تكوين
(1)
يتراوح المتعاملون مع إشكاليات النهضة الحديثة في مصر -عادة- بين اتجاهين رئيسيين، يحصران قضية أو إشكالية “النهضة” فيما بين أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر؛ حيث يذهب الاتجاه الأول؛ ومن رموزه البارزة؛ لويس عوض، وحسين فوزي، ومحمد فؤاد شكري، وعبد الرحمن الرافعي، إلى أن الاحتكاك بالغرب كان أساس النهضة الحديثة، سواء كان هذا الاحتكاك ناتجًا عن الحملة الفرنسية على مصر، أو كان ناتجًا عن جهود محمد علي ومشروعه السياسي.
بينما يرى أصحاب الاتجاه الثاني، ومن أبرز ممثليه؛ بيتر جران، وسمير أمين، ونللي حنا، وآخرون، أن الاحتكاك بالغرب (كما تمثل في الحملة الفرنسية على مصر والشام) هو الذي قطع الطريق على إمكانيات النهضة الحقيقية التي كانت بوادرها الأولى، وأسسها الاجتماعية، تختمر في المجتمع المصري إبان النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
إذًا فنحن أمام اتجاهين يجمع بينهما التقارب في تحديد اللحظة التاريخية لبداية النهضة الحديثة في مصر، حيث تدور تلك البداية في مدى قرن من الزمان (تقريبًا) من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، كما يجمع بينهما تعظيم دور الغرب، ومحوريته في هذه النهضة، سواء باعتبار الاحتكاك به مصدرًا للنهضة أو سببًا في انتكاسها وفشلها[1].
لكن ومنذ العام 1997 احتدم الخلاف بشدة حول تحديد اللحظة التي ثارت فيها تلك الأسئلة الإشكالية حول النهضة والتحديث والوعي بالذات “القومية” في مواجهة آخر مثَّل تحديا مزدوجا تمثل في وجهه الاستعماري البغيض (الاحتلال الفرنسي) كما تمثل أيضًا في وجهه الثقافي والحضاري وتقدمه العلمي الذي ظهر لنا مدى بعدنا عنه بقرون طويلة!
ذلك لأنه وفي شتاء العام 1997، أعلنت وزارة الثقافة المصرية آنذاك، عن تشكيل لجنة خبراء ومتخصصين للإعداد لاحتفالية كبرى بمناسبة مرور مائتي عام على قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر؛ وما أن تم الإعلان عن هذه الاحتفالية بتلك الصيغة حتى قامت الدنيا ولم تقعدْ أبدًا في مصر!
ثارت ضجة كبيرة جدًا استغرقت شهورًا طويلة، دارت خلالها سجالات ومناقشات حامية حول مشروعية الاحتفال من عدمه، وهل من المقبول أن تحتفل دولة حرة مستقلة بغزو دولة أخرى لها!
ولعل -من وجهة نظر كاتب هذه السطور- أن أهم ما تمخضت عنه هذه النقاشات هو هذا الكم الهائل من المقالات والدراسات والحلقات النقاشية والندوات والكتب التاريخية الرصينة ذات التوجهات المنهجية المتباينة؛
وإذا قمنا بفرز وغربلة هذا الكم المهول من الكتب والدراسات لتبقَّى منها حفنة رائعة من الكتابات العميقة بأقلام أساتذة كبار ومؤرخين راسخين، قدَّموا رؤى وتحليلاتٍ أغنت الكتابة التاريخية المصرية عمومًا.
وفي الوقت ذاته كُشف الكثير والكثير عن خفايا الحملة الفرنسية وآثارها (السلبية قبل الإيجابية) وعن المسكوت عنه فيها، وما خلفته سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ليس في مصر وحدها، بل في الشرق الأوسط كله[2].
(2)
لخَّص المختلفون حول الحملة الفرنسية آثارها الكبرى في جانبين؛ السلبي في الاستعمار، والإيجابي في التعرف على العلم والحداثة والتاريخ المصري “القديم خاصة” على يد علماء الحملة (وهذه نقطة مهمة جدًّا وجوهرية؛ لأنها رَدَّتْ ميلاد أو انبثاق لحظة الحداثة الأولى في مصر العصرِ الحديثِ إلى حملة نابليون بونابرت).
وكان ثمة مزاج عام أو تيار ليس بالقليل يميل إلى التأكيد بشكلٍ دائم على النتائج الإيجابية للحملة الفرنسية على مصر، وأنها ساعدت على إثارة الوعي القومي لدى المصريين، ولَفْتِ انتباههم إلى وحدة أهداف المحتلين على اختلاف مشاربهم، ألا وهو امتصاص خيرات البلاد. كما عرف المصريون بعض الأنظمة الإدارية عن الفرنسيين، ومن بينها سجلات المواليد والوفيات، وكذلك نظام المحاكمات الفرنسي، الذي برز جليًّا في قضية “سليمان الحلبي”.
إذن، فقد انقسم المختلفون حول تقييم الحملة وآثارها إلى فريقين كبيرين؛ تزعَّم الفريق المناهض للاحتفال الراحلة الدكتورة ليلى عنان أستاذة الأدب الفرنسي والحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة؛ وكانت ترى أن الحملة الفرنسية كانت مَحْضَ حملة عسكرية استعمارية في المقام الأول قُتل فيها آلاف المصريين، واتهمت المرحومة ليلى عنان -وبعنف- النخبَ المثقفة المصرية بأنها تستطيع التعامل مع الاستعمار وسلبياته، وتتغاضى عن مقتل الآلاف من المصريين في سبيل أن تتحول مصر إلى بلد “حديث”، وسجلت كامل رأيها وتحليلها في كتابٍ مهم من جزئين صدر عن دار الهلال في تلك الفترة[3].
كان عنوان الكتاب الأول «الحملة الفرنسية.. تنوير أم تزوير؟»، والثاني «الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ»، وتقول المؤلفة في تصدير الجزء الأول “يجدر بالقارئ العربي، بعد مرور مائتي عام على الحملة الفرنسية، أن يعرف ما قيل عنها عند أهلها، وكيف تحولت إلى أسطورة وجدت، من خلال أقلام المبهورين بها من الأدباء والمؤرخين، مناخًا نشأت فيه وترعرعت، نظرًا لأن بونابرت قد خلق من نفسه “أسطورة”، بحيث أصبح كل ما يمسه، أو يُحكى عنه، أسطوريًا؛ خاصة أنه جاء من ثورة كان عصرها عصر الأساطير.
وفي الجزء الثاني، تستعرض ليلى عنان الجرائم البشعة لجيش الاحتلال الفرنسي في مصر بقلم شهود الحملة العيان، تلك الحقائق التي رآها مطموسة كل من رأى في نابليون بونابرت عبقريا معصوما من الخطأ، كما سبق أن تجاهلها المؤرخون الاستعماريون بسبب عنصرية واضحة في كتاباتهم. وأهم ما في هذا الجزء للقارئ خطابات كليبر حاكم مصر بعد رحيل بونابرت التي يقول فيها صراحة ما ينكره كل من مجَّد الجيش الفرنسي، قبل أن ينتهي عصر الإمبراطوريات الاستعمارية. والجزءان كلاهما، بالإضافة إلى الكتيب الذي مهَّد لهما، يفضحان من وجهة نظر صاحبتهما زيف الأسطورة التي نسجت خيوطها لتصنع ما تسميه “تنويرًا فرنسيًا لمصر”.
فيما رأى فريق آخر، أقرب إلى الاعتدال والتوسط، والسعي إلى تكوين رأي موضوعي (يتكون في معظمه من أساتذة أدب وحضارة ومؤرخين وكتاب وفنانين ومثقفين… إلخ) أنه بالتأكيد ثمة نتائج سلبية للحملة دون إنكار آثارها الإيجابية العميقة للغاية، وأنه لا ينبغي إغفالها أو التغاضي عن إبرازها.. إلخ.
ويؤصل المؤرخ الدكتور الشلق للمسألة من منظور مختلف؛ إذ يرى أن هذه الإشكالية بكاملها تستمد مشروعيتها من ظهور رؤيتين مختلفتين تجاهها لدى المؤرخين والمفكرين في الشرق والغرب؛ كانتا كالتالي:
أولاهما: ترى أن نهضة مصر وتحديثها بدأت مع «الغزو» الفرنسي، وبسببه، وأن تاريخ مصر «الحديث» بدأ بالفعل منذ وطئت أقدام جيش الشرق بقيادة بونابرت أرض مصر في أواخر القرن الثامن عشر، حيث بدأت مصر تطَّلِع وتنفتح على معطيات الحضارة الحديثة، وتتعلم منها أسباب نهضتها، بل وتطورها السياسي والاجتماعي بشكلٍ عام، فيرى المؤرخون الغربيون، ومن والاهم من المصريين، أن الغزو الفرنسي لمصر كان هو الأساس لنهضة مصر الحديثة.
ولعل افتتاحية الدكتور لويس عوض لكتابه المرجعي «تاريخ الفكر المصري الحديث» تمثل خلاصة رأي هذا الفريق؛ إذ يرى أن “في الكلام عن تكون الفكر السياسي والاجتماعي والثقافي في مصر والعالم العربي الحديث، وعما طرأ عليه من تطوراتٍ نتيجة للمؤثرات الأجنبية واليقظة القومية والثقافية الشاملة، لا مناص من اعتبار حملة بونابرت على مصر في 1798، وما تلاها من اتصالٍ مستمر بين مصر وأوروبا عاملًا فاصلًا في تكوُّن الأفكار السياسية والاجتماعية بالمعنى الحديث في مصر خاصة، وفي العالم العربي بوجه عام”[4].
وثانيتهما: ترى من وجهة نظر قومية أو “متحفظة”، أن الاحتلال الفرنسي لمصر كان مرحلة قاتمة ومظلمة في تاريخها، بل وفى تاريخ الشرق العربي كله، حيث أسهم في تفتيت وحدته، وفصم عرى الروابط والعلاقات التاريخية الوثيقة بين أجزائه، وأنه جلب إليه المطامع الاستعمارية، فضلًا عما جلبه من عادات وتقاليد غربية أثرت سلبًا على طبيعة شعوبه، وهددت هويتها وتراثها الأصيل.
وبالرغم من تدهور أوضاع مصر خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، فإنها كانت تحمل في أحشائها مقومات نمو داخلي وصحوة كادت أن «تنهض» بها نحو الحداثة لولا الغزو الاستعماري الفرنسي، الذي أعاق نهضتها الذاتية ووجهها وجهة غربية.
(3)
وكان من أصداء هذا السجال الكبير أيضًا، في تلك الفترة، لَفْتُ النظر إلى تيارٍ مهم له حضوره الكبير في الدراسات التاريخية المعاصرة، كان يَرودُه الأستاذان الكبيران “أندريه ريمون”، و”بيتر جران”، لإعادة البحث والحفر المعرفي والتاريخي، فيما قبل الحملة الفرنسية (والقرون الثلاثة التي سبقت الحملة وبخاصة القرن الثامن عشر)، وتسليط أضواء البحث العلمي والمناهج الأكاديمية المعاصرة على المائتي سنة التي سبقت الحملة، وأثمرت هذه الجهود نتائج مذهلة، وعددًا من الكتب والمؤلفات التي أكَّدَتْ بما لا يدعُ مجالًا للشك أن الأمور في مصر لم تكن مواتا كاملا كما كان يظن! أو أن الأمور ساءت إلى درجة لم يكن هناك أسوأ منها! فقد كانت هناك حركة ما وكان هناك نشاط ما، وكان هناك إحساس بأن ثمة شيئا يختمر ولا بد له أن يفصح عن شيء ما!
لم تَعُد الحملة الفرنسية وحدها -إذن- هي محور الجذب والاهتمام، ولم تَعُدْ مجردَ حدث يُؤَرَّخ به لمرحلتين شاسعتين متباينتين كل التباين، بل صارت حلقة ضمن حلقات، سابقة ولاحقة، ولم يَعُدْ من الممكن أبدًا أن نقرأ أحداثَ وآثار الحملة الفرنسية، ونتائجها، بمعزلٍ عما كان يدور ويَمُورُ قبلها في مصر بحوالي مائة وخمسين أو مائتي عام أو يزيد قليلًا، من حراك اجتماعي واقتصادي وثقافي، حتى وإن كان بطيئًا، حتى وإن كان مجهولًا، إلى أن قُيِّضَ له مؤرخون كبار وباحثون أكفاء جادون ليجلُوا هذا الغامض، ويكشفوا هذا المستور، ويحركوا مياهًا راكدة ويجددوا الدماء.
لم تَعُدْ أحداث الحملة في ذاتها مقصدًا وغاية؛ بل صار الربط والتحليل والمقارنة بين ما أحدثته من آثار، وما كان يمكن أن يؤدي إليه النشاطُ والحراك الاجتماعي في مصر قبلها هو الشغل الشاغل للباحثين والمؤرخين والمعنيِّين بالكشف عن بذور الحداثة في مصر[5].
وأتصور أنه، وقبل الشروع في قراءة أو عرض أو تتبع سيرة علم من أعلام النهضة أو ممثلي هذه الحركة (ومنهم الشيخ حسن العطار، والمؤرخ الجبرتي، والشاعر إسماعيل الخشاب، ومن قبلهم الشيخ مرتضى الزبيدي) من اللازم التوقف قليلًا عند أهم الآراء ووجهات النظر التي قُدِّمَتْ بشأن لحظة “الحداثة” الأولى التي شهدتها مصر، كما لخصنا جانبًا منها في الفقرات السابقة، والتي كان من الشائع والسائد والغالب ربطُها بل “تحيينُها” وردُّها إلى مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، وحدها،
وكان من اللازم كذلك الرجوع قليلًا إلى ما قبل الحملة الفرنسية (1798-1801)، على طريقة “الفلاش باك” (إذا استخدمنا المصطلح السينمائي والسردي) أي إلى مجريات القرن الثامن عشر، الذي شهد نصفه الثاني مولد الشيخ حسن العطار، ونشأته وتكونه ونضوجه، قبل أن يقدَّر له أن يعاصر أحداث الحملة في سنواتها الثلاث، ويرتبط اسمه بها مع أقرانه من الشيوخ والعلماء الذين اتصلوا “علميا وثقافيا” بعلماء الحملة، ثم يعاصر شطرًا من حكم محمد علي باشا منذ العام 1815 وقد كان مقربا منه، وصار شيخا للأزهر في عهده، وحتى رحيل الشيخ العطار عام 1835.
(4)
في هذا السياق المغاير لما ساد لفترات طويلة من تدشين تاريخ الحملة الفرنسية كنقطة للبدء في دراسة تاريخ مصر الحديث، تَبْرُزُ جهود المؤرخ الأمريكي والمنظِّر الشهير “بيتر جران”، ومن قبله جهود المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون، التي قوَّضَتْ تمامًا هذه النظرية؛ وبدا أن هناك تيارًا كاسحًا في الدراسات التاريخية يراجع هذا الرأي (الذي كان في حُكْمِ “الحُكْم”!) مراجعة جذرية.
ويقودنا السياق -تاريخيا ومنطقيا- إلى ضرورة إلقاء الضوء على الرجل وجهوده وأطروحاته المؤثرة التي أثمرت اتجاهًا في الكتابة التاريخية الإنجليزية والعربية، قدَّمَ الكثير وما زال يقدِّم حتى هذه اللحظة إسهاماتٍ مهمةً للغاية، ولأذكِّرَ أيضًا بأهمية وضرورة قراءة كتبه التأسيسية؛ وعلى رأسها كتابه المرجعي المهم «الجذور الإسلامية للرأسمالية.. مصر 1760-1840»، وكتابه الآخر عن “المركزية الأوروبية”.
أما الكتاب الأول؛ فيدور حول فكرة أن حملة نابليون بونابرت قد أجهضت نواةَ “نهضة” أو حركة حداثة حملتها شرائح برجوازية مصرية تكوَّنَتْ في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بينما يرصد الآخر كيف صاغ الغرب “رؤية مركزية للعالم” تنطلق من تاريخه وأفكاره وفلسفاته ورؤاه. كانت نظرية جران التي فصّلها في كتابه ذائع الصيت تقوم على مواجهة النظرة التي تردُّ النهضة الحديثة أو محاولة إحداث نهضة عربية إلى الغرب وحده، مُغفلة المقومات الذاتية والمتغيرات المحلية في مصر وأنحاء متفرقة من العالم العربي والإسلامي.
كانت النظرة السائدة قبل كتاب جران، التي طالما رَدَّدَهَا المؤرخون التقليديون، أن مدافع نابليون بونابرت هي وحدها التي أيقظت الوعي العربي من غفوته، وقادته إلى طريق استعارة وسائل النهضة والتحديث في كل مجالاتها من الغرب.
لم يَقْنَعْ جران بتلك النظرة، وعبر ملاحظاتٍ بَدَتْ له أثناء دراسته للفترة السابقة على قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، رصدَ بذورًا بازغة للرأسمالية في مصر القرن الثامن عشر، وتحدث عنها وحاول أن يرصد ملامحها، وهذا يعني أن المجتمع قد تطوَّر وصولًا للرأسمالية قبل دخول الفرنسيين، ما يعني أنه طوّر نفسه بنفسه، وهذا يعني أن الرأسمالية كان بإمكانها الظهور خارج أوروبا.
ويعيد هذا الكتاب، الاعتبارَ إلى الفترة العثمانية، ويشكِّك في النظريات التي ذهبت إلى القول بأن مصر قد شهدت فيها تدهورًا وخمولًا ثقافيًّا واجتماعيًّا، ظل جاثما على الحياة الثقافية حتى ظهور محمد علي وقيامه بعمليات إصلاح التعليم من فتح مدارس وإنشاء مطابع وإرسال بعثات… إلخ[6].
تمكن بيتر جران -عبر دراسة العديد من الكتب التي كُتبت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبالتركيز على شخصية عالم أزهري بارز هو الشيخ حسن العطار -موضوع هذا الكتاب- من أن يبرهن على وجود دلائل كثيرة على وجود نهضة ثقافية محلية ســبقت «مجيء الغرب»، سواء كان الغرب متمثلًا في شخص بونابرت أو في بعثات محمد علي التعليمية.
بل يذهب جران إلى القول، على عكس ما يفترضُه معظم الباحثين، بأن الحملة الفرنسية قد «أضرت» بالطبقات الوسطى في مصر وبالثقافة العقلانية التي كانت تعزِّزها قبل مجيء الحملة الفرنسية، وأن إصلاحات محمد علي قد أدَّت بمصر إلى التوغل في مضمار منافسات أوروبية، وأن هذه “المنافسة بين الرأسماليات قد أضرَّت بمصر، وتركتها بلدًا أكثر فأكثر تخلفًا وتبعية للخارج”[7].
ويضيف جران: “إن الدراسة الدقيقة لما كتبه المصريون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومقارنته مع ما كتبوه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تُبيِّن أن البلاد كانت في تلك الفترة المتأخرة في حالة انحطاط ثقافي. وبذلك تمثِّل هذه الفكرة مراجعة للمقولة الشائعة بأن مصر كانت تعاني فراغًا ثقافيًّا، وأن أوروبا هي التي ملأت هذا الفراغ بالأفكار الحديثة”.
وهكذا، انتهى “جران” إلى القول بأن ابتداءَ النهضة العربية بمجيء الغزو الاستعماري، أو الحملة الفرنسية على العالم العربي إنما هو اختزال لجهود الاستنارة العربية التي ابتدأت منذ القرن الثامن عشر، وأسهمت في تغيير الأوضاع، بما دفع المنطقة العربية -وخاصة مصر- إلى طريق التقدُّم الذاتي والتطور الطبيعي الذي قطع مسيرتَه الغزوُ الفرنسي لمصر سنة 1798، وفرض مسارًا مغايرًا اقترن بالتبعية والاتِّباع بأكثر من معنى[8].
(5)
أحدث بيتر جران، حقًّا، انقلابًا منهجيًّا، وأسهم إسهامًا عظيمًا في تغيير المنظور التاريخي للنهضة العربية بعامة، والمصرية خاصة، وعلى النحو الذي صار فيه الآن قبول (بل اعتماد) مقولة إن بذورًا للحداثة والنهضة كانت تتشكَّل وتتخلَّق في أحشاء المجتمعات العربية قبل قدوم الحملة الفرنسية.
وقد أثَّرت نظرية جران تأثيرًا كبيرًا بل بالغًا في الأوساط الثقافية المصرية، وكان لها أيضًا آثار مدوِّية في أوساط المشتغلين بالعلوم الإنسانية في مصر والعالم العربي، بل أعطت غطاءً معرفيًّا مقبولًا ومعقوًلا للعديد من النظريات التي تتعلق بنشوء الطبقة الوسطى في مصر، وكذلك في نشوء فن الرواية العربية (والأنواع الأدبية الحديثة ككل)، وكل القضايا المتصلة بما يمكن تسميته “تجديد الأصيل” من خلال إعادة الفحص والنظر والدراسة لما لدينا ونمتلكه من تراث، و”تأصيل الجديد” بالانفتاح الواعي الحر على الآخر من دون استخذاء أو تصاغر أو تماه.
وانتشرت لفترة طويلة، وربما حتى الآن، في أقسام اللغة العربية والأدب العربي، تفسيرات تتعلق بفجر الرواية العربية وبزوغها استنادًا إلى آراء جران التي تأثر بها كل من جابر عصفور، وسيد البحراوي، وأمينة رشيد، ورضوى عاشور، وخيري دومة، وغيرهم من المهتمين بقضايا نشأة الرواية العربية وأوليتها.
وأما في مجال الكتابة التاريخية، المنهجية، فقد وعى المؤرخون ضرورة الانتباه إلى وجهة النظر الاستعمارية التي طالما تمَّ ترديدُها واعتمادها وتدريسها؛ بأن هذه المنطقة لم تدخل عصر الحداثة إلا مع دخول الاستعمار لها.. قيل هذا عن جميع البلاد التي وقعت تحت الاستعمار، مثل الهند وأرجاء العالم العربي، وتمَّ تكريس هذا النهج الاستعماري لكتابة تاريخ العالم الثالث.
في المقابل، وتحديدًا في الحالة المصرية، فقد تنامى الاهتمام بالبحث في فترة وقوع مصر تحت الحكم العثماني، وتنامى كذلك الاهتمام بالبحث في سجلات الوثائق الشرعية، وحجج إثبات الملكية، والحيازات الزراعية، والعقارات ومواد وثائقية أخرى متنوعة مستقاة من سجلات المحاكم الشرعية، أو مخطوطات لمؤلفين مغمورين.. إلخ.
وظهرت مدرسة مصرية أصيلة رَادَهَا المرحوم الدكتور رؤوف عباس، وتخرج فيها عماد أبو غازي الآتي من تخصص الوثائق، والمنحاز إلى الدراسات التاريخية (أعماله عن الحيازة الزراعية معروفة ورائدة)، ومحمد عفيفي (وكتاباته المهمة عن الأوقاف والأقباط في العصر العثماني)، ومجدي جرجس (ذلك المؤرخ المهم الذي يعمل في صمت النبلاء)، وناصر إبراهيم، ونيللي حنا[9].. وغيرهم.
فـ “الحداثة” لدى نيللي حنا، على سبيل المثال، اتَّخَذَتْ أشكالًا متخلفة، وكان لها تجليات شتى في مناطق شكَّلَتْها الخبرة التاريخية وجهود أبناء البلد، وإبداعاتهم وجغرافيتهم، ولم تنجم فقط عن مجرد الاتصال بالغرب، بل كانت لها آلياتها ومصادرها الداخلية في المجتمع المصري.
بالتأكيد، فإن الدور الذي لعبه “بيتر جران” (مع سابقه الأستاذ الذي لا يقل عنه أثرًا وتأثيرًا في المدرسة التاريخية المصرية المعاصرة “أندريه ريمون) في تشكيل الوعي المنهجي والمنظور التاريخي المعاصر في مقاربة قضايا وإشكالات النهضة العربية والحداثة، يستدعي كتابًا كاملًا لا فصلًا في كتاب.
في الأخير، يمكننا أن نبلور كل هذا النقاش في طرح السؤال بصيغته المبسطة التالية:
هل كانت الحملة الفرنسية تشكل نقلة «حضارية» في حياة المصريين؟
يرد الباحث الأمريكي بيتر جران على هذا السؤال، قائلًا إن مصر خلال القرن الثامن عشر كانت تشهد تطورًا ملموسًا في اتجاه نشوء رأسمالية حديثة ومنتجة قطع عليها الفرنسيون الطريق لتحويل الشعب المصري إلى «زبون» للمنتجات الفرنسية، وإغلاق الباب أمام تطور الرأسمالية المحلية التي رصد الباحث بعض معالمها في الصوت الرومانسي الذاتي في شعر الشيخ إسماعيل الخشاب، وفى بعض الدراسات الفقهية، وفي أعمال الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر، وأستاذ رفاعة الطهطاوي..
في الأخير، ربما كان هذا العرض “المنهجي” أو النظري الموجز في البحث عن تحديد اللحظة التي انبثقت منها الحداثة المصرية الملتبسة، ضرورة للعودة إلى ما أسميناه (القرن الثامن عشر المصري)، والتوقف عند بعض مظاهر نشاطه، ومعالم حراكه، وكذلك التوقف عند بعض أعلامه وشيوخه ممن قادوا هذا الحراك، فيما يمكن أن نصفه بـ عصر “إحياء” عربي أو “رينيسانس عربي”.. ومن أشهر أعلامه الشيخ مرتضى الزبيدي، والشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ، والشيخ المصلح المجدد حسن العطار.. لكن هذا حديث آخر!
قائمة المراجع:
[1]– عماد بدر الدين أبو غازي: الجذور التاريخية لأزمة النهضة المصرية، دار ميريت للنشر، القاهرة، يناير 2000، ص 2-3.
[2]– عرضنا لبعض هذه الكتب في الكلمة التي صدرنا بها كتابنا عن الشيخ حسن العطار (صدر عن دار ريشة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2024) في فصل بعنوان (كلمة عن المصادر والمراجع)، ولعل كتاب الدكتور أحمد زكريا الشلق المعنون «الحداثة والإمبريالية الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر» من أفضل الكتاب التي أحاطت بأفكار وأسئلة هذه القضية وناقشتها مناقشة مستفيضة. وكذلك سلسلة المقالات التي نشرها أحمد عبد المعطي حجازي في (الأهرام)، وجمعها في كتاب بعنوان «نعم لفولتير.. لا لبونابرت»، صدر عن مكتبة الأسرة المصرية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2005.
[3]– صدر الجزء الأول ضمن سلسلة كتاب الهلال بعنوان «الحملة الفرنسية.. تنوير أم تزوير؟» 1998، ثم صدر الجزء الثاني في السلسلة ذاتها بعنوان «الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ» 1998، وكانت المرحومة الدكتورة ليلى عنان قد مهدت لكتابيها بكتيِّبٍ سابق صدر قبل هذين الجزئين بستة أعوام (صدر في أغسطس 1992)، العدد 500، من سلسلة كتاب الهلال، دار الهلال، القاهرة.
[4]– لويس عوض: تاريخ الفكر المصري الحديث، دار المحروسة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2022، ص 35.
[5]– يمكن لمن أراد أن يراجعَ الكتابَ المرجعي القيم «مائتا عام على الحملة الفرنسية» (رؤية مصرية)، من تحرير الدكتور ناصر أحمد إبراهيم، وإشراف المؤرخ الراحل الدكتور رؤوف عباس، الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية قبل عشرين عامًا تقريبًا!
[6]– خالد فهمي (المؤرخ): كل رجال الباشا- محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة العاشرة، 2021، ص 51.
[7]– المرجع نفسه، ص 52.
[8]– المرجع نفسه، ص 52.
[9]– والأخيرة، تحديدًا، أي نيللي حنا، من أبرز المؤرخين المصريين الذين تعمَّقوا في بحث موضوعاتهم على ضوء آراء ونظريات أندريه ريمون (التي تُعد أفكارُ وتصورات بيتر جران تطويرًا لها وإضافة نوعية بصورةٍ أو بأخرى)، عبر مشروع علمي حثيث ورصين، بدءًا من كتبها «بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر- دراسة اجتماعية معمارية»، و«بولاق في العصر العثماني» و«تجار القاهرة في العصر العثماني- سيرة أبي طاقية شهبندر التجار» مرورًا بـ «ثقافة الطبقي الوسطي في مصر العثمانية»، ووصولًا إلى «حرفيون مستثمرون.. بواكير تطور الرأسمالية في مصر» الصادر عن المركز القومي للترجمة.