تكوين
القرآن الكريم عندما يحكي عن الأنبياء وأممهم يُقدّم نوعا مستقلا بنفسه، منفصلا عن غيره من السرديات التاريخية، فتاريخهم ليس من قبيل التاريخ الديني الذي ترويه الأمم السابقة، وليس من قبيل التاريخ الطبيعي القائم على استقصاء مجموعة من الكائنات الحيّة ضمن بيئتها الطبيعية، ولا التاريخ الاجتماعي القائم على تتبع تطوّر تشكّل جماعة اجتماعيا في منطقة جغرافية ما.. فالتاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي يمضيان في طريقين مختلفين؛ فمن الخطأ الدخول في مقارنات أو مقاربات بينها.
إفساد بني إسرائيل
فالتاريخ الديني مُوغل في القدم يعود إلى آلاف السنين، محوره قصص الأنبياء لاسيما أنبياء بني إسرائيل، والملوك، والحكّام، والصالحون، والآثمون، ففي مقابل ما ترويه الأمم السابقة والمعاصرة لنزول الوحي المنشغلة بالتفاصيل، والتأطير الزّمني، والمكاني، تأتي السردية القصصية القرآنية، التي تُمثّل ثُلثَ القرآن الكريم، مُجمَلَةً مُختصَرَةً قصص الأنبياء، لا تُؤطّر للأحداث زمنيا ومكانيا، وإن تقاطعتْ مع القصة التوراتية، وحكايات العبرانيين في شبه الجزيرة العربية في خطوطها العريضة غالبا.
فيُجمل القرآن الكريم قصص الأنبياء مستهدفا العِبرة، والعظة، “لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٌ لِّأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـابِ” [يوسف:١١١]، محذرا من الشرّ، داعيا إلى الخير، فيتسق قصص الأنبياء في ذلك مع غاية القرآن الكبرى، وهي “الهداية” “ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” [البقرة:٢]
ومن الأمثلة التي تُوضح الفرق بين مَن ينهج نهْج القرآن في الاكتفاء بالإجمال، ومن ينهج نهْجا آخر في البحث عن التفاصيل التاريخية ما جاء في تفسير قول الله تعالى “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً” [الإسراء: الآية:٦:٤]
هويّة عباد الله ذوي البأس الشديد
فالآيات تتحدث عن إفساد بني إسرائيل مرتين، وأنّ الله أرسل عليهم مَن ينتقم منهم دون تحديد لهويّة المنتقمين، غير أنّ كثيرا من المفسرين لم يكتفوا بهذا الإجمال القرآني، فبعد أنْ اتفقوا على وقوع المرتين انشغلوا بتحديد هويّة عباد الله ذوي البأس الشديد، واختلفوا بين قائل: إن الله بَعَثَ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ البابِلِيَّ المَجُوسِيَّ، فَسَبى بَنِي إسْرائِيلَ، وقَتَلَ، وخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وقيل هذا حدث مع الإفساد الأول، أما الإفساد الثاني فارتبط بمَلِك مِنَ الرُّومِ يُقالُ لَهُ: قُسْطَنْطِينُ انْتَقَمَ مِنَ اليَهُودِ بِسَبَبِ إقْدامُهم عَلى قَتْلِ زَكَرِيّا ويَحْيى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ..
ويُكمل الشيخ محمد الشعراوي في البحث عن هويّة عباد الله ذوي البأس الشديد، مخالفا سابقيه من المفسرين، متأثرا بزمنه وواقعه السياسي والتاريخي، فيرى أنهم المسلمون، وأنّ إفساد بني إسرائيل مرتين حدث بعد نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم،
“فالفساد الأول هو ما حصل من اليهود المعاصرين للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، من تكذيبه، ومحاربته، والفساد الثاني هو الموجود في عصرنا من قيام دولة لهم في فلسطين”،([1])
وهو بذلك يقع في مغالطة أنّ نسلَ اليهود اليوم امتداد تاريخي لبني إسرائيل، وهذا ما انتقده الإمام ابن حزم، وعدّه خُرافة، بقوله:
“ليس على ظهر الأرض أحد يصل نسبه بصلة قاطعة، ونقل ثابت، إلى إسماعيل، ولا إلى إسحاق عليهما السلام، نعني ابنيّ إبراهيم خليل االله صلى االله عليه وسلم، فكيف إلى نوح، فكيف إلى آدم، عليهما السلام؟”([2])
ونقل ابن خلدون عن مالك بن أنس مثل هذا الإنكار بقوله: “سُئل مالك رحمه االله تعالى عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أين يعلم ذلك؟!”([3]) “وقد أنحي باللوم كثير من العلماء على القصاص والوعاظ، كما فعل الغزالي في كتابه “الإحياء” فقد عدّ عملهم من منكرات المساجد، لما كانوا يقترفون من كذب، واستثنى الحسن البصري وأمثاله.. فكان البصري قاصّا من نوع آخر، فلم يكن ينحو منحى الذين يعتمدون على الإسرائيليات، وإنما كان يعتمد على التذكير بالآخرة ونحوها”.([4])
الأصوات التراثية والمعاصرة
وبين الأصوات التراثية والمعاصرة نجد صوتا تراثيا عقلانيا مُهمشا، وهو صوت الإمام فخر الدين الرازي (٥٤٤-٦٠٦ه) الذى يرى أننا لسنا بحاجة إلى معرفة عباد الله ذوي البأس الشديد، ولسنا مطالبين بتحديد هويتهم التاريخية بقوله:
“فلا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ مِن أغْراضِ تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِمَعْرِفَةِ أعْيانِ هَؤُلاءِ الأقْوامِ”.([5])
وبينما سكت القرآن الكريم عن نهايات الأنبياء تحدث المفسرون مستعينين بأسفار العهد القديم في القول بأنّه دُفِن في بيت المقدسِ آدمُ، وإبراهيم، ويعقوب، وإسحاق، ويوسف، وموسى، وغيرهم من أنبياء بنى إسرائيل، فبعد أن حمل نوح جسد آدم معه في السفينة، وانتهى الطوفان دفنه في بيت المقدس، فيروي عن ابن عباس أنه قال: “لما خرج نوح من السفينة دفن آدم، عليه السلام، ببيت المقدس”، وبعد موت يعقوب في مصر أتى يوسف به إلى فلسطين، ودفنه ببيت المقدس، ثُمَّ رجع إلى مصر، وعندما أمر الله موسى بالمسير ببني إسرائيل، أمره أن يحتملَ جثمان يوسف معه حتى يضعَه بالأرض المقدسة.([6])
هذا شكل من أشكال التّراث غير الدقيق علميا الذي يعيش في ذاكرتنا، ويُؤثر في تشكيل هويّتنا، ورؤيتنا للحاضر، وللعالم من حولنا، فمن الضروري لبناء وعي جيد أن نُزيل الالتباس، ونكتشف التزوير، فعلى عكس المجتمعات غير الواعية التي تعيش حالةً من السكونية، والتجرد، والجمود، والتبرير، إضافة إلى الشعور بالفوقية، والانغلاق على الأنا، تقف المجتمعات الواعية من تراثها موقف المتسائل الناقد، فلن نكون فاعلين في الحاضر إلا ببناء وعي جيد بالماضى الذي هو جزء من حاضرنا شئنا أم أبينا، فالتراث به من التنوع ما يُمكن أن نبني على الجيد منه بعد أن نكشف عن غير الجيد..
وعودة إلى الروايات الواردة في الأنساب فسنجد أن أكثر رواتها استمدوا أخبارهم من مصدر واحد، هم مسلمة أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد االله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف بـأبي يعقوب كان يهوديًا، فأسلم، وهو مَن أمدّ ابن الكلبي وغيره بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النّسابون في الأنساب.
ولا يُبرئ “الدكتور عبدالجواد علي” هؤلاء الرواة من وصمة الجهل أو الكذب، لا سيما ابن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار، وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة، هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخبار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توراتية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة، وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث، ولا مراجعة للتوراة، وما الذي يدفعهم إلى البحث والمراجعة، فإنّ كل ما يطمعون به، ويريدونه هو الحصول على مادة يظْهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار.
كذلك العبرانيين في شبه الجزيرة العربية لم يكونوا على مستوى واحد من الثقافة شأنهم في ذلك شأن الرواة، بالإضافة إلى أنهم كانوا يعمدون إلى الكذب، فيخترعون ما شاء لهم خيالهم، وهذه الكذبة تنتقل من واحد لآخر عبر سلسلة من الكذابين، ولا نستطيع غالبا أن نعرف من صاحب تلك الكذبة؛ أهو الأخباري أم الراوي أم المتلقي المدون؟ كما أن مصدر المعلومة أحيانًا يتكون من مصادر متعددة تنصهر في خبر واحد، فيصير الخبر مكونًا من خليط من روايات إسرائيلية، وروايات فارسية، وقصص شعبي عربي، ونضيف إلى ما سبق عنصرًا آخر هو “الوضْع،” فقد وضع الرواة شيئًا من عندهم كذبا حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، فكان لا بد لهم من سدّ تلك الثّغرات التي.([7])
روايات متناقضة حول الكنعانيين
وفي سياق تناول المؤرخين والمفسرين للسلالات تبنّوا روايات متناقضة حول الكنعانيين، فتعددت الروايات بين وصفهم بالجبابرة نسل العماليق، ونسبتهم إلى حام بن نوح، أو سام بن نوح كما في رواية لابن إسحاق، وجعلت بعض الروايات كنعان مصدر الكثير من الشرو، فعند حديث ابن جرير الطبري (ت٣١٠ه) عن الطوفان يتحدث عن كنعان([8]) في إحدى رواياته على أنه ابن نوح الغريق الذي رفض أن يركب السفينة، ثم يأتي ذكر آخر لكنعان بن حام الملعون الأبدي؛ لأنّ أباه رأى عورة جده نوح، ويأتي ذكر ثالث لكنعان فهو أبو نمرود الذي كفر بإبراهيم عليه السلام، وكثيرا ما اكتفت الأخبار بتقديم الكنعانيين بالوثنيين المعادين لبني إسرائيل، فاختزلتْ حضاراتِ شعوب بلاد الشام والعراق ومصر في سردياتِ ما قبلَ بعثة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في كونها سوطَ الإلهِ فحسب؛ لتهذيب بني إسرائيل متى أفسدوا، فبنو إسرائيل محور التاريخ، والكل يدور في فلكهم، وهذا ما تسرّب إلى تراثنا، واستقر في ثقافتنا.
أخيرا، إنّ منهجيةَ القرآن الكريم شديدةَ الاختصار لقصص بني إسرائيل قادرةٌ على أن تُصلح ما أفسدته إسرائيليات كُتب التفسير من تشويهٍ وتقزيمٍ، إلا أنّ الفكر الإسلامي لم يلتزمْ بتلك المنهجية، فدخل مبكرا إلى تيه القصص المنقول عن مصادر الأمم السابقة.
يُتبع
المراجع:
([1]) تفسير الشعراوي، ج١٣، ص٨٣٦٩:٨٣٥٢.
([2]) ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص٦.
([3]) تاريخ ابن خلدون:، ج٢، ص٤.
([5]) التفسير الكبير، ج٢٠، ص ١٢٧.
([6]) يُنظر: تاريخ ابن جرير، ج١، ص٢٤٨.
([7]) د جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج٢، ص٧٢:٦١ بتصرف.
([8]) يُنظر: تاريخ ابن جرير، ج١، ص١٠١: ١٣٤.