جذور تديين الدولة: الجزء الأول..سؤال المُحكّمة: كيف يحكم القرآن؟

 تكوين

لم ينطلق المسلمون من نصوص صريحة قطعية الدلالة في تشكيل رؤيتهم حول علاقة الدين بالدولة بما في ذلك طريقة اختيار الحاكم (الملقب تاريخيا بالخليفة) مما فتح بابا للنقاش في سقيفة بنى ساعدة، وانطلق المسلمون بدافع من واقعهم إلى تقرير ضرورة وجود حاكم يخلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في سلطته الزمنية، ونجح المسلمون أول الأمر في تجاوز أي خلاف حول طريقة اختيار رأس السلطة (الخليفة) رغم أمواج العصبيات التي كادت تعصف بهم.

لم يحمل إطلاق الخليفة على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- دلالة جديدة تتجاوز الدلالة اللغوية في إنابة رجل في مهام خاصة حدّدتها عبارة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة:

“لابد لكم من رجل يلي أمركم ويصلِّى بكم ويقاتِل عدوَّكم”.([1])

فهذه كانت واجبات تلك اللحظة التاريخية، ومن الواضح أنّ لفظ الخليفة لم يحمل أي حمولة مفاهيمية جديدة، فسرعان ما تحوّل عنه عمر بن الخطاب بعد توليه الأمر بعد أبي بكر رضي الله عنهما إلى لقب أمير المؤمنين. ([2])

وفي أواخر عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- نشبت خلافات بين المسلمين سرعان ما تحولت في أعقاب استشهاده إلى معارك بين على ومعاوية -رضي الله عنهما- بدأت بالاحتكام إلى السيوف في معركة (صفين) وانتهت بالاحتكام إلى القرآن الكريم بناءً على رفع معاوية وجيشه المصاحف لتتوقف الحرب، وكانت رؤية عليّ بن أبي طالب رفض دعوى جيش معاوية الاحتكام للقرآن ووصفها بالخديعة والمراوغة، قائلا للخارجين عليه:

“أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نُجِيبُهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال امضوا على حقكم وصدقكم فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم عليّ رأيي، وقلتم لا بل نقبل منهم فقلت لكم اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي”.([3])

فلما انتهى تحكيم القرآن إلى الهدنة رفضت جماعة من جيش على أن تكون حكومة القرآن هي كتاب الهدنة الذي وُقَّع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقالوا:

قد قطع عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقرّ بالجزية… وقالوا لعلي خبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء فقال إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال”.([4])

انشق معارضو نتيجة التحكيم، ولم يقبلوا مقولة علي ولا غيره من الوسطاء في أنه لا تعارض بين القرآن الكريم وما أسفرت عنه المساعي السياسية، وتطوّر الأمر فلم يعد معسكر الشام فحسب الخارج عن أحكام القرآن بل معسكر العراق بإصرار علي بن أبي طالب على عدم التوبة والرجوع عن ذنبه، فمن الحوار الذي دار بينه وبين المنشقين من جيشه قول حرقوص بن زهير: “إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين، فرجعنا وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا، وإلاّ برئنا منك.. تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا، فقال لهم علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله عزّ وجل: وأوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون. فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله –عز وجل- قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه. ([5])

عقيدة الخوارج

بمثل هذه العبارات التأسيسية تكوّنت رؤية المُحكِّمة الذين عرفُوا تاريخيا بالخوارج، فمن رحم النزاع وُلد السؤال حول علاقة الحاكم بالقرآن وطريقة تطبيقه وتحكيمه، وضرورة حرفية التمسك بآيات القرآن الكريم حتى نحقق معنى “إن الحكم إلا لله” وتكفير المخالف لذلك ووجوب التبرأ منه بل ومقاتلته ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ، وتبع ذلك كثير من الأسئلة في العقيدة التي أخذ الخوارج يجيبون عنها بصريح وظاهر لفظ القرآن الكريم، فلم يكن يشغلهم وضع أصول لاستنباط الأحكام من القرآن كما سيفعل الأصوليون في مرحلة تالية، ولم يتمسكوا بالحديث كما ستفعل مدرسة الحديث في مرحلة تالية، ولم ترسخ لإعمال العقل في فهم النصوص كما ستفعل مدرسة أهل التوحيد والعدل (المعتزلة)، فمن منظور جماعات الخوارج لا حاجة إلى تنظير فالقرآن ينطق بكل شيء، وأن الأولى العمل وأوجب الأعمال الجهاد ضد السلطان الجائر الذي عطّل أوامر الله في قرآنه.

إقرأ أيضًا: حالة اللادولة في صدر الإسلام الجزء الثاني: التشريعات القرآنية وحالة اللادولة

فخطاب الخوارج هو أول محاولة لتديين الرأي السياسي، فمن الأسئلة الكاشفة لأفكارهم قول عروة بن أدية لأشعث بن قيس عندما أتاهم من قبل على رضي الله عنه، “أين قتلانا يا أشعث؟! أفي الجنة أم في النار”؟ وكأنهم يقولون: كيف نكون في الجنة مقتولين مع قاتلين!! إنهم ما رفعوا سيوفهم إلا بيقين استقرّ في نفوسهم بأن قتلاهم في الجنة جزاء تضحيتهم، وأن خصومهم في النار عقوبة بغيهم. ويكملون حديثهم إلى أشعث بقولهم:

“هل عندما نحتكم إلى قول الله تعالى “فقاتلوا التي تبغي” تأتي فتقول لي قال الرجال.. أبعد قول الله قول يا أشعث!!” ([6])

فأسسوا لفكرة ما زالت حيّة في جانب من الخطاب الإسلامي إلى اليوم، مفادها: أن كلامهم يمثل حكم القرآن، لأنهم يتمسكون بلفظ وظاهر آياته، بينما مخالفوهم حكّموا عقول الرجال واحتكموا إلى أقوالهم، ولم يستوقفهم منطقية قول علي -رضي الله عنه- لهم بأن القرآن سطور لا تتحدث، لكن ألسنة الرجال تتحدث بما فهمت من الآيات.

وقادهم الخلاف مع السلطة إلى طرح أسئلة على القرآن والإجابة بظاهر لفظه، فشغلهم علاقة الإيمان بالعمل، وشرط صحة بيعة الإمام، وتكفير الظالم ومرتكب الكبيرة ومعطّل الاحتكام لآيات القرآن، وضرورة إبراء الذمة من مودة العصاة بل ووجوب إعلان تلك البراءة، فلعنوا مخالفيهم، واختلفوا حول الإقامة بينهم، وجواز معاملتهم نسبا وإرثا وبيعا وشراءً، وحكم دارهم أهي دار حرب فتستباح أطفالهم وأموالهم، وحكم الاستعراض أي اغتيال المخالف، وكان الاختلاف الداخلي حول الإجابة عن بعض التساؤلات سببا لانشقاقات الخوارج قديما وحديثا حتى وصلت في بعض فترات التاريخ إلى عشرين جماعة لكن بقي اجتماعهم على أمرين:

  • وجوب محاربة السلطان الظالم فهذا أعظم الجهاد
  • التبرؤ من المخالفين لأفكارهم والانفصال عنهم.

فأفكارهم حول الدولة دين لا يعرف منطقة الأحكام الاحتمالية (النسبية) فالأمور عندهم بين الأبيض والأسود، يصنفون الناس بين الجنة والنار، فهم قضاة على القلوب فحسابهم عاجل في الدنيا بموجب حراستهم للدين! ومطابقة فهمهم لمراد الله! وكلما قارنوا بين الصورة المثالية المرجوة للمسلمين من منظورهم والواقع لاسيما السياسي، زادت الفجوة بينهم وبين الواقع وتكون المفاصلة ثم الصِّدام.

وإيمانا منهم بأن تغيير الواقع وتحقيق الإسلام (بمفهومهم) في المجتمع لا يأتي باختيار الناس الحر، بل يحتاج إلى سلطة تسوق الرعية إلى صحيح الإسلام، وتفرض أحكامه؛ فقد عاشوا دوما في حالة (جهاد) مواجهة مع السلطة التي لا سبيل -من منظورهم- لتغييرها إلا بالقوة، فإن كان الخليفة يستمد مشروعية قتاله لهم من بيعة عامة الناس له إماما، فهم يبطلون تلك البيعة، ويدعون للخروج عن طاعة صاحبها بمعصيته لله ومخالفته لقرآنه.

إقرأ أيضًا: تاريخ الفرق الإسلامية: قراءة سيسيولوجية الإرهاصات التاريخية الجزء الأول

ولم يكن للطرف المقابل للجماعات الخارجة على السلطة في كل عصر أن يسكت عن أفكارهم، فلابد من الرد عليها وإزاحتها، وبذلك تكوَّن الخطاب الرسمي الذى تأثر -دون أن يشعر- في صياغة أفكاره بتلك المساجلة – وأقصد بالخطاب الرسمي هنا الذي تختاره السلطة، وتراه معبرا دون غيره عن رؤيتها— ففي مقابل أجوبة جماعات الخوارج من القرآن عن أسئلة واقعهم التاريخي جاءت ردود المسلمين من غير الخوارج من القادرين على النظر في معاني القرآن الكريم، واستخراج ما ينقض فكر الخوارج، فلما كانت أهم أفكارهم تكفير الحاكم بالظلم ووجوب الخروج عليه، بدأ يركز الطرف المقابل من غير الخوارج على:

  • أن الفسق درجة غير الكفر
  • أن الحاكم لا يُعزل بفسقه
  • خطورة فتنة الانقسام
  • ويؤكد على حرمة الخروج علي الحاكم
  • أخذوا يلتمسون أدلة ذلك في مرويات الأحاديث،

فاكتسبت البيعة بُعدًا دينيًا يحميها من محاولة الخوارج نقضها باسم الدين، ومازلنا نعيش هذا السِّجال إلى يومنا فالكثير من أفكارنا هو رد فعل لهذا الجدل الذي لم يحسم إلى اليوم تغيّرت اللافتات وبقي ما تحتها من أفكار.

فإذا كانت الجماعات الدينية تُقدم نفسها بالساعية لاستعادة الإسلام، فالخطاب الرسمي في المقابل يُقدّم نفسه بحامي صحيح الإسلام، وإذا كانت الجماعات تتحدث عن شمولية الإسلام لتفاصيل الدولة، فلن يكون الخطاب الرسمي أقل إسلامية من إسلاميتهم، ويبقى الاختلاف في الضامن أهو المؤسسات الرسمية أم الجماعات الدينية المناوأة لهم، وتظل حالة الاتهام من كل طرف للآخر الذي يراه من الخارجين عن صحيح الإسلام.

الخوارج والشيعة

على صعيد آخر شارك الشيعة الخوارج انشغالهم بقضية الإمامة، وإن اختلفوا في

  • كون الخوارج جماعات متعددة تفتقد الزعامة الروحية والرمزية الدينية التي يلتف حولها الشيعة
  • بالإضافة إلى أن جماعات الخوارج حركية انفصالية تنشغل باتخاذ السلاح والحرب (الجهاد) وسيلة لفرض رؤيتها عن التنظير لأفكارها حول الإمامة وتصنيف الكتب فيها؛ لذا ظلت أفكارهم محصورة في مناظرات مع خصومهم وخطب تلهب حماسة أتباعهم،
  • بينما أخذت أفكار الشيعة حول علاقة الدين بالدولة تتشكل، فانتقلوا من الجدل والحجاج اللفظي إلى التنظير لما وضعوا له عنوان الإمامة (الخلافة)

ففي أوائل العصر العباسي بعد قرابة قرنين من التاريخ الهجري، صنف غير العرب من الموالي الشيعة أول كتبهم في الإمامة، وشرحوا أدلتهم المثبتة لإمامة علي وبنيه ووصايتهم بنص الوحي على الأمة، فذكر ابن النديم في الفهرست أن عليا بن اسماعيل التمار صاحب كتاب الإمامة والاستحقاق وهشام بن الحكم تلميذ جعفر الصادق أول من كتب كتابا في الإمامة، وجعلاها ضمن أبواب العقيدة.. ([7])

إقرأ أيضًا: ولي الفقيه وهوس الدولة الدينية

وتلخصت رؤية الشيعة في أن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، وقد نصّ الله مصدر السلطة والسيادة على جعلها في علي أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين؛ لأن الإمام نائب عن الله ورسوله ونيابة الغير لا تحصل إلا بإذن ذلك الغير، كما أن فعل الصلاح واللطف الواجب على الله يقتضي منه فعل ما يقرب العبد من الطاعة، ويبعده عن المعصية ببعثة الأنبياء ثم الأئمة المعصومين أفضل معاصريهم وأعلمهم بالله وشريعته، فالشيعة تقيس الإمامة على النبوة في الاستدلال، وعصمة الإمام عندهم نابعة من دلالة كلمة إمامة التي تتطلب وجوب الاقتداء به، والله لا يأمرنا بالاقتداء بمن يُمكن منه الذنب والمعصية، وينكرون أن يكون لأحد من الناس الحق في اختيار الإمام؛ لأنهم لا يملكون حاكمية وسيادة في الدنيا أو على حياة المسلمين؛ ليفوضوا أحدا، فالحاكمية والأمر كله لله.

جذور تديين الرأي السياسي.. الدين والدولة

لم تكن السلطة السياسية متمثلة في الخليفة لتسكت عن الأفكار الدينية التي تنطلق منها جماعات الخوارج في دعوتها لإسقاط سلطة السياسية والخروج من بيعته، فبدأت السلطة السياسية في دعم خطاب ديني يتسق معها، ويردّ على الأفكار الدينية للخارجين عليها، وبذلك تكوَّن الخطاب الرسمي الذى تأثر -دون أن يشعر- في صياغة أفكاره بتلك المساجلة – وأقصد بالخطاب الرسمي هنا الذي تختاره السلطة، وتراه معبرا دون غيره عن رؤيتها – ففي مقابل أجوبة جماعات الخوارج من القرآن عن أسئلة واقعهم التاريخي جاءت ردود المسلمين من غير الخوارج من القادرين على النظر في معاني القرآن الكريم، واستخراج ما ينقض فكر الخوارج، فلما كانت أهم أفكارهم تكفير الحاكم بالظلم ووجوب الخروج عليه، بدأ يركز الطرف المقابل من غير الخوارج على أن الفسق درجة غير الكفر، وأن الحاكم لا يُعزل بفسقه، وخطورة فتنة الانقسام، ويؤكد على حرمة الخروج على الحاكم، وأخذوا يلتمسون أدلة ذلك في مرويات الأحاديث، فاكتسبت البيعة بُعدا دينيا يحميها من محاولة الخوارج نقضها باسم الدين، وما زلنا نعيش هذا السِّجال إلى يومنا، فالكثير من أفكارنا هو ردّ فعْل لهذا الجدل الذي لم يحسم إلى اليوم، تغيّرت اللافتات، وبقي ما تحتها من أفكار.

فإذا كانت الجماعات الدينية تُقدم نفسها بالساعية لاستعادة الإسلام، فالخطاب الرسمي في المقابل يُقدّم نفسه بحامي صحيح الإسلام، وإذا كانت الجماعات تتحدث عن شمولية الإسلام لتفاصيل الدولة، فلن يكون الخطاب الرسمي أقل إسلامية من إسلاميتهم، ويبقى الاختلاف في الضامن أهو المؤسسات الرسمية أم الجماعات الدينية المناوأة لهم، وتظل حالة الاتهام من كل طرف للآخر الذي يراه من الخارجين عن صحيح الإسلام.

على صعيد آخر، شارك الشيعة الخوارج انشغالهم بقضية الإمامة، وإنْ اختلفوا في كون الخوارج جماعات متعددة تفتقد الزعامة الروحية والرمزية الدينية التي يلتف حولها الشيعة، بالإضافة إلى أن جماعات الخوارج حركية انفصالية تنشغل باتخاذ السلاح والحرب (الجهاد) وسيلة لفرض رؤيتها عن التنظير لأفكارها حول الإمامة وتصنيف الكتب فيها؛ لذا ظلت أفكارهم محصورة في مناظرات مع خصومهم وخطب تلهب حماسة أتباعهم، بينما أخذت أفكار الشيعة حول علاقة الدين بالدولة تتشكل، فانتقلوا من الجدل والحجاج اللفظي إلى التنظير لما وضعوا له عنوان الإمامة (الخلافة) ففي أوائل العصر العباسي بعد قرابة قرنين من التاريخ الهجري، صنف غير العرب من الموالي الشيعة أول كتبهم في الإمامة، وشرحوا أدلتهم المثبتة لإمامة علي وبنيه ووصايتهم بنص الوحي على الأمة، فذكر ابن النديم في الفهرست أن عليا بن اسماعيل التمار صاحب كتاب الإمامة والاستحقاق وهشام بن الحكم تلميذ جعفر الصادق أول من كتب كتابا في الإمامة، وجعلاها ضمن أبواب العقيدة.. ([8])

وتلخصت رؤية الشيعة في أن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، وقد نصّ الله مصدر السلطة والسيادة على جعلها في علي أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين؛ لأن الإمام نائب عن الله ورسوله ونيابة الغير لا تحصل إلا بإذن ذلك الغير، كما أن فعل الصلاح واللطف الواجب على الله يقتضي منه فعل ما يقرب العبد من الطاعة، ويبعده عن المعصية ببعثة الأنبياء، ثم الأئمة المعصومين أفضل معاصريهم، وأعلمهم بالله وشريعته، فالشيعة تقيس الإمامة على النبوة في الاستدلال، وعصمة الإمام عندهم نابعة من دلالة كلمة إمامة التي تتطلب وجوب الاقتداء به، والله لا يأمرنا بالاقتداء بمن يُمكن منه الذنب والمعصية، وينكرون أن يكون لأحد من الناس الحقّ في اختيار الإمام؛ لأنهم لا يملكون حاكمية وسيادة في الدنيا أو على حياة المسلمين؛ ليفوضوا أحدا، فالحاكمية والأمر كله لله.

وإذا انتقلنا إلى موقف من يعرفون تاريخيا بالقراء أو أهل الحديث من جذور العلاقة بين الدين والدولة والمتمثلة تاريخيا في قضية الإمامة “الخلافة“، فسنجدهم لم يتشكّلوا أول الأمر في صورة فرقة أو جماعة؛ لأنهم لم يجتمعوا حول راية واحدة، ولم ينخرطوا في سلك نظام واحد، بل كانوا “مجتهدين” متفرقين، كل له نهجه، وكان يُطلق عليهم القراء أو أهل الحديث أو التابعين وتابعيهم، ولم يتدخلوا في الجدل الدائر لعقود حول قضايا العقيدة (علم الكلام) وفي مقدمتها قضية الإمامة (الخلافة) بوصفها قضية عقائدية شيعية في ذاك العصر، بل كان القراء أو التابعين أو أهل الحديث دائمي التحذير من تناول تلك القضايا، وأصبحت حالة التساؤل التي بدأها الخوارج وتفاعل معها بعض الصحابة من أمثال ابن عباس –رضي الله عنه- بابًا يتعين إغلاقه في عهد التابعين وتابعيهم؛ لأنه سيقود إلى الحديث عن خلاف الصحابة الذي بات –من منظورهم- فتنة يجب عدم الخوض فيها؛ لذا كان رأيهم بالتوقف عن تناول خلاف الصحابة حول الإمامة (الخلافة) وما نشب حولها من صراع، فنُسب لعمر بن عبدالعزيز وقيل للحسن البصري عبارة

“تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلطخ بها ألسنتنا”

وكان يتمثل بها الإمام الشافعي بعد ذلك، وما زالت تتردد في خطابنا المعاصر حتى أمست جزءا أصيلا في ثقافتنا الإسلامية، وإن أراد أصحابها بها في أول الأمر أنهم لا يكفرون، ولا يتبرأون من أحد أطراف الصراع أو من كليهما كما فعل شيعة علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أو الخارجين عليه لكن تطورت دلالة الجملة في ثقافتنا الإسلامية إلى السكوت عن تناول تلك الأحداث التي عرفت تاريخيا بالفتنة..

ورأى أهل الحديث أنّ صراعات الخوارج والشيعة وجدل المعتزلة والمرجئة يفتح باب الاضطرابات ويُصدّع الوحدة فتكون الفتن -وهذا مما ساهم في تعميق معاني السلبية والعزوف عن السياسة في الثقافة الإسلامية- فلم يقتربوا من هذا الباب إلا بكتابات تنصح وتحذر المحكومين من الانقسام، وتذكر الحاكمين بواجباتهم تجاه الرعية ومن أشهرها: رسالة الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز وصولا إلى رسالة القاضي أبي يوسف في مقدمة كتابه الخراج إلى الخليفة هارون الرشيد.

وكان مذهبهم في قضايا العقيدة بما فيها الإمامة التوقف يُمثله قول الإمام مالك شيخ المدرسة المالكية حين سئل عن كيفية “الاستواء”، فقال:

“الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.”

وإجابته لمن سأل عن الصفات: “اقرأها كما جاءت بلا كيف” وحكى الرازي في مناقب الشافعي تحذيره من دراسة علم الكلام بأقوال كثيرة منها: “إياكم والنظر في الكلام!” وكان يقول “رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضا، ورأيت أهل الحديث يخطئ بعضهم بعضا، والتخطئة أهون من الكفر”. ([9])

ومن ناحية أخرى ركّزوا اهتمامهم، ووجّهوا جهودهم إلى جمع وتنقيح سند (طرق نقل) المرويات الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مما جمعوا بعض فصول ذات صلة بالإمامة (الخلافة) مثل جمع البخاري فصلا في صحيحه باسم كتاب الأحكام، وجمع مسلم فصلا في صحيحه بعنوان الإمارة، فكانت مرويات الحديث التي جمعها المحدثون أول عمل مكتوب في هذا الباب. ولما اتسعت حركة التصنيف والتدوين العربية في الدولة العباسية متخذةً من القرآن الكريم ميدانا لدراساتها، اعتمد المفسّر على مرويات الحديث والآثار في شرحه لمعاني بعض آيات الاستخلاف -كما تناولت الدراسة- لكن ظلت أفكار السنة حول الخلافة (الدولة الإسلامية) حائرة؛ “لأنه لم يكن لها من سند إلا الاستدلال بالأحاديث، وكل فريق كان يروي من الأحاديث ما يراه متفقاً مع مذهبه، وكان هناك الميل إلى الكذب والادعاء”.([10])

وكان التحوّل الجوهري في فكر تديين الدولة على يد الإمام الشافعي ليس كأول فقيه نقل قضية “دولة الخلافة الإسلامية” إلى مباحث الفقه الإسلامي فحسب كما يقول ابن النديم،([11]) وكانت من قبله ضمن المسائل التي تتناولها كتب العقيدة السنية في ردها على أقوال الشيعة في الإمامة المنصوص عليها بالوحي، لكن التغيّر الجذري الذي مهد له الإمام الشافعي في فكر السنة حول الإمامة وعلاقة الدين بالدولة يكمن في جعْل الإمام الشافعي الإجماع أصلا ومصدرا تشريعيا، فقد أوجد الإمام الشافعي بذلك الأساس الذي سينطلق منه كثير من الفقهاء عائدين إلى تاريخ المسلمين الأوائل للنظر في تجربتهم مع الدولة بوصفها تطبيق عملي للإجماع، ودليل على وجوب الخلافة الإسلامية. غير أنهم تأخروا في ذلك ما يزيد عن قرنين من الزمن، فالشافعي توفي سنة (٢٠٤هـ – ٨٢٠م) بينما تُوفي الإمام أبو الحسن الماوردي (٤٥٠هـ- ١٠٥٨م) قاضي قضاة الشافعية، وصاحب كتاب الأحكام السلطانية أسبق الكتب الإسلامية وأشهرها في تقديم تصور مُفصّل للإمامة السنية مستندا إلى أقوال سابقيه من المجتهدين والمتكلمين الذين كتبوا غالبا في سياق الرد على أتباع المذهب الشيعي الأسبق والأكثر غزارة في التصنيف والكتابة حول الإمامة.

الحواشي والمراجع:

([1]) ينظر: الإمامة والسياسة، ج١، ص٣٢.

([2]) “منذ عهد الخلفاء كانوا يسمون قواد البعوث باسم “الأمير”، وهو فعيل من الإمارة.. وكان الصحابة أيضاً يدعون سعد بن أبي وقاص “أمير المؤمنين” لإمارته على جيش القادسية وهم معظم المسلمين يومئذ. واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه “بأمير المؤمنين” فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به.. وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل “المدينة” وهو يسأل عن عمر، يقول: أين أمير المؤمنين؟ وسمعها أصحابه فاستحسنوه، وقالوا: أصبت والله اسمه؛ إنه والله أمير المؤمنين حقاً. فدعوه بذلك؛ وذهب لقبًا له في الناس وتوارثه الخلفاء من بعده.” مقدمة ابن خلدون، ص١٨٩.

([3]) تاريخ الأمم والملوك، ج٥، ص١٠٩.

([4]) السابق، ج٥، ص١١٠.

([5]) السابق، ج٥، ص٥٧.  الكامل في التاريخ، ج٢، ص٣٩٠.

([6]) السابق، ج٥، ص٥٧.  الكامل في التاريخ، ج٦، ص٤١.

([7]) ينظر: الفهرست، ص٢٩٥.

([8]) ينظر: الفهرست، ص٢٩٥.

([9]) ينظر: د. محمد أبو زهرة، الشافعي حياته وعصره وآراؤه الفقهية، ص١٥٣:١٣٤.

([10]) د. محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص١٠١.

([11]) الفهرست، ص٢٩٥.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete