حديث الهوية؛ حديث دائم: ممتد ومتجدد. يشغل بال الأفراد والمجتمعات على السواء. وسبب الانشغال يرجعه الذين اجتهدوا في تفسير مفهوم ما الذي تعنيه الهوية، أو ما تعارف على تسميته بسؤال الهوية، إلى أربعة أسباب:
- أولا: تأكيد الذات أمام التحديات
- ثانيا: التمرد على التنميط السياسي والثقافي
- ثالثا: التكيف مع التحولات المجتمعية والمستجدات الفكرية والمادية
- رابعا: إشكالية الاندماج مع المختلفين
وكلها أسباب تستدعي دوما الجدل حول الهوية لأنها تجعل الإنسان والجماعة، في أي مكان وزمان، ومن ثم استنفار العقل واستثارة الوجدان/المشاعر لإعادة اكتشاف ما يمكن أن نطلق عليه: “الذات الهوُيَاتية” الفردية والجمعية القادرة على التعاطي مع الأسباب الأربعة سالفة الذكر. وبالأخير ارتبطت الهوية ارتباطا وثيقا، كمحرك ودافع وداعم، للوجود الإنساني والجماعاتي في الواقع المعاش.
تجليات الهوية تاريخيا
في هذا السياق، تعددت التجليات الجدلية حول الهوية: فلسفيا وسياسيا؛ ومن ثم أصبح مفهوم الهوية أحد المفاهيم الإنسانية الكبرى التي انشغل بها العقل البحثي والمعرفي تاريخيًّا، وإلى الآن. لذا كان الحصاد المعرفي لهذا الانشغال، وعلى مدى زمني ممتد يقابل التاريخ الإنساني، أن تعددت المقاربات التي تتعلق بالهُويَّة، بفعل مجمل التحولات المجتمعية والتطورات السياسية والاجتهادات الفكرية والتي تشابكت معا من أجل فك شفرة الهوية للإجابة عن سؤال الهوية الممتد تاريخيا وواقعيا، ومن ثم الاستقواء، كما أسلفنا، بها لتأكيد الذات، ومواجهة التنميط الذي يحول دون التجدد والابتكار كذلك التصنيف الذي قد يعطل أي استحقاقات، وتعظيم التكيف، وأخيرا تفعيل الاندماج المجتمعي من أجل التقدم. في هذا الإطار، ونظرا لأن الإنسان/المجتمع كانا: أولا: محورا وموضوعا الهوية من جانب، وثانيا: تجلِّيًا لها ــ الهوية ــ في علاقات متعددة المستويات، وسياقات ذات طبيعة متنوعة، وتفاعلات مختلفة. وعليه بات للهوية تجليات متعددة.
يمكن إجمالها في ثلاثة تجليات كما يلي:
- أولًا: بالإنسان منفردًا.
- وثانيًا: بالإنسان في إطار علاقاته بمن حوله، وحركته الإنسانية/المواطنية في دوائر الانتماء المتعددة التي ينتمي إليها.
- وثالثًا: بالتحولات التي طرأت على الواقع والمجتمع وانعكاس ذلك على الإنسان.
وفي كل مساحةِ “تَجَلٍّ هُوِيَّاتِيٍّ”؛ مما سبق ذكره، سوف نجد منظومة قيمية وسلوكية تتبلور، تميِّز الإنسان منفردًا، والإنسان ككائن اجتماعي، والانسان في إطار التغيرات المجتمعية المستجدة. والأهم أن هذه المنظومة ليست ثابتة، بل تتعرض هي نفسها إلَى تغيرات بحسب تغير السياق المحيط وما يطرأ عليه من مستجدات يكون من شانها إحداث تحولات في البنى المختلفة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية. وبالنتيجة، بات مفهوم الهُويَّة من الثراء الذي جعله موضوعا لكثير من الحقول المعرفية الكلاسيكية والمحدثة المتداخلة. وبحسب أحد الباحثين فلقد:
“أثبتت المعالجة المفهومية للهُويَّة استبطانها خصوبة ديالكتيكية”.
حيث إن طبيعة “مفهوم الهُويَّة الفضفاض والعائم تمكنه من الارتحال بيسر ومرونة من سجل لآخر. ولهذا تنبسط مباحثها في كل الاتجاهات وتقع في مفترق الطرق عدة اختصاصات:
في هذا السياق، نشير إلى أهمية عالم النفس الألماني الدانماركي/الألماني/الأمريكي “إريك إريكسون” (1902 – 1994)، في تطوير الفهم للهوية ومساهمته في التقاط “أزمة الهوية” في الواقع. كما نجح في تحرير مفهوم الهوية من هيمنة الفلسفة عليه التي ظلت ممتدة منذ زمن الآباء الأثينيين. ففي سنة 1933 غادر هذا العالم -الذي تكوّن في مدرسة التحليل النفسي “الفرويدية” بفيينا ـــ إلى الولايات المتحدة. وهناك اكتشف الأعمال الأنثروبولوجية للمدرسة الثقافوية. وكان ذلك دافعاً له لتطوير أسس نظرية “فرويد” في مجال العلوم الاجتماعية. وفي نفس الوقت، كانت مدرسة “الثقافة والشخصية” -بعلمائها الأنثروبولوجيين: “أبرام كاردينر أو مارغريت ميد”؛ تعكف على دراسة العلاقة بين النماذج الثقافية لمجتمع معين وأنواع الشخصية السائدة بين الأفراد الذين يشكلون هذا المجتمع. وهي المدرسة التي استفاد منها إريكسون، خاصة في سنوات الثلاثينات. حيث عمل إريكسون في المحميات الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا الشمالية، ودرس “الاجتثاث الثقافي” لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة. ومن محصلة أبحاثه الميدانية نشر في سنة 1950 كتاب: “طفولة ومجتمع“، حاول فيه تجاوز نظرية “فرويد” بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن الهوية الشخصية تتطور مع تطور عمر المرء. وأشار-للمرة الأولى-إلى أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه: “أزمة الهوية“، وهي تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية. وأن مرحلة المراهقة هي المرحلة الحرجة التي تشتد فيها أزمة الهوية. بيد أن هذا لا يمنع من أن تحدث أزمات هوية في مراحل لاحقة بحسب الظروف التي يتعرض لها الفرد.
إقرأ أيضا: إشكالية الهوية والثقافة في المواطنيَّة وإمكان العالَميَّة
الهوية بين رؤيتين
فتح، إذن، إريكسون الباب لتوسيع مساحات الجدل حول الهوية. فكثر المجتهدون ممن ينتمون إلى حقول معرفية مختلفة في مقاربة الهوية. وكان لهم فضل فتح آفاقا معرفية معمقة حول المصطلح في إطار علاقته بالكثير من القضايا والإشكاليات. فهناك من عني بعلاقة الهوية بنظرية الدوار، وهناك من بحث موضوع الهوية من خلال علاقتها بموضوع الجماعة المرجعية، وعلاقة الهوية بالحضارة، كذلك الهوية في مواجهة التمييز، ومن ثم بدأ التمييز بين الهويات: الشخصية، المجتمعية، القومية. كذلك علاقة الهوية بالخصوصيات الثقافية. وأثر الحداثة والعولمة وكل من حوار/صدام ــ الحضارات/الثقافات على “الحالة الهوياتية”. وبالأخير تمدد وتعمق الجدل حول الهوية ما أكسبه الجدة والعمق. واستطاع هذا الجدل أن يميز بين رؤيتين-تصورين للهوية وذلك كما يلي:
- أولا: الرؤية السكونية؛
- ثانيا: الرؤية الديناميكية؛
ويمكن القول إن هاتين الرؤيتين قد تراوح الأخذ بهما بين الاتجاهات الفكرية والثقافية والدينية والتيارات السياسية، وإن بدوافع مختلفة. حيث انقسمت الرؤى الفكرية التي تعاطت مع مسألة الهوية بين ما يمكن أن نطلق عليهم “السكونيون” وبين “الديناميكيين”. كما تعبر كل رؤية عن لحظة تاريخية في تاريخ البشرية تعكس النقلات التي شهدها المجتمع الانساني منذ ما قبل المجتمع الحديث، إلى مجتمعات ما بعد الحداثة.
أولا: الرؤية السكونية:
ونقصد بها الرؤية التي يرى أنصارها فيها الهوية ” تستمد كينونتها وتتشكل ملامحها وتتبلور طبيعتها وفق مرجعية مطلقة من خارجها. قد تكون هذه المرجعية: عرقا، أو دينا، أو قومية، أو موقعا جغرافيا، أو تاريخا ثقافيا. حيث تظل الهوية على ولائها لإحدى هذه المرجعيات أو بعضها. ويكون دأب “الذات/الذوات” الحاملة لهذه الهوية أن تحافظ عليها وتدافع عنها. وأن يكون جل اهتمام المرء/الجماعة الإصرار على الإبقاء على ملامحها الأساسية وعدم القبول بأي تغيير يطرأ عليها لأن هذا يعني التفريط في الذات نفسها.
في هذا المقام، دلل الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور (94 عاما)، الذي يعد أهم من تتبع تحولات الهوية واضطراباتها في ضوء ما حل بالمجتمع الإنساني من تغيرات، على الكيفية التي يدافع بها السكونيون عن هوياتهم “الوجودية/الأنطولوجية”، واستمراريتها دون أي إخلال بها. وذلك من خلال أمرين هما:
- الأمر الأول: الاستقرار الكوني؛ حيث يرى السكونيون نظام الكون وعناصره مستقرة وغير قابلة للتغيير مطلقا، من جهة. ومن جهة أخرى، أنه تم اكتشاف كل أسرارها ولم يعد هناك ما هو مخفي. ولأنهم يتمثلون هذه النظرة، عن قناعة حقيقية، نجدها تنعكس على هوياتهم. ويتولد لديهم يقين بأن هوياتهم في تمام الانسجام مع الكون. ما ينشأ عنه رابطة قسرية بين الهوية وبين نظام الكون. وعليه تصبح الهوية الذاتية نسخا للطبيعة الكونية. وأي تغيير إرادي أو القبول بتجديدها إنها يعد خروجا على سنن الله والطبيعة والكون.
- أما الأمر الثاني: الثبات المجتمعي؛ ويقصد به أن المجتمع بتجلياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية هو بمثابة “قدر معطى”، بحسب تايلور، علينا قبوله كما هو. فالفقراء عليهم أن يظلوا هكذا ومن ثم يكون الحمد على ما هم فيه أحد سمات الشخصية السائدة ومن ثم ملمح رئيسي لهوية المرء وتحديدا الفقير. ويترتب على ما سبق أن تظل الطبائع ثابتة والأدوار المجتمعية محددة سلفا. ولا سبيل لتغيير المقادير المقررة سلفا، لأن ذلك يعد تمردا على نواميس اللوجوس وعلى أحكام العدالة الماورائية التي كرست عبودية دائمة وسيادة أبدية وبالأخير هوية ساكنة: متصلبة وجامدة.
وينتمي إلى الرؤية السكونية كل المفكرين المدرسيين الذين أرادوا أن يستخلصوا من جدل الهوية إجابة ثابتة ومستقرة أو بلغة أخرى أن يعرفوا الهوية تعريفا مدرسيا يستقر في صفحات الموسوعات -النفس فلسفية تحديدا- بحيث يكون هذا التعريف غير قابل للمساس. أنه التعريف الموسوعي/المدرسي – الذي يبدو محايدا- الذي يعتبر خلاصة التساؤل الذي طرحه “السكونيون” على مدى العصور منذ الفلسفة اليونانية مرورا بالفلسفة العربية وفلسفة التنوير حتى منتصف القرن الثامن عشر تاريخ انتقال المجتمع الإنساني إلى الزمن الصناعي حيث طال التحديث كل شيء. وعليه لم يعد سؤال الهوية سؤالا فلسفيا مجردا بقدر ما أصبح سؤالا يرتبط بالإنسان في علاقته المركبة بذاته وسياقه الجديد المختلف كليا عما قبل.
في مقابل “السكونيين”، نجد “الديناميكيون” ورؤيتهم الديناميكية.
ثانيا: الرؤية الديناميكية:
سادت الرؤية السكونية للهوية المجتمعات ما قبل الحديثة والحديثة. ولم تعرف الإنسانية الرؤية الديناميكية إلا مع ميلاد الحداثة. وقد اقترنت بحدثين متلازمين هما: “الأول ويتمثل في الانقطاع الكلي عن العالم القديم وهجر ترسانته الميتافيزيقية الثقيلة. أما الثاني فيعلن ميلاد الذات والذاتية الظافرة”. وقد كان لهذين الحدثين أثرهما في “أفول ميتافيزيقا الهوية، وتبعا لذلك انهيار القيم العبودية والإقطاعية والأرستقراطية القائمة على نظرية ثبات الطبائع والأدوار الاجتماعية. أما الحدث الثاني فقد أدى إلى تنامي قيم الحرية والمساواة القانونية”. ما أطلق وعيا تاريخيا بأولوية “الهوية الفردية المتحررة من: المحرمات، والمراجع المطلقة، و “كل أشكال التبعية السلبية المعطلة للكينونة عن الإبداع والانطلاق الحر وفق إرادة الفرد الحر المستقل. لذا أصبحت الهوية حرة الحركة تكتسب ملامحها من حياة إنسانية خارجة على النص. فلقد فرضت الحداثة البازغة على الانسان “أن يكون إنسانا على طريقته الخاصة”، أو ما يصفه تايلور “بالأنوية المركزية Egocentrism”. حيث يتمحور الفرد حول ذاته. وفي ضوء ما يمليه عليه عقله، المتحرر من كل المسلمات والسلطات، تتشكل هويته، ورؤاه للواقع، والمجتمع، والعالم. بهذا المعنى، يمكن القول إن مجتمعات ما بعد الحداثة قد أملت على الانسان أن يحرر ذاته من “ثقل الهويات الجاهزة”. وفي هذا يقول تايلور ما نصه:
“رافق ميلاد الهوية الذاتية شعور بالغبطة والقوة، لأن الذات لم تعد مقيدة في تحديدها بنظام خارجي. وفي الوقت ذاته انصهر مفهوم الذاتية الحديثة بمفهوم الحرية الجديدة”. وهكذا لم تعد الهوية: “موروثا مغلقا ساكنا معزولا عن التاريخ وما يطرأ فيه من تحولات. وإنما حالة ديناميكية منفتحة على الواقع. تكتسب ملامحها وشرعيتها من ذاتها الحرة”.
الهوية في زمن ما بعد الحداثة
هكذا انتقل جدل الهوية من التعاطي مع الهوية كمنطق صوري ورمزي يلاحق مواطن التناقض في الأشياء (موضوع علم المنطق)، إلَى الهُويَّة كبحث عن وحدة مفترضة للوجود الإنساني، باحثة عن أصل مرجعي ثابت (موضوع الميتافيزيقا). وصولًا إلَى تمثل العلوم الإنسانية المشترك لمسألة الهُويَّة باعتبارها آليات إثبات وجود فردية ومكتسبة، لا صلة لها بإحراج الماهية أو الأصل أو السكون
نهاية التسعينيات من القرن الماضي، بات واضحا، أن جدل الهوية التاريخي قد ظل ممتدا في زمن ما بعد الحداثة، والعصر الرقمي، وإن البشرية قد ولجت إلى الألفية الجديدة ولم تزل هناك حاجة لإجابة/إجابات جديدة يتجدد معها جدل الهوية. وتبين أن لا الرؤية السكونية ولا الرؤية الدينامية قدمتا إجابات نهائية لسؤال الهوية، أو بالأحرى لأسئلتها التي تراكمت وتعالت مع تعقد المجتمع الإنساني. ولم يعد إنسان زمن/مجتمع المعلومات يعيش حياة حدية تجعله سكونيا تجاه الهوية أو ديناميكيا بقدر ما دفعته إلى أن يكون في حالة جدلية بين التمسك بالهوية كنواة صلبة تعينه في مواجهة التغيرات المطردة وبين تحولات الهوية ذاتها بفعل بلوغ المجتمع الإنساني لحالة حداثية عليا تتجاوز ما بعد الحداثة بمراحل أو حسب وصف عالم الاجتماع البريطاني “أنتوني جيدنز”(87 عاما): “الحداثة الراديكالية Radicalized Modernity”. ففي هذه المرحلة تجد الفرد يمارس عملية بناء مركبة لهويته الذاتية تقوم على السمة ونقيضها في آن واحد. باعتبار ذلك عملية انعكاسية لمواجهة التحولات الجذرية التي تحل على البشرية، بتناقضاتها.
وترجع هذه العملية المركبة لبناء الهوية إلى تعرض العالم إلى “انقلاب” ـ بحسب العالم الفرنسي في العلاقات الدولية “برتران بادي” (75 عاما)، حاد، كان له تأثيره الشامل الذي من ضمنه التأثير على الهوية من حيث تكونها وعلاقاتها وتفاعلاتها.
في هذا السياق، يضع الفيلسوف وعالم الاجتماع “زيجموند بومان” (1925 – 2017)، يده بدقة على أزمة الانسان المعاصر في مجتمع الحداثة الراديكالية”، إذا ما رجعنا إلى مصطلح “جيدنز”، من خلال مقولة مكثفة تقول:”إذا كانت مشكلة الهوية الحديثة (التاريخية) هي كيف نبني هوية ونحافظ عليها صلدة ومستقرة، فإن مشكلة الهوية ما بعد الحديثة في عصرنا الراهن (في العصر الرقمي وزمن الذكاء الاصطناعي والثورة الرابعة وأجيال “زد” و”ألفا” و”بيتا”،…) تدور حول كيفية تفادى الثبات والمحافظة على الخيارات مفتوحة”. ذلك لأن جدل الهوية المعاصر قد بات يطرح في سياق يتسم بالتعقيد والتداخل والتراكب يمكن أن نرصد أهم سماته كما يلي:
- أولا: اختلاط الصراع الإنساني من أجل الثروة والمكانة السياسية والتطلعات التي كانت تميز البورجوازية التاريخية والطبقة العاملة منتصف القرن التاسع عشر/مطلع القرن العشرين، بالصراعات الجديدة مثل: العرقية، والإثنية، والما قبل قومية،…،إلخ، من جهة. والحركات والتشكيلات الجديدة الاحتجاجية الاجتماعية، والمناهضة للعولمة، والحقوقية، والمدافعة عن البيئة، والتي تشكلت بعيدا عن الأنساق القديمة: المدنية والسياسية، ومن جهة أخرى،
- ثانيا: سطوة الاستهلاك والامتلاك، وتكون ما يعرف “بسيكولوجية الرغبة”، ما أخل كثيرا ببنية الهوية الفردية، واصابتها بالكثير من الأعطاب.
- ثالثا: تأثير ثورة المعلومات والاتصالات إلى انتقال الانسان المعاصر إلى زمن الواقع الافتراضي والتواصل الاجتماعي خارج التقنيات والوسائل التقليدية، ما أدى إلى تبلور هويات مغايرة لزمن الثورة الصناعية. هويات تتسق مع ميل الفرد إلى خلق عالم خاص به يشكل ملامحه بنفسه. وهو الأمر الذي استفادت منه المجموعات والجماعات ذات المطالب الخاصة أو التي تعاني تمييزا أو صاحبة مشروع إقصائي.
وبعد، ساهم ما سبق في أن يتعرض الجسم المجتمعي الكوكبي على مدى مسرح العالم (حسب تعبير بادي) المعاصر إلى انقلاب “جوهري في بنيته. كان من شأن هذا الانقلاب أن يردع ما حاولته القوة المنتصرة في الحرب الباردة ــ أقصد المعسكر الغربي ــ في تسكين أوضاع العالم تحت الهيمنة الأمريكية من خلال أسطورة “نهاية التاريخ” التي تراجع عنها صاحبها عقب الأزمة المالية الأسوأ في التاريخ التي تعرض لها العالم سنة 2008. كذلك نجح “انقلاب العالم” في تفنيد لعبة “صدام الحضارات” “الهانتيجتونية” التي سعت إلى إشعال “الحروب/الحرائق الهوياتية “على أسس دينية ومذهبية وثقافية وعرقية وإثنية لأسباب تتعلق بالهيمنة الإمبريالية التي تتعارض مصالحها مع تحقيق أي شراكة بين الهويات على قاعدة المواطنة بأبعادها المتعددة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، التي تحقق قدرا ــ حدا أدنى من الحقوق والعدالة والمساواة والإنصاف والتكافؤ في الفرص واقتسام الثروات.
على هذه الخلفية، تعددت، في العقدين الأخيرين من الألفية الجديد، الاجتهادات العابرة للحقول المعرفية والتي كان من شأنها تجديد جدل الهوية في زمن: تضاعف المعرفة، والتجدد “الطفري” للتكنولوجيا؛ ومقاربة الهوية من أبعاد غير مأهولة معرفيا. ونفصل في الحلقة الثانية والأخيرة جانبا من تلك الاجتهادات…