تكوين
يعني لفظ “آلالا” (- Alala Ἀλαλά) الإغريقي “صرخة الحرب“، وهي في الأساطير الإغريقيّة ربّة من صغريات الأرباب، كانت تُشخَّص على نحو أليغوريّ صرخة الحرب، أما الحرب “بوليموس” (Πόλεμος / Pólemos) في ذاتها فليست إلهًا، بل “دايمون” daimôn (δαίμων / daímōn)، أي تجسيم إلهيّ للحرب، وكان الشّاعر الغنائي بنداروس Pindare يعدُّ “بوليموس” أبًا للرَّبَّة “آلالا”، أما خارج الكون الميثولوجي فليس لفظ “آلالا” سوى محاكاة لصرخة الحرب التي كان يُطلقها جنود أثينا لحظة الكرِّ في المعركة طوال الحرب البيلوبونيسيّة التي جمعتهم بجيوش إسبرطة.
ولأمر ما كانت “صرخة الحرب” تطلقها حناجر النساء كما أطلقتها ليلى بنت مهلهل أم عمرو بن كلثوم لما استخدمتها هند أم عمرو بن هند لإذلالها، فصاحت صيحة القتال الشهيرة “واذُلَّاه! يا لتغلب!“([1])، فصيحتها ليست مجرد صوت صارخ، بل نداء نُدْبَةٍ كانت تستنجد به المنادية قومها لنصرتها، وعندما تغدو صرخة الحرب الأنثويّة نُدْبَةً وذِمَارًا وحضًّا وتحريضًا يدعو الرجال إلى الحرب، تغدو المرأة حينئذ من صنف النساء المحاربات، وهو صنف تتوفر فيه بيسر سمات الزعامة ([2])، هذا إذا فهمنا من الزعامة معنى “الكفيلُ” و”الضَّامن” و”المتكلِّم” عن قومه، أما إذا كان المقصود من “الزَّعامة” معنى السِّيادة وَالرِّيَاسَة وَالشَّرَف فمعناها مقترن ضرورةً بالسّلاح، فـ “الزَّعامةُ: السِّلَاحُ، وَقِيلَ: الدِّرْع أَو الدُّروع” (لسان العرب)، فإذا توفّر السّلاح اجتمع في الزَّعامة مكوناتها الأساسية، أي “الدِّرْع والرِّياسة وَالشَّرَفُ”.
وإن كانت المرأة قد حرمت من زعامة السِّلاح في التقاليد العربية القديمة، “لأَنَّهم كَانُوا إِذا اقتسموا الميراث دَفَعُوا السِّلَاحَ إِلى الِابْنِ دُونَ الِابْنَةِ” (لسان العرب)، فإنّها لم تحتج لاستكمال ما نقص من مكونات الزَّعامة أي السِّلاحُ والرِّياسةُ وَالشَّرَفُ، إلا إلى جمل للقتال وقيادة المعارك([3])، فركوب الجمل يسدُّ مسدَّ السلاح المفقود كالدِّرع، فامتلاك الجمل هو الذي يُكمل ما نقُص في الزَّعامة، أي العنصر الحربي الذي يبوِّئ المرأة مِقعدها في القيادة، وهو ها هنا عنصر حيوانيٌّ أضفى على بطولتها الحربية شكلًا من أشكالها الحيوانيَّة، متى استكملت المرأة عُدَّة القيادة أمكنها حينئذ أن تقود الرجال، وأن تكون في مرتبة الأوائل، فالأول هو الذي يبدأ شيئًا لم يُسبق إليه فيأمر ويقود.
وإن كانت سجاح أول من تنبأ من النساء وادَّعى النبوة فأحلتها نبوتها مرتبة “السِّيادة وَالرِّيَاسَة وَالشَّرَف“([4])، فإنها لم تكن أوَّل من قاد الرِّجال، فقد ظهرت معها في الفترة نفسها امرأة أخرى في مسرح حروب الردة، هي سلمى أم زِمْل عام 11هـ، وهي ابنة “أم قِرْفة” (أو حفيدتها)، واسمها فاطمة بنت ربيعة بن بدر بن عمرو الفزارية من قبيلة بني فزارة، وكانت ممن آذى النبي([5]) فأرسل إليها زيد بن حارثة فقتلها في السنة السادسة من الهجرة([6])، ولعلَّ جدَّتها “أم قِرْفة” هي أوَّل من بدأ شكلًا مختلفًا من القيادة الحربيَّة مثَّلته المرأة لا الرَّجل ([7])، ثمَّ استأنفته ابنتها أم زِمْل. وإن كانت سجاح ثمَّ عائشة بعدها قد حظيتا بنصيب متفاوت من عناية الإخباريين، فإن أم زِمْل كاد يُطوى ذكرها لولا الطبري الذي خصَّها بخبر مكتنز بالحوادث، أورده برواية السَّرِيّ:
“قَالَ السَّرِيُّ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ سَيْفٍ عن سهلٍ وأبى يعقوب، قالا: واجتمعت فُلاَّل غَطَفَان إلى ظَفَر، وبها أم زِمْل سلمى ابنة مالك بن حُذيفة بن بدر، وهي تَشَبَّهُ بأمها أم قرفة بنت ربيعة بْن فلان بْن بدر، وكانت أم قرفة عِنْد مالك بن حُذيفة، فولدت لَهُ قِرفة، وحَكَمَة وجُرَاشَةَ وزِمْلاً وحُصَيْنًا وشريكًا وعبدا وزُفَر ومعاوية وحَمَلَة وقيسًا ولأيًا، فأما حَكَمَة فقتله رسول الله ص يوم أغار عيينة بن حصن على سرح الْمَدِينَة، قتله أبو قتادة، فاجتمعت تلك الفُلاَّل إلى سَلْمى، وكانت فِي مثل عزّ أمها، وعندها جمل أم قرفة، فنزلوا إليها فذَمَرَتْهم وأمرتهم بالحرب وصعدت سائرة فيهم وصوَّبت تدعوهم إلى حرب خالد، حَتَّى اجتمعوا لَهَا وتشجَّعوا على ذَلِكَ وتَأَشَّبَ إِلَيْهِم الشُّرَدَاءُ من كلّ جانب- وكانت قد سُبيت أيَّام أم قرفة، فوقعت لعائشة فأعتقتها، فكانت تكون عندها، ثُمَّ رجعت إلى قومها، وقد كَانَ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليهن يوما، فَقَالَ إنّ إحداكن تستنبح كلاب الحَوْأَب، ففعلت سلمى ذَلِكَ حين ارتدّت وطلبت بذلك الثَّأْر، فسُيِّرت فيما بين ظَفَر والحَوْأَب لتجمع إليها، فتجمَّع إليها كلّ فَلٍّ ومُضَيَّقٍ عَلَيْهِ من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيٍّئ، فلما بلغ ذَلِكَ خالدا – وهو فيما هو فيه من تتبّع الثّأر، وأخذ الصّدقة ودعاء الناس وتسكينهم- سَارَ إلى المرأة وقد استكثف أمرُها وغَلُظَ شَأْنُهَا، فنزل عليها وعلى جُمَّاعها، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهي واقفة على جمل أمها، وفي مثل عزّها، وَكَانَ يُقال: من نخس جملها فله مائة من الإِبِل لعزّها، وأُبِيرت يومئذ بيوتات من جاس – قال أبو جعفر: جاس حيّ من غَنْم- وهَارِبَة، وغَنْم، وأُصيب فِي أناس من كَاهِل، وَكَانَ قتالهم شديدا، حَتَّى اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها، وقُتل حول جملها مائة رجل، وبعث بالفتح فقدم على أثر قُرَّة بنحو من عشرين ليلة“([8]).
من عجيب هذا الخبر أنَّ ما تنبَّأ به النبي لما قال: “إنَّ إحداكنَّ تستنبح كلاب الحَوْأَب” قد تحقّق مرتين:
- في المرة الأولى، أيام الرِّدَّة لمَّا وقفت سلمى أم زِمْل على جمل أمها في موضع “بين ظَفَر والحَوْأَب” عام 11هــ
- أما في المرة الأخرى، فقد تحقَّق بكلّ تفاصيله في وقعة الجمل لمَّا أرادت عائشة المُضي إلى البصرة فـ “مرَّت بهذا الموضع فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما هذا الموضع؟ فقيل لها: هذا موضع يقال له الحَوْأَب، فقالت: إنا لله ما أراني إلا صاحبة القصة، فقيل لها: وأي قصة؟ قالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحَوْأَب سائرة إلى الشرق في كتيبة! وهمت بالرجوع. فغالطوها وحلفوا لها إنَّه ليس بالحَوْأَب“([9]).
فأن يتحقَّق الحدث مرتين في مناسبتين متباعدتين زمانيًّا (11هــ – 36هــ)، وفي الموضع نفسه تقريبًا ويتعلَّق بامرأتين شهدتا معًا النبوءة نفسها لحظة قولها دون أن تعلما أنهما المعنيتان بقول النبي: “لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ!”([10])، لدليل على أن خبر النبوءة إنما هو جزء من أجزاء “قصّة الحرب” récit de guerre الإسلامية الأولى بمغازيها وسراياها وفتوحاتها، وحلقة من حلقات حرب الرِّدَّة ووقعة الجمل المتباعدتين في ترتيب وقائعهما، فإذا سلَّمنا بأن “ليس التاريخ علمًا بالواقع، بل معرفة بخبر عن الواقع، فكتابة التاريخ إخبار وإعلام عن الحادثات الماضية“([11])، وأنَّ قصَّة الحرب هي الشَّكل الأول للقصِّ التاريخي له شعريَّتهُ وقواعد كتابته جاز لنا افتراض خبر النبوءة حدثًا حبكهُ الإخباريون من المؤرخين والقُصَّاص، لفهم أسباب الخروج الغريب لهاتين المرأتين إلى الحرب. ولما كانت قاعدة الفهم تنهض على “أن نُفسِّرَ أكثر لنفهم أفضل” احتاج حدث النبوءة (أي الظاهرة التي تحتاج إلى تفسير L’explicandum) إلى أحداثٍ أخرى لتفسِّرهُ (هي مفسرات الظاهرة L’explicans) حتى نفهم ما سوف يحدثُ في زمن آخر.
فالنّبوءة في لغة شعريَّة القصِّ poétique du récit ليست سوى سابقة قصصيَّة prolepse أدرجت بفضل عمل الحبكة لتستبق أحداثًا سوف تقعُ لاحقًا، فإن لم تتحقّق النبوءة كأملة في خبر أم زِمْل بسبب غياب كلاب الحَوْأَب ونباحها فإنه (أي الإخباريّ، الرّاوي…) بجعله الحدث [ب] اللاحق (وهو ردة سلمى) قد وقع بسبب الحدث [أ] السابق (وهو ما تنبأ به الرسول فقال: “إنّ إحداكن تستنبح كلاب الحَوْأَب، ففعلت سلمى ذَلِكَ حين ارتدّت“) قد زُجَّ بالقارئ في ضرب من الوهم والمغالطة بفضل عمل الحبكة التي جعلت الحدث [ب] بسبب الحدث [أ]، فبهذا الربط السببي، نكون أمام فـخٍّ من فخاخ السَّرد، أو أمام “مفارقة سببية سبق أن صاغها بارط Barthes في قاعدة hergo propter hoc, post hoc، ومعناها حرفيا أنَّ ما حدث بعد هذا [س]، إذًا فبسبب هذا [س])، وقد نقلها عن السّكولاستكيين الذين وضعوها، للتشهير ببعض المغالطات المنطقيّة”([12]).
وقد تكرَّرت هذه الطريقة في تفسير الأحداث مرة أخرى عندما تحققت نبوءة الرسول كأملة في خبر “شراء الجمل لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وخبر كلاب الحَوْأَب” وقد فصَّل الطَّبري القول فيه: ” […] فَسِرْتُ مَعَهُمْ فَلا أمرُّ عَلَى وَادٍ وَلا مَاءٍ إِلا سَأَلُونِي عَنْهُ، حَتَّى طَرَقْنَا مَاءَ الحَوْأَبِ فَنَبَحَتْنَا كِلابُهَا، قَالُوا: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قُلْتُ: مَاءُ الْحَوْأَبِ، قَالَ: فَصَرَخَتْ عَائِشَةُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، ثُمَّ ضَرَبَتْ عَضُدَ بَعِيرِهَا فَأَنَاخَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَنا والله صاحبة كِلابِ الْحَوْأَبِ طَرُوقًا، رُدُّونِي! تَقُولُ ذَلِكَ ثَلاثًا فَأَنَاخَتْ وَأَنَاخُوا حَوْلَهَا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تَأْبَى حَتَّى كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي أَنَاخُوا فِيهَا مِنَ الْغَدِ“([13]).
فإن فسَّرَت النُّبوءة “ردَّة” أم زمل وإصرارها على الحرب فإنِّها فسَّرَت كذلك “ردَّة” عائشة لمَّا صرخت بأعلى صوتها “رُدُّونِي“، وهي صرخة العزوف عن الحرب والرغبة في العودة إلى بيتها، ولكنه تفسير لم تؤكده الأحداث السابقة واللاحقة، فهي في بعض الروايات من حرَّض الناس على قتل عثمان، وهي كذلك أول من طالب بدمه بعد أن قُتل: “كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْعِجْلِيُّ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ نَصْرٍ الْعَطَّارَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ الْحَنَفِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى سَرِفَ رَاجِعَةً فِي طَرِيقِهَا الى مكة، لقيها عبد بن أم كِلابٍ- وَهُوَ عَبْدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، يُنْسَبُ إِلَى أمهِ- فَقَالَتْ لَهُ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: قَتَلُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَكَثُوا ثَمَانِيًا، قَالَتْ: ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا؟ قَالَ: أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالاجْتِمَاعِ، فَجَازَتْ بِهِمُ الأمورُ إِلَى خَيْرِ مُجَازٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَيْتَ أَنَّ هَذِهِ انْطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الأمرُ لِصَاحِبِكَ! رُدُّونِي رُدُّونِي، فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ: قُتِلَ وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ أم كِلابٍ: ولم؟ فوالله إِنَّ أَوَّلُ مَنْ أمالَ حَرْفَهُ لأَنْتِ! وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ: اقْتُلُوا نَعْثَلاً فَقَدْ كَفَرَ، قَالَتْ: إِنَّهُمُ اسْتَتَابُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَقَدْ قُلْتُ وَقَالُوا، وَقَوْلِي الأَخِيرُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الأَوَّلِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ أم كِلابٍ:
فَمِنْكِ الْبَدَاءُ وَمِنْكِ الْغِيَرْ … وَمِنْكِ الرِّيَاحُ وَمِنْكِ الْمَطَرْ
وَأَنْتِ أمرْتِ بِقَتْلِ الأمام … وَقُلْتِ لَنَا إِنَّهُ قَدْ كَفَرْ
فَهَبْنَا أَطَعْنَاكِ فِي قَتْلِهِ … وَقَاتِلُهُ عِنْدَنَا مَنْ أمرْ
وَلَمْ يَسْقُطِ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِنَا … وَلَمْ تنكف شَمْسُنَا وَالْقَمَرْ
وَقَدْ بَايَعَ النَّاسُ ذَا تَدَرّإٍ … يُزِيلُ الشَّبَا وَيُقِيمُ الصَّعَرْ
وَيَلْبَسُ لِلْحَرْبِ أَثْوَابَهَا … وَمَا مَنْ وَفَى مِثْلَ مَنْ قَدْ غَدَرْ
فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَصَدَتْ لِلْحِجْرِ، فَسُتِرَتْ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا النَّاسُ، فَقَالَتْ: يا أيّها النّاس، إنّ عثمان قتل مظلوما، ووالله لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ.” ([14]).
“ووالله لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ” هو قسم شبيه بصرخة الحرب كلما انطلقت من حناجر النساء انفجرت مع صراخها فضيحة الدَّم المُراق وجريمة قتل القريب، وهو ما يدعو إلى الثَّأر، فإن كان ما تنبأ به الرسول حدثًا سَبَقَ حدوثُه بالقول وقوعَه بالفعل فإنَّ أطرف ما في النبوءة أنها انطبقت على امرأتين (سلمى أم زمل وعائشة أم المؤمنين) قد مثَّلتا حالًا استثنائية من أحوال الحر، ذلك أنَّ أخذ الثَّأر حربٌ أو نوع من الحروب تَفرض على كلِّ فرد من أفراد القبيلة أن يُشارك فيها وإلا كان من القَعَدَة، والطريف في معركة أم زِمْل وحرب عائشة هو الجمل الذي بركوبه اندلعت المعارك حامية الوطيس لتُخلِّفَ كثيرًا من القتلى وكثيرًا من الدماء التي لم تتوقَّف في هذه المعركة أو تلك إلا بعقر الجمل.
أما أم زمل فقد “اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها. وقُتل حول جملها مئة رجل”، وأما أم المؤمنين عائشة فقد قُتِلَ يَوْمَئِذٍ في وقعة الجمل “سَبْعُونَ رَجُلا، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ بِخِطَام الْجَمَلِ، فَلَمَّا عُقِرَ الْجَمْلُ وَهُزِمَ النَّاسُ […] احْتَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَضُرِبَ عَلَيْهَا فُسْطَاطٌ”([15])، فتكرار الحدث الحربيِّ بالخسائر الجسيمة نفسها في أرواح القبائل والعشائر العربية يحملنا على فهم هذه الحرب من نوع “الحرب الأهليّة” La guerre civile، وهي غير حروب الفتوح التي انطلقت من البلاد العربية إلى خارجها مشرقًا ومغربًا، لأنَّها حرب داخليَّة، بدأت في صلب آل البيت في شكل شُبهة تعلَّقت بطريقة موت النبي: هل كانت تسمُّمًا أم مرضًا ([16])؟ ثمَّ انقلبت إلى خلاف داخل بيت الرسول وصحابته في مسألة خلافته ([17])، ثمَّ اتَّسع نطاقها مع حروب الرِّدَّة لتتَّخذ شكل حروب قبلية ضد المدينة، وعادت مرة أخرى أعنفَ ما يكون بعد مقتل عثمان مطالبة بدمه، فكان موته مُقدمة للفتنة الكبرى، وهي سلسلة من الحروب انتهت بمقتل آخر الخلفاء الرَّاشدين، علي بن أبي طالب، ولكن عندما تكون الحرب داخل البيت، ويُراق الدَّم الذي لا ينبغي أن يُراق، ثمَّ تنتشر الفتنة لتصبح حروبًا طاحنة شاركت فيها كل القبائل باسم من سوف يخلف المسلمين من آل البيت، نكون حينئذ أمام حرب أهلية دارت رُحاها تارة في فضاء العائلة أو العشيرة أو القبيلة وطورًا في قلب “المدينة”، العاصمة الإسلامية الأولى، قبل أن تنتشر في بواديها وحواضرها.
فإذا حدَّدنا بدقة نوع الخلاف بين ثالوث (البيت/والعشيرة-القبيلة/ والمدينة)، أمكننا أن نُحدِّد نوع الحرب الأهلية: أهي خلاف في صُلب العائلة (السَّقيفة)، أم هي حرب القبيلة ضدَّ المدينة (حروب الردَّة)، أم هي حرب المدينة ضدَّ العائلة (مقتل عثمان)، أم هي حرب القبيلة باسم العائلة على المدينة (علي وعائشة: الجمل/علي ومعاوية: صِفِّين)؟ وأمكننا في الآن نفسه التفرقة بين أشكال القيادة الحربيَّة التي اضطلعت بتمثيلها ثلاث نساء ظهرن في فترة من أعنف فترات الإسلام المُبكِّر بسبب كثرة حروبه، وينبغي هاهنا أن نُخصِّصَ هذا الظُّهور، فقد ظهرن فجأة واختفين سريعًا بعد هزيمتهنَّ في معاركهنَّ المختلفة، فحرب سلمى أم زِمْل هو استئناف لحرب القبيلة على الأمة الإسلاميّة الناشئة التي بدأتها جدتها “أم قرفة” أيام الرسول، ولكن بوسائل أخرى تمثَّلت في زعامتها لعدِّة قبائل انهزمت في حرب بُزاخة، تمكَّنت من تجميعها وتجهيزها لمحاربة المدينة.
أما حرب سجاح التَّميميَّة فقد تميَّزت عن حرب أم زِمْل بأنها اتبعت منوال القبائل المرتدَّة في خلافة أبي بكر التي كانت في العمق ترفض مبدأ الدولة، فهي قبائل غير مُدَوْلَنَة ظلَّت لَقَاحًا ترفض الخضوع العَقَديَّ والسياسيَّ لسلطان المدينة الإسلامية، وليس ادِّعاء النبوة الذي انفجر عند قبائل عربية كثيرة سوى شكل من أشكال التمرد على دين الدولة الرسمي سرعان ما قُمع سياسيًّا بعنف متفاوت الحدِّة.
أما خروج عائشة مطالبةً بدم عثمان فهو شكل آخر من الخروج على سلطان الدولة بجعل العائلة من آل البيت التي أراقت القبائل دم بعض أفرادها في مواجهة حادَّة مع المدينة.
فالنساء الثلاث وإن تزعَّمن الرَّجال لم تكن زعامتهن سوى مظاهر مختلفة من الفتنة والانشقاق على الدولة، بل لم تكن حروبهن المختلفة سوى مظاهر مختلفة من “الحرب الأهلية” وجب بيان وجوه اختلافها مع كلِّ واحدة من مُمثِّلات “الزَّعامة في الإسلام المُبكِّر”.
المراجع:
[1] أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَرِيّ، الشّعر والشّعراء، تحقيق وشرح أحمد محمّد شاكر، القاهرة، دار المعارف، الطّبعة الأولى، 1982، الجزء الأوّل، ص234-235.
[2] ناجية الوريمي، زعامة المرأة في الإسلام المبكّر، تونس، دار الجنوب، سلسلة معالم الحداثة، 2016، ص27-28.
[3] محمود عبد الباسط، “الجمل العربي ودوره القتالي في شبه الجزيرة العربية بين رواية هيرودوت والشواهد الأثرية”، مصر، مجلّة الاتّحاد العامّ للآثاريّين العرب، المجلّد23، العدد2، 2022، ص127-151.
[4]أبو هلال العسكري، الأوائل، تحقيق وضبط وتعليق محمّد السّيّد الوكيل، طنطا – مصر، دار البشير للثّقافة والعلوم الإسلاميّة، الطّبعة الأولى، 1987، ص401-404.
[5]شمس الدين الذهبي، سير أعلام النّبلاء، حقّقه وضبط نصّه وعلّق عليه بشّار عوّاد معروف، جزء2، بيروت، مؤسّسة الرّسالة، الطّبعة الحادية عشرة، 1996، السّيرة النّبويّة، ص22، وقد جاء فيها ” وكانت غزوة أم قرفة في رمضان سار إليها زيد بن حارثة؛ لأنها كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الواقدي”.
[6] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، ، تاريخ الرّسل والملوك، (تاريخ الطّبري)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، الطّبعة الرّابعة، 1979، الجزء الثّاني، ص642-644. .
[7] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النّبلاء، أشرف على تحقيق الكتاب وخرّج أحاديثه شعيب الأرناؤوط، حقّق هذا الجزء حسين الأسد، بيروت، مؤسّسة الرّسالة، الطّبعة الحادية عشرة، الجزء الأوّل، 1996، ص227-228. “إِبْرَاهِيْمُ بنُ يَحْيَى بنِ هَانِئ الشَّجَرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَتَانَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجرّ ثوبه فقبّل وجهه. وَكَانَتْ أم قِرْفَةَ جَهَّزَتْ أَرْبَعِيْنَ رَاكِباً مِنْ وَلَدِهَا، وَوَلَدِ وَلَدِهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُقَاتِلُوْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم زَيْداً، فَقَتَلَهُم، وَقَتَلَهَا، وَأَرْسَلَ بِدِرْعِهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَصَبَهُ بِالمَدِيْنَةِ بَيْنَ رُمْحَيْنِ”.
[8] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، تاريخ الرّسل والملوك، م.م، الجزء الثّالث، ص263-264. والإبراز إبرازنا.
[9] ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار صادر، 1977، المجلّد الثّاني، [الحوأب]، ص314.
[10] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، تاريخ الرّسل والملوك، م.م، الجزء الرّابع، ص509.
[11] عزيز العظمة، الكتابة التّاريخيّة، والمعرفة التّاريخيّة. مقدّمة في أصول صناعة التّأريخ العربي، بيروت – لبنان، دار الطّليعة، الطّبعة الأولى، 1983، ص12.
[12] العادل خضر، يحكى أنّ… مقالات في التّأويل القصصيّ، تونس، الدّار التّونسيّة للكتاب، الطّبعة الثّانية مزيدة منقّحة، 2023، ص61.
[13] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، تاريخ الرّسل والملوك، م.م، الجزء الرّابع، ص457.
[14] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، م.ن، الجزء الرّابع، ص458-459.
[15] أبو جعفر محمّد بن جرير الطّبري، م.ن، الجزء الرّابع، ص509.
[16] انظر، Hela Ouardi, (2016) Les Derniers jours de Muhammad. Enquête sur la mort mystérieuse du Prophète., Paris, Éditions Albin Michel.
[17] أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشّهرستاني، الملل والنّحل، تحقيق محمّد سيّد كيلاني، بيروت – لبنان، دار المعرفة، (د.ت)، المجلّد الأوّل، ص23، حيث استعرض المؤلّف في مقدّمته عدّة أنواع من الأحداث الأسطوريّة والتّاريخيّة السّياسيّة، منها ما يسمّيه “الخلاف الثّالث”، وهو موت الرّسول.