تكوين
اختيارُ القرآن الكريم، كنصٍّ وخطاب إلهي، اللغةَ العربية أداةً للاتصال مع الإنسان اقتضي أن تحمل آياته في نظامها اللغوي مفاهيم المجتمع الذي نزل فيه القرآن الكريم، على سبيل المثال: قول الله تعالى: “وَٱلۡعَـادِیَـاتِ ضَبۡحًا، فَٱلۡمُورِیَـاتِ قَدۡحَا، َٱلۡمُغِیرَ اتِ صُبۡحا، فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعا، فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا، إِنَّ ٱلۡإِنسَـانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود، وَإِنَّهُ عَلَى ذَ لِكَ لَشَهِید، وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلۡخَیۡرِ لَشَدِیدٌ”. [العاديات ٥:١] تبدأ الآياتُ بأسلوب قسم، المقسمُ به: مجموعة من الصور التي رسمتْ لوحةً دقيقةً قادرة على أن تَهزّ وجدانَ العربي في القرن السابع الميلادي، وتزلزله نفسيا، وهي الصورُ نفسُها التي لن يفهمَها الإنسان المعاصر في القرن الحادي والعشرين إلا بالعودة إلى الواقع السوسيو ثقافي لزمنِ نزولِ الوحي في القرن السابع الميلادي، حتّى يتصور حالة التأثير النفسي التي قصد إليها القرآن الكريم بهذا القسم، فالآيات تُدخل المتلقي في حالة من الخوف يعرفها جيدا العربيّ، عندما يتفاجأ مع أول نور الصبح بخيلٍ تُغيرُ عليه، تُهاجمه مهددة كلّ شيء، خيلٌ تُثير غبارا كثيفا، كأنّه ليلٌ مظلمٌ تُسمعُ فيه أصواتُ (ضبح) خيلٍ (العاديات) مندفعة بقوة، تضرب الصخر بأقدامها فتُشعلُ شرارا يُضيء وينطفيء في ظلمة الغبار الكثيف. بعدَ قسمِ الله تعالى بتلك الصورة المركبة يأتي جوابُ القسم: إخبارُ اللهِ أنّ النفس الإنسانية من عادتها أنْ تغضبَ من المتاعب، وتنسى الكثير من الخيرات والنعم “إن الإنسان لربه لكنود”.. فالآيات جمعت بين زمنين: زمن الحدث الذي ندركه بوضوح ونستشعر ظلاله إذا استرجعنا حياة العرب في القرن السابع الميلادي، وزمن متجاوز للحدود في جواب القسم، ففي كل زمان ومكان سيُوجد إنسان كنود لربّه.
دلالات الآيات القرآنية
فاكتمال مدلول الآيات مرتهن بالوقوف على الزمن النفسي/ الذاتي بمعنى الشعور بالزمن في أعماقنا، نحسُّ بجريانه، وتدفقه اللا منقطع من الماضي إلى المستقبل، والزمن النفسي من لوازم اللغة الأدبية، فكل من الزمن النفسي واللغة الأدبية يعمل على إثارة الحالات الشعورية والنفسية، وهو ما أطلق عليه الشيخ أمين الخولي “الإعجاز النفسي” لبلاغة القرآن الكريم، بمعنى أثره العظيم على النفس الإنسانية، ووقعه عليها، وفعله فيها”.([1])
من جانب آخر، تتأثر أي قراءة/ دراسة للقرآن الكريم بالسياق الزمني الخارجي الذي يعيش فيه المفسّر والمؤوّل، فالإسرائليات، وحكايات العبرانيين في الجزيرة العربية التي يزدحم بها التفسير بالمأثور ناتجة عن الثقافة السائدة في العصر الذي عاش فيه المفسّر والمؤول، ومما عمّق من وجود تلك السرديات العبرانية في تراثنا، وأعاد تكرارها في الثقافة الإسلامية جيلا بعد جيل، مغالطتان سيطرتا على الوعي الجمعي حول تفسير القرآن الكريم:
الأولى: تجاهل أنّ هناك مفسّر يتأثر بالمعرفة السائدة في زمنه، فمن الخطأ أن نتداول أقوال المفسّر، وكأنّها مطابقة لمراد الله في الآية، فألغوا المسافة بين ذات المفسِّر المفكَّرة والموضوع متمثلا في النص الديني، فبات تفسير القرآن الكريم الإنساني النسبي له سلطة ومكانة القرآن المطلق الإلهي، وهذه إشكالية قديمة، فيُروى عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قوله: “القرآن لا ينطق ولكن ينطق به الرجال”؛ أي أن القرآن لا ينطق بالأحكام والمدلولات لكن هناك إنسان/ رجال ينطقون بها، ويحاولون فهمها.
الثانية: تعظيم بعض أقوال المفسِّر ظنًّا أنّ فهْم المفسّر موضوعي تماما، ليس فيه حضور لذات المفسر برؤيته الإنسانية النسبية المحتملة للصواب والخطأ المتأثرة بالأفق التاريخي، والنّسق الثقافي لعصرها، فأمسى لتراث المفسرين مكانة ترتفع بكتاباتهم عن النقد والمراجعة والتجاوز، فتوقف أكثر الدارسين عند حدود الشرح والترديد.
فمن الخطأ تجاهل النّسق الثقافي للمفسرين والمؤرخين من جامعى الأخبار مثل ابن جرير وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وابن الجوزي واليعقوبي وابن عساكر وغيرهم ممن استوعبوا ثقافة عصرهم القائمة على خطاب قصصي ردّده يهود اليمن ممن دخلوا الإسلام، فقد انعكست ثقافة زمن المفسّر، ورؤيته لتاريخ الأمم من حوله، وموقفه المذهبي والسياسي على تفسيره لآيات القرآن الكريم.
فالعرب وإن عرفوا قصص الأمم السابقة، إلا أنّها لم تكتسب سلطة إلا عبر القصاصين وجامعي الأخبار الذين استحدثوا في صدر الإسلام خطابا دينيا يقوم على الإغراق في قصص دينية تفصيلية،([2]) “فكان ليهود اليمن ممن دخلوا الإسلام دور ٌكبيرٌ في ذلك، فمنابعُ القصص في تراثنا ثلاثة من يهود اليمن الذين أسلموا تَميمِ الدارىّ، ووهب بن مُنبَّه، وكعب الأحبار، ولعلّ السبب أنّ يهود اليمن كانوا أكثر حضارة، وقد استتبع هذا وجود مدارس يهودية أرقى مما كان ليهود الحجاز، فكان من نتيجة ذلك انتشار الثقافة اليهودية في اليمن، على نمط أوسع مما كان ليهود الحجاز، فهذا القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيراً من أساطير الأمم الأخرى، والأحاديث المكذوبة مما أفسد التاريخ بما تسرب إليه من حكاية وقائع وحوادث مزيفة أتعبت الناقد، وأضاعت معالم الحق”.([3])
إذ سرعان ما نمت القصص؛ بما يتفق وميول العامة، وفضول الرواة، لمعرفة مزيد من التفاصيل فمع التحوّل من ثقافة المشافهة إلى التدوين، كتب المفسرون الكثير من المرويات دون تدقيق، فكلّ ما يشغله هو جمع الأخبار التي تمنحه تفاصيلا حول الزمان، والمكان المبهمين في القرآن الكريم، وبداية الخليقة، وتاريخ الأنبياء، فلم يتقبلوا إطلاقيات القصص القرآني المتعالية على الزمان وأعلام الأماكن، وأن الله لو أراد تحديدا لها لكشف عنها، ورأوا أن مهمتهم كمفسرين أن يُحددوا الزمان والمكان والأعلام، وأن تفسير القرآن يقتضى الدخول في التفصيلات، فنقلوا عن اليهود لشهرتهم حينها بأنّهم “أعلم الناس بأخبار الماضي بعلوم الشرائع وسير الأنبياء، فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليقة”([4])
فنظر المفسّرون إلى تاريخ الأمم والحضارات القديمة من منظور روايات يهود اليمن الذين دخلوا الإسلام، فأخذوا عنهم تفاصيل بدأ الخلق، وقصص الأنبياء، وأقحم المفسرون، والمؤرخون التحديدات الزمنية والمكانية في تفسيرهم الحكايات القرآنية بالاستناد إلى تلك الروايات، وغطّت مخيلة القصاصين الواسعة ما تبقى من ثغرات؛ لاستكمال بناء الحبكة.
فأمام روايتين حولَ طبيعة طوفان نبي الله نوح: الأولى تحكي أنّ الطوفان عمّ جميع الأرض (الكرة الأرضية)، ورواية ثانية تحكي أنّ الطوفان عمّ جزء من الأرض، هي بلدة نبي الله نوح، سنجد الرواية الأولى المنقولة عن أسفار العهد القديم الأكثر تداولا وشيوعا عند المفسرين، حتى إنّ ابن كثير في تاريخه وتفسيره عدّ مَنْ يُنْكر أنّ الطوفان عَمّ الأرضَ كلَّها كافرا، فيقول: “وهذه سفسطةٌ منهم، وكفرٌ فظيع”، وهذا ما انتقده ابن خلدون مرجحا الرواية الثانية، بقوله: “إن الطوفان لم يكن شاملا المعمورة كلّها، واعلم أن الفرس والهند لا يعرفون الطوفان”.
وهذا ما اختاره الإمام محمد عبده بقوله: “القرآن الكريم لم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عُدّ اعتقادها من عقائد الدين، وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصِّل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد ديني”.
فالله لم يبعث نوحا إلا في قومه، وليس إلى سائر أهل الأرض كي يُعاقب الله جميع مَن على الأرض بالطوفان! وإنما هي رواية الإخباريين من يهود اليمن التي حصرت البشرية كلّها في أرض نوح؛ لتُمهّد لفكرة سلالة بني إسرائيل الممتدة عبر التاريخ، فترى أنّ نسل آدم لم يبق منه سوى شيث بن آدم، ومن نسله نوح الذي سيقسم الأرض بين أبنائه الثلاثة بعد انتهاء الطوفان أثلاثًا “فلما هبط نوح وذريته وكلّ من كان في السفينة إلى الأرض، قسم الأرض، فجعل لسام وسطًا من الأرض، ففيها بيت المقدس، والنيل، والفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان، وفيشون، وذلك ما بين فيشون إلى شرقي النيل، وجعل لحام قِسْمه غربي النيل، فما وراءه إلى منخر ريح الدبور، وجعل قسم يافث في فيشون فما وراءه إلى منخر ريح الصب”.
يُتبع
المراجع:
([1]) أمين الخولي، مناهج التجديد، ص١٥٢.
([2]) استُحدث القَصَص في صدر الإسلام، فتكاد تتفق الروايات أن أول مَن قصّ، تميم الداري، استأذن عمر أن يُذكّر النّاس فأبي عليه، حتي كان آخر ولايته فأذن له أن يذكّر النّاس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، واستأذن تميم عثمان بن عفان فأذن له أن يذكَّر يومين في الجمعة فكان تميم يفعل ذلك”. وفي رواية آخري عن الحسن أنه سئل: متي أحدث القصص؟ قال: في خلافة عثمان. فسُئل: من أول من قصّ؟؟ قال: تميم الداري، وهو يمني أسلَم في سنة تسع من الهجرة، وروي عن فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم حديث الجسّاسة والمسيخ الدّجال..
واتُّخذ القصص أداة سياسية عهد الفتن بين على ومعاوية، وقد اشتهر القصاصون بالكذب حتي رووا أن علّى بن ابي طالب طردهم من المساجد، واستثنى الحسن البصري.. ثمّ ارتفع شأن القصاصين في عهد بني أمية، حتي رأيناه عملا رسمياً، يعهد به إلى رجال رسميين يعطون عليه أجراً، فنرى في كتاب القضاة للكندي أن كثيراً من القضاة كانوا يُعينون قصاصاً أيضا، فيقول أنّ أول من قصّ بمصر سليمان بن عِتر التُّجيبىُّ في سنه ٣٨هـ، وجمع له القضاء إلى القصص، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص. فجر الإسلام، ص٢٥٠:٢٤٩ بتصرف.
([4]) أبو الطيب محمد صديق بن الحسن القنوجي، أبجد العلوم، الجزء الأول الوشى المرقوم في بيان أحوال العلوم، التلويح السابع في العبرانيين، دمشق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ١٩٧٨م، ج١، ص١٧٤.