حالة اللادولة في صدر الإسلام الجزء الثاني: التشريعات القرآنية وحالة اللادولة

 تكوين

مقدمة

يسعى هذا الجزء من الدراسة إلى البناء على ما توصل إليه عبد الجواد ياسين في كتابه “الدين والتدين – التشريع والنص والاجتماع[1] من خصائص للتشريع القرآني واستثماره في اتجاه مزيد من الفهم للتاريخ اللاحق للمسلمين على المستويين السياسي والفكري. وأحاول وضع هذه الخصائص تحت مسمى “الحالة الأولى”، أو “الوضع الأصلي” للتشريع القرآني، السابقة على الدولة، الموازية والعاكسة كالمرآة للحالة الأولى للجماعة المسلمة التي كانت في طور التكون والنشأة. والسؤال الأساسي الذي أضعه للبحث في هذه الدراسة هو: هل كان اللاحقون على وعي بما في التشريع القرآني من حالة أولى ووضع أصلي؟ من هم تحديدًا؟ وكيف تعاملوا معها؟

في الجزء الأول من الدراسة أقوم بحصر خصائص التشريع القرآني التي اكتشفها عبد الجواد ياسين، والتي أفسرها بكونها صادرة عن حالة اللادولة داخل التشريع القرآني، مع هدف جانبي وهو إثبات الوعي المعاصر بهذه الخصائص، وأضرب مثالًا على ذلك من أعمال وائل حلاق، مع التحفظ على مشروع حلاق والتشديد على الفروق الهائلة التي تفصله عن المشروع محل الدراسة. وفي هذا الجزء أضع خصائص التشريع تحت إطار مفهومَي “الحالة الأولى” Initial Situation/ State of Nature والوضع الأصلي Original Position، السابق على الدولة والمعبرة عن حالة اللادولة، مستعيرًا هذين المفهومين من تراث نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي الغربية؛ مع بيان الفرق في توظيف المفهومين: النظريات الغربية تبحث عن الحقوق الطبيعية الأصلية في الحالة السابقة على الاجتماع وعلى نشأة الدولة؛ أما توظيفي للمفهومين فيسعى للكشف عن حالة التشريع السابقة على نضوج الدولة واكتمال نموها، وهي الحالة التي أسماها ابن خلدون “العمران البدوي”.

إقرأ أيضًا: حالة اللادولة في صدر الإسلام: الجزء الأول

وضع ياسين يده على الخصائص التي تميز التشريعات القرآنية، مثل: اللا-استباقية، فهو لا يستبق الوقائع ولا يشرع لما ليس حاضرًا في المجتمع بل يأتي، دائمًا، تاليًا على الحالة موضوع التشريع؛ والمرونة إزاء حركة الواقع والظاهرة بحق في تغير التشريع وفق تغير حالة المجتمع، والتي ظهرت فقهيًا تحت مسمى ظاهرة النسخ؛ والمعالجة الجزئية لحالات خاصة وعدم ظهوره في “لائحة قانونية عامة” كاملة، فالتشريع مُنجَّم مثل القرآن كله، وهو التنجيم الذي كان مرآة لمجتمع في طور التشكل؛ و”الإحالة إلى الواقع الاجتماعي” في منطوق النص، ومعالجة أسباب النزول على أنها أسباب منشئة للتشريع القرآني ويصرح بها النص نفسه؛ والارتباط الوثيق بالمنظومة التشريعية العرفية السابقة على الإسلام، والاستعارة منها، وأولويتها باعتبارها إما هدفًا لإقرار النص وإما هدفًا للتعديل الجزئي أو الكلي؛ وبناء على ذلك القول بأن قصد التشريع القرآني هو الاندراج في التشريع العرفي، كي يصير عرفًا، نظرًا لعدم إقرار القرآن بهيئة تنفيذية مستقلة موكول إليها التطبيق. وهذا ما يحيلنا إلى خاصية أخرى للتشريع القرآني، وهو أنه ظهر في حالة اللادولة. فالتشريع القرآني لا يخاطب دولة ولا يسعى إلى تأسيسها، بل يخاطب المجتمع المسلم مباشرة.

وفي الجزء الثالث التالي من الدراسة أعالج سؤالها الأساسي: من كان على وعي بهذه الحالة الأولى والوضع الأصلي للتشريع القرآني؟ والإجابة هي:

  1. إذا كانت الحالة القرآنية هي حالة اللادولة، فإن كل الذين رفضوا الاندراج في الدولة اللاحقة وفضلوا البقاء خارجها كانوا يسعون إلى الحفاظ على الحالة القرآنية الأولى، وهم الخوارج، وتحديدًا الإباضية في مراحلها الأولى السابقة على تأسيسهم للدولة.
  2. كل من رفض القياس وقال بالظاهر كان يحافظ على الوضع الأصلي والحالة الأولى للتشريع القرآني، السابقة على التقنين بالأحاديث، وعلى تقنية القياس المخترعة لاحقًا، وأقصد هنا ابن حزم.
  3. وضع المعتزلة أيديهم على خاصية أخرى أصلية وابتدائية للتشريع القرآني وهي أن العقل يخالطه، فالعقل قبل النص وداخل النص وبعد النص كما يذهب الفقيه المعتزلي أبا الحسين البصري[2]. فالتشريع يخاطب العقل، إذ هو يفترض وجود العقل مسبقًا، والتكليف للعاقل وبذلك يكون العقل داخل التشريع، والعقل تالٍ على النص لأن ما لم يرد فيه نص يحق للعقل التشريع فيه حسب المعتزلة.
  4. إذا كان التشريع القرآني هو تشريع الحالة الأولى للاجتماع، وإذا كانت هذه الحالة الأولى مرتبطة بمجتمع أميّ، فإن الذي اكتشف أمية الشريعة وأن مراعاة الأمية من مقاصد التشريع القرآني هو أبو إسحق الشاطبي (ت: 790 هـ 1388) . والأمية هنا ليست مجرد عدم معرفة القراءة والكتابة، بل هي حالة إدراكية ومعرفية مرتبطة بالحالة الأولى للمجتمع.

أولًا – خصائص الحالة الأولى للتشريع القرآني

1) السياق الاجتماعي: أسباب النزول وتاريخية النص

يتصف الإسلام بحضور كثيف لمجتمع النزول في بنية النص المؤسس؛ فقد نزل القرآن منجمًا، أي متفرقًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، تفاعل فيها مع مجتمعه، وظهر هذا التفاعل في منطوق النص. واختلاف القرآن المكي والقرآن المدني هو انعكاس لاختلاف السياق الاجتماعي والسياسي بين مكة والمدينة. ومن آثار التفاعل بين الوحي ومجتمع النزول استجابة الوحي لمتطلبات الجماعة الأولى والإجابة عن أسئلتها، وهذا ظاهر في تكرار كلمتي “ويسألونك… قل”.

وقد شعر القدماء بضرورة تفسير القرآن وفق سياقه الاجتماعي، فأنشأوا مبحث أسباب النزول وصار جزءًا من التفاسير القديمة. يشكل هذا المبحث معينًا خصبًا للباحث الذي يبغي الكشف عن اجتماعيات القرآن وسوسيولوجيا الرسالة المحمدية. وقد صار مبحث أسباب النزول ركيزة أساسية لكل المقاربات الحديثة للنص القرآني ولكل الدراسات السوسيولوجية الحديثة للإسلام الأول؛ إذ اعتمد عليه محمد أركون وهشام جعيط ونصر أبوزيد وخليل عبد الكريم ومحمد عابد الجابري وعبد الجواد ياسين وغيرهم كثيرون. وقد أُطلِق على توجههم اسم “تاريخية النص”، وتاريخيته ليست سوى اجتماعيته، أي ارتباطه بمجتمع النزول.

لكن، على الجانب الآخر، استبعدت التوظيفات السياسية والسلفية المعاصرة للنص القرآني مبحث أسباب النزول ورفضت تاريخيته واجتماعيته بناء على مبررات كثيرة، منها القاعدة الفقهية التي يقال إنها مجمع عليها وهي ليست إجماعًا، وهي القائلة إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ظهرت هذه القاعدة في المدونات الفقهية القديمة، كي توسع دلالة النص القرآني وتمد من نطاق انطباقه ليكون سندًا لكل الأحكام والاجتهادات الفقهية اللاحقة[3]. وتحولت تلك المقولة في عصرنا من المجال الفقهي الضيق إلى المجال السياسي والسلفي ليتم توظيفها في جعل النص القرآني دعامة لمشاريع سياسية وتوجهات سلفية حديثة. والمحصلة النهائية لكل ذلك هي ظهور التراث القديم في التعامل مع النص القرآني باعتباره أكثر استنارة وعقلانية من التوظيفات السياسية والسلفية الحديثة له.

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

ولا أستطيع أن أترك مبدأ “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” دون إشارة إلى ما يدعيه هذا المبدأ وهو مسلمة لا أسلِّم بها. يفترض هذا المبدأ أن اللفظ عام، لكنه ليس عامًا في المنطوق القرآني، بل هو مخصوص بخصوص السبب، وفي ذلك شرح يطول وأمثلة تتعدد. بل إن منطوق بعض الآيات لا يُفهم بذاته مستقلًا عن سبب نزولها؛ ففي القرآن العديد من الآيات التي لا تُفهم دون معرفة أسباب نزولها، والمثال الأبرز على ذلك هو آية تعدد الزوجات الشهيرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا} (النساء 3). المقصود الأصلي للآية هو اليتامى، في مجتمع كثر فيه القتلى في الحروب، وهم الذين خلفوا وراءهم يتامى كثيرين مثلوا مشكلة اجتماعية؛ وهي تذكر ملك اليمين، أي الإماء، الذين ازداد عددهن نتيجة لنفس الحروب، وقد انتهى وجودهم الآن. الآية، إذن، تقع في سياق اجتماعي خلقته حروب الإسلام الأولى، وتأتي الآية مستجيبة للحالة الاجتماعية الناتجة عن اشتباك الدعوة النبوية مع سياقها السياسي. أسباب النزول هي البنية التحتية للنص، وهي المؤسسة للنص، في مقاصده وفي منطوقه. كثيرًا ما يحتوي النص القرآنيًا، في منطوقه، على أسباب نزوله، فعلاوة على كلمتَي “ويسألونك… قل”، نجد الآية التالية تذكر مناسبة نزولها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة 1)؛ مما يعني أن التفسير بأسباب النزول لا يقحم على النص القرآني شيئًا من خارجه، بل هو كشف عن معناه الأصلي.

إن رفض الاتجاهات السلفية الحديثة للمقاربة التاريخية للنص القرآني والهجوم على “تاريخية النص” لا يدرك البعد التاريخي والاجتماعي الذي يعلن عنه النص صراحة، ولا يدرك أن النص القرآني كان نتاجًا للتفاعل بين الوحي ومجتمع نزوله. وقد أدرك القدماء جيدًا هذا البعد التاريخي والاجتماعي للنص القرآني، كما أدركوا مدى خصوصية الأحكام القرآنية، وهو الأمر الذي يستدعي نسبيتها، مما دفع البعض منهم إلى تجاوز كل ذلك نحو الكشف عن مقاصد النص، أو مقاصد الشريعة، التي أسسها الشاطبي[4] بعد إرهاصات لدى سابقيه مثل الجويني والغزالي. وقد كان اكتشاف علم المقاصد وتأسيسه إنجازًا هامًا، لأنه لم يعمل على “أطلقة” النص، أي جعل النص بحرفيته مطلقًا كما تفعل السلفية المعاصرة، بل بحثت من وراء حرفيته عن مقاصده المتضمنة فيه بالقوة، غير المصرح بها بالفعل في المنطوق اللفظي للنص.

ومما له دلالة بالنسبة إلى علم المقاصد أن كتاب الشاطبي الذي وضع فيه أسس هذا العلم  أسماه “الموافقات في أصول الشريعة”، وليس “أصول الفقه”. مقاصد الشريعة هي أصول الشريعة، أي ما يؤسس للتشريعات القرآنية ذاتها، وكان هذا الاكتشاف إنجازًا هائلًا في عصره. لم يكن الشاطبي مهتمًا بصورة حصرية في علم المقاصد بما يؤسس الحكم الفقهي، بل كان مهتمًا بما يؤسس للحكم القرآني ذاته. وقد يبدو هذا التأسيس بعيدًا عن اجتماعيات النص وتاريخيته، لكنه يفترضهما، ويبني عليهما، ويتجاوزهما. ذلك لأن وعي الشاطبي بنسبية الأحكام القرآنية العائدة من ارتباطها بمجتمع النزول وتاريخ الدعوة المحمدية دفعه لتجاوز تلك النسبية والخصوصية الشديدة للبحث عن الثابت والمطلق والمؤسس للتشريع القرآني، وهو المقاصد، التي يأتي التشريع القرآني محققًا لها باعتباره حكمًا جزئيًا مستندًا على كلية المقاصد المتضمنة فيه.

قد يبدو من العرض السابق أن الشاطبي قد استبعد تمامًا اجتماعيات النص القرآني، وقد يبدو كذلك أن علم المقاصد الذي أسسه يلغي تاريخية النص ونسبيته الاجتماعية؛ لكن هذا غير صحيح. فلدى الشاطبي نظرية فيما يمكن أن أسميه “الوضع الأصلي للشريعة”، هذا الوضع الأصلي هو أن الشريعة موضوعة بمقصد إفهام كل الناس، للناس كافة؛ و”كل الناس” في مجتمع النزول كانوا أميين، ولذلك فمن أهم مقاصد الشريعة عند الشاطبي أنها نزلت حسب أمية المخاطب: “هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ”[5] (الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت 2004، ص 31)، “هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك” (ص 258)؛ “ما تقرر من أمية الشريعة…أنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب” (ص 264). الشريعة وفق الشاطبي موضوعة مراعاة لأمية المخاطب وهم أهلها من العرب. هذا هو المقصد الأصلي والأول، والذي يمكن اعتباره المقصد المعرفي. فعلى الرغم مما يبدو من نفي علم المقاصد لتاريخية النص واجتماعيته، إلا أن مقصد اعتبار أمية المخاطب يدل دلالة قوية على أن مجتمع النزول مقصود في طبيعة التشريعات القرآنية، على المستوى المعرفي، كونه مراعيًا لأمية هذا المجتمع. هنا يتداخل السوسيولوجي الإبستمولوجيّ بحيث يكادا يمتزجانًا.

2) ما هو الوضع الأصلي للشريعة؟

عندما نبحث في الوضع الأصلي للشريعة، فالمقصود هو التشريع القرآني تحديدًا، وذلك قبل توسع الفقه لاحقًا في أحكامه التي ربطها بما اعتبره أصلًا من القرآن والسنة، وقبل التعقيدات الفقهية اللاحقة وظهور واكتمال المذاهب الفقهية وعلم أصول الفقه. وفي مقابل كل تلك التطورات اللاحقة تظهر التشريعات القرآنية بسيطة ومباشرة، أما الاستدلالات والأقيسة الفقهية اللاحقة فليست كذلك، بالإضافة إلى كونها تنم عن حرفة فقهية متطورة. هذه البساطة الأولى للتشريعات القرآنية هي هدفنا، وهي التي سنبحث فيها عن الوضع الأصلي والحالة الابتدائية الأولى للتشريع في النص القرآني، ذلك التشريع الذي كان مباشرًا غير مُسْتَنِد على قواعد الفقه وأصوله ومذاهبه التي لم تظهر إلا في القرن الثاني، ولم تكتمل إلا في القرن الرابع.

والميزة التي يمتاز بها البحث في الوضع الأصلي للشريعة هي أن الوضع المعنيّ سابق على الفقه وأصوله ومذاهبه اللاحقة بكل ما تحمله من إلزامات وإكراهات وسلطة معرفية – دينية. فإذا كان الفقه قد اكتسب سلطة معرفية واجتماعية في المجتمعات المسلمة ابتداءً من القرن الرابع وما بعده[6]، وإذا كان الفقيه قد اكتسب سلطة معرفية هي سلطة علمه الفقهي بالذات[7]، فنريد تجاوز كل ذلك بالعودة إلى التشريع القرآني، وهو تشريع ليس فقهيًا وليس مذهبيًا، وليس فيه الصنعة الفقهية اللاحقة، وذلك قبل التوظيف الفقهي اللاحق له، والنظر في هذا التشريع القرآني وحده، مستقلًا عن أي رؤى فقهية أو مذهبية لاحقة، ومعالجة التشريع القرآني على أنه مكتف بذاته ولبى احتياجات مجتمع النزول؛ وبذلك يظهر واضحًا أنه نتاج التفاعل مع هذا المجتمع، وأنه استمرارٌ وليس انقطاعًا عن التشريعات الأسبق منه، الرافدية واليهودية والعربية.

إقرأ أيضًا: من أجل تجديد التشريع الإسلامي

يهدف البحث إذن إلى عزل الفقه عن القرآن،عزل الفقه بتاريخه ومذاهبه وأصوله، والبحث في اجتماعيات التشريعات القرآنية المرتبطة بعصر النزول ومجتمع النزول، ولهذا الغرض كان اعتمادنا على عبد الجواد ياسين في “الدين والتدين”، والذي درس فيه اجتماعيات النص المؤسس في جانبه التشريعي.

عندما تطور الفقه لاحقًا، بحث عن أصول، وقد كانت أصولًا نظرية ومنهجية، وكانت هي أصوله الخاصة به، “أصول الفقه”، ونبحث أيضًا في أصول، لكنها ليست أصول نظرية في الفقه، بل الأصول الاجتماعية للتشريعات القرآنية. البحث في أصول التشريع القرآني هو البحث في سوسيولوجيا الأحكام القرآنية، أي السياق الاجتماعي الذي أنتجها. ونستفيد من عبد الجواد ياسين من جهة أخرى، وهي توظيفه لمقولة المسكوت عنه عند ابن حزم الظاهري ونقده للقياس[8]. القياس هو الآلية الذهنية الفقهية التي ينتج بها الفقه أحكامًا جديدة ليست موجودة في النص القرآني، أحكامًا على حالات مستجدة لم تكن معروفة في مجتمع النزول. وقد كان رفض ابن حزم للقياس الفقهي هو فصل حاسم بين التشريع القرآني والفقه اللاحق، ومحاولة منه للعودة إلى حالة أولى للتشريع القرآني تم تناسيها من قبل الفقه اللاحق. آلية القياس تجعل من الأحكام القرآنية مجرد نص وظيفته الأساسية إسناد أحكام فقهية جديدة؛ أي أن القياس لا يعالج التشريع القرآني من أجل ذاته، بل من أجل استثماره وتوظيفه. صحيح أن القياس يعالج الحكم القرآني على أنه أصل لأحكام تالية، لكن لم تكن هذه هي وظيفة الحكم القرآني نفسه، فقد كانت وظيفته تنظيم المجتمع الناشئ مباشرة. لو قرأ أحد الصحابة أو التابعين كتابًا لاحقًا في أصول الفقه فلن يفهم منه شيئًا، أو لأحس منه بغربة ولشعر أنه مغرق في تعقيد لا لزوم له، في مقابل ما اعتاد عليه من بساطة في التشريع القرآني.

3) خصائص الوضع الأصلي للتشريع القرآني

من خصائص الوضع الأصلي للتشريع القرآني: الاستعارة من الممارسات التشريعية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام: العقود المالية والتجارية من الأنباط، الذين كان لهم نشاط تجاري واسع قبل الإسلام في شبه الجزيرة منذ القرن الأول الميلادي وشمال الحجاز[9]. القصاص والديّة من وادي الرافدين[10]؛ الزكاة من جنوب شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام بقرنين[11]. لا شيء يخرج من العدم ex nihilo nihil fit.

ومن خصائص التشريع القرآني، الاندماج في التشريعات السابقة، لا مجرد الاستعارة منها ولا مجرد إدماجها، بل الاندماج معها، ودخول هذه التشريعات مباشرة في العرف السائد: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف 199). يقول حلاق: “ظلت النظم الماضية والأعراف القديمة قائمة على نطاق واسع. بل سنرى لاحقًا أن الكثير من قوانين العرب ظل يشغل مكانًا في الشريعة، لكن بعد إجراء تعديل عليه”[12]. وهو هنا يكرر نفس تحليلات عبد الجواد ياسين، والذي أضاف في دراسته تفصيلًا لهذه التعديلات. ويضرب حلاق بذلك نفس المثال بالاستعانة بجويتاين Goitein أيضًا، في الصلاة والصيام والزكاة[13]؛ والصفقات التجارية والعقود[14]، وصور البيع والقصاص والقسامة، وتبني النبي لها وممارسته إياها عمليًا باعتراف الفقهاء[15].

كما يتصف الوضع الأصلي للتشريع القرآني بأنه شفاهي، أميّ، عرفي، مفتوح، عرضة للتغيير ومرحليّ، صياغته أمية مفتوحة غير قانونية، مرن في منطوقه (وإن خفتم… فإن خفتم… أو…)[16] بالإضافة إلى الآيات التي أوردها الشاطبي، غير موجه لمؤسسة تطبقه، وغير موجه للقاضي، نشأ في حالة غياب الدولة، لامؤسسي عكس القانون الروماني. مرحلي مرتبط بمجتمع يتشكل ولم يستقر على شكل نهائي، ومتحرك مكانيًا ومتوسع باستمرار.

والمثال على ذلك موقف القرآن من الخمر. حرم القرآن الخمر لكنه لم يقر بعقوبة، وعمر بن الخطاب هو الذي وضعها: 80 جلدة. وهذا دليل على عدم اكتمال التشريع القرآني، وأنه كان مفتوحًا عن قصد على العرف الاجتماعي، إذ ترك لهذا العرف تحديد العقوبة. وهذا دليل على أن المجتمع كان شريكًا للنص في التشريع. وعدم تحديد عقوبة شارب الخمر هو المسكوت عنه، وهو الأهم والأكثر دلالة، حسب ابن حزم وعبد الجواد ياسين.

ولما كانت التشريعات القرآنية ظرفية، خاصة بمجتمع النزول وملبية لاحتياجاته الآنية، فقد احتاج التشريع اللاحق المسمى بالفقه إلى إسناد من شرعية نصية أخرى غير القرآن، فظهرت الأحاديث وتم اتخاذها أصلا للتشريع وسندًا[17]؛ واضطر العقل الفقهي إلى قبول المئات من أحاديث الآحاد، ظنية الثبوت، ليدعم بها أحكامه واجتهاداته واستدلالاته، حتى بلغت الأحاديث الموظفة في التشريعات الفقهية في الحجم أضعاف آيات التشريع القرآنية. وأشدد هنا على أن الطابع التاريخي والاجتماعي الظرفي للتشريعات القرآنية هو الذي دفع إلى تضخم في الأحاديث لاحقًا، لتلبية احتياجات مجتمع جديد يتوسع باستمرار، والانصياع للعادة التي صارت مستقرة في إسناد حكم إلى سلطة سابقة، وهي مدرسة أهل الحديث التي انتصرت على مدرسة أهل الرأي. إن المتون الحديثية المتضخمة هي نتاج الحالة الأولى للتشريع القرآني.

التنجيم

وقد نزل القرآن منجمًا، وكان هذا من مقاصد الشارع، فهو الأنسب لعملية تكوين جماعة مسلمة، يعمل على التفاعل الدائم معها أثناء تكونها ويشكل لها هويتها بالتدريج ويتدرج معها، فهو أسلوب في التربية. إن التنجيم من مقاصد الإله ذاته، وهو خاصية الحالة الأولى والوضع الأصلي للتشريع القرآني، إذ كان منجمًا، أي متفرقًا، وتفرُّقٌه آتٍ من مرحليته، ولم يصدر في صورة لائحة قانونية كاملة كما يذهب عبد الجواد ياسين. وعند جمع القرآن في مصحف باعتباره نصًا واحدًا طويلًا، اختفى التنجيم واختفى الوعي الأول به باعتباره منجمًا، وقدم المصحف الانطباع بأن القرآن كتاب. والقرآن لا يسمي نفسه “مصحف”، فهذه التسمية بشرية وهي من اختراع جامعي القرآن؛ القرآن يسمي نفسه “صحف”: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} (البينة 1 – 3). وتسمية القرآن لنفسه بالصحف، التي فيها “كتب” يتناسب مع حالته المنجمة. وجمع القرآن في مصحف لا يقضي على حالته المنجمة الأصلية، فهو يظل صحفًا وكتبًا، أي متعددًا كثيرًا، وليس واحدًا. جمع القرآن في مصحف كان من عمل السلطة اللاحقة الناشئة بعد وفاة النبي؛ إنه قرار من السلطة. أما إرادة الله ومقصده فهو أن ينزل القرآن منجمًا، وأما المصحف فتكوينه كان إرادة بشرية.

ومن خصائص الحالة الأولى للتشريع القرآني أنه تشريع لحالة مجتمع في طور التشكل وفي حالة سيولة، وهذا هو السبب في أنه كان معالجات جزئية متفرقة “في العقوبات والأحوال الشخصية، والمعاملات المالية، فضلًا عن فقه القتال وما ترتب عليه من أحكام خاصة بالغنائم والفيء”[18]. وهو بذلك تشريع لمجتمع سابق على الدولة ولا يؤسسها.

والسبب في كثرة وتفصيل آيات أحكام العبادات والتكليفات الطقوسية، هو دورها الاجتماعي، أي دور الطقوس الدينية في إحداث هوية وتساند اجتماعي مفتقد في شرط الاجتماع ذاته، فالطقوس الدينية رابطة اجتماعية مصطنعة وفق ما نستخلصه من ابن خلدون. فنظرًا لغياب دور الاقتصاد في الاندماج الاجتماعي القائم على تقسيم العمل وما يحدثه من تعاون واعتماد متبادل بين طبقات، تعوض الشعائر والطقوس كل ذلك، بدمج المجتمع كله في نشاط جماعي يومي ولخمس مرات يوميًا يشعره بأنه كتلة واحدة تفعل أفعالًا واحدة[19].

كما يشهد التشريع القرآني حضور التشريعات الطقوسية وتشريعات الأحوال الشخصية الاجتماعية وغياب التشريع للدولة والسياسة. إذ تحضر في التشريعات القرآنية أحكام الزواج والطلاق والحيض والطهارة والمواريث، وتغيب الدولة. ويظهر غيابها واضحًا في آية القصاص الآتية: “وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا” (الإسراء: 33). لولي الدم، وهو أحد أقارب القتيل، الاقتصاص من القاتل بنفسه، فليس هناك حق عام[20]، ليست هناك دولة.

هذا بالإضافة إلى أن الوثيقة الأساسية التي يُنظَر إليها حاليًا على أنها دستور وعقد اجتماعي، والمسماة بصحيفة المدينة، التي ظهرت بعد الهجرة إلى يثرب لتنظم العلاقة بين مكونات سكانها، غير مذكورة في القرآن، وغيابها هو غياب للسياسة. إذا كانت صحيفة المدينة هي، كما يُعتقد، أساسًا للدولة التي أسسها النبي، فالقرآن سكت عنها وهي غائبة عنه، وغيابها هو غياب للسياسة والدولة في القرآن.

ومن خصائص الحالة الأصلية الأولى للتشريع القرآني: اللابدأية – اللااستباقية – المرونة تجاه متطلبات الجماعة الأولى. فالتشريع القرآني لا يستبق الحدث، بل هو تالٍ عليه  دومًا، والتشريع القرآني كله لم يأت في صورة “لائحة قانونية عامة ومجردة تستبق الوقائع والأحداث”[21]. وهذا يعني أن التشريع القرآني لا ينظم الجماعة الأولى استباقًا ولا يشكلها، بل هو الذي يتشكل بها، يتركها تتشكل تلقائيًا وطبيعيًا ثم يستجيب لمتطلباتها التشريعية، كمرآة عاكسة لأحوالها، وهو مرن إزاء تطورها بحيث تأتي التشريعات والأحكام لاحقة دائمًا، وما الظاهرة المسماة بالنسخ سوى ًادليل  على هذه المرونة، وعلى تبعية التشريع القرآني لتطور الجماعة الأولى؛ ولما كان وضعه هكذا انعكاسًا للجماعة الأولى، صار مثلها في الحالة الأولى. والنزول المنجم هو الأنسب لجماعة في طور التشكل والتطور. لكن الأمر الهام هنا هو أن هذا التشريع الذي يسير متوازيًا مع جماعة تتطور سوف يحمل في ذاته علامة التطور، ومن ثم، التبدل والتغير، بحيث سيحتفظ في منطوقه بحالات تشريعية تنتمي إلى مرحلة سابقة من تطور الجماعة تم تجاوزها، وهذا التجاوز يجعل التشريع السابق منسوخًا أو وكأنه منسوخ، وما نسخه سوى حركة تطور الجماعة.

ويتفق وائل حلاق وعبد الجواد ياسين في القول بالعلاقة الوثيقة بين التشريع القرآني والعرف الاجتماعي والقبلي السابق عليه. فالتشريع القرآني، حسب عبد الجواد ياسين، هو”إقرار المنظومة التشريعية العرفية.. مع بعض التعديلات الجزئية، من دون حاجة إلى تضمينها بكاملها في النص القرآني”[22]. هذه المنظومة العرفية التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام وأثناء الدعوة دخلتها عناصر تشريعية من مصادر من خارج شبه الجزيرة العربية، توراتية وبابلية وآشورية، ومؤثرات فارسية وبيزنطية. “وكثير من الآيات لا يمكن فهمهما إلا كامتداد للواقع التشريعي القائم، فهي كما توحي صياغتها تنطلق منه، وبتني عليه، وتكمله”[23]. مما يعني أن التشريع القرآني افترض التشريعات السابقة عليه واندمج فيها وأدمجها في داخله، باعتباره جزءًا منها وسائرًا في سياقها. والحقيقة أن وائل حلاق يقر بذلك، لكنه يقول إن هذه الاستعارة كانت من ممارسات تشريعية عملية، لا من مدونة قانونية جاهزة؛ يقول حلاق: “من الافتراضات المركزية لهذا الكتاب أن الشريعة الإسلامية سليلة الثقافة القانونية للشرق الأدنى، ولا سيما صورها التي عرفها عرب الجنوب والشمال وخبروها بين القرنين الخامس والسابع الميلاديين”[24]. هنا يتفق حلاق مع خليل عبد الكريم[25] وعبد الجواد ياسين. يرفض وائل حلاق أن تكون التشريعات، والتي يقصد بها التشريعات القرآنية والفقهية معًا (واللتان يعتبرهما شريعة إسلامية)، مستمدة من مدونات قانونية أسبق، لكنه يعترف في الوقت نفسه بأنها استعارات تشريعية كانت قد استقرت في البيئة العربية وقامت بدورها، بالفعل، في تنظيم المجتمعات العربية السابقة على الإسلام، وكانت مستعارة من البيئات الرافدية واليهودية، وربما الفارسية أيضًا. كل ما يرفضه حلاق هو أن تكون التشريعات الإسلامية مفروضة أجنبيًا مثل التشريعات الحديثة في العصر الكولونيالي[26]. لا يهم. المهم أن التشريعات الإسلامية لها مصادر سابقة على الإسلام ومن خارج شبه الجزية العربية. وقد كانت استعارة القرآن لتشريعات عملية سابقة عليه لا لنصوص من مدونات قانونية أمرًا طبيعيًا، لأن العرب كانت أمة أمية، ليس لها اطلاع على مدونات تشريعية مكتوبة سابقة، بل اطلاعهم كان عمليًا على ممارسات تشريعية عملية قائمة في زمنهم وفي محيطهم الإقليمي، فالشريعة أمية لأمة أمية كما قال الشاطبي. إذ لم يكن العرب يعرفون مدونة جوستنيان القانونية مثلًا، أو شريعة حامورابي المكتوبة على اللوح المشهور.

والحقيقة أن التشريع القرآني باعتباره معالجة جزئية متقطعة لحالات خاصة، وعدم صدوره في صورة لائحة قانونية كاملة[27]، وعدم ظهوره في صورة نص طويل متصل إلا بعد أن تم جمعه في عهد عثمان، يكشف عن الطابع المرحلي والظرفي للتشريع القرآني ويعبر عن استجابته لمجتمع يتكون وفي حالة حراك اجتماعي ومكاني، لم يتشكل نهائيًا بعد ولم يستقر مكانيًا بعد.

4) ارتباط الحالة القرآنية الأولى بالحالة الاجتماعية الأولى في شبه الجزيرة: العمران البدوي

عندما نبحث في الحالة الأولى والوضع الأصلي للتشريع القرآني، يجب أن نضع أيدينا على حالة ووضع شبه الجزيرة العربية، وقت ظهور وانتشار الإسلام بها، وبعد وفاة النبي، وفي عهد الراشدين. اتصف هذا الوضع بكونه عمرانًا بدويًا كما سماه ابن خلدون، والبداوة، في مصطلحه، هي الحالة الأولى السابقة على العمران الحضري. اتصف هذا الوضع، كما شخصه ابن خلدون، بالاستعصاء على الانتظام في دولة، فالعرب في مرحلة البداوة كان فيهم من الأنفة والعزة ما يمنعهم عن الانقياد إلى بعضهم البعض، ناهيك عن الانقياد إلى سلطة مركزية: “والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة، فقلّما تجتمع أهواؤهم”[28]؛ فلما كانت نشأة السلطة تتطلب حدًا أدنى من الخضوع لها، صعب ظهور السلطة بينهم وهم في هذه الحالة من البداوة. ولذلك لا تنشأ السلطة فيهم إلا من الدين: “العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”[29]، لأن الدين هو الوحيد الذي يوحدهم ويكون به توحيدهم من أنفسهم والوازع داخلي فيهم، “فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدّين المُذهِب للغلظة والأنفة، الوازع عن التّحاسد والتّنافس”[30].

كما نفهم من ابن خلدون أنه حتى إذا ما ظهر في العرب نظام سياسي إليه ينقادوا، يظل هذا النظام غير مستقر وغير مكتمل، نظرًا لدوام البداوة فيهم وتمكنها منهم وعدم تركهم لها، فيظلون ― حتى في وجود دولة ― غير منقادين لها بالكامل، ومن ثم غير قادرين، طواعيةً [أو بإرادتهم]، على ممارسة السياسة: “.. العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها، لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض، لإيلافهم ذلك وللتّوحّش”[31]. صحيح أن ابن خلدون يقر بأن الدين يعمل على إنهاء هذه الحالة من البداوة والعصبية الأولى، وبذلك يكون هو الوسيلة لاستقرار العرب في نظام سياسي[32]، ويقول إن هذا هو الذي تحقق للمسلمين في عهد النبوة والخلفاء الراشدين، إلا أنه يعود مرة أخرى ليؤكد على أن الدين وحده هو وازعهم ومزيل البداوة والعصبية عنهم بحيث إن ضعف الدين عندهم يؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار السياسي ومن ثم زوال ملكهم: “ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السّياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النّصفة فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلّا أنّهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولمّا ذهب أمر الخلافة وامّحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك”[33]، وعادوا من ثم إلى حالة البداوة الأولى. أي أن ابن خلدون يقر بأن حالة البداوة متأصلة فيهم، ويمكن أن يعودوا إليها على الدوام وفي أي لحظة إذا ضعف الوازع الديني عندهم.

ويعطينا تاريخ الإسلام المبكر شواهد كثيرة على ذلك، تدلنا على ملازمة الحالة الأولى للعرب حتى بعد أن انتشر الإسلام فيهم، مما تسبب في عدم استقرار النظام السياسي فيهم وكثرة الحروب والصراعات فيما بينهم. فبعد وفاة النبي مباشرة ارتدت أكثر القبائل العربية. والحقيقة أنها لم تكن ردة دينية، بل كانت رفضًا من العرب للخضوع لسلطة قريش بقيادة أبي بكر[34]. وكانت القبائل التي ارتدت على أبي بكر هي التي فتح لها عمر مجال الفتوحات بغنائمها ومكاسبها الطائلة، وكان ذلك الأمرُ حلًا نهائيًا لمشكلتها؛ ثم استقرت هذه القبائل في الأمصار، وهي المدن التي أنشأتها الجيوش العربية للإقامة فيها في البلدان المفتوحة مع ذويهم. وكانت هذه القبائل (بكر وتميم ومذحج) هي ذاتها التي ثارت على عثمان، وسميت الثورة بثورة الأمصار، وهي ذاتها التي خرجت على علي بن أبي طالب بعد قبوله التحكيم. وهو مثال على استمرار الحالة الأولى، حالة اللادولة المستعصية على الاندراج في دولة داخل الدولة الناشئة. فقد أدى استمرار هذه الحالة الأولى إلى ردة (على أبي بكر)، ثم ثورة (على عثمان ومقتله)، ثم خروج (على علي بن أبي طالب ثم مقتله). وصحبت هذه الأحداث القرآن معها واتخذته مبررًا لها وسند شرعيتها ، فقد كان وسيلتها المناسبة للخروج الدائم على سلطة قريش، لما في القرآن نفسه من حالة أولى وحالة اللادولة، فصار مبررًا لاستمرار هذه الحالة في عهد الخلفاء الأربعة، والدليل على ذلك توظيف الخوارج له لتبرير معارضتهم للسلطة المركزية، كما يتضح من رسالة عبد الله بن إباض إلى عبد الملك بن مروان، الذي يستشهد فيها بآيات كثيرة جدًا يبرر بها عدم الخضوع لدولة بني أمية. والحقيقة أن الوثيقة السياسية الوحيدة في عهد النبي التي تعد تدشينًا وتأسيسًا لنظام سياسي، وهي صحيفة المدينة، غير مذكورة في القرآن.

 

المراجع:

*) استعنت في بعض المواضع من هذه الدراسة بأجزاء سبق نشرها من دراسة بعنوان “الحالة الأولى للتشريع القرآني وتطوراتها اللاحقة – قراءة في مشروع عبد الجواد ياسين”، والمقدمة في مؤتمر المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، “الدين والتدين والمجتمع”، الإسكندرية، 11و 12 ديسمبر 2022 .

[1]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، دار التنوير، بيروت/ القاهرة، 2012.

[2]) محمد بن علي الطيب أبو الحسين البَصْري المعتزلي (المتوفى: 436هـ)، المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله ومحمد بكر وحسن حنفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1964.

[3]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 74 وما بعدها.

[4]) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت 2004.

[5]) المرجع السابق، ص 31.

[6]) وائل حلاق، السلطة المذهبية – التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، ترجمة عباس عباس، دار المدار الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، 2018، ص 101 وما بعدها.

[7]) عبد المجيد الصغير، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010.

[8]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام – العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2000، ص 176 وما بعدها.

[9]) ابن قدامة، المغني، تحقيق: طه الزيني – ومحمود عبد الوهاب فايد – وعبد القادر عطا [ت ١٤٠٣ هـ]- ومحمود غانم غيث، مكتبة القاهرة، 1969، الجزء 4، 312، نقلًا عن وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، ترجمة كيان أحمد حازم يحيى، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2018، ص 117.

[10]) Versteeg, Early Mesopotamian Law, 107ff   نقلًا عن وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، 118

[11]) Beeston, Religion, 259 – 269 esp. 264. نقلًا عن وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، 120

[12]) وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، ص 122 – 123.

[13]) اعتمد حلاق على جويتاين في: S.D. Goitein, Studies in Islamic History and Institutions (Leiden: Brill, 2010), pp. 73 – 89, 92 – 94.

[14]) VerSteeg, Early Mesopotamian Law, 178; Schacht, “From Babylonian to Islamic Law”; Schacht, Introduction, 218.

[15]) ابن حزم، معجم الفقه، 2، 838 – 839.

[16]) ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾ (النساء 3).

[17]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 109.

[18]) المرجع السابق، ص 41.

[19]) وهو ما أشار إليه دوركايم في كتابه “تقسيم العمل في المجتمع” تحت مسمى “التساند الآلي” mechanical solidarity:

Émile Durkheim. The Division of Labor in Society. (New York:  The Free Press, 1964), pp. 130ff.

[20]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 210 – 211.

[21]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 38.

[22]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[23]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[24]) وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، ص 95.

[25]) خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، دار سينا للنشر، القاهرة، 1990.

[26]) وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، ص 102.

[27]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 44.

[28]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004، المجلد الأول، ص 289.

[29]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[30]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[31]) المرجع السابق، ص 290.

[32]) “فبعدت طباع العرب لذلك كلّه عن سياسة الملك؛ وإنّما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينيّة تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع النّاس بعضهم عن بعض، كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملّة لمّا شيّد لهم الدّين أمر السّياسة بالشّريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم”. المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[33]) المرجع السابق، ص 291.

[34]) يقول عبد الله بن محمد الناشئ: “فلما بايع أهل المدينة أبا بكر، وبلغت وفاة النبي (صلعم) العرب، أظهر أكثرهم الردة عن الإسلام. وقال قوم: لم يرتدوا، ولكن امتنعوا من أن يدفعوا زكوات أموالهم إلى عمال أبي بكر، وقالوا: نحن أحق وأولى بقسمتها في فقرائنا وأهل المسكنة منا! وزعموا أن دفعها إلى عمال النبي (صلعم) إنما كان خاصًا للنبي صلعم، فلما قبض الله عز وجل نبيه (عم) كان الناس على زكواتهم يصنعونها [ربما كان الأصح يضعونها] حيث شاءوا من فقرائهم”. الناشئ الأكبر، مسائل الامامة: ومقتطفات من الكتاب الاوسط فى المقالات / للناشئ الاكبر (المتوفى ٢٩٣هج)، حققهما وقدم لهما يوسف فان اس، المعهد الالماني للابحاث الشرقية، بيروت، 1971، ص 14.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete