تكوين
توطئة:
كان عقد الأربعينيات يحمل دلالات عديدة، تركت آثارها على هامش الأحداث في مصر ومضامينها طيلة السنوات التالية، ارتكازًا على ما خبرته البلاد لحظة معاهدة عام 1936، الأمر الذي تستطيع أن تستند إليه بوصفه حدثًا مفصليًا له طابع التأثير في ملامح وبصمات حقيقية على وجه السياسة المصرية وتفاصيلها، التي كانت تسعى نحو بلوغ الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، حتى تكونت الثورة المصرية في 23 تموز (يوليو) عام 1952.
مَثَّلَتْ الأربعينيات بوصفها حقبة تاريخية في مصر جملة من الحقائق، يصعب تجاوزها إذ بدت الأزمة عميقة داخل حزب الوفد بفعل الشقاق العميق بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد، ولجوء الأخير لنشر مؤلفه: “الكتاب الأسود“، يفصلُ فيه بعض أوجه الفساد بحق النحاس وحكومته على هامش خلافهما، وكذا أحداث شباط الرابع من شباط (فبراير) عام ١٩٤٢، وجلوس الوفد على كرسي رئاسة الحكومة عبر الدبابات البريطانية، وأيضًا تكون مساحات واسعة من الجماعات الأيديولوجية التي تعكس وعيًا خاصًا وضيقًا بعيدًا عن إطار الجماعة الوطنية والهُوية الجامعة التي تكونت في إطار ثورة ١٩١٩، ليبدأ المجال عام يتعرف على تنظيمات أيديولوجية بعيدًا عن التجربة الحزبية المصرية، لا سيما في تلك الحقبة التي شهدت الاعتماد على حكومات الأقلية “القصر” وانزياح الوفد غير مرة من تجربة الحكم.
في الوقت ذاته بدت الكنيسة الأرثوذكسية تبحث مليًا نحو مسارات الخروج من الأزمة واندفع جيل مدارس الأحد في الانتظام والاحتشاد وراء هذه المنظومة لبعث واقع جديد هي الأخرى، مما كان له الأثر في ظهور النسخة الأولى من مجلة مدارس الأحد في شهر نيسان/أبريل من عام 1947، بمشاركة السيد نظير جيد “البابا شنودة“، بعدما كان انتظامه داخل حزب الكتلة الوفدية برفقة زعيم الحزب مكرم عبيد، وقبل انتهاء عقد الأربعينيات وتحديدًا عام 1949 تولي نظير جيد رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد، ليبدأ في التنقيب عن مسار اختمار الحلم.
جماعة الأمة القبطية
قبل انتهاء عقد الاربعينيات وتحديدًا في شهر شباط (فبراير) عام 1949، وفي مشهد جنازة زعيم جماعة الإخوان المسلمين، بدا الجميع متوافقًا مع عدم حضور تشييع جثمان زعيم جماعة الإخوان حسن البنا، سوى شخصين كان أحدهما إبراهيم فهمي هلال، والآخر كان مكرم عبيد.
الأول إبراهيم فهمي هلال، هو مؤسس جماعة الأمة القبطية. وفي لحظة تالية من أوراق التاريخ المصري دوَّن فيها ذاكرته المُثقلة بهموم الكنيسة ورؤيته للخلاص من مسار الأزمة، عبر تأسيس جماعة الأمة القبطية، إذ رفعت شعارًا دالًا ولافتًا في محتواه:
“الله ربنا، ومصر وطننا، والإنجيل شريعتنا، والصليب علامتنا، والقبطية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غايتنا”
دعت جماعة الأمة القبطية التي تأسست في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1951، إلى إحياء القومية القبطية، ومواجهة الفكر المُضاد للوحدة الوطنية والاتجاه المتشدد لجماعة الإخوان المسلمين. وفي سبيل تحقيق ما سعت فيه، حددت الجماعة أهدافها في عدد من النقاط كان أبرزها:
- التمسك بالكتاب المقدس، وتنفيذ جميع أحكامه عن طريق دراسة علمية حديثة، وأن يخرج منه بعلم بجميع فروعه.
- دراسة اللغة القبطية بطريقة علمية حديثة وإحلالها محل اللغات الأخرى، والتمسك بعادات (الأمة) القبطية وتقاليدها، ودراسة تاريخ (الأمة) القبطية، والتعامل على أساس التقويم القبطي.
- إصدار جريدة يومية وأسبوعية وشهرية تكون المميز القوي للدفاع عن (الأمة) القبطية، وبهذا يوجد الرأي عام القبطي.
- مطالبة الحكومة رسميًا بإنشاء محطة إذاعة خاصة بـ (الأمة) القبطية.
- الاهتمام بالدعاية محليًا ودوليًا لـ(الأمة) القبطية، والعمل لاحترام الكرسي البابوي وتكريمه.
الدولة ومفهوم الهُوية الوطنية:
ثمة سؤال محوري تدور حوله الدولة الوطنية الحديثة في بحثها عن سؤال الاستقلال، أن تُحافظ على وحدة الهُوية الوطنية وتماسك جماعاتها الفرعية داخل بنيتها الجامعة. بيد أن ضغط ظروف واعتبارات اجتماعية وسياسية وتاريخية، قد تدفع البعض منهم نحو هُوياتهم العقائدية، وتعزيز مؤسساتهم الدينية، حيث يلوذ كثير منهم نحو الأصولية، بوصفها ملاذًا آمنًا ومستقرًا من لحظات الاضطراب والتوتر وهواجس المراحل الانتقالية التي تعصف بأركان الدولة في مراحل تطورها.
كانت العقود التي سبقت تلك المرحلة، عقد الأربعينيات قد أسست وبالتزامن مع وقوع الاحتلال البريطاني لمصر، لتمركز الدين في مفاصل الدولة والمجتمع، وتوظيفه في صراعات وسياقات متفاوتة، ليُضحيَ مُحددًا للهُوية على حساب باقي مكوناتها الوطنية والقومية. تتكون الدولة في صورة جماعات متنوعة تتعدد: عرقيًا وثقافيًا ودينيًا. هذا التنوع الذي يفترض أن يُضفي الثراء على بوتقة الثقافة الوطنية، قد تؤدي عوامل كثيرة: محلية وخارجية، إلى تفجيره وتحويله إلى مصدر إثارة وقلق.
وبالقدر الذي تسمح به التناقضات الداخلية في المجتمع، وعدم تحقيق مصالح الأفراد والجماعات، يُمكن أن تنشأ أزمة وشرخ في الهُوية والمواطنية الكاملة لهذه الجماعات التي تتحول إلى طوائف لها خصائص سياسية واجتماعية، لا مواطنين متساوين في وطن واحد. ولذلك فإن قوة بُنيان المجتمع ككل إنما تكمن في وَحْدة تلك الجماعات في جماعة وطنية واحدة، لا سيما في تلك اللحظات الحرجة والمراحل الانتقالية، التي تمر بها أي أمة في تاريخها.
ثمة جماعة يُمكن أن تتعرض – دون غيرها بذات القدر– لكثيرٍ من الضغوط، الأمر الذي يجعل تلك الجماعة تتحمل كثيرًا من الآﻻم وتبدو عليها عديدًا من الأعراض، مما يسمح بأن يتكون على سطحها سمات الأزمة الكلية العالقة في جذور المجتمع، ما يساعد على تنمية الشعور بالاغتراب، والدفع بالانتماء داخل عمق الطائفة والأصولية الدينية، وتوسيع فجوة الانتماء الوطني.
الأقباط والانتماء الجامع
يُعد الأقباط المصريون نسيجًا أصيلًا في تركيبة المجتمع المصري، ولم تقدر التحديات الكثيرة التي مرت على المجتمع في تاريخه، أن تخصم من ذلك المصير الواحد، بيد أنّ عوامل كثيرة كان من بينها تنامي صعود تيار الإسلام السياسي، عبر مراحل تاريخية متتابعة، خاصّة المسار الذي رافق فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، وتزامن ذلك مع المرحلة الأولى من حبرية البابا شنودة الثالث بوصفه بطريرك، صاغت حاجزًا ضخمًا بين الأقباط ووجودهم الاجتماعي، كما أحدث ذلك شرخًا في مسار اندماج الأقباط داخل بنية الجماعة الوطنية المصرية، حتى بدت معها الصورة أحيانًا كأن الأقباط كُتلة واحدة متجانسة، ينفرد بالتعبير عنها صوت ومرجعية واحدة، تتمثل في البطريرك والمؤسسة الدينية الكنسية، مما زاد من حالة الاحتشاد القبطي خلف ومع البطريرك وعزلته داخل أسوار الكنيسة والدير.
مَثَّلَ ارتفاع منسوب الإسلام السياسي، عبر عقود متتابعة، منذ انخراط الإخوان المسلمون في العمل السياسي مع رسالة المؤتمر الخامس عام 1938، ومرورًا بكافة اللحظات الدالة، نحو تعميق وتجذير هذا الحضور في المجتمع، وما واكبه من إجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية دفعت المجتمع إلى تدبير احتياجاته بعد انزياح الدولة عن تأدية دورها طيلة عقود الانفتاح الاقتصادي، خاصة في عقود الثمانينيات والتسعينيات وما تلاها.
كان التنامي في مظاهر جماعات الإسلام السياسي وما رافقه لاحقًا من تنظيمات سلفية، أثرًا واضحًا في شكل الهُوية ومظاهرها في المجتمع المصري، وأن تبدو حالة التماهي في جماعات فرعية من داخل المجتمع واقعًا لا لبس فيه، الأمر الذي أنتج شكلًا واضحًا من تأميم الصوت القبطي داخل الكنيسة، وأن يُضحى البابا عمومًا والإكليروس خاصة هم من يُمثلون الصوت القبطي داخل حيز المسافة نحو الدولة.
رغم مركزية عامل صعود الإسلام السياسي في تقلص حالة الاندماج للجماعة القبطية، غير أنّ أشياء أخرى توالت عبر عديد من السنوات والظروف الاجتماعية والسياسية مرة في لحظات التأسيس لمشهد جديد في الوطن والكنيسة ومقعد الرئيس وكرسي البابا ومشهدية العلاقة بينهما نحو مظاهر التموضع داخل المؤسسة الدينية.
أحداث عام 2011 وسؤال الاستقرار
لم تكن لحظات الربيع العربي في عام 2011 لحظات تُعبر عن خريف أنظمة استقرت في عالمنا العربي في منتصف القرن الماضي، بل كانت تُعبر عن واقعًا سياسيًا جديدًا وشديد التعقيد يعصف بمنطقة الشرق الأوسط، ويعيد تهيئة الأمور وفق قيم ورهانات جديدة، من بينها الدين الذي طَفِقَ يتموضع بوصفه ركنًا رئيسًا.
رغم التحديات التي واجهت البابا شنودة الثالث وهو يتابع بقلق الصعود المتنامي لجماعات الإسلام السياسي منذ سنوات السبعينيات، وتكرار الأحداث التي استهدفت الأقباط، إلا أنها لم تكن بضخامة التحديات التي كان عليه أن يواجهها في الشهور القليلة التي سبقت رحيله في شهر آذار مارس عام 2012، إذ كانت حالة السيولة في المجتمع بلغت درجتها القصوى ولم يكن ذلك بعيدًا عن الجماعة القبطية أيضًا.
على أية حال كان صعود جماعة الإخوان إلى كرسي الرئاسة وتتابع الأحداث الإرهابية التي سعت في النيل من استقرار المجتمع والدولة المصرية، سوى محاولة جادة لإحلال جماعة الأقباط من المجتمع المصري، وسحب هذه الجماعة داخل مرحلة التمرد ضد قيادتها الكنسية مرة، ومن ثم ضد الدولة مرة أخرى.
حبرية البابا شنودة .. ركائز ثلاث
ينبغي النظر إلى مسيرة البابا شنودة الثالث بوصفه بطريرك، وما قبله بوصفها أُسقفًا عامًا للتعليم من طريق حبرية البابا كيرلس السادس عبر ثلاث ركائز:
- الركيزة الأولى
ما عاصره من نكوص للكنيسة القبطية، بعد وفاة البابا كيرلس الخامس 1927 وتعاقب ثلاثة بطاركة على الكرسي البابوي، وسط صراعات كنسية عنيفة وفراغ للكرسي البطريركي هزت المشاعر القبطية واستدعت الرؤى الاصلاحية، في الشباب القبطي الذي وقر في يقينه حينها أن لا صلاح إلا بدخول عالم الإكليروس، ولن يحدث ذلك سوى بالتمترس وراء أسوار الرهبنة، ومن طريق ذلك عرفت الكنيسة القبطية جيل الرهبان الجامعيين الذين دخلوا من أجل خلاص الكنيسة، وتجاوز أزمتها في سنوات متقاربة بدت اللحظة الأولى منها في عقد الأربعينيات.
- الركيزة الثانية
تميز بها نظير جيد –الأنبا شنودة– عن غيره من جيل الرهبان الجامعيين وهو خبرته في العمل السياسي، ومرافقته للسياسي المصري العتيد مكرم عبيد، والتحاقه بصفوف حزب الكتلة الوفدية، ولولا أن خلاص الكنيسة كان هدفه الأول، لكنا أمام سياسي بارع وقدير فضلًا عن ممارسته للعمل الصحفي من طريق رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد. ومن هنا جاء تفرده بين جيله، إذ كان دخوله عالم الرهبنة في مطلع عقد الخمسينيات وبعد كل ما خبره في فضاء العمل عام سواء عبر العمل السياسي والصحفي أيضًا.
- الركيزة الثالثة
قد خبرها البابا شنودة وكان لها تأثيرًا كبيرًا على مجريات أمور الكنسية وردود فعلها، من طريق مواقف عديدة في ملف علاقتها بالدولة، هو صعود تيارات الإسلام السياسي منذ منتصف السبعينيات، وطيلة العقود التالية التي شهدت موجات عنف ضد الأقباط فيما يخص سلامة حياتهم وأملاكهم.
تلك الركائز الثلاث صاغت فكر البطريرك، مرة، فيما يخص فكره الكنسي، لاهوتيًا، وأخرى في علاقته بالدولة، وكيف يكون السبيل نحو إدارة ملف العلاقة بين الكنيسة والدولة، وكيف يحافظ على الأقباط المصريين داخل حدود الكنيسة الأرثوذكسية، وأن يظل محتفظًا بكافة خيوط قيادته للأقباط، ومن ثم يظل هو الصوت الوحيد الذي له حق التحدث فيما يخص شؤونهم مع الدولة.
وعبر تلك الركائز تستطيع وبجلاء تام أن تقرأ مسيرة البطريرك الراحل، منذ سيامته أسقفًا للتعليم عام 1962، وعلاقته بالبابا كيرلس السادس وصراعاته مع أبناء جيله، الأنبا غريغوريوس على خلفية أنه ينازعه أسقفية التعليم، عندما سيم أُسقفًا للبحث العلمي، والقمص متى المسكين على وقع الخلاف اللاهوتي فيما بينهما، وكذلك إدارة ملف الكنيسة والأقباط مع الدولة المصرية، خاصة وأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية واحدة من أهم المؤسسات الدينية في مصر والشرق الأوسط التي تُعبر عن الأقباط المصريين الذين يُعدون أكبر تجمعٍ مسيحي في الشرق الأوسط.
حبرية البابا شنودة.. مراحل ثلاث:
ومن طريق ذلك لا يمكن النظر أو التدقيق والبحث في حبرية البابا شنودة التي تجاوزت الأربعين عامًا، بوصفها مرحلة واحدة تُمثل رؤية منسجمة للبطريرك وعلاقته بالدولة والرئيس، بل يجب التعامل معها بوصفها مرت بثلاث مراحل: الأولى، تبدأ مع جلوسه على كرسي البابوية وحتى منتصف السبعينيات. وتستمر الثانية، حتى خروجه من الإقامة الجبرية بدير الأنبا بيشوي مع مطلع عام 1985 في أثناء حكم الرئيس الراحل حسني مبارك. في حين تستمر الثالثة، حتى نياحته -وفاته – مارس آذار عام 2012.
- البابا شنودة الثالث.. من دير السريان إلى كرسي البابا
ولد نظير جيد –البابا شنودة الثالث – عام 1923 وتخرج في كلية الآداب والكلية الإكليريكية عام 1947، ومن طريق ذلك وقر في يقين الشاب نظير جيد أن المؤسسة الدينية -الكنيسة- تحتاج إلى رؤية إصلاحية، ولن يتأتى ذلك سوى من داخل المؤسسة، مما يستوجب معه أن يلتحق برجالها، وذلك لن يتم سوى من طريق الدخول في عالم الرهبنة وهو ما تحقق بالفعل عام 1954.
مع شهر نيسان (أبريل) عام 1947، اشترك نظير جيد مع عدد من زملائه وبموافقة الأرشيدياكون حبيب جرجس، في تأسيس مجلة مدارس الأحد، التي أصبح رئيسَ تحريرها فيما بعد، وانطلق يؤطر رُؤاه الإصلاحية من طريق مقالاته وصياغاته الفكرية، التي مَثَّلت ملمحًا جديدًا في مسار الكنيسة الأرثوذكسية. لم يكن نظير جيد في تلك المرحلة وحيدًا، بل كان معه عدد من الشباب الذين شغلهم حال الكنيسة، الذين سعوا إلى وضع بصماتهم في تعديل مسار الكنيسة وإصلاحها من الداخل، وكان أبرز شباب هذا الجيل: الأب متى المسكين والأنبا غريغوريوس والأنبا صموئيل وغيرهم، وكانوا جميعًا من رواد مدرسة الأحد، وتبوئوا فيما بعد الرتب العليا في الهرم الكنسي “أساقفة عموميون” إبان حبرية البابا كيرلس السادس.
مع عام 1962 سيم البابا شنودة أسقفًا للتعليم والمعاهد التعليمية، مما سمح له أن يضع اللبنات الأولى لبناء فكره الإصلاحي الذي انطلق من نقطة التعليم، وقد أصبح أسقفًا عامًا له، ويتبعه كافة المعاهد التعليمية الكنسية، وأضحى في تلك اللحظة يُدشن أفكاره ويُضخها في أوردة الأقباط وشرايينهم.
يتميز شهر آذار (مارس) في دفتر أحوال الكنيسة القبطية بأنّه الشهر الذي شهد غياب البابا كيرلس السادس عام 1971، وهو الشهر نفسه الذي غَيَّبَ الموت فيه البابا شنودة الثالث عام 2012، وفي هذين التاريخين امتدت حبرية البابا شنودة، لتشهد مسيرته في قيادة الكنيسة القبطية من طريق عدد من المتغيرات أبرزها: صعود تيار الاسلام السياسي في مطلع السبعينيات، وتزايد تمركزه في الشارع المصري مع النصف الثاني من السبعينيات، مما ترك ظلالَ ذلك على الواقع المصري عمومًا وعلى ذهنية الأقباط بخاصة.
لما كان مطلع السبعينيات قد شهد أحداث الخانكة ورد فعل البابا شنودة الثالث، فقد تركت منذ اللحظة الأولى آثارها على نفوس الجميع وعقولهم، وكونت نقطة البدء في مسيرة الصدام بين الكنيسة والدولة، حتى قرارات أيلول سبتمبر 1981. وتظل الفترة منذ صدور قرارات سبتمبر 1981 وخروج البابا من دير الأنبا بيشوي ديسمبر كانون الأول 1984، من الفترات الغامضة في تاريخ الكنيسة المصرية التي تركت آثارًا كثيفة في البابا شنودة الثالث، وصاغت رؤيته في قيادة الكنيسة واختياراته في القيادات التي سوف تعاونه في إدارة شؤون الكنيسة.
مع مطلع عام 1985 وحتى وفاة البابا شنودة الثالث 2012، كونت المساحة التي تتيحها الدولة المصرية للبطريرك في إدارة شؤون الكنيسة والأقباط، والتعبير مُنفردًا عن شؤون الأقباط وأحوالهم مُتغيرًا رئيسًا في شكل علاقة الدولة بالكنيسة الارثوذكسية وملامحها، وفرضت على البابا عددًا من الآراء السياسية صنعت الخروج الأول للأقباط عن إرادة الكنيسة والبطريرك وبخاصة مع أحداث 25 يناير كانون الثاني 2011.
- من نظير جيد إلى البابا شنودة.. مسارات متشابكة
ربما وجب الانتباه إلى مقولة الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق عن أنّ حزب الوفد أضحى بعد إتمام معاهدة 1936 حزبَ الثروة ، وهي مسألة جديرة بالملاحظة والتتبع، لتَعَقُّد القضية الوطنية، وصولًا إلى اندلاع ثورة 23 يوليو 1952، مرورًا باندلاع الحرب العالمية الثانية وآثارها في السياسة المصرية، وصراع القصر والوفد الذي نال سهمًا نافذًا بأحداث 4 فبراير 1942، ما سحب من رصيد حزب الوفد الكثير، وطرح فرضيات جديدة على هامش تَعَقُّد القضية الوطنية.
كان خروج الوفد من الحكومة عام 1944 واستجابة المحتل البريطاني لرغبة القصر بتولي حكومات الأقلية وقدرتهم على استقرار الأمور وهزيمة حرب 1948، عجلت بتكون ملامح القوى الصاعدة في المجتمع المصري، وبلورة حلٍّ لإزاحة القصر والاحتلال من طريق تنظيم الضباط الأحرار الذي تكون من طريق عدد من الضباط الوطنيين ممن التحقوا بالكلية الحربية عبر متغيرات الحقتها معاهدة 1936 وظروف الحرب العالمية الثانية، فقد سُمح لجيل جديد ومختلف يلتحق بالجيش، مع بداءة الأربعينيات ويتفاعل مع ظروف الحالة المصرية وسياقاتها، ودفعت الأمور نحو تجاوز خريف القصر وانفجار الثورة ليلة 23 تمّوز (يوليو) 1952، ليتولى أبناء جيل جديد ظهروا في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، على مقاعد القيادة في لحظة حرجة يتكون فيها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وعبر مطالعة الأعداد التي ظهرت لمجلة مدارس الأحد في النصف الأخير من الأربعينيات، وقبل انتظام الأستاذ نظير جيد –البابا شنودة– في عالم الرهبنة ومطالعة القضايا التي طرحتها المجلة بكل جرأة ورغبة جامحة، في تجاوز محنة الكنيسة يُرْسُخ في يقينه أنّ ثمة جيل مختلف يطرق باب الإصلاح للكنيسة الأرثوذكسية، وأنّه أوشك أن يعبر جسر الإصلاح ويستقر.
وتأتي افتتاحية المجلة في عددها الأول لتشير إلى منهاج عملها “لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدىً لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع”، وأن جُملة من السمات المشتركة صاغت أفكار هذا الجيل ورؤاهم الفكرية، ودارت بخصوص الحلم بنهضة الكنسية وذلك من طريق نظرتهم التي تركزت في ضرورة الإصلاح من أعلى، ومن ثم فلا غرابة أن يأتي شعارهم فيما بعد “الراعي الصالح هو الهدف، والكلية الإكليريكية هي الوسيلة، هذه مطالبنا في الإصلاح”.
يذهب كمال زاخر -الكاتب القبطي- إلى أنَّ مجلة مدارس الأحد التي أسهم فيها الأستاذ نظير جيد -البابا شنودة- بنصيب وافر قبل أن يجلس على كرسي رئيس التحرير، بالإضافة إلى وهيب عطا الله -الأنبا غريغوريوس- وسليمان نسيم، سمحت على مدى أعداد كثيرة بفتح قضية بالغة الأهمية: وهي عملية اختيار البطريرك فقد كانت على رأس القضايا التي تؤرق مجموعة شباب مدارس الأحد في الفترة، بين عامي 1947 و1954.
وقد يُفسر هذا التوجه ويدعمه فشل محاولة الدفع باسم الأستاذ حبيب جرجس للرسامة أسقفًا للجيزة والقليوبية عام 1949، بعد نياحة مُطرانها الأنبا إبرام، فقد تصدى الحرس القديم من المطارنة والأساقفة وقتها لهذه المحاولة بضراوة، رغم أن الاستاذ حبيب جرجس كان مشهودًا له من الآباء، لكن أصر البابا يوساب الثاني على عدم الاستجابة لمطلب شباب مدارس الأحد، ورسَّم أحد الرهبان وكان يشغل منصب سكرتير البابا، القمص ماتياس الأنطوني، باسم الأنبا يوأنس، وقد أثارت تلك الحادثة وقائع عنف على خلفية إصرار الأنبا يوساب تجاوز الأستاذ حبيب جرجس، وتظاهر شباب مدارس الأحد وقت سيامة مطران الجيزة، الأنبا يوأنس وهم يرددون: “نريد رعاة صالحين، أين انت يا مارمرقس؟ أين أنتم يا شهداء؟[1]
كما هاجمت المجلة بشدة سيطرة المجلس المِلِّي على شؤون الكنيسة، مُشيرة إلى أن وضع المجلس المِلِّي وقتها غير كنسي ولم يحدث في تاريخ الكنيسة، فيما استمر أبناء هذا الجيل وبخاصة الأستاذ نظير جيد -البابا شنودة- في أعداد مجلة مدارس الأحد، ميدان الثورة، ترفع شعار الإصلاح وتكتب سطور المواجهة من أجل خلاص الكنيسة وبعثها، وتصدرت عبارة رسالة البعث الجديد أغلفة المجلة، فضلا عن صورة السيد المسيح وهو يحمل السياط لطرد المتطفلين الذين دنسوا الهيكل[2].
عام ١٩٥٤.. مسارات الثورة والإصلاح
كان عام 1954 ليس كمثله من الأعوام، منذ أن قامت ثورة 23 تمّوز (يوليو) 1952، ففيه تجاوز جمال عبد الناصر كل تناقضات ثورته، أقصى محمد نجيب، واستطاع بعد حادثة المنشية أن يقبض أنفاس جماعة الإخوان، ويقيد حريتهم وحركتهم بالقبض على الآلاف منهم، واستطاع من طريق تفاعلات ذلك أن ينفرد بحكم مصر، ولا ينازعه فيه أحد حتى لحظة وفاته في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970.
وفي ذات عام 1954 وقعت حادثة اختطاف البابا يوساب الثاني، على يد أربعة شبان قائدهم محام إبراهيم فهمي هلال، ينتمون إلى جماعة الأمة القبطية، واستطاعوا اختطاف البابا من مرقده بغرفة نومه، وانتقلوا به إلى دير وادي النطرون، بعدما وقع على أوراق تنازله على العرش البابوي.
مع النصف الثاني من عام 1954، قرر الأستاذ نظير جيد الالتحاق بعالم الرهبنة، بوصفها البوابة الواقعية لبلوغ سبيل إصلاح الكنيسة من عثرتها، التي يعُدها أبناء هذا الجيل تمركزت مع عام 1928 بعد نياحة -وفاة- البابا كيرلس الخامس، وعبر ثلاثة آباء بطاركة يعدهم أبناء جيل الرهبان الجامعيين قد سطروا ملامح أزمة الكنيسة الأرثوذكسية في مخالفة تقاليد سيامة المناصب الدينية، فقد عَرَّضوا الإيمان الأرثوذكسي لخطر التشتت لصالح المذاهب الأخرى، ومن هنا جاءت أفكارهم الثورية في الإصلاح طيلة أواخر الأربعينيات وبداءة الخمسينيات، اللحظة التي قرروا فيها تبوأ المناصب الدينية، عبر طقس الكنيسة المميز -الرهبنة- وقد مارس هؤلاء الرهبان كل ما يمكن من آليات التأثير ومواقع الضغط، حتى جلس البابا كيرلس السادس على كرسي البابوية عام 1959-1971.
وبعد أعوام قليلة قرر البابا كيرلس السادس أن يستعين بهؤلاء الرهبان في قيادة الكنيسة، عبر سيامتهم أساقفة عموم دون إيبارشيات، ومن طريق ذلك أضحى الأنبا شنودة أُسقفَ التعليم والمعاهد التعليمية بالكنيسة الارثوذكسية، وأـسس تقليدًا عُرف بدرس الجمعة، وكان مَحطَّ إعجاب الشباب القبطي، وسَجلت تلك الدروس حضور عديدٍ من الأقباط للاستماع إلى دروس الأنبا شنودة أسقف التعليم، الذي أرسى في تلك الفترة ما بين سيامته أسقفا للتعليم وحتى جلوسه على كرسي البابوية 1971 كثيرًا من آرائه الاصلاحية وبعض الإيماءات السياسية، التي لم يرتاح لها البابا كيرلس السادس، فقرر على إثر ذلك إعادة الأنبا شنودة إلى الدير مرة أخرى، كما أصدر الأنبا شنودة مجلة جديدة ورأس تحريرها باسم مجلة الكرازة، وظلت تصدر حتى أكتوبر 1967 وتوقفت إثر الصدام بين البابا كيرلس السادس وأسقف التعليم البابا شنودة، ولم تعد المجلة إلا بعد جلوسه على كرسي البطريرك، وكذلك القمص مكاري السرياني –الأنبا صموئيل– أسقف الخدمات العامة، ليضع البابا كيرلس السادس أقدام هذا الجيل على أعتاب القيادة الكنسية، ويضع سؤال الإصلاح والتغيير بين أيديهم.
لكن واحدًا من هؤلاء الرهبان الجامعيين آثر أن يظلَّ في الدير، ولم يصبح مثل بقية زملائه أُسقفًا بغير إبراشية محددة، اسمه يوسف إسكندر، وكان حاصلًا على بكالوريوس الصيدلة، واختار لنفسه بعد رسامته راهبًا اسم متى المسكين، وقد استقر في دير القديس أبو مقار، فقد استطاع تحويل هذا الدير إلى منشأة إنتاجية كبيرة، من طريق استصلاح أراض الدير وما أضافه من معدات، ولم يعد دير أبو مقار مكانًا للعبادة قط، ولا منشأة إنتاجية ضخمة لا يستهان بها فحسب، لكنّه أصبح نقطة مؤثرة وكتلة نافذة في قلب الكنيسة وعقل البطريرك البابا شنودة الثالث.
كان الخلاف هو عنوان العلاقة بين ثلاثة أطراف رئيسة وفاعلة في الكنيسة الأرثوذكسية: البابا كيرلس السادس والأسقف شنودة والقمص متى المسكين، إذ تَمَثَّلَت رؤية الأنبا شنودة في مؤسسة الكنيسة بوصفها مؤسسة شاملة تحمل كافة الإجابات عن أسئلة الدنيا والدين، وأنّ البطريرك يحمل تبعات ومسؤوليات السلطة الزمنية والروحية، سياسية ودينية، في حين كانت رؤية الأب متى المسكين تتركز في أن الكنيسة على مر العصور أضحت ناجحة في تأدية وظيفتها قدر حرصها على الابتعاد عن أمور السياسة، وكان على البطريرك كيرلس السادس حينها أن يتعامل مع أتباعه الأساقفة، وهم يحملون رؤيتهم وأفكارهم، وعلى هذا كاد البطريرك أن يخرج الأنبا شنودة إلى دير وادي النطرون، لولا الثورة واغضب اللذان دبَّا في أوساط الشباب، فقد رجع على إثرها الأنبا إلى القاهرة، وكذا فعل البطريرك مع متى المسكين حين أمره أن يخرج من الدير ويهيم على وجهه في الصحراء، حتى توسط في الأمر بعض رجال الدين، وعاد الأب متى المسكين إلى ديره مرة أخرى.
البابا شنودة.. طريق نحو الله
كانت لائحة انتخاب البطريرك التي صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1957 تستند إلى هدف أصيل، هو تجاوز قوى الرهبان الجدد الذين يعتمدون على جماعات ضغط تمثلت في شباب مدارس الأحد وفروعها التي انتشرت في أكثر من محافظة، ويهدفون إلى تجاوزهم بوصفهم مرشحين ومنعهم حق الانتخاب، خاصة بعد أن رشحت الجماهير ثلاثة من الرهبان الجامعيين: الأب متى المسكين والقمص مكاري السرياني -الأنبا صموئيل– القمص أنطونيوس السرياني -الأنبا شنودة-
وعلى خلفية ذلك نَصَّت اللائحة أن يكون المرشح البطريركي قد بلغ من العمر أربعين عامًا ميلادية على الأقل عند خلو الكرسي البابوي، وأن يكون قضى في الرهبنة عند ذات التاريخ مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة، وبالطبع لم تكن تلك الاشتراطات تتوافق مع أبناء هذا الجيل، وبعد وفاة البابا كيرلس السادس 1971، كان الرهبان الجامعيين فد وصلوا أو تجاوزوا الأربعين ولو قليلًا، واستنادًا إلى لائحة 1957 والتعديلات التي تمت في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1971، اُختير البابا شنودة الثالث بطريركًا للكرازة المرقسية، في نوفمبر 1971 بواسطة القرعة الهيكلية.
وهكذا مع نهاية عام 1971 كانت مصر تشهد جلوس رئيس جديد –محمد أنور السادات – وبطريرك جديدًا البابا شنودة الثالث. ويشير محمد حسنين هيكل في كتابه: “خريف الغضب” إلى رواية لقاء حضره بالمصادفة في بيت الرئيس بحضور السيد وزير الداخلية وقد جرى في تلك الجلسة مناقشة اسم البطريرك الجديد واحتمالات اختياره، وكانت المناقشة تدور حول اثنين من الرهبان أحدهما من الجيل القديم والآخر من الجيل الجديد، وكان هو البابا شنودة وبدا أن الوزير يرحب باختيار البابا شنودة، ويُضيف هيكل أن مجريات النقاش بدت أن الرئيس يميل إلى رأي وزير الداخلية في الموافقة على البابا شنودة، وهو ما حدث عند إتمام طقس القرعة الهيكلية[3].
ربما اللحظة التي حملت البابا والرئيس لمنصب القيادة السياسية ومنصب القيادة الدينية للأقباط الأرثوذكس، لم تكن لحظةً عاديةً في التاريخ المصري، فمن جهة كانت تلك اللحظة مُعبأة بحمولة كاملة من المحبة والإعجاب المُفرط بشخصية البابا الجديد وآراءه، من لحظة سيامته بوصفه أُسقفًا للتعليم. ومن جهة ثانية، كان الرئيس يواجه رياحًا عاتية من قوى وشخصيات ترى فيه غير جدير بالمنصب، وتعصف باستقراره على كرسي الرئاسة. ومن جهة ثالثة، كان المشهد بكافة تفاصيله على أهبة الاستعداد لوقائع وطقوس أخرى لم تعرفها البلاد طيلة عقود عبد الناصر وكيرلس السادس، ومن ثمَّ أضحى المسرح كاشفًا أضوائه بدرجة باهرة إلى الحد الذي أتاح قراءة أيسر لما هو قادم، وباتت تفاعلاته أقرب إلى يقين الاستنتاج من احتمالات التأويل.
مساحة التناقضات بين طبيعة السلطة السياسية لمنصب الرئيس وما تحمله فرص الإزاحة واحتمالات الصراع على المنصب، استنادًا لثقل مراكز الضغط، وكذا الظرف السياسي الذي كانت تواجهه البلاد في حسم قرار الحرب وقدسية المنصب الديني وتقاليد الكنيسة الأرثوذكسية التي تؤسس لأبدية المنصب، طالما بقي البطريرك على قيد الحياة، حسمت لحظة الاشتباك الأولى –حادث الخانكة– بينهما حين صاغ البابا رؤيته وملامح ردود فعله التي بدت عنيفة وغير متوقعة.
استطاع الرئيس السادات وبعد شهور قليلة من توليه منصب الرئيس، أن ينتصر في أولى معاركه ويزيح رجال عبد الناصر، الذين رأى السادات أنّهم يمارسون الضغط عليه ويخضعوه لإرادتهم، إلا أنّ الرئيس السادات استطاع أن يعزلهم من طريقه وينفرد بالحكم، فأودع سامي شرف وعلى صبري وشعراوي جمعة وآخرين في السجن، وأرسل بنجاح رسالته الأولى لحلفائه الجدد. كانت تلك القرارات محل اهتمام الجميع، وكانت موسكو تحاول أن ترصد ما يجري في القاهرة، وما هو مدى تأثير تلك القرارات على علاقات موسكو بالقاهرة، وتكشف الوثائق الأمريكية أنّ أحداث مايو 1971 أحدثت صدمة لموسكو تقترب من صدمة الموت المفاجئ لجمال عبد الناصر في أيلول (سبتمبر) 1970، حتى وصلت الأمور إلى لحظة قرار السادات بطرد الخبراء الروس من البلاد.
وجاء اعتصام الكعكة الحجرية بميدان التحرير عام 1972 الذي نظمه عدد من اليساريين والناصريين والمثقفين والذي استمر لمدة ثمان وأربعين ساعة، مما دفع قوات الأمن في ذلك الوقت إلى التدخل واقتحام الميدان، وتفريق المعتصمين وإنهاء الأزمة التي هددت استقرار حكم السادات، ليمثل ذلك ذروة التوتر والقلق من الحركات الطلابية اليسارية، وكانت الضرورة مُلحة أن يُوصل إلى صيغة موازية تُبدد هذا القلق وتقضي عليه. بدت ملامح توجهات الرئيس السادات واضحة حينما ظهرت انحيازاته للتوجه نحو المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والإفراج عن قيادات الأخوان المسلمين وعودة القيادات التي خرجت مع أحداث عام 1954، وبدا أنّ القضاء على المشروع القومي وأفكار المعسكر الاشتراكي، سوف يُودع لمهام الإسلام السياسي بمسؤولية مباشرة من الدولة.
وعن ظهور الجماعات الإسلامية يكتب مصطفى كمال مراد رئيس حزب الأحرار: “بدأ ظهور الجماعات الاسلامية عام 1972، إثر اجتماع عقده الرئيس السادات في قاعة اللجنة المركزية مع رؤساء اللجان الدائمة بمحلس الشعب، على خلفية المظاهرات الصاخبة التي قام بها الطلاب احتجاجا على سياسة الحكومة، وأن بعض الأعضاء مثل: عثمان أحمد عثمان، ومحمد عثمان إسماعيل، اقترحوا إنشاء تنظيم للجماعات الاسلامية في الجامعات ليكون ردَّ فعل للتيارات اليسارية”.
بيد أن مصادر أخرى ذهبت إلى أنّ ثمة لقاءات تمت عقب وفاة عبد الناصر مباشرة، بين السادات وعدد من قيادات الأخوان المسلمين، لترتب عودتهم إلى الحياة السياسية مرة أخرى، وقد أشار محمد حسنين هيكل إلى اجتماع تم بجناكليس بالإسكندرية، وترتب على ذلك الاجتماع الإفراج المرحلي عن قيادات الجماعة، وتخفيف إجراءات السجن على من سيبقى منهم ونقلهم إلى مستشفيات تابعة للسجون، حتى يسهل اللقاء معهم وترتيب أمر عملهم بعد الإفراج، الذي تمّ بطريقة كاملة عقب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973.
ثمة ملابسات طالت العلاقات فيما بين الأنبا شنودة والأب متى المسكين، وكذا بين الأنبا شنودة والأنبا غريغوريوس، في النصف الثاني من الستينيات، مما ألقى بظلال تلك الاشتباكات بعد جلوس البابا شنودة الثالث على كرسي البابوية على المشهد القبطي وتفاعلاته مع الواقع المصري، وبخاصة أنّ البابا كيرلس السادس كان رجل صلاة ومعجزات ويتمتع بصفات رُوحية، فاتسمت علاقة الكنيسة بالدولة وعلاقته بوصفه بطريرك بالرئيس جمال عبد الناصر بالود والثقة المتبادلة.
وكان نتيجة ذلك ترسيخ رؤية واحدة أفادت الكنيسة القبطية، وهي رؤية البابا شنودة الثالث التي تؤكد شمولية الفكر المسيحي، وأن الكنيسة لها أن تتولى دورًا سياسيًا، وعليها أن تطرح حلولًا فيما يتعلق بكافة جوانب الحياة، وتموضعت تلك الرؤية ومضت في طريقها وحيدة بعد استبعاد رؤى المدارس الأخرى التي كانت ترى أن الكنيسة مؤسسة دينية عليها أن تهتم بالتعليم وتثبيت العقيدة فحسب.
جاءت محددات المرحلة الأولى من حبرية البابا شنودة الثالث من طريق مرتكز مهم تمثل في محاولة الرئيس السادات امتصاص كل ردود الفعل التي خرجت من الكنيسة والبابا صوب الأحداث التي بدت أنّها تمثل خطر حقيقي على الأقباط، وتجلى ذلك عند وضع الدستور الدائم بعد أحداث الخامس عشر من آيار/مايو 1971، حين نصت مادته الثانية على عد الشريعة الإسلامية مصدرَ للتشريع، في مقابل قيام رجال الدين المسيحي بعقد مؤتمر يومي 17 و18 يوليو تموز 1972ـ وأعربوا في قراراتهم عن أهمية حماية حقوقهم وعقيدتهم المسيحية، وأنّه دون ذلك يكون الاستشهاد أفضل من حياة ذليلة.
على خلفية ذلك واستنادًا لفرضية توجه الرئيس والدولة في تلك المرحلة إلى مبدأ امتصاص ردود الفعل الغاضبة، دعا السادات المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي بهدف بحث موضوع الوحدة الوطنية وما يعتريها من مخاطر في تموز يوليو 1972، وتم إقرار القانون رقم 34 لسنة 1972 بشأن حماية الوحدة الوطنية، وذهب القانون إلى أن الوحدة الوطنية هي القائمة على احترام المقومات الأساسية للمجتمع كما حدّدها الدستور ومنها: حرية العقيدة وحرية الرأي بما لا يمس حريات الآخرين، أو المقومات الأساسية للمجتمع[4].
مضى الرئيس السادات قُدمًا في طريقه الجديد، سياسيًا، توجه بعلاقات كاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، برعاية وزير الخارجية هنري كسينجر، وبدأت مع اتفاقيات فض الاشتباك التي تلت الحرب مباشرة، واقتصاديًا تجلت بصدور القانون 43 لسنة 1974 والخاص باستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، واستمرت آليات التغيير الهيكلي للاقتصاد المصري، وفتح الباب للاستثمار الخارجي، وسمحت قرارات تصفية الحراسات حشد مصالح فئات وطبقات جديدة في المجتمع المصري، الأمر الذي أحدث جملة من التغييرات الاجتماعية والاقتصادية، التي طرأت على أوضاع المجتمع المصري وتركت آثارها في البنى الجديدة.
المرحلة الثانية من حبرية البابا شنودة
على خلفية تلك الأحداث التي شهدت تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية، تأتي المرحلة الثانية من حبرية البابا شنودة الثالث، ومع مطلع عام 1977 اندلعت مظاهرات الخبز في الثامن والتاسع عشر من يناير؛ احتجاجا على قرارات الحكومة المصرية بعد رفعها أسعار بعض السلع الأساسية؛ استجابة لمطالب البنك الدولي، مما أدى إلى فزع الرئيس السادات وهو في استراحته الرئاسية بأسوان، عندما ردد المتظاهرون شعارات تنادي بسقوط حكمه، في هذه الأثناء تقدم الأزهر بمشروع قانون لإعدام المرتد وإقامة الحدود إلى مجلس الشعب لإقراره، ونتيجةً فعل ذلك دعت الكنيسة إلى عقد مؤتمر ديني مسيحي بالإسكندرية، وقرر المؤتمر توصية تنفيذية يقوم المواطنون المسيحيون بمقتضاها بالصوم الانقطاعي، في الفترة من 31 كانون الثاني (يناير) وإلى 2 شباط (فبراير )1977، وقد احتوى الأمر ظاهريًا أحداث انتفاضة كانون الثاني (يناير) 1977.
جملة من المتغيرات طرأت على الكنيسة القبطية، من لحظة خروج عدد من الأقباط المصريين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا منذ منتصف الخمسينيات، وتزايد وتيرة الخروج مع السبعينيات وتعاظم نشاط الإسلام السياسي، وانفتاح الكنيسة القبطية على الكنائس الأخرى من طريق مجلس الكنائس العالمي، ووصول أصوات هؤلاء الأقباط الذين استقروا في الخارج وبدأوا يتفاعلون مع مُجريات الأحداث، وبدا ذلك مُؤثرًا في لحظة فارقة لمشروع السادات الرئيس، عندما وصل رئاسة الجمهورية عدة مذكرات من الرعايا الأقباط في الولايات المتحدة وكندا بتاريخ 11 شباط (فبراير) عام 1977، ومن أستراليا إلى رئيس مجلس الشعب في 9 ايار (مايو) 1977، وكلها تدور حول المحاور ذاتها التي جاءت في بيان الإسكندرية، الأمر الذي أنتج وربما للمرة الأـولى “مسألة قبطية ” في الإعلام الخارجي، وأصدرت مجلة متخصصة صدرت بالفرنسية في باريس تُدعى العالم القبطي، أشارت في افتتاحيتها إلى أنها تستهدف خلق حلقة وصل بين الأقباط المُشتتين في العالم[5].
مع مطلع عام 1977 جلس رئيس جديد في البيت الأبيض هو جيمي كارتر، وبعد شهور من تنصيبه كانت ثمة زيارة للبابا شنودة الثالث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وجرت الأمور على نحو ترتيب لقاء بين الرئيس الأمريكي والبابا وذلك في النصف الثاني من شهر نيسان (أبريل) 1977 بطلب من الإدارة الأمريكية، ويُعد هذا اللقاء الأول بين رئيس امريكي وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، وقد ارتاب البابا من طلب المقابلة، وطلب من السفير المصري شريف غربال حضور اللقاء، ليكون شاهدًا على تفاصيله، إلّا أنّ الأمر برمته لم يرتح له السادات.
عندما وقع الرئيس السادات اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عام 1978، وقد نَصَّت على إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية بين البلدين، مما ترتب عليه تطبيع العلاقات بين البلدين، جاء قرار البابا شنودة الثالث بمنع سفر الأقباط المصريين إلى القدس، وقال إن دخولهم لن يكون سوى مع إخوانهم المسلمين، الأمر الذي أغضب السادات، وعَدَّهُ تحديًا من البابا لمشروع الرئيس الذي أوشك على الاكتمال، ويأتي هذا الموقف المعارض من البابا للرئيس في قرار سياسي للمرة الأولى في عقد السبعينيات، إذ بدا البابا شنودة الثالث دومًا مؤيدًا لقرارات الرئيس السياسية، وهو ما ظهر عقب أحداث كانون الثاني (يناير) 1977 حين وقف يؤيد الرئيس، ويشير ببيت الشعر “علمته الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني”.
في كَبِد تلك المرحلة نزفت خلايا الوطن عدة مرات، عبر مصادمات بين المسيحين والمسلمين في صعيد مصر، وبخاصة في المنيا وأسيوط، ونتج عن ذلك إحراق عدد من الكنائس ومهاجمة بعض رجال الدين المسيحي، فضلًا عن الاعتداء على ممتلكات الأقباط، وعلى الطلبة المسيحيين في الجامعات والمدن الجامعية. تموضع نفوذ الإسلام السياسي، واعتمدت الدولة على مرتكز الدين في سياساتها طيلة السبعينيات وحكم السادات، ما انعكس على مجمل الأحداث التي دارت بين الكنيسة والدولة، وإزاء استدعاء المطالبة مرة جديدة باستعجال قانون الردة، جاء رد فعل البابا بمعارضته أن تكون الشريعة الاسلامية أساسًا لقوانين تُطبق على غير المسلمين، وهو ما دعا المجمع المقدس إلى أن يُصدر بيانًا في 26 آذار (مارس) 1980 يقول فيه: “إننا أمام ضمائرنا لن نستطيع أن نقبل مشروع الردة ولن نخضع له إذا نُفذ”[6].
وترتب على ذلك أن قرر المجمع المقدس عدم إقامة احتفالات عيد القيامة المجيد، وذهاب البابا والأساقفة إلى الدير، مع عدم تقبل التهاني بعيد القيامة، الأمر الذي جعل الصدام بين البابا والرئيس على فوهة بركان يوشك أن ينفجر، ولم يتجاوز الأمر كثيرًا، إذ ما لبث أن أعلن الرئيس في خطابه أمام مجلس الشعب في الرابع عشر من أيّار (مايو) عام 1980 بأن لديه معلومات عن المطامع السياسية للبابا، الذي يريد أن يكون زعيمًا سياسيًا للأقباط في مصر، ثم قال بغضب شديد: “إن البابا يجب أن يعلم أنني رئيس مسلم لدولة مسلمة”.
على وقع ذلك كله لم يُضف حادث الزاوية الحمراء الكثير، ليثور المشهد وينفجر بسبب قرارات آيلول سبتمبر، وإلغاء قرار تعيين البابا وتحديد إقامته بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، ومن ثم تكوين لجنة خماسية للقيام بالمهام البابوية، وهي اللجنة المكونة من الأنبا مكسيموس أسقف القليوبية، والأنبا صموئيل أسقف الخدمات، والأنبا غريغوريوس، والأنبا أثناسيوس أسقف بني سويف، والأنبا يوأنس أسقف الغربية، وسكرتير المجمع المقدس، آنذاك، لتنتهي المرحلة الثانية من حبرية البابا شنودة.
دير الأنبا بيشوي.. ما بين السطور
قبل حادثة المنصة في السادس من أكتوبر 1981 واغتيال الرئيس السادات ونيافة الأنبا صموئيل أسقف الخدمات، وفي أثناء وجود البابا شنودة الثالث بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، حيث إقامته الجبرية، ألقى غريغوريوس كلمةً أمام الرئيس السادات ونائب الرئيس وقتها محمد حسني مبارك، وأشار إلى سوء الفهم الذي صاحب أعمال اللجنة الخماسية، التي عينها الرئيس، لتنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة، وأن هناك من نظر إليها بوصفها تَمَسُّ وضع البابا الكهنوتي، وأضاف الأنبا غريغوريوس في سياق كلمته: “والآن نريد أن نؤكد للسيد الرئيس، أنّ الكنيسة بصفتها لا تُقحم نفسها في سياسة الدولة، وهذا مبدأ عقائدي من مبادئ الكنيسة الأرثوذكسية، مؤسس على مقولة المسيح له المجد في الإنجيل: اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”.
وثمة أجزاء أخرى في الكلمة التي أسهب فيها أمام الرئيس، تذهب نحو المعنى ذاته، بالإضافة إلى التأكيد أن الكنيسة لا تعترض على قرار لرئيس الدولة يخص الدولة، ومن ثمَّ لا تمرد على رئيس الدولة، وأن الكتاب المقدس أمرنا أن نخضع للرئيس، وأن تحترم السلطة الزمنية المدنية[7].
مصر بين قداسة البابا وسيادة الرئيس
تولى حكم مصر الرئيس محمد حسني مبارك مع نهايات عام1981، وبدأ حكمة بعدد من الإجراءات تمثلت في الإفراج عن جميع معتقلي قرارات أيلول (سبتمبر) 1981، باستثناء البابا شنودة الثالث، الذي ظل بالدير حتى شهر يناير 1985، وفي هذه الفترة راحت بعض المفاوضات تُعقد من أجل إنهاء تحديد إقامة البابا شنودة، وكان من بينها مبادرة عُقدت بمنزل الأستاذة ميريت غالي، وحضور كلٌّ من أمين فخري عبد النور وجورج بباوي والقس صموئيل حبيب وأمين فهيم. وانطلقت المبادرة من طرح التحديات التي تواجه البلاد وخطر الانقسام والتشدد، وأن الوضع الحالي لا يُهدد الكنيسة والأقباط، بل الدولة والإنسان المصري عمومًا، ولذلك فإن الكنائس المختلفة تدرك أبعاد مسؤوليتها العمومية، وأشارت المبادرة إلى الحل المقترح، بأنّه “يتحتم علينا أن نخرج سريعًا من هذا المأزق، وبطريقة تحافظ على كرامة كافة الأطراف المعنية، وفي الوقت ذاته ينبغي أن يكون الحل نقطة تحول نحو إعادة بناء الوحدة الوطنية، بعد كل ما مرت به من محن، مع إعادة الثقة بين الجميع”[8].
ما يُقرب من أربع سنوات قضاها البابا بدير الأنبا بيشوي، واحتاجتها الدولة كي تطرح علاقة الأقباط المصريين بالدولة، من طريق علاقة الكنيسة بالدولة، وأن يُسمح في إطار ذلك، هامش من الحرية لبلورة الصوت القبطي من طريق البطريرك، وقد تجلى ذلك كثيرًا عبر وقائع محددة في عصر الرئيس مبارك، وخاصة قضية وفاء قسطنطين، حينما طالبت الكنيسة وبشدة من أجهزة الدولة إعادة وفاء التي أُشيع أنَّها تحولت إلى الإسلام، وربما التوقف عند الإشارات الخاصة بمطالبة الكنيسة للدولة بتسليم وفاء، ودلالة ذلك يتماهى مع فرضية تلك المرحلة التي تشير إلى مساحة الحركة التي أتاحتها الدولة للبطريرك في إدارة شؤون الأقباط، وهنا طرح البابا تصرفات الأمس على طاولة الحاضر، عندما لجأ للاعتكاف مرة ـخرى، وكانت الدولة وأجهزتها دومًا ما تتحرك وفق أن شرعيه الولاية للأقباط المصريين، هي حق كفلته الدولة للكنيسة والبطريرك.
كانت ملامح العلاقات بين الرئيس مبارك والبابا شنودة الثالث في إطار ضيق ومحدود من العلاقات واللقاءات المشتركة، وإن تمت تكون في إطار لقاء عام أو احتفالية مشتركة مثل: نجاة الرئيس من محاولة الاغتيال في أديس أبابا، ومرت العلاقات فيما بينهما حتى تنحي الرئيس في 2011 عبر الأجهزة المعنية، أو شخصيات مُحددة تُختار بعناية من الدولة، كتدخل الدكتور مصطفي الفقي بعد أحداث العمرانية في 2010.
تمركز اهتمام البابا شنودة الثالث بعد رجوعه إلى البطريركية كانون الثاني (يناير) 1985 حول ترتيب البيت الداخلي في الكنيسة الأرثوذكسية، لا سيما أن عامل السن سمح بوفاة عديدٍ من المطارنة والأساقفة، الأمر الذي هيأ الظروف للبطريرك أن يُعيد هندسة الهرم الكنسي “شنوديًا“، وأن يُعيد هندسة حدود الإيبارشيات إلى مساحات أصغر، بسيامة أساقفة بيد البابا شنودة الثالث، وذلك تحت شعار “إيبارشيات أصغر، خدمة أكبر وأعمق”.
تحظى الكنيسة الأرثوذكسية ببناء هرمي في الترتيب الكنسي له قدسية كبيرة لكل أعضاء المجمع المقدس الذي يرأسه البطريرك، ويأتي الرجل الثاني في الكنيسة وذراع البطريرك الأساسية، في منصب سكرتير المجمع المقدس، وهو المنصب الذي احتفظ به الأنبا المُتَنَيِّحْ بيشوي -2018 -منذ لحظة استلامه المنصب عام 1985، واعتراض بعض الأساقفة لحداثة سنه، ولكن البطريرك شنودة الثالث رد عليهم جميعًا: “غدًا ترون حسن تدبيره”.
اشتهر الأنبا بيشوي طيلة تلك الفترة بالمحاكمات الكنسية التي كانت تُعقد لمن يخالف البطريرك، أو التلويح بالوقوع تحت مقصلة الرجل، الذي اشتهر باسم “الرجل الحديدي “، بيد أن مؤتمر العلمانيين الذي عُقد عام 2006 قدم فيه الراهب باسيليوس المقاري ورقة بعنوان: “التأديبات الكنسية.. تأصيلٌ كتابي ولاهوتي”، وفيه يشير الراهب إلى أن الكنيسة لا تعرف نسق المحاكمات الكنسية، بل تعرف التأديبات الكنسية التي تسعى وراء الضال لترده، ووراء المعوج لتقومه، فلا يفقد أبديته وخلاصه، وتتعامل مع الخاطئ بتأديب يحق للأب على بنيه، تحوطه المحبة والخوف الحقيقي على أبديته وخلاصه[9].
أحداث طائفية ومسارات الاندماج والانعزال:
منذ لحظة اندلاع حادثة الخانكة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وأحداث كنيسة العمرانية نهاية شهر ديسمبر عام 2010، وكنيسة القديسين عام 2011، وما بينهما من مناوشات بشأن التحول الديني، مثل: “قضية وفاء قسطنطين“، والتباسات وقائع الأحوال الشخصية، كمسائل الزواج والطلاق بين الكنيسة بوصفها مؤسسةً دينية والقضاء بوصفه رمزًا لعدالة المجتمع، يُمكن استبصار أطراف العلاقة التي تجذرت بين البابا، بوصفه أعلى رتبة كهنوتية في الكنيسة الأرثوذكسية ورئاسة الدولة، خصوصًا في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، نظرًا لكونها الفترة الأطول في حبرية البابا شنودة الثالث، وما نشأ على هامشها من تموضع الأقباط بوصفهم جماعة مصرية بعيدًا عن محددات الاندماج الوطني داخل أسوار الكنيسة.
بعض هذه القضايا خاصة ما دار في الربع الأخير عام 2004، يُمكن أن يُطلق عليها أحداث طائفية كونها ارتبطت بجماعة محددة في المجتمع المصري، كما ينبغي النظر إليها داخل سياق عام تجذر عبر سنوات مضت وارتبط واتصل بما جرى بعدها من وقائع حتى، وإن بدت الواقعة تخص فردًا واحدًا ولم يكُ نتيجة عمل مرتب أو مدبر من جماعة أو مؤسسة معينة، وفي المقابل كان رد الفعل يعكس حالة فوران عاطفي وانعزالي يشي بكون بطلة الواقعة تمثل هُويتها القبطية وتبعيتها للمؤسسة الكنسية فضلًا عن كونها زوجة لرجل دين.
وربما الموضوعية تقتضي منا القول إن الفعل ورد الفعل سوف يضحي هادرًا وعاصفًا إذا ما حدث ذلك في جانب المجتمع المسلم.
على أية حال دلالة الأمر هو تقديم الهُوية الدينية على هُوية الوطن في القضية، وأن تتصدر الكنيسة بوصفها مُعبرًا عن تلك الهُوية بطلب للدولة بتسليم صاحبة الواقعة “وفاء قسطنطين“، بل كون ذلك يكشف بصورة كبيرة عن موقع الكنيسة بوصفها صاحبة الولاية المطلقة على أبناء شعبها.
نحو ذلك قد تبدو التراتبية التي تجذرت عبر عقود طويلة مضت في أن المواطن القبطي يقع ولاءه الأول للمؤسسة الكنسية، والأخيرة ترتبط بمؤسسات الدولة من طريق البابا البطريرك والأخير يمثل الوسيط والمتحدث المباشر بين الأقباط والرئيس.
قضية وفاء قسطنطين – ديسمبر 2004 نموذجًا
تتابعت القضايا والأحداث التي شهدها عام 2004 التي مثلت توطئة نموذجية لتصاعد أزمة عُرفت حينها بـ “أزمة وفاء قسطنطين“. ومن بين تلك الأحداث في هذه الفترة:
-
مؤتمرات أقباط المهجر
ناقش مؤتمر “أقباط مصر: أقلية تحت الحصار”، المُنعقد في سويسرا في الفترة من 23 إلى 25 سبتمبر 2004، عدة أزمات للأقباط، وهو ما واجهته الصحافة المصرية بهجوم مكثف. ربما ينبغي فهم ذلك الحراك الداخلي والخارجي في سياق حالة السيولة السياسية التي شهدها المجتمع المصري آنذاك، خاصة مع تصاعد المعارضة لنظام الرئيس مبارك وظهور تنظيمات جديدة ركزت على مستقبل البلاد بعده. وقد دفع ذلك الدولة إلى طرح تعديل دستوري يتعلق بمدة حكم الرئيس وإجراء انتخابات مباشرة على المنصب، فيما عُرف بتعديل المادة 76 من الدستور.
تماهى ذلك أيضًا مع مؤتمر آخر عُقد في كندا في شهر يونيو 2004، حيث طالب منظموه بدعم إنشاء محطات فضائية قبطية موجهة إلى المنطقة العربية، بالإضافة إلى المطالبة بإلغاء خانة الديانة من جميع الأوراق الثبوتية للمواطنين.
-
فيلم “بحب السيما”
جاء عرض فيلم بحب السيما للمخرج الراحل أسامة فوزي، ليسلط الضوء على فجوة كبيرة في الرأي العام القبطي بخصوص بعض المشاهد التي قدمها الممثل محمود حميدة التي جسدت شخصية متشددة دينيًا. أدى ذلك إلى مطالبات بمنع عرض الفيلم ورفعه من دور السينما، وبالفعل صدر حكم مؤقت من إحدى المحاكم بمنع عرض الفيلم، قبل أن تُلغيه محكمة القضاء الإداري لاحقًا.
في المقابل دافع تيار آخر عن الفيلم انطلاقًا من مبدأ حرية الإبداع. وعلى الرغم من حكم محكمة القضاء الإداري في ديسمبر 2004 باستمرار عرض الفيلم، إلا أنه وحتى أوائل كانون الثاني (يناير) 2005 لم يُعرض في دور السينما، ربما بسبب التوترات التي صاحبت قضية وفاء قسطنطين.
-
التحول الديني
انتشرت داخل مصر في هذه الفترة ظاهرة تحول بعض النساء والفتيات إلى الإسلام، وكانت لكل واحدة منهن قصة خاصة. القاسم المشترك في معظم هذه الحالات كان إما الارتباط بعلاقة عاطفية مع مسلم، أو الرغبة في الحصول على حكم بالطلاق والزواج الثاني في ظل قيود الكنيسة، مما جعل قضية التحول الديني نقطة توتر بين الكنيسة والدولة.
برزت في هذا السياق قضية ميري عبد الله، زوجة كاهن الزاوية الحمراء “رويس نصر الله” التي تزامنت أحداثها مع أزمة وفاء قسطنطين. استقبل البابا شنودة السيدة ميري في دير الأنبا بيشوي في 12 ديسمبر 2004، برفقة الأنبا مرتيروس أسقف الزاوية الحمراء بعد أيام من اختفائها وسط شائعات عن اختطافها.
لكن نظرًا لأنّ قصة وفاء قسطنطين كانت الأكثر شهرة، لم تحظَ باقي القصص باهتمام مُماثل، مثل قضية زوجة كاهن الشرابية وسط القاهرة، وفتاة قرية درنكة بمحافظة أسيوط، اللتين أعلنتا إسلامهما أيضًا.
-
بداية الأزمة
بدأت الأحداث يوم الأربعاء، 1 كانون الأول (ديسمبر) 2004، عندما سجل مأمور قسم شرطة السلام أقوال وفاء قسطنطين، زوجة كاهن كنيسة أبو المطامير بمحافظة البحيرة، في المحضر رقم (58 أحوال). وأعلنت وفاء وفقًا لأقوالها الموثقة رغبتها في إشهار إسلامها، مؤكدة أنها غادرت منزلها بإرادتها، وأقامت لفترة لدى معارف في القاهرة والمنوفية، لحين استكمال الإجراءات، ولم تتعرض لأي ضغوط. كما أشارت إلى أنّ ابنتها كانت على علم بذلك.
نظرًا لحساسية القضية التقى بها عدد من ضباط أمن الدولة في اليوم التالي للتحقق من دوافعها والتأكد من عدم وجود ضغوط. وفي أثناء النقاش أظهرت السيدة وفاء معرفة واسعة بالإسلام، وأكدت أنها تحفظ ثلث القرآن. وعند سؤالها عما إذا كانت تنوي الزواج من مسلم، رفضت الفكرة قائلة: “أنا لست فتاة مراهقة، عمري أكثر من 46 عامًا ولدي أبناء كبار”.
في اليوم التالي أُخطرت الكنيسة، وطَلب مطران البحيرة إمهاله بعض الوقت لتحديد مكان وزمان جلسة النصح والإرشاد، غير أنّ الكنيسة في القاهرة شعرت بخطورة الأمر، نظرًا لكون وفاء زوجة نائب المطران، وقررت التحرك سريعًا. اتصل مسؤولو الكنيسة بابنتها الكبرى، التي أكدت أن والدتها مقتنعة تمامًا بالإسلام، لكنها وافقت على كتم الأمر حفاظًا على الهدوء.
-
تصاعد الأزمة
في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2004، تزامنت الأحداث مع وفاة الكاتب الصحفي سعيد سنبل، استغلت الكنيسة مراسم العزاء في الكاتدرائية لحشد مئات الشباب للتظاهر احتجاجًا على ما عدوه “اختطاف” زوجة كاهن وإجبارها على الإسلام، وقررت الدولة الالتزام بالإجراءات القانونية، وعرض وفاء على جلسة النُصح والإرشاد، لكن الكنيسة اشترطت تسليمها في أحد مقارها بعين شمس، مع منع أي رجل دين مسلم أو رجل أمن من مقابلتها، وهو ما استجابت له الحكومة، متجاهلة الإجراءات القانونية المعتمدة التي تقضي بأن تتم الجلسة في مديرية الأمن.
عندما أُبلغت وفاء بالموعد طلبت تأجيله حتى الإفطار، إذ كانت صائمة، لكن الكنيسة أصرت على الموعد المحدد. في النهاية نُقلت إلى مقر الفتيات المسيحيات، حيث مُنعت أي جهة خارجية من التواصل معها، وبدأت جلسات النصح والإرشاد.
في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2004، أُبلغ الأمن بأنَّ وفاء قسطنطين عادت إلى ديانتها المسيحية. وأمام وكيل النيابة، قالت: “ولدت مسيحية وعشت وسوف أموت مسيحية”. بناءً على ذلك صُرفت من النيابة دون حراسة وتسلمها القساوسة.
-
الاحتجاجات والتداعيات
مع انتشار الأخبار احتشد الشباب القبطي في الكاتدرائية وأعلن الأنبا يؤانس سكرتير البابا، أنّ البابا قرر الاعتكاف احتجاجًا على “عدم تسليم” وفاء في الموعد المحدد. تصاعدت التظاهرات، وألقى المحتجون الحجارة على رجال الأمن، مما أدى إلى إصابة 55 ضابطًا وجنديًا.
استمر التصعيد حتى أعلن الأنبا يؤانس للمتظاهرين أنَّ وفاء أصبحت في حوزة الكنيسة، وهو ما لم يهدئ المحتجين الذين طالبوا برؤيتها. ومع تصاعد العنف، ألقت قوات الأمن القبض على بعض المتظاهرين ووجهت إليهم تُهم التجمهر والإضرار بالوَحْدة الوطنية.
وهكذا جاءت حبرية البابا شنودة تتصل بثبات وتأثر بالماضي الذي نشأ فيه وبوقائع محددة حفرت آثارها في تكوينه، وصاغت أفكاره وتوجهاته التي لم يحد عنها أبدًا، وإنما أعاد تكوينها وترتيبها وفق ظروف المناخ العام، الذي تأزم مع قرارات سبتمبر الشهيرة، وساعتها أعادت الدولة ترتيب الأمور مع البابا، وصاغت ملامح المسار ووضعت أطر المصير.
المراجع:
[1] كمال زاخر: العلمانيون والكنيسة، صراعات وتحالفات، القاهرة، مكتبة النيل، 2009، ص ص 34 – 40
[2] أعداد متفرقة من مجلة مدارس الأحد، عام 1949.
[3] محمد حسنين هيكل: خريف الغضب، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1983، ص 291.
[4] هاني لبيب: الكنيسة المصرية، توازنات الدين والدولة، دار نهضة مصر، القاهرة، 2012، ص 29.
[5] غالي شكري: الثورة المضادة في مصر، كتاب الأهالي، القاهرة، 1987، ص 315.
[6] هاني لبيب، المرجع المذكور، ص 37.
[7] متى المسكين: الكنيسة والدولة .. الطائفية والتعصب، دير الأنبا مقار، القاهرة، 1963، ص 482.
[8] للمزيد عن المبادرة، انظر: هاني لبيب: المرجع المذكور، ص 494.
[9] كمال زاخر: قراءة في واقعنا الكنسي، القاهرة، 2015، ص 160.