تكوين
مقدمة
أسعى في هذه الدراسة إلى إثبات أن الحالة السياسية التي شهدها صدر الإسلام (عصر النبي والخلفاء الأربعة)، هي حالة اللادولة non-state، أي حالة من غياب الدولة، رغم أنها كانت في طريقها إلى التشكل، لكن بدون وعي وبدون قصد من الفاعلين وقتها وبدون اتفاق حول شكلها ونظامها. وتعني حالة اللادولة، غياب فعلي للدولة بوصفها كيانًا اعتباريًا يمارس حكمًا لا شخصيًا وفق قواعد مقررة ومكتوبة، يتصف بالثبات عبر تغير الحكام ويحتوي على طريقة مقررة لانتقال السلطة، وقواعد قانونية تحكم ممارسة السلطة وعلاقتها برعاياها. لم يكن هذا المعنى موجودًا لدى المسلمين في صدر الإسلام. كما تعني حالة اللادولة، ليس الجهل التام بالدولة، بل على العكس، إذ أن هذه الحالة تتضمن عدم رغبة الفاعلين السياسيين في الاندراج في دولة، فهم يعرفون معناها لكنهم يفضلون استقلالهم وعدم التنازل عن السيادة الطبيعية التي لهم في الحالة الطبيعية الأولى.
من المعروف أن العرب كانوا يعيشون قبل الإسلام في حالة اللادولة، وهي حالة الطبيعة الأولى والوضع الأصلي السابق على الدولة، والتي أطلق عليها ابن خلدون “العمران البدوي”، وأطلق على العرب “أمة وحشية”، وقال عن هذه الحالة إنها مانعة من ظهور الدولة، لشدة العصبيات القبلية. وأسعى في هذه الدراسة إلى إثبات استمرار هذه الحالة في صدر الإسلام، إذ لم يستطع الإسلام القضاء عليها فور ظهوره واتخذ الأمر وقتًا لاحقًا. وأسمي هذه الحالة “الاستعصاء على الاندراج في دولة”، أي أن مثل هذا المجتمع وفي حالته هذه مستعصٍ على الانقياد إلى سلطة مركزية لاشخصية. ومن هنا يتبين لنا اتفاق أنثروبولوجيا مجتمعات اللادولة مع نظرية ابن خلدون.
تتجلى حالة اللادولة في صدر الإسلام في واقع تاريخي وفكر سياسي. ففي الواقع التاريخي تجلت حالة اللادولة في:
- أن التشريعات القرآنية كانت لا تفترض الدولة ولا تمهد لها ولا تسعى إليها، ولا تخاطبها، بل كانت تفترض غيابها
- حالة رفض للدولة، مستمرة ودون انقطاع، تمثلت في حركة المرتدين بعد وفاة النبي مباشرة، وهي لم تكن ردة عن الدين بل كانت ردة العرب عن سلطة قريش بقيادة أبي بكر الصديق
- الثورة على عثمان بن عفان والتي انتهت باغتياله
- حركة الخوارج، سواء النجدات أو الإباضية الأوائل، وهي حالة رفض للدولة المركزية والتمسك بالسيادة الكاملة في حالة الطبيعة الأولى.
أما في الفكر السياسي فقد تجلت حالة اللادولة في:
- فقه الخوارج
- إنكار وجوب الإمامة لدى بعض المعتزلة مثل هشام الفوطي وأبي بكر الأصم، وهذا الإنكار يتضمن عدم الاعتراف بوجوب سلطة مركزية ومن ثم بوجوب دولة واحدة شاملة.
وسوف أستعين في هذه الدراسة بعدد من الموجهات النظرية من اتجاهات الأنثروبولوجيا السياسية التي درست حالة اللادولة ونظَّرت لها، وأبرزها:
ومقارنة إسهاماتهما برؤى ابن خلدون الذي سبقهما وتحدث عما يمكن أن أسميه حالة اللادولة في الاجتماع العربي البدوي بسبب شدة العصبيات القبلية المانعة من تأسيس الدولة، و“أن العرب هم أبعد الأمم عن سياسة الملك”، نتيجة لموانع طبيعية مثل البداوة وحياة الرعي؛ والاستعانة بابن خلدون هنا هي لأجل إقامة التناسب بين نظريات كلاستر وسكوت من جهة والحالة العربية التي درسها ابن خلدون من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى الاستعانة بدراسة محمد الحاج سالم “من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية“، رغم اختلاف توجهاتها ونتائجها عن دراستنا هذه.[3]
كما أنني أعتقد أن الإطار النظري والمفاهيمي المناسب لهذا النوع من الحقول البحثية هو تحديدًا دراسات بيير كلاستر وجيمس سكوت لمجتمعات اللادولة، وذلك لكشفهما عن عمليات مقاومة المجتمعات البسيطة والبدائية لنشوء سلطة الدولة فيها والتي اتضحت في دراسة كلاستر لأمريكا الجنوبية، ودراسات جيمس سكوت لمجتمعات جنوب شرق آسيا. ويمكننا أن نطلق على هذه الدراسات مصطلح “أنثروبولوجيا اللادولة” non-State Political Anthropology، وهي تناسب حالة صدر الإسلام وما شهدها من حروب أهلية مقاوِمة للدولة وخارجة عنها باستمرار، ومتوافقة مع رصد ابن خلدون لطبيعة العمران البدوي وصعوبة انقياده لسلطة مركزية. ورغم أن كلاستر وسكوت لم يذكرا ابن خلدون أبداً، إلا أن دراساتهما تؤكد ما سبق أن توصل إليه ابن خلدون في هذا الشأن.
وتهدف هذه الدراسة إلى الاستفادة من أعمال كلاستر وجيمس سكوت في دراسة مجتمعات اللادولة في دراسة عصر صدر الإسلام، والذي شهد ولادة متعثرة للدولة عند العرب، وحركات مقاومة شديدة واجهتها، سواء في حروب الردة أو حركة الثورة على عثمان أو الحرب الأهلية المسماة بالفتنة الكبرى أو حركات الخوارج، والاستعانة في ذلك بابن خلدون، الذي درس في مقدمته نوعاً من مجتمعات اللادولة وهو المجتمع العربي الذي وصفه بأنه “العمران البدوي”، ورصد أسباب استعصائه على الانتظام في دولة وخضوعه لسلطة مركزية نظراً لاشتداد العصبية القبلية ولأسباب بيئية أخرى سنعرضها في سياق الدراسة. إن الاستعانة بابن خلدون تمثل دعماً لدراسات كلاستر وسكوت وامتداداً لها إلى مجال لم يتطرقا إليه وهو الصحراء العربية، ورؤية جديدة لعصر صدر الإسلام بوضعه في إطار مفاهيمي ونظري ينتمي إلى الأنثروبولوجيا السياسية لمجتمعات اللادولة.
أولًا – الموجهات النظرية للدراسة
1) جيمس سكوت وأنثروبولوجيا مجتمعات اللادولة ومدى تناسبها مع نظرية ابن خلدون
قام عالِم الأنثروبولوجيا السياسية الأمريكي جيمس سكوت بمراجعات شاملة للعلم السياسي الغربي ولكل الاتجاهات في النظريات السياسية علم الاجتماع السياسي التي تعطي الأولولية للتنظير للدولة وتختزل السياسة في الدولة، وأعطى الأولوية لدراسة حركات المقاومة النابعة من الشعوب والأقوام التي كانت لا تزال بعيدة عن سيطرة الدولة الحديثة وتعيش حالة من الاكتفاء الذاتي والتسيير الذاتي، خاصة في جنوب شرق آسيا. فهو عن طريق أبحاثه التجريبية والميدانية هناك قد أوضح نسبية ومحدودية التراث العلمي والنظري الغربي المتحيز للدولة. وفي هذا الإطار قدم سكوت معالجات عديدة للدولة بوصفها تتأسس عن طريق عمليات الإخضاع والهيمنة، والتوسع الإداري لحكم شعوب ومناطق لم تعرف نظام الدولة من قبل في حياة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والتسيير الذاتي غير المعتمد على سلطة مركزية أو على جهاز إداري سياسي مستقل ومنفصل عن المجتمع.
وما قدمه سكوت في هذا المجال يناسب تمامً غرضنا الحالي في البحث في طبيعة الاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا السياسية التي كانت تشرط حالة العرب في صدر الإسلام، والتي نقول عنها إنها “حالة اللادولة“؛ فسكوت هو من أبرز مُنَظِّري هذه الحالة في الوقت الراهن. وسوف نفاجأ بأن تحليلاته لمجتمعات اللادولة non-state societies تكاد تتطابق مع ما قاله ابن خلدون في مقدمته عن “العمران البدوي” السابق على الدولة، والممتنع على الدولة والمستعصي على الاندراج في دولة وغير المناسب لنشأة الدولة فيه ابتداءً.
في كتابه “رؤية الأشياء كما تراها الدولة” Seeing Like a State، يبدأ سكوت بسؤال:
“… لماذا كانت الدولة عدوة لتلك الشعوب الجوالة؟”[4]
وهو بذلك يبحث في التوترات الدائمة بين الشعوب المتحركة دائمة التنقل في مناطق التلال، والممالك التي نشأت في السهول التي تزرع الأرز في جنوب شرق آسيا. “لقد كانت قبائل البدو والرعاة (مثل قبائل البربر وبدو العرب)، والجماعات التي تعيش على الصيد والجمع، والغجر والشعوب الجوالة، والعبيد والهاربين والأقنان، شوكة في جنب الدولة. وكانت جهود تسكين تلك الشعوب المتحركة مشروعًا مستمرًا للدولة، وكان مستمرًا لأن الدولة لم تنجح بالكامل في ذلك“[5]. وبالتطبيق على التاريخ العربي وتاريخ صدر الإسلام، يقدم لنا هذا التاريخ نموذجًا برازًا على هذه التوترات، وعلى استعصاء القبائل العربية على منطق الدولة، خاصة وأن هذه القبائل وعلاوة على أنها كانت غير مستقرة في الأصل ودائمة التجوال في الصحراء بطبيعتها، قد شهدت مزيدًا من السيولة الجغرافية والديموغرافية في صدر الإسلام نتيجة لحركة الهجرات الجماعية الكبيرة إلى بلدان الأراضي الزراعية الخصبة والأنهار الكبيرة في شمال شبه الجزيرة والمسماة بالفتوحات الإسلامية.
ولم تنشأ الدولة في شبه الجزيرة قبل الإسلام، للأسباب التي عددها سكوت، والتي تتفق وتتوازى للغاية مع ما قاله ابن خلدون في هذا الشأن. وقد ذكر ابن خلدون أن المدن الأولى التي أنشأها الفاتحون المسلمون مثل الكوفة والبصرة، كانت بعيدة عن أن تكون مدنًا بالمعنى الحقيقي، أي أماكان استقرار دائم بقاعدة جغرافية تكفل إدامة الحياة، بل كانت مجرد أماكن للتجمعات العسكرية، بهدف اتخاذها نقطة انطلق للمزيد من عمليات الغزو، وافتقدت التخطيط المدني وروح التمدن. والذي ينطبق على المدن التي أشأها عرب الفتوحات ينطبق بالمثل على النظم السياسية التي أنشأوها في العصر نفسه وللغرض نفسه، إذ لم تكن دولًا بالمعنى السياسي الذي نجده واضحًا في الدول الشرقية القديمة القائمة على الأنهار الكبرى، أو الدول بالمعنى اليوناني – الروماني، وهي كلها دول سابقة على الإسلام وأكثر اكتمالًا وتطورًا من دول الفتوحات.
إقرأ أيضا: ابن خلدون: من الولادة البيولوجية لابن خلدون إلى الموت الأنطولوجي للحضارة العربية
ومن جهة أخرى يتجاوز سكوت مركزية الدولة في العلوم الاجتماعية والسياسية الغربية، وخاصة لدى ماكس فيبر، بإقامته تلك المواجهة التي كشفها بين الدولة وما يقع خارج سلكتها من شعوب متحركة. لقد نشأت الدولة في تحليلات سكوت من هذه المواجهة بالذات، بوصف الدولة النقيض التام لها، وحلل سكوت الدولة انطلاقًا من مشاريعها في تسكين هذه الجماعات ابتداءً. لقد تحددت الدولة عن طريق نقيضها، فبضدها تتمايز الأشياء، ولم تنشأ الدولة عنده في الأساس والأصل من مشاريع خاصة بها بل من مشروع تسكين وتوطين الشعوب الجوالة في خارجها، أي أنها نشأت في مواجهة خوارجها ومن أجل القضاء على الحالة الخوارجية تحديدًا، لأن الحالة الخوارجية هي الحالة النقيضة للدولة وحالة اللادولة العنيفة، والتي تهدد الدولة على الدوام بكسر احتكارها للعنف.
والحالة الخوارجية هي حالة لاحاكمية (أناركية)، لكنها في الوقت نفسه ليست ضد الاجتماع ولا خارجة عنه لأنها هي نفسها حالة اجتماعية وتعبر عن اجتماع سياسي، لكنه الاجتماع السياسي لمجتمع اللادولة، الرافض لأي سلطة مركزية ولهيئة إدارية منفصلة عن المجتمع. أي أن الحالة الخوارجية هي حالة اجتماعية ونوع من الاجتماع السياسي وليست مجرد أيديولوجيا. ويشهد التاريخ الإسلامي دوامًا وتواصلًا لتلك الحالة الخوارجية، بداية من المرتدين، إلى حركة الثورة على عثمان، ثم الخوارج تحديدًا، ثم الشيعة في وقت لاحق، ثم حركة القرامطة. بل إن ما يسمى بالثورة العباسية التي واجهت الدولة الأموية وحلت محلها، لو لم تكن قد نجحت في إزالة حكم الأمويين، فربما ظلت حركة خوارجية تقاوم الدولة الأموية من خارجها على الدوام دون أن تنجح في إسقاطها.
يقول سكوت:
“كانت الدولة قبل الحديثة عَمِيَّة في بعض الجوانب الحاسمة، فقد كانت تعرف القليل للغاية عن رعاياها وثرواتهم وممتلكاتهم ومواضعهم، وهويتهم ذاتها. وافتقدت أي شيء يشبه الخريطة لمكوناتها وشعبها… ونتيجة لذلك كانت تتدخل بعنف وكانت تواجه بالفشل”[6].
ولذلك كان على الدولة الحديثة أن تنشئ لنفسها قاعدة البيانات التي تمكنها من التدخل والسيطرة. هذه البيانات هي الداعي الأول لنشأة البروقراطية الحديثة، وكذلك البيروقراطيات القديمة في الإمبراطوريات الشرقية وفي روما تحديدًا. بيروقراطية الدولة إذن كانت هي الدولة ذاتها، نشأت كي تستطيع السيطرة إداريًا على مناطقها. ومع صدر الإسلام نشهد ظاهرة “تعريب” الدواوين، أي تعريب الجهاز الإداري للدولة الساسانية الفارسية والدولة البيزنطية؛ لم ينشئ العرب دواوين، بل وجدوها جاهزة وعاملة من الدول السابقة، ولم يقوموا بشيء إلا “التعريب”، أي تغيير لغتها، بل إنهم أبقوا القائمين عليها في مواقعهم السابقة. وبذلك نرى كيف أن “الدولة” التي ظهرت في تاريخ المسلمين لم تكن من اختراعهم، بل ورثوها، أو بالأحرى استولوا على دول قائمة بأجهزتها الإدارية، وتركوا هذه الأجهزة تعمل كما في سابق عهدها، واكتفوا هم بالسيطرة من أعلى. هذا النمط الاستيلائي في الحكم لم ينشئ دولة، بل جاء بالاضطرار والضرورة، فالمناطق التي قام العرب بغزوها لا تُحكم إلا بهذه الطريقة، فاستبقوها.
2) محددات وتجليات حالة اللادولة حسب ابن خلدون
يتمثل الطرح الذي نقدمه هنا في القول بأن حالة صدر الإسلام كانت حالة اللادولة، سواء في العهد النبوي أو في عهد الخلفاء الأربعة، وهي الفترة المفصلية الحاسمة. لكنها لم تكن بدون سلطة، فلا يخلو مجتمع من سلطة. والذي يؤدي بالكثيرين إلى الانطباع بأن صدر الإسلام قد شهد دولة، وجود قائد يباشر مهاماً سياسية وعسكرية وتشريعية (النبي) وجيش مقاتل وتشريعات. لكن من الممكن وجود كل هذه العناصر في مجتمع ما دون وجود الدولة، وهو الذي كان حادثاً. والملاحظ أن كلمة دولة لم تظهر إلا على لسان الخوارج الإباضية، في رسالة عبد الله بن إباض لعبد الملك بن مروان، واصفاً دولة الأمويين، فقد قال ابن إباض لعبد الملك: “وأما قولك في شأن معاوية بن أبي سفيان: إن الله قام معه وعجل نصره وأفلح حجته ونصره على عدوه بطلب دم عثمان، فإن كنت تعتبر الدين من قبل الدولة وأن يظهر الناس بعضهم على بعض في الدنيا، فإنا لا نعتبر الدين بالدولة“[7].
طالما عاشت القبائل مستقلة ومكتفية بذاتها في الصحراء، فهي ليست في حاجة إلى دولة، وظلت مستعصية على الاندراج في دولة. إذا اطلعنا على أحدث الأبحاث الأنثروبولوجية في نشأة الدولة مثل دراسة جيمس سكوت Against the Grain: A Deep History of the Earliest States، وجدنا تأكيداً على ذلك المعنى. يذهب سكوت إلى أن نشأة الدولة كانت عن طريق عمليات الزراعة الكثيفة للحبوب وتخزينها وإعادة توزيعها، ولذلك كانت هذه النشأة على ضفاف الأنهار الكبرى في مصر وبلاد الرافدين والهند والصين. تخزين الحبوب تطلب إدارة شاملة وعميقة وأعمالاً إنشائية نهرية كبرى، ومن ثم ظهرت الدولة، كمخزن للحبوب، فالحبوب تصنع الدول حسب قوله Grains Make States[8].
إذا عدنا إلى مقدمة ابن خلدون وجدنا اتفاقاً مذهلاً مع سكوت في رصده لكيفية نشأة الدولة، وتشخيصاً للسبب في صعوبة نشأة الدولة عند العرب، إذ يُرجِع هذه الصعوبة إلى العصبية القبلية، ويُرجع العصبية القبلية إلى استقلال القبيلة بذاتها وصعوبة انقيادها لغيرها، ويُرجع كل ذلك إلى عدم احتياج القبائل إلى الحبوب لاعتمادها على الماشية والأغنام ومن ثم على المراعي المفتوحة:
“.. العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها، لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش، فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض، لإيلافهم ذلك وللتّوحّش”[9].
وكذلك يقول ابن خلدون إن العرب يسكنون من الأرض ذلك الجزء الذي تسوده الصحراء من البحر المحيط في الغرب إلى اليمن وحدود الهند في الشرق، لأنها الأنسب لمعاشهم، وأن المناطق الآهلة بالسكان المستقرين في هذه المنطقة عانت من اعتداءات العرب عليها: “وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة، ورعي الزرع مخضرّا، وانتهابه قائما وحصيدا إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها”[10]؛ أي أن القبائل في هذه المنطقة يعتدون على الزراعات بإفساد الطرق (السابلة) ورعي أغنامهم ومواشيهم في الزراعات التي لا تزال خضراء، ونهب المحصول سواء كان لا يزال في الحقول أو محصوداً، “إلا ما حاطته الدولة”، أي أن الدولة في مناطق العمران حامية للأرض الزراعية ومحاصيلها من هجوم قبائل العرب، وهذا داع آخر لنشأة الدولة في هذه المنطقة، فهي ليست مجرد مخزن حبوب، بل هي كذلك تحميه بقوتها وجيوشها. الفتوحات الإسلامية إذن لم تكن سوى هجوماً للقبائل العربية على المناطق الزراعية المحيطة بشبه الجزيرة العربية، من أجل السيطرة عليها كلها، أي من أجل الزراعات و”مخزن الحبوب”.
وبالتالي علينا التمييز بين الحالة الأولى في المجتمع والتي كانت حرباً وعنفاً أقصى من أجل احتكاره، والحالة الأولى في النص القرآني وكما يعكسها النص القرآني. الحالة الأولى في النص القرآني هي أمية الشريعة وحالة اللادولة وحالة الحرب الشاملة والنزول المنجم للآيات والاعتماد على العرف الاجتماعي القبلي، والحالة الأولى في الواقع الاجتماعي وهي حالة الحرب التي أنتجت تشريعات القتال بكل تفاصيلها. ومثل موقف القرآن من كل النظم التي وجدها ولم يغيرها مثل مؤسسة العبودية والاسترقاق بالحرب، فلم يغير القرآن من حالة اللادولة التي وجدها قائمة في المجتمع بل أعاد إنتاجها داخل نصه.
كما يقول ابن خلدون:
“.. العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب. والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب. وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له”[11]
وهذا التحليل يعد منتميًا إلى الأنثروبولوجيا السياسية بجدارة، ففيه بيان لأسباب عدم تمكن العرب من تأسيس القاعدة المادية التي يمكن أن يقوم عليها نظام الدولة.
ويستمر ابن خلدون مشخصًا حالة العمران البدوي، التي ننظر إليها على أنها نافية لكل شروط الدولة ومعاكسة لها قائلًا: “فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم“؛ ويصل ابن خلدون إلى استخلاص الطبيعة البشرية التي يخلقها ذلك النمط من العمران البدوي، ومرة أخرى نرى كيف أنه يستخلص من تلك الطبيعة البشرية التي يخلقها نمط الحياة البدوي عدم إمكان استقرارها وبنائها لأي نظام ثابت: “وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران“؛ فلما كانت السياسة هي تدبير الحياة تدبيرًا جماعيًا يحقق الحد الأدنى من الأمن والنظام المستقر، انتفت السياسة من هذا النمط من الاجتماع البدوي حسب ابن خلدون.
إقرأ أيضا: ما هي المفاهيمُ الأساس التي يقومُ عليها مفهوم الدولة عند ابن خلدون؟
هذا بالإضافة إلى افتقاد نمط الاجتماع البدوي للصنائع المدنية التي يحتاجها أي نظام دولة ثابت، ويقول في ذلك: “وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران“. إن هذا النمط من الاجتماع البدوي، الذي أحيانًا ما يسميه ابن خلدون الوحشي، سريع الزوال لأنه غير مستقر وبغير أساس ثابت. هذا علاوة على عدم وجود نظام ثابت في محاسبة الحكام ولا محاسبة الرعية:
“وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض “[12].
وعن عدم تمكن العرب من تخطيط المدن ورعايتها نظراً لتوحشهم، يقول ابن خلدون:
“.. أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل. والسّبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصّنائع كما قدّمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها وله والله أعلم وجه آخر وهو أمسّ به وذلك قلّة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنّه بالتّفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطّبيعيّ والعرب بمعزل عن هذا وإنّما يراعون مراعي إبلهم خاصّة لا يبالون بالماء طاب أو خبث ولا قلّ أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد وأمّا الرّياح فالقفر مختلف للمهابّ كلّها والظّعن كفيل لهم بطيبها لأنّ الرّياح إنّما تخبث مع القرار والسّكنى وكثرة الفضلات وانظر لمّا اختطّوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلّا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظّعن فكانت بعيدة عن الوضع الطّبيعيّ للمدن ولم تكن لها مادّة تمدّ عمرانها من بعدهم كما قدّمنا أنّه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعيّة للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمّرها النّاس فلأوّل وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيّتهم الّتي كانت سياجا لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. “وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ١٣: ٤١”[13].
والواضح أن ابن خلدون يصف في هذه الفقرات حالة مطابقة لحالة الطبيعة الأولى السابقة على الاجتماع المدني وعلى نشأة السلطة السياسية؛ فما يسميه ابن خلدون “العمران البدوي” و”التوحش”، هو هذه الحالة الأولى ذاتها. سوف يحاول المسلمون القضاء عليها بتأسيس نظام سياسي، يقضي على هذه الحالة وما يرافقها من حرب الكل ضد الكل، لكن في محاولتهم هذه سوف تكون ملازمة لهم طويلًا، وهي الملازمة التي نراها في صدر الإسلام.
3) الفرق بين الحالة الأولى في نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، والحالة الأولى في صدر الإسلام
إذا كانت الحالة الأولى للاجتماع البشري والوضع الأصلي الابتدائي حالة ووضعاً افتراضياً في نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، فهي كانت حالة تاريخية واقعية بمواصفات وخصائص أنثروبولوجية وسوسيولوجية خاصة في حالة الإسلام في قرنه الأول والتي كانت لا تزال مرتبطة بحالة العرب قبل الإسلام والتي أطلق عليها ابن خلدون “العمران البدوي”. وإذا كانت الحالة الأولى في نظريات الحق الطبيعي تسمى حالة الطبيعة، فقد كانت حالة العرب قبل الإسلام وفي قرنه الأول هي حالة طبيعية كذلك، كما يقول ابن خلدون:
“جيل العرب في الخلقة طبيعيّ.. أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطّبيعيّ من الفلح والقيام على الأنعام، وأنّهم مقتصرون على الضّروريّ من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد، ومقصّرون عمّا فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ”[14].
كذلك يذهب ابن خلدون إلى أن البداوة هي أصل الحضارة وسابقة عليها بالضرورة: “..البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لها.. ولأنّ الضّروريّ أصل والكماليّ فرع ناشئ عنه فالبدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما لأنّ أوّل مطالب الإنسان الضّروريّ ولا ينتهي إلى الكمال والتّرف إلّا إذا كان الضّروريّ حاصلا فخشونة البداوة قبل رقّة الحضارة.. وممّا يشهد لنا أنّ البدو أصل للحضر ومتقدّم عليه أنّا إذا فتّشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوّليّة أكثرهم من أهل البدو الّذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدّعة والتّرف الّذي في الحضر وذلك يدلّ على أنّ أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنّها أصل لها”[15]. لم تكن حالة الطبيعة الأولى مجرد افتراض نظري كما نعتقد من دراستنا لنظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، بل كانت حالة فعلية قائمة كان عليها الكثير من الأقوام ومنهم العرب، وكان العرب من أواخر الأقوام التي ظلت محتفظة ببدويتها حتى وقت متأخر، أي بالحالة الطبيعية الأولى، وقد نزل عليهم القرآن وهم في هذه الحالة فانعكست فيه وانطبع بها.
وإذا كانت نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي تصف حالة الطبيعة الأولى بأنها حالة من المساواة التامة والحقوق الكاملة، فقد كانت هذه هي أيضاً صفات العمران البدوي كما شخصها ابن خلدون. فعن المساواة التامة يقول ابن خلدون إن العصبية القبلية سائدة فيهم وهي التي تمنعهم من الانقياد لبعضهم البعض، وعن الحقوق الكاملة فإن القبيلة وحدة سياسية متكاملة تمارس كل وظائف الحكم والحرب من ذاتها، غير منقوصة الحقوق، فليست فيهم دولة يتنازلون لها عن جزء من حقوقهم الطبيعية الأصلية أو عن جزء من حرياتهم، وإذا حدث أن نشأت فيهم السلطة تكون بالبيعة، أي بالتنازل والتخلي عن جزء من هذه الحقوق الطبيعية الأصلية.
ثانيًا – نحو توصيف عام لحالة الدولة وحالة اللادولة
1) ما هي الدولة؟
للدولة تعريفات كثيرة، وهي تتنوع وتختلف باختلاف أنواع الدول. ومن ثم سأحاول تقديم تعريف لها يتصف بالعمومية والتجريد والشمول، بما أنها ظاهرة تاريخية كبرى وملمح أساسي من ملامح الحياة الإنسانية.
يعني مفهوم الدولة، مجموعة من النظم والمؤسسات الحاكمة التي تشكل في مجموعها سلطة سياسية عليا داخل رقعة جغرافية معينة. كما عني هذا المفهوم، جماعة سياسية موحدة تمارس الحكم والإدارة بشرعية ووفق قواعد. كما تحكم المؤسسات قوانين وقواعد وإجراءات معلنة وواضحة وغالبًا ما تكون مكتوبة، وهي تنظم علاقتها بالمواطنين في إطار حقوق وواجبات. نفهم من هذه التوصيفات العامة أن الدولة تتصف بالطابع اللاشخصي، وهي شخصية بالمعنى الاعتباري. وبذلك فلا يمكننا القول إن النظام الحاكم في صدر الإسلام (عصر النبي والخلفاء الأربعة) كان يشكل دولة أو يتصف بخصائصها. فلم يكن المسلمون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يشكلون دولة، إذ لم يكن الوعي بالدولة قد ظهر فيهم بعد، وكل ما كانوا على وعي به هو الجيش، والحكم، والسلطة، أي العناصر الأولى البسيطة التي تشكل الدولة لكن في غياب المفهوم المجرد عنها والطابع اللاشخصي لها.
أما الاعتراض القائل إن الدولة بالمعنى الذي وصفناه لا ينطبق إلا على الدولة الحديثة التي نشأت في أوروبا ابتداءً من القرن السادس عشر، فهو مردود عليه، لأن الدولة بهذا المعنى قد سبق ظهورها لدى اليونان والرومان، ومن قبلهما لدى الحضارات الكبرى في الشرق القديم والتي ظهرت فيها دول حول الأنهار الكبرى: مصر القديمة وبابل والهند والصين. والاطلاع السريع على تاريخ اليونان والرومان يدلنا على وجود ذلك المعنى المؤسسي اللاشخصي للدولة، في التجربة السياسية لديهما، وفي فكرهما السياسي على السواء. إذ نجده في أعمال الفلاسفة اليونان مثل محاورات “الجمهورية” و”القوانين” و”السياسي” لأفلاطون، وكتاب “السياسة” لأرسطو، وكتابه “نظام الأثينيين”، وكذلك أعمال شيشرون.
أما المسلمون في صدر الإسلام فكانوا ينظرون إلى الحكم على أنه شخصي، وغاب عنهم الطابع المؤسسي للحكم. فالذي يحكمهم هو شخص وليس نظامًا أو مؤسسة أو هيئة مستقلة بشخصية اعتبارية. وكل الفكر السياسي الإسلامي هو نظرية في الحاكم، لا نظرية في أشكال الحكومات كما نجد عند أفلاطون وأرسطو، ولم يخرج الفقه السياسي الإسلامي عن موضوعات شرائط الإمامة وسلطات الإمام وخصاله الشخصية وأخلاق الملوك. فالحكم هو حكم شخصي لخليفة أو إمام أو سلطان أو ملك أو أمير أو رئيس، يدينون له بالولاء الشخصي والطاعة، ويبايعونه على هذا، وإذا توفى انتهت البيعة وانفض عقد السلطة حتى تنعقد لشخص آخر يأتي بعده وهكذا، دون قواعد مقررة ومكتبوة لانتقال السلطة.
في هذا السياق الشخصي للحكم، تغيب الدولة بوصفها حكمًا لاشخصيًا يسير وفق قواعد عامة مجردة وإجراءات مقررة؛ ولهذا السبب لا نجد لدى المسلمين الأوائل قانونًا دستوريًا يؤسس لنظام الحكم ولشكل الدولة، لأنها لم تكن موجودة لديهم. ولا نجد في فكرهم السياسي مبحثًا في أشكال الحكومات كالذي نجده لدى الفكر السياسي اليوناني والروماني: أرستقراطية، أوليجاركية، ديمقراطية، غوغائية، طغيان…إلخ. كما غاب مفهوم المواطن ومفهوم المواطنة، الأساسي في أي نظام للدولة، فمفهوم المواطن ومفهوم الدولة مترابطان، وإذا لم تكن هناك مواطنة فليست هناك دولة. وكل ما هنالك في صدر الإسلام كان رعية. والمواطنة تعني الانتماء لمدينة أو الحياة المدنية والانتماء إليها انتماءً سياسيًا وليس مجرد انتماء جغرافي أو ديموغرافي.
مفهوم كلمة سياسة عند العرب
والفرق هائل بين كلمة سياسة باللغات الأوروبية politics وكلمة سياسة باللغة العربية. فهي في العربية من ساس ويسوس، وهي آتية من حياة الرعي، فكلمة “ساس” تعني قاد القطيع، والسائس هو قائد القطيع؛ أما كلمة politics ذات الأصل اليوناني فهي تعني تنظيم الشئون المدنية والحكم المدني في دولة المدينة polis. وكان اليونان والرومان ينظرون إلى الإنسان على أنه حيوان مدني بطبعه، أي أن التمدن هو الحالة البشرية الطبيعية والكاملة، وكل من هو خارج المدينة والحياة المدنية فهو في نظرهم همجي أو بربري، والإنسان المتحضر عندهم هو ساكن المدينة.
وعندما ترجم العرب محاورة “الجمهورية” لأفلاطون، ترجموا العنوان بـ”السياسة المدنية“، وهي ترجمة حرفية دقيقة، لأن السياسة عند اليونان هي فن حكم وتنظيم المدينة، أي المدينة الدولة. ومن ثم فكيف تظهر الدولة في مجتمع بدوي وتركيبته قبلية ولم يصل إلى التمدن بعد؟ أما كلمة “دولة” فلم تكن مستخدمة في صدر الإسلام؛ وغياب الكلمة يعني غياب مدلولها غياب الوعي بهذا المدلول. إذ لم يكن العرب يشيرون إلى “الدولة” الأموية و”الدولة” العباسية إلا في وقت لاحق، عندما بدأ الوعي بالدولة لديهم.
وكانت الإمامة أو الخلافة لديهم هي كل الحكم وكل النظام الحاكم، وكانت منصبًا لا نظامًا في الحكم، وشروط الإمامة لديهم هي شروط شخصية بحتة وأخلاقية وسلوكية. والحكم الصالح لديهم هو السلوك الصادر عن حاكم صالح؛ فالصلاح عندهم كان صفة للحاكم لا لنظام الحكم ولا لقوانين ثابتة مدونة. ولا يأتي الحاكم عندهم ليقوم بأدوار سياسية مقررة من قبله وثابتة ولا يمارس مهام وظيفية محددة ينشئها القانون أو الدستور، بل يأتي ببساطة بالبيعة على الطاعة ويمارس سلطة حاز عليها بصفة شخصية وبفضل صفاته الشخصية، مدعومًا إما بالعصبية القبلية التي تسانده أو بالأحرى التي أتت به إلى الحكم من البداية، أو بالشوكة.
2) المفاهيم العامة للدولة ومدى انطباقها على حالة الإسلام الأول
للدولة تعريفات كثيرة، لكن إذا أردنا تحديداً دقيقاً لهويتها، قلنا إن كلمة دولة تشير إلى شيئين:
- الأول هو جهاز إداري يقوم بوظائف متنوعة، تحكم عمله قوانين وقواعد أو حتى أعراف، أي يحكمه انتظام ثابت من الإجراءات
- الثاني هو التعبير السياسي عن مجتمع ما، حيث يحوز هذا التعبير على شكل معين في الحكم.
لكن لم يكن لدى المسلمين في صدر الإسلام أي من هذين الجانبين للدولة، فلم يكن لديهم جهاز إداري يعمل بقواعد ثابتة؛ كان لدى المسلمون عمال، أي جباة ضرائب بمختلف صورها: زكاة وجزية وصدقات، يرسلونهم إلى الأمصار، وقادة جيوش. لكن لم يكن للمسلمين جهاز إداري بالصورة التي نجدها لدى الدولة المصرية القديمة أو الدولة الرومانية أو البيزنطية أو الفارسية، وهي كلها دول سابقة على الإسلام. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الدولة تتجسد في جهاز إداري عندما يتطلب المجتمع هذا الجهاز ويحتاج إليه، مثل احتياج مصر القديمة إلى إدارة لعمليات الري المعقدة وتنظيم مواسم الزراعة وعمليات تخزين الحبوب والمشاريع الإنشائية الضخمة مثل حفر الترع والمصارف وتجفيف المستنقعات..إلخ. أما صحراء العرب فقد كانت القبائل فيها مكتفية بذاتها ومستقلة ومنعزلة، ولم تكن فيها زراعة على نطاق جغرافي ضخم، ولذلك لم تكن في حاجة إلى جهاز إداري، أي لم تكن في حاجة إلى دولة باعتبارها جهازاً إدارياً.
أما المعنى الثاني للدولة وهو أنها التعبير أو التجسد السياسي لمجتمع ما أو لشعب، فلم يكن هذا المعنى موجوداً عند العرب أيضاً، لا قبل الإسلام ولا بعده في عصر صدر الإسلام. صحيح أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عرق واحد، لكن كان الأقرب إليهم النظر إلى أنفسهم حسب التقسيمات الفرعية الكثيرة للعرب إلى المضريين والعدنانيين، ثم إلى القبائل، وطالما كانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية، يكون الانتماء إليها لا إلى “المجتمع” أو الشعب. بعكس الرومان الذين كانوا على وعي مبكر بهويتهم السياسية الواحدة، والمتجسدة في “مجلس الشيوخ والشعب الروماني” Senātus Populusque Rōmānus.
ثانيًا – في طبيعة النظام الذي أسسه النبي ﷺ
1) هل أقام النبي دولة؟
يذهب عبد الجواد ياسين إلى أن تطور الجماعة الأولى كان “يمضي في اتجاه الدولة” ، لكني أقول أنه لم يقم دولة، بالمعنى المعروف والسائد في عصره. أول شروط الدولة وجود نظام لنقل السلطة، ولم يكن هذا النظام موجوداً فلم يعلن النبي عن كيفية انتقال السلطة من بعده، لماذا؟ لأنه لم يؤسس لسلطة دولة سياسية بالمعنى المعتاد. لا ننكر أن النبي قد أسس نظاماً سياسياً بالفعل، لكنه ليس نظاماً سياسياً لدولة، فقد كان نظاماً استثنائياً ولم يكن قاعدة تتبع من بعده، نظراً لاستثنائية النبوة، فالنظام الذي على رأسه نبي لا يمكن أن يكون دولة بالمعنى المتعارف عليه، لأن وجود نبي على الأرض وعلى رأس هذا النظام هو مؤقت واستثنائي. ولذلك طلب بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يكون لهم ملك، كي يتمكنوا من دخول حرب، ففي الحرب احتاجوا إلى أن يكونوا دولة بنظام سياسي على رأسه حاكم، مما يعني أن النبي لم يكن كافياً لتأسيس دولة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ ﴾ (البقرة 246)؛ ويتبين استعصاء المجتمعات البدوية على الاندراج في دولة كما قال ابن خلدون في رد بنو إسرائيل، إذ رفضوا الملك الذي عينه النبي: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ﴾ (البقرة 247).
والدليل على أن النبي لم يؤسس دولة بالمعنى المعروف في عصره، هو الخلافات التي حدثت من بعده، في السقيفة، إذ يكشف الجدل والنزاع الدائر فيها بين المهاجرين والأنصار عن عدم وضوح مسألة انتقال السلطة بعد وفاة النبي وعدم وجود نظام لهذا الانتقال، وقد كان الخلاف على الشخص الذي سيرأس الكيان السياسي الجديد، وعلى مبدأ تنصيبه، أهو المبدأ القبلي أم غيره. إن عبارة عبد الجواد ياسين صحيحة إلى حد ما، وهي أن تطور الجماعة الأولى كان “يمضي في اتجاه الدولة”، فالتطورات كانت تسير في اتجاه تأسيس الدولة، لكنها لم تؤسس لدولة مستقرة بنظام ثابت في انتقال السلطة واختيار الحاكم على قواعد معروفة ومعلنة .
وتاريخ المسلمين بعد ذلك في عهد الخلفاء الأربعة يشهد على عدم وضوح نظام الدولة، وأنه لم يكن دولة من الأصل، ومن أهم أسباب ذلك انتشار العنف وسيادته للمشهد بين المسلمين: حروب ردة، ثورة على عثمان ثم مقتله، حرب الجمل بين علي وعائشة وطلحة والزبير، حرب صفين بين علي ومعاوية، حرب علي والخوارج. فإذا كان تعريف الدولة أنها مؤسسة تحتكر استخدام العنف الشرعي في رقعة جغرافية معينة، فإن انتشار العنف بين المسلمين يشي بعدم وجود الدولة من الأصل، فطالما كان العنف شائعاً وينظر كل طرف إلى نفسه على أنه من حقه ممارسة العنف للمطالبة أو الدفاع عما ينظر إليه على أنه حقه، فلا دولة.
2) التشريعات القرآنية والدولة
في عصر نزول القرآن لم تكن هناك دولة بالمعنى الاعتباري العام والمجرد، إذ على العكس، نجد أن تشريعات القتال تنفي الدولة وتفترض عدم وجودها. إذ تعتمد آيات القتال على النظام الذي كان سائداً قبل الإسلام وتتناول الغنيمة والخمس والفيء، ذلك الخمس الذي هو تعديل على المرباع القبلي . فكانت غنائم الحرب تقسم مباشرة على المشاركين في القتال ولا تدخل خزينة الدولة إذ لم تكن هناك دولة. والملاحظ أن من أولى الآيات نزولاً ما يخاطب قريشاً: ﴿لِإِیلَـٰفِ قُرَیۡشٍ ١ إِۦلَـٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَاۤءِ وَٱلصَّیۡفِ ٢ فَلۡیَعۡبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلۡبَیۡتِ ٣ ٱلَّذِیۤ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعࣲ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ ٤﴾ [قريش ١-٤]. القرآن يخطاب قبيلة ولا يخاطب دولة. صحيح أن هذه القبيلة سوف تؤسس دولة بعد ذلك، لكنها ستكون دولة قبيلة، بل دولة عشيرة داخل القبيلة: الأمويون، العباسيون، الفاطميون.
كما أثرت الحالة الأولى للتشريع القرآني على مضمون التشريع ذاته. ففي جريمة القتل في القرآن الكثير من المسكوت عنه والمتروك للمجتمع، أي للعرف. فلم يحدد النص القرآني الجريمة من حيث التعريف، ولم يتناول القصد الجنائي وما إذا كان القتل عمداً أم قصداً مع سبق النية والترصد، ولم يحدد “طرق الإثبات أي قواعد الاتهام، أو المحاكمة، أو التنفيذ، لكنه تناول العقوبة فتبنى القصاص، أي الإعدام كعقوبة أصلية يجوز العفو عنها من قبل ولي الدم مقابل دية، أو بدون مقابل، ولم ينص على كيفية تنفيذ القصاص، ولا مقدار الدية” ؛ وترك كل هذه الجوانب للمجتمع، أي للعرف السائد، وذلك كله في مقابل القانون الروماني الذي فصل بدقة كل تلك الأركان. فكلما كانت القبيلة قوية، فرضت نفسها في التشريعات ولم تمكن التشريع من أن يكون مؤسسياً. وقد عمل الفقه اللاحق على الاستعارة من العرف السائد، سواء تحت مسمى السنة أو عمل الصحابة أو من التوراة.
إقرأ أيضا: ولاية الفقيه السُّـنـّيَّة: قراءة في كتاب غياث الأمم لأبي المعالي الجويني
ودائماً ما كان الفقه يقدم كل تلك التفاصيل التي سكت عنها النص القرآني باعتبارها سنة مرفوعة إلى النبي. فنظراً لافتقاده إلى قاعدة قانونية أو قانون عام ومجرد وتفاصيل قانونية تحدد أركان الجريمة وطرق التحقيق ونوع العقوبة وطرق تنفيذها، قام بملء كل هذه التفاصيل الناقصة وأسندها إلى سلطة، سلطة النبي والصحابة، وهي السلطة التي للسابقة العرفية، فليست لديه سلطة غير ذلك. وفي غياب العمومية والتجريد المتوافران في القاعدة القانونية المجردة، وفي غياب الجانب التفصيلي الذي يوفره القانون كفكرة وكمبدأ مثل القانون الروماني، نظراً لعدم وجود الدولة التي هي الكيان العام المجرد والتي هي لهذا السبب مصدر عمومية وتجريد القانون الصادر عنها، تسود في الفقه الإحالة الجزئية إلى حكم جزئي سابق، أي إحالة الجزئي إلى الجزئي، دون قاعدة كلية، بالاعتماد على منطق المماثلة وسوابق الحكم.
تشريعات القصاص تستبقي ولاية الدم
وهذا دليل آخر على أن التشريع القرآني يقع في حالة اللادولة. ولاية الدم هي حق ولي دم القتيل في الاقتصاص بنفسه من القاتل، أو العفو عنه مقابل دية، وبالتالي فليس هناك حق عام في النص القرآني، والذي تمثله الدولة. فقط هناك القبيلة، والحق هو حق القبيلة إذا قتل أحد أفرادها، وولي الدم هو أحد اقارب القتيل في القبيلة، يأخذ القصاص بالنيابة عن القبيلة. تقول الآية: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومࣰا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا﴾ [الإسراء ٣٣] . ويقول ياسين تعليقاً على الآية:
“يمكن ببساطة تفسير غياب فكرة الحق العام عن النظام العرفي الجاهلي بغياب الدولة؛ فكيف يمكن تفسير غياب هذه الفكرة عن النص القرآني إذا كان يخاطب دولة أو كان يستهدف إنشاء دولة؟”.
الإجابة هي أن النص القرآني لا يخاطب دولة ولا يستهدف إنشاء دولة. لماذا؟ لأنه نشأ في حالة اللادولة ولم يرد تغيير هذه الحالة، وأبقى عليها في نصه. صحيح أن الدولة نشأت بعد ذلك، إلا أنها كانت دولة قبيلة. سوف تكون لحالة اللادولة في النص القرآني آثار لاحقة، أولاً على مستوى الفقه الذي ظل يعمل في إطار اللادولة وصار بذلك تشريعاً خارج إطار الدولة (وهذا هو مصدر جاذبيته لوائل حلاق وتلاميذه مثل أحمد عاطف أحمد)، كما كان يعمل في عصر دولة خارجية عن المجتمع وليست نابعة منه، ليست دولة عضوية بل دولة خراجية فوقية. وثانياً فقه الخوارج الذين ظلوا خارج الدولة القائمة باستمرار، والفقه الخوارجي الإباضي الذي طور نظرية مبكرة في ولاية الفقيه، نظراً لغياب الدولة فيهم، فالفقيه لديهم كان يقوم مقام الإمام لأنهم لم يعترفوا بالإمامة أصلاً.
لم يكن من الممكن للتشريعات القرآنية أن تنزل في دولة قائمة بالفعل وتعمل بصفة اعتيادية، وبذلك فإن هذه التشريعات في حد ذاتها تفترض حالة اللادولة؛ إن هذه الحالة هي الشرط القبلي التاريخي للتشريعات. وطالما كان الوحي يتنزل فلم يكن من الممكن أن تنشأ دولة بالمعنى التاريخي المعروف في العالمين القديم والحديث. فالوحي حالة استثنائية، نادرة، غير متكررة، وقصيرة العمر بالنسبة لحياة الشعوب؛ أما الدولة فهي نظام سياسي يفترض مجتمعاً مستقراً في نطاق جغرافي معروف؛ لكن مجتمع نزول الوحي لم يكن مستقراً، لا من حيث تكوينه الداخلي ولا من حيث استقراره المكاني.
فالمدينة كانت دار هجرة، أي حالة استثنائية مؤقتة يعرف أصحابها أنها لن تستمر طويلاً. والدين الجديد كان يتوسع مكانياً باستمرار، وأتى الحراك المكاني معه بحراك اجتماعي، فتغيرت أحوال العرب وقبائلهم نتيجة هذا الحراك المكاني. لذلك فإن النظام الذي أسسه النبي ليس دولة، أولاً لأن الجماعة الأولى لم تشكل مجتمعاً كاملاً مستقراً، وثانياً لأن النبي شخص استثنائي، والاستثنائي لا يؤسس للاعتيادي بل للاستثنائي مثله. ولذلك عاد العرب بعد وفاة النبي إلى سابق عهدهم، وسُمّيَ هذا بالردة، لكنها لم تكن ردة عن الدين، إذ قالوا إن الزكاة كانوا يدفعونها للنبي بصفة شخصية ووفق عهد ومبايعة بينهم وبينه، فلما توفى صار العهد لاغياً. ولذلك قلت إن النبي لم يؤسس دولة لأنه شخص استثنائي، وكذلك كل عهد معه أو مبايعة هي استثنائية كذلك، وهذا هو ما أدركته القبائل التي سميت مرتدة بعد فاته.
وتحالفات القبائل مع النبي في عام الوفود هي تحالفات شخصية معه، مما يعني أنها ليست متعدية إلى غيره، وليست دخولاً للقبائل في دولة يذوبون فيها ويفقدون هويتهم القبلية، وهي الحالة التي لا تعد فيها القبائل بحالتها السابقة من السيادة التامة والحقوق الكاملة المطلقة، لأن الدولة تفترض أن تكون السيادة لها، لا أن تتكون من قبائل متمايزة لكل واحدة منها استقلال ذاتي. كما أن الدولة تفترض الحق العام والمجال العام، وفي المجتمع القبلي ليس هناك مجال عام. وطالما كانت السماء مفتوحة على الأرض والوحي يتنزل يومياً، والمقدس يتداخل مع البشري، فلا يمكن لدولة أن تنشأ، وهي تنشأ بعد أن تنغلق السماء وتستقل الأرض بنفسها وتصير في حالتها الاعتيادية. ولذلك فإن أحد أسباب غياب الدولة في النص القرآني هو النص القرآني نفسه، فقد نشأ في حالة اللادولة وافترضها، وبمجرد وجوده أعاد إنتاجها مرة أخرى وكان عاملاً في تجديد إنتاجها دوماً. إن المقدس يوقف عمل السياسة الاعتيادي لأنه استثنائي، وتبدأ السياسة بعده. من الطبيعي أن يكون تأسيس الدين حدثاً استثنائياً، لكن تأسيس دولة هو حدث اعتيادي وطبيعي، والاستثنائي لايؤسس للاعتيادي.
3) حوار النبي مع بيحرة من بني عامر بن صعصعة
في هذا السياق تحضرنا واقعة على جانب كبير من الأهمية والخطورة. عندما كان النبي في مكة قبل الهجرة، وبعد أن رفضته قريش، كان يعرض الإسلام على القبائل التي كانت تأتي لمكة للمتاجرة والحج. قابل رجلاً من بني عامر بن صعصعة، يسمى بيحرة بن فراس، وعرض النبي عليه الإسلام، فقال له بيحرة:
“أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟” رد عليه النبي: “الأمر لله يضعه حيث يشاء”، فقال له بيحرة: “أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك”[16].
الملاحظ أن المبايعة هنا سياسية وليست دينية وحسب. لقد امتنع النبي عن تحديد من يخلفه في هذه الفترة المبكرة من دعوته، فهذا الحوار يمس من يخلف النبي “أيكون لنا الأمر من بعدك؟”، أثناء الاتفاق على نصرته، ويبدو أن بيحرة من بني عامر كان أوضح وأكثر مباشرة من وفد الأوس والخزرج، فقد كان على وعي بمسأل السلطة في ذلك الوقت المبكر قبل أن تنفجر في السقيفة بعد وفاة النبي. وربما كان بيحرة يعلم أن قريش لن تترك هذا “الأمر” بعد وفاة النبي لغيرها تماماً كما حدث في السقيفة وكما حدث في التاريخ الإسلامي اللاحق. لقد قرأ بيحرة الهدف الحقيقي من الدعوة وهو تأسيس سلطة جديدة، ونظر إلى الإسلام على أنه مشروع سياسي، وكان يشعر أن مساندة النبي هي حرب على قريش، ومن حق المنتصر فيها أن يتولى الحكم فيما بعد. هذا المشهد يقدم لنا عقداً اجتماعياً في حالته النموذجية الخالصة، السابقة على تأسيس النظام السياسي والدولة، وقد رفضه النبي، “الأمر لله يضعه حيث يشاء”، لقد رفض النبي أن يفصل في مسألة انتقال السلطة من بعده حتى قبل أن تنشأ هذه السلطة، لأن الاتفاق كان في الأصل على نشأة السلطة. ونستطيع أن نفسر العبارة التي رفض بها النبي على أنها تعني الأمر في يد القوى الاجتماعية والصراع الاجتماعي التاريخي وحركة التاريخ وموازين القوى التي لن تتبين إلا في الوقت المناسب؛ “الأمر لله” تعني أن الأمر متروك لمسار التاريخ وصراع القوى وتفاعل الأحداث.
إن بيحرة يستبق السقيفة وكل ما حدث بعدها؛ لقد كان يتمتع بحس سياسي عالٍ للغاية لم يتوافر للكثير من معاصري محمد. وسؤاله للنبي: “أيكون لنا الأمر من بعدك؟”، سوف يصير محور الخلاف في السقيفة عندما سيقول الأنصار “منا أمير ومنكم أمير”، ورفض المهاجرون لهذا المبدأ، وقول عمر أن هذا “الأمر” لن يخرج من قريش، لأنه نشأ فيها أساساً. لم يقل النبي لبيحرة “الأئمة من قريش”. هذا السكوت عن من يخلف النبي أو عن اقتسام سلطة معه هو سكوت مقصود عن مسألة الحكم والسلطة والدولة، يوازيه سكوت القرآن القصود والذي ظهر في آيات كثيرة: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128)؛ ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُذَكِّرࣱ ٢١ لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ ٢٢﴾ (الغاشية)؛ والسيطرة هي الدولة، ﴿وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ﴾ (العنكبوت ١٨)، البلاغ المبين فقط، لا الحكم والسلطة. السلطة السياسية التي اكتسبها النبي كانت حالة خاصة جدا، استثنائية وخاصة به وحده، وظرفية، فقد أتت إليه وفق ظروف عصره ومجتمعه، وهي ليست من جوهر الرسالة، ولذلك سكت هو والقرآن عن من يخلفه. وأصر القرآن على السكوت عن مسألة الدولة والحكم وظل الأمر في حالة اللادولة، ولذلك كان سنداً لكل من حاول الاحتفاظ بحالة اللادولة طوال تاريخ الإسلام، مثلما ظهر مع الخوارج على مختلف فرقهم.
المراجع:
[1]) بيير كلاستر، مجتمع اللادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، الطبعة الثالث، ببروت 1991. بيار كلاستر ومارسيل، في أصل العنف والدولة، تعريب وتقديم علي حرب، دار مدارك للنشر، دبي، 2013؛ ماكسيم دي برونياز، “القانون والحرية في المجتمعات بلا دولة، قراءة في أعمال بيار كلاستر في ضوء مقاربة مجهرية للقانون. تعريب محمد الحاج سالم، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022؛ عبد الرحيم شنكاو، “بيير كلاستر ومجتمعات اللادولة – تقويض للمركزية الأوروبية وتكريس لأنثروبولوجيا سياسية بحس تعددي،”، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2022.
[2]) James C. Scott. Seeing Like a State: How Certain Schemes to Improve the Human Condition Have Failed. (New Haven: Yale University Press, 1998); Scott. The Art of Not Being Governed: An Anarchist History of Upland Southeast Asia. (New Haven: Yale University Press, 2009); James C. Scott. Against the Grain: A Deep History of the Earliest States. (New Haven CT: Yale University Press, 2017).
[3]) محمد الحاج سالم، من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2014.
[4]) James C. Scott. Seeing Like a State, p. 1.
[5]) Ibid, loc cit.
[6]) Scott. Seeing Like a State, p. 2.
[7]) سيرة عبد الله بن إباض إلى عبد الملك بن مروان، Abdulrahman Al-Salimi and Wilferd Madelung. Ibāḍī Texts from the 2nd/8th century. (Leiden: Brill, 2017), p. 16.
[8]) James C. Scott. Against the Grain: A Deep History of the Earliest States. (New Haven CT: Yale University Press, 2017), pp. 128ff.
[9]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004، المجلد الأول، ص 290.
[10]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004، المجلد الثاني، ص 17.
[11]) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص 187.
[12]) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، الصفحة نفسها.
[13]) المرجع السابق، ص 449.
[14]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، 2004، المجلد الأول، ص 151.
[15]) المرجع السابق، ص 152 – 153.
[16]) سيرة ابن هشام: ١/ ٤٢٥، وتاريخ الطبري: ٢/ ٣٥٠.