٧٦-٢٧٧

(٢٣)-“وقلّ الحق من ربكم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”(الكهف٢٩)./لو شاء ربّك لآمن من في الأرض جميعاً،فأنت تكره الناس يكونوا مؤمنين”(يونس،٩٩).

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete