جدلُ الإصلاح في الفكر العربي وتناقض أطروحاته وأيديولوجياته: الخطابان القومي والديمقراطي نموذجًا

 تكوين

منذ بداءاته الأولى أواسط القرن التاسع عشر، اصطدم خطاب الإصلاح العربي بجدل المنطلقات والأولويات، وتناقضت تصوراتها عن الإنسان والمجتمع والكون، إذ رهن كل منها المستقبل العربي بالانطلاق من أولوية أيديولوجية محددة بوصفها الأساس والشرط اللازم لأي تحول سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في العالم العربي.

على هذه الصورة انقسم الفكر النهضوي العربي إلى فريقين: الأولُ يرى، أولوية الإصلاح المؤسس على التراث، والآخر، يرى أولوية التغيير بالانتهال من ليبرالية الغرب وقيمه السياسية والاجتماعية. أعطى النهضويون الأولوية إلى النهج القويم المركون في التراث العربي الإسلامي، في حين أعطى آخرون الأولوية إلى قيم الغرب الليبرالية في الحرية والدستور والقومية والمواطنة وحقوق الانسان والمرأة. في هذا السياق نادى الإصلاحي الديني باستعادة السيرة الراشدية في التنظيم والعدل والسياسة، لأن “آخر الأمة ” لا يصلح إلا بما صَلُحَ به أولها، فيما رأى الاصلاحي الليبرالي أن اقتباس مبادئ الحضارة الغربية وقيمها السياسية والاجتماعية وتوجهاتها الاقتصادية والعلمية والعمرانية هو السبيل الأنجع لتجاوز محنة الفوات التاريخي العربي واندراج العرب في حداثة العصر. قال الأولون التراث أولًا، وقال الآخرون الحرية وحقوق الانسان أولًا، فيما لجآ الإصلاحي التوفيقي إلى التوفيق بين الحضارتين الغربية والعربية الاسلامية، بوصفه الحل الأفضل لإشكالية التناقض بين الأصالة والحداثة .

على هذا الأساس قال الإصلاحي التوفيقي باختيار ما يُلائمنا من حضارة الغرب وما يفيدنا في تدبير معاشنا، وطرح ما يتناقض مع مُسلماتنا الإيمانية ومُثُلُنا الأخلاقية. على هذا النحو تعامل بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي مع حضارة الغرب، في حين ذهب طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” 1938 إلى القول باقتباس هذه الحضارة كما هي بالكامل، دعا جلال أمين في “قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر” إلى رفضها كُلها. استمر هذا الجدل على مدى القرن الماضي بصور وأشكال مختلفة، فذهب القومي العربي إلى أن إنجاز مشروع الوَحْدَة القومية العربية هو المدخل الذي لا بُد منه إلى الحرية والتقدم والتنمية والاشتراكية، وما دون ذلك هو استمرار في التخلف والتبعية وتمادي التمزق العصبي المُهدد لمستقبل الأمة. ومن هنا جاءت دعوات التوحيد القومي، سواء في إطار سورية الطبيعية أو على الصعيد العربي الشامل مشرقًا ومغربًا.

أما الاشتراكي العربي، فقد قال بالاشتراكية أولًا، لأنه في ظل النظام الطبقي لا سبيل إلى إنجاز أية مُهمة قومية أو اجتماعية، فالطبقة العاملة هي وحدها المهيأة لتحقيق كل التحولات التقدمية المرجوة، وما لم تنتصر هذه الطبقة وتتسنَّم قيادة المجتمع، فسيبقى العالم العربي محكومًا بأنظمة الفساد والاستبداد والتخلُّف.

وربط العلماني العربي بين علمنة المجتمعات العربية وأي تقدم يُمكن أن تنجزه هذه المجتمعات باتجاه الوَحْدة أو باتجاه الاشتراكية والعدل الاجتماعي، إذ مع اللامساواة السياسية والتمييز في الحقوق بين الطوائف والمذاهب والإثنيات، لا أمل في الخروج من رَبْقَة الصراعات والعصبيات والارتقاء إلى الدولة المدنية والمواطنية.

وقدّم خطاب النقد الثقافي الذي عرفه الفكر السياسي الغربي منذ الثلث الأخير من القرن الماضي مع عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهاشم صالح وسواهم، أولويةَ الثورة الثقافية، إذ من دون تلك الثورة لا أمل في الإصلاح. في ذاك الإطار اتجه العروي إلى نقد البنية الحضارية العربية المؤسسة للهزيمة، وذهب محمد عابد الجابري إلى نقد العقل العربي، لأن أصل الخلل في اخفاق المشروع النهضوي يقبع في “العقل العربي”، ورأى محمد أركون أن نمط التصور العربي للكون والإنسان والتاريخ يقف وراء فشل المحاولات النهضوية المتكررة، ما يفترض تغييرًا جذريًا في ذاك النمط التاريخي، في حين شدّد هاشم صالح على أن لا نهضة عربية من دون ثورة أيديولوجية ثقافية تُحرر الروح العربية من يقينيات القرون الوسطى وذاك الشرط الأول لكل تحرير اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي. ورهن برهان غليمن الديمقراطية في العالم العربي بأولوية التنمية الاقتصادية، وشدَّد ناصيف نصار على أولوية الحرية كونها الشرط المؤسس للتقدم والنهضة .

اقرأ أيضا: نقد الأيديولوجيا الشيوعية في النشأة والمآلات: الحزب الشيوعي اللبناني نموذجًا

ثمة إشكال تاريخي، ففي خطاب الإصلاح العربي تَمَثَّل دائمًا في الأحادية والاختزالية والاجتزاء، وهي السمات التاريخية التي اعتورته وأدت إلى اخفاقه وبقائه خطابًا نخبويًا، فالإصلاح إما أن يكون شاملًا يأخذ في الحسبان كل المقدمات التاريخية: الدينية والقومية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، طارحًا تصورات جامعة متكاملة، وإما أن ينكفئ -كما حصل على الدوام- على مشروع مُجهض عاجز عن اختراق واقع التخلف المتمادي.

تلك الرؤى والتصورات المتناقضة لم تفضِ إلا إلى مزيدٍ من الإرباك والاختلاط في الفكر الأيديولوجي العربي، وأكثر ما تَمَثَّل ذلك في الخطابين القومي والديمقراطي وأسئلتهما الإشكالية والإرباك الأيديولوجي الذي تستتبعانه من سؤال الأمة والهُوية إلى سؤال الدين والدولة، مرورًا بسؤال الديمقراطية والعلمانية وعلاقتهما الجوهرية بالقومية والوَحْدَة العربيتين. فهل الأمة العربية مُعطىً سابقًا كُلًّا موحدًا تجزأ لاحقًا أم هي مشروعًا تنهضُ به إرادة سياسية جامعة عابرة للعصبيات والطوائف؟ وما هو شكل الوَحْدة المرجوة؟ هل هي وَحدة اندماجية بين كل أقطار الأمة العربية أم اتحاد أقطار ودول لها كِياناتها ومقوماتها؟ ومن سيقود عملية التوحيد، هل هو إقليم قاعدة أو طليعة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية؟ هل هي الجماهير أم النخب أم الدولة؟ وقبل ذلك هل الأمة كانت مُوحدة أصلًا في أية مرحلة من مراحل تاريخنا أم أن الوَحدة العربية تَصَوُّر طُوباوي يُبحث له عن أسانيد واقعية؟ وهل العرب أمة واحدة فعلًا، كي يؤسسوا دولتهم المُوحدة؟ وما الذي يجمعهم؟ هل هو الدين أو التاريخ أو الجغرافية أو اللغة أو المصلحة في مواجهة تحديات وجودية واقتصادية وسياسية؟

تلك الأسئلة التي حاصرت الفكر الأيديولوجي القومي العربي من دون أن يخرج بتصورات توفيقية مقبولة لتناقضاتها حتى لدى المفكر القومي العربي ذاته الذي لم يتردد في طرح تصورًا للأمة العربية وعوامل وَحْدتها يتناقض جوهريًا مع ما كان قد طرحه سابقا. على هذا النحو عدَّ محمد عابد الجابري الثقافة عاملًا مركزيًا في توحيد العرب، ثم لم يلبث أن تحدث عن انشطار في الثقافة العربية يصل إلى درجة الحرب الأهلية. وبينما يطرح آخر الدين أساسًا للوَحدة لا يلبث أن يُحيله إلى عامل تفكيك. وإذ يُنادي الاقتصاديون بوَحدة اقتصادية عربية تُمهد إلى وَحدة سياسية عربية، يربط آخرون الاقتصاد العربي الواحد بالوَحدة السياسية التي تستتبع من فوق وَحدة الاقتصاد.

وبينما يطرح بعضهم حقوق الانسان العربي مُقدمةً ضرورية واجبة للوَحدة العربية، يذهب آخرون إلى أن تلك الحقوق لا يُمكن أن تتأمن إلا في الدولة العربية الموحدة، لا في الدول العربية القُطرية التي تُعادي جماهيرها وتُصادر إرادتهم.

ثمة من يرى الوَحدة العربية حتمية تاريخية لا بُد منها مهما استجد من عقبات وعوائق، وثمة من يرهنها بتحولات التاريخ وإيمان العرب بها وكفاحهم من أجلها، وليس بأية حتمية تاريخية أو قوانين موضوعية خارجة عن إرادة الشعوب وتطلعاتها.

إقرأ أيضا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي

إذا كانت هذه تناقضات الخطاب القومي العربي وأسئلته الاشكالية المحرجة، فان تناقضات الخطاب الديمقراطي ليست أقل إشكالًا وإحراجًا، إذ أن العلاقة بين الإسلام والديمقراطية مأزومة أصلا، تاريخيًا واجتماعيًا وأيديولوجيًا، كونهما بنيتين مختلفتين وتعذر المقارنة بينهما من الناحية المنهجية. فللإسلام مشروعه الحضاري الخاص، والديمقراطية مشروع حضاري طارئٌ على العالم العربي بوصفه فكرةً وممارسةً. ولم يكن الأفق الفلسفي للحضارة العربية الإسلامية ليسمح بانبثاق سؤال الحرية المُحمَّل بدلالات ليبرالية مستجدة وغير مسبوقة. فهل بإمكان الحركات الإسلامية أن تتمثل الديمقراطية من دون أن تفقد هُويتها؟ وهل بالإمكان تحقق المشروع الإسلامي من دون إقصاء المخالفين لشمولية نظرته إلى العالم؟ وهل تتناقض المضامين الليبرالية للديمقراطية مع تعاليم الإسلام وفلسفته؟ وهل تمكن المقارنة بين مفهوم سياسي يُقيد بمجمله تقرير سلطة الإنسان في نظام اجتماعي معين، ومفهوم ميتافيزيقي يُفيد مُجمله تقرير خضوع الإنسان لسلطة الله؟ وهل يُمكن التوفيق بين الإسلام والديمقراطية من طريق مبدأ الشورى الإسلامي أم أن هذا المبدأ يُحيل هو الآخر إلى أسئلة إشكالية وتناقضات جوهرية، نظرًا لالتباس مفهوم الشورى وماهيتها وعناصرها ومقوماتها؟ فهل هي مُلزمة للحاكم أم أنها لا تتعدى النصح؟ وما هو مجال عملها؟ ومن هم أهل الشورى وكيف يُحدد هؤلاء ومن يختارهم؟ هل هم أهل الحِل والعَقد أم أهل الاختيار أم أهل الاجتهاد وأولي الأمر؟ وهل تجوز المقابلة بين هؤلاء وبين نواب الأمة في المجالس التمثيلية الحديثة؟ وهل تستوعب الشورى مبدأ فصل السلطات الذي هو أساس الحكم الديمقراطي الحديث؟

أسئلة مُعلقة ومُؤجلة لأن عد الأمة مصدرَ السلطات في الديمقراطية يفترض تحررها من أية وصاية خارجية عنها، في حين هي في الإسلام مُقيَّدة بالشريعة، وإن أقر بعض الإسلاميين بحق الناس في اختيار حكامهم، إلا أنهم لم يحددوا ما يقصدونه بـ “الناس” وما إذا كان هذا المصطلح يشمل كل البشر من دون استثناء، أو إذا كان من حق هؤلاء اختيار القوانين أيضًا -لا الحكام فقط- ومحاكمة حكامهم على أساسها؟

الأمر الذي يقود حتمًا إلى إشكالية حقوق الانسان بين الإسلام والديمقراطية، وفيما إذا كان الإنسان هو المرجعية الأولى والأخيرة فيما يخص وجوده السياسي والاجتماعي.

إزاء كل تلك الأسئلة التي حاصرت الخطابين القومي والديمقراطي، وإخفاق المحاولات التوفيقية، لا مناص في رأينا من إعادة نظر شاملة ومن الجذور، في فكرنا الأيديولوجي وخطابنا السياسي والاجتماعي وإبداع رؤية نهضوية عربية جديدة بمعزل عن الثنائيات التقليدية وبعيدًا عن التصورات السائدة والمسلمات التاريخية المتداولة التي حكمت على المثقف العربي منذ القرن التاسع عشر بالدوران في حلقة مفرغة لم يستطع الخروج من ربقتها إلى الآن.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete