تكوين
مقدمة
إذا كان ما وصفناه وشخصناه هو حالة أولى ووضع أصلي للتشريع القرآني، فهل شعر به القدماء؟ هل كانوا على وعي به؟ هل تناولوه أو تحدثوا عنه؟ نعم، لكن ليس بصورة واضحة وصريحة مثل التي نبرزها هنا. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها ثلاث حالات بارزة.
- الحالة الأولى مرتبطة بحالة اللادولة التي أبرزناها في التشريع القرآني، وهي تظهر لاحقًا في الاتجاهات التي رفضت الربط بين الدين والدولة واتخاذ الدين سندًا وشرعية للدولة الناشئة سواء راشدية أو أموية، وظهر ذلك في صورة إنكار لوجوب الإمامة، وجوبًا دينيًا شرعيًا، أي إنكار الصفة الدينية لمنصب الإمامة، عند النجدية من الخوارج، وبعض المعتزلة مثل أبي بكر الأصم وهشام الفوطي.
- الحالة الثانية هي نظرية المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، وتعني، في سياقنا، حرية تشريعية للعقل خارج التشريع القرآني لما في هذا التشريع من خصوصية وتقيد بالحالات الخاصة التي يشرع لها؛ هذا بالإضافة إلى أن النظرية تقر بوجود العقل قبل ورود الشرع، أي بحالة أولى سابقة على التشريع القرآني، يأتي هو على خلفيتها ويفترضها.
- الحالة الثالثة هي نظرية ابن حزم في رفض القياس الفقهي، بحجج كثيرة، توضح قطع الصلة بين الفقه والقرآن، باعتبار القرآن حالة خاصة لا يقاس عليها، وهو ما يؤكد محافظة ابن حزم على شيء مما فهمه على أنه حالة أصلية للتشريع القرآني لا يصح القياس عليها: سبب رفض القياس هو اللامقايسة بين وضع أصلي للتشريع القرآني وحالات لاحقة خرجت عن هذه الحالة الأصلية.
1) حالة اللادولة – إنكار وجوب الإمامة
مقدمة
إن الأصل العرفي للتشريع القرآني ينفي الدولة والطابع المؤسسي. يتصف التشريع القرآني بالاندراج أو الاندماج في المنظومة العرفية السائدة، والاتصاف بإلزامها، الذي هو إلزام العرف، لا الإلزام المؤسسي أو القانوني أو الدستوري. “الأصل هو القانون العرفي السائد في المحيط العربي، والاستثناء هو التعديل الذي يستدعي تدخل النص، والذي غالبًا ما يكون جزئيًا”[1]. إذن التشريعات القرآنية تصدر من، وعلى خلفية وأصل، العرف الاجتماعي القبلي السابق والسائد في عصر الرسالة، وإلزامها هو نفسه إلزام العرف القبلي، لا إلزام قوة الدولة، وجهة التنفيذ هي الاجتماع، لا مؤسسات الدولة. والصدور عن العرف والاندراج فيه والاعتماد على قوة إلزامه هو تعبير عن حالة اللادولة وعن الطابع اللامؤسسي للتشريع القرآني.
وقد تأثر الفقه اللاحق بهذه الحالة، أقصد حالة اللادولة واللامؤسسة، من حيث إن الفقه صار تشريعًا خارج إطار الدولة وذا طبيعة لا-مؤسسية، بالمعنى اليوناني – الروماني، وبالمعنى الحديث.
وقد تمسك النبي بحالة اللادولة وغياب الدولة في النص القرآني، فلم ينص على من يخلفه، ولم ينقل السلطة، ولم يحدد كيفية نقلها. فلو كان القرآن يؤسس لسلطة، ولدولة، لبادر النبي بنقلها إلى من بعده. غياب النص على الخلافة سببه غياب الدولة أصلًا. ليست هناك سلطة لدولة كي يتم نقلها إلى من بعده.
إقرأ أيضًا: حالة اللادولة في صدر الإسلام: الجزء الأول
نجد في الكثير من المؤلفات الكلامية في تاريخ الفرق، مثل الشهرستاني في “نهاية الإقدام في علم الكلام”، أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد، أي إنها ليست من أصول الدين، مما يعني أنها لا تحوز إلزامًا دينيًا؛ إذ لم ينص عليها القرآن، وهذه هي الحالة الأصلية التي أسميها حالة اللادولة في التشريع القرآني: إنه تشريع بدون دولة. وهذه الحالة استمرت لدى الفقه اللاحق، وقد انتبه عبد الجواد ياسين إلى ذلك، وذهب إلى أن الفقه السياسي الإسلامي كان “نظرية في الحاكم لا في الحكومة ولا في الدولة”[2]؛ ويتضح ذلك من مقارنة المنتج الفقهي السياسي الإسلامي بكتاب “السياسة” لأرسطو، أو كتابه الآخر عن دستور الأثينيين، أو محاورة الجمهورية ومحاورة القوانين لأفلاطون، أو مؤلفات شيشرون، وهي كلها أعمال نظرية تصف، بدقة، أشكال الحكومات؛ وفي المقابل، يغيب عن التراث الإسلامي مبحث أشكال الحكم، إذ لم يعرف المسلمون سوى شكل واحد فقط: الإمامة.
استمرار وضع اللادولة الأصلي في القرآن لدى حركة القراء
تقدم لنا حركة الاعتراض على سياسة عثمان بن عفان من القراء أساسًا[3] والتي ستتطور إلى ثورة عليه انتهت بقتله، نموذجًا على مواجهة صريحة بين أخلاقيات القرآن الرفيعة والصارمة من جهة، ومتطلبات دولة تتجه نحو النظام الملكي الوراثي من جهة أخرى، لتستنسخ الدول الأسبق في المنطقة، وهي كذلك، تمثل مواجهة بين وضع قرآني أصلي وحالة قرآنية أولى لا تعرف منطق الدولة ومفتوحة على مجتمع سائل حر لا يعرف السلطة المركزية، وتطورات دولتية لاحقة. إن الردة والثورة على عثمان وحركة الخوارج هي علامات على محاولات لاستدامة الحالة القرآنية الأولى السابقة على الدولة لكن في حالة وجود نظام يتجه نحو تأسيس دولة. احتفظ القراء بالحالة القرآنية الأصلية، ولذلك اتهموا عثمان مع آخرين بأنه بَدَّلَ وغَيَّرَ، أي بدل وغَيَّرَ من حالة أولى أصلية كان لزامًا عليه، في نظرهم، الاحتفاظ بها، وقد أرادوا إدامتها، فاصطدموا بالمستجدات التي كانت تسير نحو تثبيت منطق الدولة واتجاهها نحو الكسروية القيصرية[4]. إن تدين القراء الشديد وطهرانيتهم الأخلاقية تعبير عن تمسكهم بالأخلاقية القرآنية، إذ تعتمد ممارسة الحكم على هذه الطهرانية المطلوبة من الحاكم، حيث يكون تقيًا ورعًا متبعًا كلام الله وسنة نبيه، فقط، وهي أشياء خارج منطق الدولة التي هي شخصية اعتبارية وكيان مجرد ومؤسسي يعتمد على قانون مكتوب عام ومجرد وكلي. أصر القراء، ومن بعدهم الخوارج، على ضرورة ممارسة السياسة من منطلق أخلاقي طهراني صرف، لأنه كان الأساس الوحيد لممارسة سياسة في غياب الدولة بمعناها العام والمؤسسي المجرد، والتي تعمل أجهزتها بتلقائية ووَفق آلية إجرائية لا علاقة للأخلاق بها.
المعتزلة والخوارج
في مبادئ وأفكار المعتزلة والخوارج، نستطيع العثور على ما أسميه “الوضع الأصلي” للتشريع، وهو وضع نقي ومتحرر من السلطة ومن إكراهات السياسة والدولة؛ كما نستطيع معهما العثور على مفهوم لا-سلطوي ولا-حاكمي للدولة والتشريع. كانت اتجاهات الخوارج معارضة على الدوام للسلطة المركزية أيًا كانت، أموية أو عباسية، وكانوا يمثلون، على مستوى النظرية السياسية، الاتجاه اللا-سلطوي في الإسلام، بأفكار جديدة كلها معارضة للسلطة المركزية، تمثلت في إنكارهم لوجوب الإمامة، وقد كان مبدأ وجوب الإمامة آنذاك مبررًا لشرعية السلطة القرشية الحاكمة، بتحويل الأمر الواقع لهذه السلطة إلى وجوب ديني.
إنكار فرقة النجدات لوجوب الإمامة
يعرض الشهرستاني في كتابه “نهاية الإقدام في علم الكلام” لأفكار فرقة النجدات من الخوارج، مع أفكار المعتزلة مثل أبي بكر الأصم وهشام الفوطي، ويجمعهم في فئة واحدة، ومعيار الجمع هو اشتراكهم في الأفكار التي ينسبها إليهم. إذ يذهب إلى أنهم يقولون إن الإمامة لا تتصف بالإلزام وليست من الشرع بحيث يستحق منكرها أو تاركها اللوم أو العقاب، وهي في الحقيقة تستند على “معاملات الناس”، أي إنها، بلغتنا الحديثة، نظام وضعي من صنع البشر ولا شأن للدين بها. ويصر هؤلاء على عدم إلزامية الإمامة وأنها غير واجبة، بقولهم إن الناس إذا تقوا الله وأدوا ما عليهم من الفرائض الدينية وقاموا بواجباتهم الدينية والأخلاقية، فلا حاجة لهم إلى إمام ولا إلى اتباع إمام[5]. ومعنى هذا القول ضمنًا أن الشريعة موضوعة لكل الناس؛ وفي السياق التاريخي، يعني وضعها لكل الناس اندراج التشريع القرآني في العرف القَبَلي الاجتماعي، وعدم توجهه إلى مؤسسة تطبّقه. فهي موضوعة لكل الناس بمعنى أنها ليست موضوعة لإمام كي يطبقها، فالخطاب القرآني مُوَجَّه إلى كل المسلمين على التساوي والتكافؤ في الإلزام والقدرة على الاتباع، ولم يكن القرآن موجهًا لسلطة تطبق أحكامه أو لمؤسسة سياسية تعمل به، وهذا هو الوضع الأصلي للتشريع، وهو الوضع السابق على الدولة. الوضع الأصلي للتشريع القرآني لا-سلطوي ولا-حاكمي في مضمونه وفي منطوقه. ولا شك أن الذي سهل على النجدية القول بعدم وجوب الإمامة لتطبيق الشرع هو وضعهم في الصحراء باعتبارهم قبائل مستقلة عن السلطة السياسية المركزية وعلى الأطراف الخارجية البعيدة عن المراكز السلطوية الحضرية في العراق والشام، ومصر، وإيران، وخراسان.
وقد ساوى الخوارج النجدات بين كل الناس في الاجتهاد، فكل مسلم مجتهد وكلهم سواء، ولما كانوا كذلك، فلا إلزام لأحد على أن يطيع شخصًا آخر، إلا بالاتفاق بينهم، أي الإجماع[6]. هنا يصير الإجماع عقدًا اجتماعيًا بين الناس، بمعناه السياسي الكلاسيكي المرتبط بنشأة السلطة بعقد. وقد ذهبوا إلى أن الإلزام بطاعة شخص من الأشخاص انطلاقًا من حالة المساواة الأصلية وتكافؤ الجميع في الاجتهاد لا يأتي إلا من جهتين: الأولى بالنص من النبي على طاعة شخص معين، وليس هناك وجود لمثل هذا النص، والثانية عن طريق المجتهدين، والمقصود بالمجتهدين هنا هو كل الناس وليس فئة خاصة مميزة منهم، فهم ليسوا أهل الحل والعقد لأن النجدات سبق وأن أقروا بأن كل الناس مجتهدون بالتساوي. والاجتهاد هنا يعني الاتفاق على اختيار شخص يطيعونه. لكنهم، من جهة أخرى، أنكروا أن يكون حادث السقيفة دليلًا على وجوب الإمامة وجوبًا شرعيًا بالإجماع، وكل ما حدث فيها هو انقسام المهاجرين والأنصار، وقالت الأنصار “منا أمير ومنكم أمير”، وكانوا يريدون سعد بن عبادة، عندئذ بايع عمر أبا بكر منفردًا دون أن يشاور الجماعة، ثم تبعته بعض العرب لا كلهم، لأن من رفضوا هذه البيعة المنفردة كثيرون منهم بنو أمية وبنو هاشم، “فإذا لم يتصور إجماع الأمة في أهم الأمور وأولاها بالاعتبار دل على إن الإجماع لن يتحقق قط وليس ذلك دليلا في الشرع”[7]. إن حادث السقيفة هو الحدث التأسيسي لأول للسلطة في الإسلام، ومن المفترض أن يكون هذا الحدث إجماعًا تامًا، أو على الأقل، يصل إلى أقصى درجة من الإجماع، وقد شهد هذا العصر حضور كل الصحابة مع كل المهاجرين والأنصار، لكن المسلمين اختلفوا في هذه اللحظة التأسيسية بالذات، إذ لم يكن هناك إجماع على أبي بكر من البداية، وقد بايعه عمر منفردًا دون أن يشاور أحدًا، لا الصحابة ولا غيرهم، وقال عنها إنها فلتة، حذر من تكرارها وأوصى بأن من يفعلها، أي من يبايع شخصًا دون مشاورة الجماعة يُقتل[8]؛ وهذا يتناقض تمامًا مع ما انتهى إليه الجويني في كتابه “غياث الأمم” من تبرير شرعية مبايعة الواحد، إذ استشهد على هذه الشرعية بهذه الحادثة بالذات وهي مبايعة عمر لأبي بكر منفردًا، في حين أن عمر نفسه حكم عليها بأنها فلتة وحذر من تكرارها.
أما موقف النجدات من الحكم والسلطة بعامة فهو أقرب إلى نظرية العقد الاجتماعي [مع مراعاة “الإبستيم” الخاص بكلّ لحظة من اللحظتين، وَفق تعبير ميشيل فوكو]، إذ إن الحاكم عندهم باختيار الجماعة. وكما ينقل الشهرستاني عنهم، فهم لم يستخدموا كلمة “إمام” و”إمامة” عندما يقدمون رأيهم في الحكم، بل استخدموا كلمة “رئيس”، مفضلين هذه الكلمة على كلمة “الإمام” التي تحمل معنى دينيًا، فالحاكم “رئيس” بمعنى أنه رأس القوم وليس إمامًا. وبذلك عزلوا الحكم عن الدين ولم يعتبروا الحاكم منصبًا دينيًا لأنهم أنكروا الوجوب الشرعي الديني لنصب الإمام، أي المشروعية الدينية له، وقالوا في ذلك: “قالوا: فدل هذا كله على أن الإمامة غير واجبة في الشرع. نعم، لو احتاجوا إلى رئيس يحمي بيضة الإسلام ويجمع شمل الأنام، وأدى اجتهادهم إلى نصبه مقدما عليهم، جاز ذلك بشرط أن يبقى في معاملاته على النصفة والعدل، حتى إذا جار في قضية على واحد وجب عليهم خلعه ومنابذته، وهذا كما فعلوا بعثمان وعلي رضي اللّه عنهما فإنه لما أحدث عثمان تلك الأحداث خلعوه فلما لم ينخلع قتلوه، ولما رضي علي بالتحكيم وشك في إمامته خلعوه وقاتلوه”[9]. ولا شك أن هذه العبارة الأخيرة التي تتحدث عن مقتل عثمان وعلي هي تبرير لموقف الخوارج، لكن ما يهمنا من هذا التبرير هو كيفية إدخاله ضمن رأي أوسع حول الحكم والسلطة، فهي عندهم شأن دنيوي خالص يعتمد على اختيار واجتهاد من الناس، مشروط بشروط إذا خرج عنها الحاكم خلعوه، وليس لها علاقة بالدين، إذ سبق لهم إنكار الوجوب الديني الشرعي للإمامة.
إقرأ أيضًا: عولمة المعتزلة وأسلمة الأشاعرة
وقد شدد ابن خلدون على التمييز بين الرئاسة والملك: “الرّئاسة إنّما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأمّا الملك فهو التّغلّب والحكم بالقهر”[10]؛ يقصد ابن خلدون أن صاحب الرئاسة، الذي هو الرئيس، “متبوع”، أي أنه متبوع من الناس، فالناس هم الذين يتبعونه من أنفسهم وبإرادتهم، بعكس الملك الذي هو التغلب والحكم بالقهر. وبذلك فعندما يستخدم النجدات كلمة رئيس فهم يقصدون هذا المعنى للرئاسة الذي شرحه ابن خلدون، فالرئيس واحد منهم، “ليس له عليهم قهر في أحكامه”، ويتبعونه من أنفسهم، وهذا النظام سياسي صرف ودنيوي وليس للدين شأن به، عكس الإمامة التي كانت في الواقع العملي التاريخي “ملك عضوض”.
2) الحالة الأولى باعتبارها مخالطة العقل للشريعة – المعتزلة
وإجابة عن السؤال: هل شعر القدماء بما في التشريع القرآني من حالة أولى؟ أقول إن المعتزلة شعروا بذلك، وتبدَّى وعيهم به في إبرازهم دور العقل في التشريع وبيان علاقته بالتشريعات القرآنية. العقل من خصائص الحالة الأولى، لأنه سابق على الشرع عند المعتزلة والشرع أتى ليخاطبه أساسًا، وكذلك يذهب ابن حزم. الشرع، إذن، لا يأتي في فراغ مطلق ولا يأتي على صفحة بيضاء خالية تمامًا من كل شيء، بل يأتي على أرضية مسبقة من العقل. هذا هو موقف المعتزلة وابن حزم. كل شيء يؤسس للشرع وسابق عليه مثل العقل ينتمي إلى الحالة الأولى، التي تجاهلها العقل السلفي والاتجاهات الأصولية.
لما كانت التشريعات القرآنية خاصة وجزئية ومرتبطة بأحوال اجتماعية خاصة، فما هو الحكم الشرعي في الحالات المستجدة التي لم يرد فيها حكم قرآني؟ عندما يحكم أبو الحسين البصري العقل في التشريع ويجعله مشرعًا، ويعتمده باعتباره قادرًا على الوصول إلى حكم شرعي على ما لم يرد في القرآن، فهو ينطلق من الاعتراف بالحالة الجزئية الخاصة في النص القرآني. لاعتماده العقل جانبان: الأول، أن العقل سابق على الشرع وأتى الشرع ليخاطبه؛ والثاني، أنه في غياب حكم قرآني، يظهر العقل مشرعًا لأنه الأصل.
يقول أبو الحسين البصري: “أما التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَهُوَ أَن الْمُجْتَهد إِذا أَرَادَ معرفَة حكم الْحَادِثَة فَيجب أَن ينظر مَا حكمهَا فِي الْعقل ثمَّ ينظر هَل يجوز أَن يتَغَيَّر حكم الْعقل فِيهَا وَهل فِي أَدِلَّة الشَّرْع مَا يَقْتَضِي تقدم ذَلِك الحكم أم لَا فَإِن لم يجد مَا يَنْقُلهُ عَن الْعقل قضي بِهِ وَالشّرط فِي ذَلِك هُوَ علمه بانه لَو كَانَت الْمصلحَة قد تَغَيَّرت عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْعقل لما جَازَ أَن لَا يدلنا الله تَعَالَى على ذَلِك فَإِن وجد فِي الشَّرْع مَا يدل على نَقله قضي بانتقاله لِأَن الْعُقُول إِنَّمَا دلّت على تِلْكَ الْأَحْكَام بِشَرْط أَن لَا ينقلنا عَنهُ دَلِيل شَرْعِ”[11].
أما تحكيم العقل في الحكم على أحاديث الآحاد فيظهر في قوله: “الْعقل طريقنا إِلَى الْعلم بِمَا تضمنه الْخَبَر وَإِن كَانَ ظَاهر الْخَبَر بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل فمراد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ خلاف ظَاهره فاذا شافه بِهِ الْوَاحِد فقد تعبده أَن يناوله ويحمله على الْمجَاز حَتَّى يُوَافق دَلِيل الْعقل وَلَيْسَ يجب أَن يتعبد غَيره بذلك الْخَبَر إِلَّا أَن يرْوى لَهُ فَيلْزمهُ أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَانَ قَالَه فمراده الْمجَاز الْمُوَافق لدَلِيل الْعقل وَأَنه لم يرد ظَاهره وَهَذَا لَيْسَ بموقوف على أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فَيلْزم أَن يَجْعَل لَهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه”[12].
ويجوز عند البصري التمسك بدليل العقل في الحكم على الحادثة، وإذا لم يكن هناك دليل في الشرع يصرفنا عن حكم العقل، صار حكم العقل لازمًا[13]. كما لا يمكن أن يتعارض حكم الشرع وحكم العقل، والدليل أن العقل ليس فاسدًا أو مفسدة: “فان قيل فَيجب أَن لَا يعملوا على حكم الْعقل لجَوَاز أَن يكون هُوَ الْمفْسدَة قيل إِنَّمَا يلْزم ذَلِك بِدَلِيل شَرْعِي ناقل وَلَا دَلِيل فِي الشَّرْع مَعَ التَّعَارُض لِأَن التَّعَارُض والتمانع يصير الشَّرْع كَأَنَّهُ لم يكن فينفرد حكم الْعقل”[14].
3) فقه ابن حزم باعتباره أثرًا ودليلًا على الحفاظ على الحالة القرآنية الأولى
إذا تتبعنا حضور الحالة الأولى للتشريع القرآني في الفقه اللاحق، وبجانب المعتزلة، سنجد ابن حزم (384 هـ / 994م. – 456 هـ / 1064م) الذي يحاول العودة بالتشريع إلى الحالة القرآنية الأولى؛ فنراه في مطلع كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” يثبت حجج العقول[15]، ويثبتها بآيات من القرآن، ضد الفقه السابق عليه والمعاصر له والمعتمد على الأحاديث؛ يحاول ابن حزم الوصول إلى فقه قرآني لا–حديثيّ، على أساس أن القرآن نفسه موضوع للتعامل المباشر معه دون توسط أحاديث، فهذه هي حالته الأولى قبل إدخال الأحاديث بوصفها سندًا تشريعيًا أساسيًا يرقى إلى مستوى القرآن نفسه في الحجية والإلزام؛ والحالة الأولى للتشريع القرآني خالية من الأحاديث، وسابقة على عمليات جمع الأحاديث اللاحقة واعتماد الفقه اللاحق لها؛ ومن ثم فالتشريع اللا-حديثي محاولة للعودة إلى الحالة الأولى والأصلية للتشريع القرآني. ثم يجعل ابن حزم العقل حكمًا في تمييز الأحاديث ولا يسلِّم بها كلها، ويبطل أحاديث الآحاد من حيث المبدأ، ثم يبطل القياس. والذي يمكنه من كل ذلك هو سعيه للعودة إلى الحالة القرآنية الأولى والوضع الأصلي للتشريع القرآني. الحالة الأولى تثبت العقل وتجعله حَكَمًا وتحتج به وتعترف بالبرهان العقلي وتوظفه بالفعل، أما القياس، بوصفه آلية ذهنية، غير موجود في القرآن، لأنه، في تشريعاته، لا يقيس حالة على حالة، عكس الفقه اللاحق. وإبطال ابن حزم للقياس الفقهي هو اكتفاؤه بالقرآن وعزل الفقه عنه، ويبرز ذلك واضحًا في تناوله لمسألة الإلزام ومسألة المسكوت عنه في التشريع القرآني، وهي التي تناولها عبد الجواد ياسين في الجزء الأول من كتابه “السلطة في الإسلام”[16]. الاحتفاظ بالحالة الأولى هو الاحتفاظ بالمسكوت عنه مسكوتًا عنه والتوقف عن الحكم فيه، وتركه للناس، أي للإرادة الحرة والقرار البشري وحكم العقل وتفاعلات المجتمع وحركة التاريخ.
خاتمة
سوف يكون على الفقه اللاحق التعامل مع نص فيه هذه الخصائص، أي مع حالة أولى ووضع أصلي تشريعي. والسؤال هنا هو: هل كان الفقه اللاحق على وعي بهذه الحالة الأولى؟ وكيف تعامل الفقهاء معها؟ الحقيقة أن النص القرآني خضع في الفقه للتوظيف وليس لاكتشاف حالته القائمة فيه، والنص المتعامل معه لغرض التوظيف يجب أن يُضفَى عليه التأبيد والإطلاق، ويجب أن ينغلق على نفسه كي يكون تامًا مكتملًا في نفسه، وهو عكس حالته الأصلية المنفتحة على الواقع الاجتماعي والمتغيرة مع هذا الواقع على الدوام. ويبدو أن الحالة الأولى للتشريع القرآني كانت من دوافع نشأة الفقه الإسلامي نفسه، فلما كانت معالجته جزئية ومرحلية، سعى الفقه اللاحق إلى استخلاص الثابت فيه وهو ما جعل الفقهاء يتوصلون إلى ما أسموه أصول الفقه. ولما كان مرتبطًا بشدة بمجتمع النزول ملبيًا احتياجاته التشريعية الآنية، وضع الفقهاء مستويات عديدة في الإلزام ودرجات في طبيعة التكليف: الواجب والمندوب والمكروه والمحظور والمباح، وتكلموا عن الرخصة والإباحة والكراهة، وقسموا الفروض إلى فرض عين وفرض كفاية، ثم الحاجيات والضروريات والتحسينيات، وأخيرًا ظهر مبحث مقاصد الشريعة. كل هذه التقسيمات والتفريعات فقهية بحتة، وهي جهد عقلي بشري صرف، يتصف بالتعقيد الشديد والتنظير في مقابل بساطة ومباشرة التشريع القرآني. أي أن الفقهاء مارسوا نشاطًا تشريعيًا خارج النص، نسبوه قدر استطاعتهم إلى النص، وصار القرآن ربع الإسلام بعد أن تضخم الفقه اللاحق وصار مع الأحاديث ثلاثة أرباع الإسلام.
المراجع
ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ر دار الآفاق الجديدة ، بيروت، 1983
ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004
البَصْري، محمد بن علي الطيب أبو الحسين المعتزلي (المتوفى: 436هـ)، المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله ومحمد بكر وحسن حنفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1964.
حسين، طه، الفتنة الكبرى، (1) عثمان، دار المعارف، الطبعة الثامنة عشرة، القاهرة، 2018
حلاق، وائل، السلطة المذهبية – التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي، ترجمة عباس عباس، دار المدار الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، 2018.
حلاق، وائل، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، ترجمه وقدم له د. كيان أحمد حازم يحيى، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2018
الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت 2004.
شحادة، حسام، أخبار الفتنة الكبرى – عهد عثمان بن عفان : دراسة في المصادر الاسلامية، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، 2012.
الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1968
الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، حرره وصححه ألفريد جيوم، أوكسفورد، 1934
الصغير، عبد المجيد، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010.
عبد الجبار، القاضي، متشابه القرآن، القاهرة، دار التراث، 1969
عبد الكريم، خليل، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، دار سينا للنشر، القاهرة، 1990.
الناشئ الأكبر، مسائل الامامة: ومقتطفات من الكتاب الاوسط فى المقالات / للناشئ الاكبر (المتوفى ٢٩٣هج)، حققهما وقدم لهما يوسف فان اس، المعهد الالماني للابحاث الشرقية، بيروت، 1971
ياسين، عبد الجواد، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، دار التنوير، بيروت/ القاهرة، 2012.
ياسين، عبد الجواد، السلطة في الإسلام، (1) العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2000
ياسين، عبد الجواد، السلطة في الإسلام، (2) نقد النظرية السياسية، ، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2000
Durkheim, Émile. The Division of Labor in Society. (New York: The Free Press, 1964)
* ) استعنت في بعض أجزاء هذا الجزء من الدراسة بمادة تم نشرها في بحث بعنوان: “الحالة الأولى للتشريع القرآني وتطوراتها اللاحقة – دراسة في مشروع عبد الجواد ياسين”، منشور في، مناقشة ترابطية – الدين والتدين والمجتمع، تحرير د. أحمد فهمي عبد السلام، دراسات المعاهد الشرفية 8، البحر الأحمر، 2024.
[1]) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، ص 62.
[2]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، (2) نقد النظرية السياسية، ص 31.
[3]) حسام شحادة، أخبار الفتنة الكبرى – عهد عثمان بن عفان : دراسة في المصادر الاسلامية، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، 2012.
[4]) طه حسين، الفتنة الكبرى، (1) عثمان، دار المعارف، الطبعة الثامنة عشرة، القاهرة، 2018، ص 136- 137.
[5]) “قالت النجدات من الخوارج وجماعة من القدرية مثل أبي بكر الأصم وهشام الفوطي إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب بل هي مبنية على معاملات الناس فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته..”، الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، حرره وصححه ألفريد جيوم، أوكسفورد، 1934، ص 481.
” وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط. وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم. فإن هم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه، جاز”، الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1968، ص 124. ينقل الشهرستاني ذلك عن أبي القاسم البلخي الكعبي.
[6]) “فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد، والناس كأسنان المشط، والناس كإبل مائه لا تجد فيها راحلة، فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله”، الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 482.
[7]) الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 483.
[8]) ” ثم قال [عمر] بعد ذلك: ألا إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فوقى اللّه شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرة أن يقتلا، يعني إني بايعت أبا بكر وما شاورت الجماعة، ووقى اللّه شرها فلا تعودوا إلى مثلها، ولم يكن وقت البيعة اتفاق الجماعة”، الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 482 – 483.
[9]) الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 484.
[10]) ابن خلدون، المقدمة، ص 174.
[11]) محمد بن علي الطيب أبو الحسين البَصْري المعتزلي (المتوفى: 436هـ)، المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله ومحمد بكر وحسن حنفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1964، ص 908 – 909.
[12]) المرجع السابق، ص 1028.
[13]) “قيل لَو كَانَ جَمِيع الْحَوَادِث يشملها النُّصُوص لما افْتقر أهل الظَّاهِر فِي كثير مِنْهَا إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذِه الدّلَالَة مُعْتَرضَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الْمُسْتَدلّ أَنه لَا بُد فِي كل حَادِثَة من حكم أَي من قَضِيَّة إِمَّا نفيا وإما إِثْبَاتًا فَصَحِيح لَكِن لَا يلْزم أَن يكون طَرِيق ذَلِك الشَّرْع بل قد يجوز أَن يكون طَرِيقه الشَّرْع وَيجوز أَن يكون طَرِيقه الْعقل فيلزمنا التَّمَسُّك بِحكمِهِ إِذا لم ينقلنا عَنهُ نَص وَإِن اراد بالحكم حكما شَرْعِيًّا فانه يجوز خلو كثير من الْحَوَادِث مِنْهُ”، المرجع السابق، ص 884.
[14]) المرجع السابق، ص 685.
[15]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ر دار الآفاق الجديدة ، بيروت، 1983، ص 13، 52.
[16]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، (1) العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2000، ص 126 وما بعدها، 169 وما بعدها.