تكوين
“الفن هو رجوع ما كان مكبوتاً بأحلى صوره،… لأن التخيّل الفني يعطي للتذكر اللاشعوري صورة التحرر الذي قمعته قوانين الواقع التي تهتم بالمردود المادي المباشر” [1]. إنطلاقاً من قول أدورنو، نرى أن هناك علاقة وثيقة بين “الحرية” وفعل التحرّر، وبين الفن، خصوصاً أن الفن هو ظاهرة اجتماعية، يتواصل فيه فنان منتج للأعمال الفنية، من جهة، وجمهور متلقٍ لهذه الأعمال، من جهةٍ أخرى؛ وأن الحرية تعطي فسحة للإنسان من أجل التعبير، واتخاذ القرارات، واختيار السلوك الذي يناسبه، في بيئته ومجتمعه. وإذا كان مجال بحثنا الإنسان العربي، وهمومه السياسية، والاجتماعية، وفنونه، فكان لا بدّ لنا من اختيار مفكّر جمالي عربي-إسلامي تبنّى هذه القضايا في كِتاباته وهو الدكتور شربل داغر.
علاقة الحرية بالفن
من هنا، وجدنا أنه من الأفضل البحث في علاقة الحرية بالفن، انطلاقاً من الفنان، خصوصاً في نصّ “الفن والحرية”[2]، من جهة؛ وانطلاقاً من الجمهور العربي المتلقّي لهذا الفن، ومحاولات تحرّره من أنظمته السياسية في حِراك الربيع العربي، على اعتبار أنها أنظمة استبدادية، وبخاصة في نص “التظاهرة، أو الخروج من جسد السلطان”[3]، من جهةٍ أخرى.
أولاً- في تعيين “الحرية” و”الحدود” عند داغر
يبتعد داغر عن تعيين مصطلح “حرية” لأنه يحمل معانٍ اعتقادية أو ثقافية تحّد الباحث في “نطاقات دلالية معيّنة”، لذا سيستبدله بمصطلح الـ”حدود” نظراً إلى ما يحمله من معنى الفصل بهدف التمايز مستخدماً القوّة؛ وذلك بعيداً عن أي “حمولات أخلاقية ودينيّة” كما هو الحال عند مصطلح “حرية”. يبحث داغر في مصطلح الـ”حدود” الذي يلائم موضوع علاقة الفن بالقيود التي تحيط به، من شأنها أن تحرّمه، أو تمنعه، أو تضبطه. ويبدأ هذا البحث بمعنى المصطلح عينه في اللغة العربية، فيجد أنه عبارة عن “خط مادي” يفصل في الجغرافيا، كما في القيمة، بين حيّزين مغايرين، أو طبيعتين مختلفتين في ما بينهما بهدف التمايز عند الإنسان بحسب التراتبية. علماً أن هناك “حدوداً” رمزية تفصل بين “التصوّرات، والاعتقادات، والأفعال، والأقوال”، بحسب ما يجوز أو ما لا يجوز التفكّر فيه، أو التلفّظ به. كما أن الـ”حدود الرمزية” تحتاج إلى وازع مادي، يمارس العنف الشرعي، إضافة إلى سلطات رمزية أخرى، يعوّل عليها الوازع المادي نفسه كـ”الأعراف، والاتفاقيات، والمعاهدات، والقوانين”. من هنا، تهتمّ الـ”حدود الرمزية” بأمرين متكاملين، وهما الفصل بهدف التمايز، من جهة، ومعرفة ما هو مسموح بلوغه، أو القيام به، وما هو ممنوع، في كل ناحية من الـ”حدود”، من جهةٍ أخرى[4]. بعد تعريف “الحدود”، سنتوقف عند انتقالاتها الأربعة.
ثانياً- انتقالات الـ”حدود” الأربعة
يرى داغر أن الانتقالة الأولى للـ”حدود” تتمّ عبر فكرة “الجن” المتداوَل بها في اللغات القديمة، لاسيما الإغريقية واللغات الهندية-الأوروبية، والعربية (قبل الإسلام). إن مصطلح “الجن” يحمل معنى “التابع”، بالإضافة إلى دلالات أخرى كـ”العبقري” و”المجنون” و”التميّز”. وهو يعطي الشعراء “كلاماً بليغاً” و”جميلاً” ومميّزاً عمّا هو مشترك بين الناس. ولم يقتصر الأمر على استخدام هذا المصطلح عند الشعراء، بل تعدّاه إلى سلوكات الناس المحيطين بالشاعر، فقد كان الشعب يقتل الشاعر الذي لا يَصدُق في تنبؤاته، مما ولّد حالة تنافس شديدة بين الكهّانة والشعراء، أدّت إلى احتلال الشعراء مكانة العراّفة ووظيفتهم[5]. يطلب الشعراء من الجن، على اعتبار أنهم “قِوى وسيطة” من شأنها أن تنقل الكلام البليغ من الغيب إلى الحاضر، “اختراق الحدود” ما بين العالم المادي والعالم الغيبي، عند نظم القصيدة، فيعبر الـ”حدود” المرسومة بين العالمين من أجل “جلب” القصيدة من “وادي عبقر” وهو مكان صعب على الإنسان أن يطأه عند الجاهليين. من هنا، يتصف الكلام المنقول من العالم الخفيّ بأنه يخرق العالم المنقول إليه بقوى غير بشرية، إذ إنه غير مرئي، ومسموع في آن؛ فيكون بذلك شبيهاً ببقية المخلوقات الأسطورية، من ناحية أنها نصف إلهية ونصف بشرية معاً[6]. انطلاقاً مما تقدّم، رفض الإسلام العلاقة بين الإنسان والجن، واعتبرها محظورة لأنها تميل إلى “اقتراف السوء” مما حدا بهم إلى فرض “قطيعة” مع الشعر من الناحية المعرفية[7]، لتجسّد فكرة الجن صيغةً أوّلية لـ”حدود” محظورة على المستوى الاعتقادي.
أما الانتقالة الثانية، فارتسمت في فلسفة الإغريق والأديان التوحيدية عبر التمييز بين “سبب واحد”، أو “السماء”، أو “عالم المُثُل”، أو “عالم علوي”، أو عالم مثالي”؛ من جهة؛ و”عالم النسخ المتدهورة”، أو “عالم علوي”، أو “الأرض”، أو “عالم منحط”؛ من جهةٍ أخرى. مع العلم أن الـ”حدود” عينها لا تُشكِّل انقطاعاً بينهما، بل إن هناك “مقايسة” أو “مناسبة” بينهما تتمثّل بتصوير العالم الخفيّ، في الجمالية الإغريقية وفلسفتها، وتتمثّل ببلوغ وسطاء العالم الكلّي وهو خفيّ على البقية، لكن هذا الوسيط ليس الجنّ نفسه كما هو الحال في الصيغة الأولى، بل أصبح كتباً مقدّسة يبحث فيها الإنسان بتمعّن ليجد معناها أي معنى العالم الخفيّ[8].
ارتسمت “حدود” جديدة، في انتقالة ثالثة، وذلك بين الفنان و”الطبيعة الإنسانية أو الجامدة”، بعد الـ”حدود” التي وضعتها الفلسفة الإغريقية أو الأديان التوحيدية. فأصبحت هذه الـ”حدود” أرضية المنشأ، إذ إن “الحقيقة موجودة في الطبيعة”، وتدعو الحقيقة عينها الإنسان إلى البحث عنها. علماً أن الفنون في هذه الانتقالة قد أصبحت تنقل العالم الطبيعي بعد أن كان يقتصر دوره على الزينة والإخبار أو السرد. فقد انتظمت الفنون عينها ضمن هذه الـ”حدود” بـ”قواعد داخلية” تسنّها كل ثقافة على حدة، من جهة، وبـ”قوانين أسلوبية” أو “قوانين اجتماعية-أخلاقية” أو “قوانين سياسية” بدلاً من محرَّمات محظورة. كما أن هذه القوانين تنقسم في ما بين ما هو غير متَّفق عليه، أي “خاضع للأخذ والردّ”، وما بين ما هو “اللاّ مفكَّر به” في المجتمع، فتقع في المركزية الإثنية باعتبار آدابها وفنونها قوانيناً عالمية من أجل بلوغ التطوّر[9].
أما بالنسبة إلى الانتقالة الرابعة، فقد أصبحت الـ”حدود” داخل الإنسان نفسه، فتفصل بين “وعيه” و”لاوعيه”؛ وذلك ابتداءً من دراسات فرويد، ومن الأدب الروسي المتمثّل بدو ستويفسكي. أصبح الفنان “هزيلاً”، و”هشاً”، و”متصدِّعاً”، و”ضعيف البنية” مما يجعله مبدِعاً؛ وذلك بعد أن كان “عبقرياً” في العصر الرومنسي عند الانتقالة الثالثة؛ أو “شاهداً على الحقيقة” في العصر الديني عند الانتقالة الثانية؛ أو “ناطقاً أكيداً من أقواله” في العهد السحري أو الصيغة الأولى للـ”حدود”[10].
وبعد أن عرّف داغر الـ”حدود”، ووصف انتقالاتها الأربعة، يموضعها في التاريخ الفنّي الإسلامي عبر درس تحريم الصورة عند المسلمين، وهذا ما سنتوقف عنده.
ما هي المبادئ التي تقوم عليها الحرية؟
ثالثاً- الـ”حدود” والـ”صورة” في الإسلام
يرى داغر أن “تحريم الصورة” قد اندثر، لكنه ترك بعض “المتبقيات” تتمثّل بالتدنيس أو بما هو دنيوي. لذا، أراد درس هذا التحريم في الإسلام، بدءاً من “دلالات الصورة في القرآن”: يجد أن مصطلح “صور” ومشتقّاته كـ”مصوّر” مرتبطتان بالخالق، ويُقصَد بها “تصوّر الخالق للمخلوق” قبل الخلق، وهي صورة غير خاضعة إلى غيرها من الصوَر، أو إلى أي اصل آخر، بل هي تتناسب مع مشيئته في الخلق[11]. مع العلم أن “الصورة” ترتبط بـ”هيئة الإنسان قبل خلقه وبعده”، ويقوم بها الخالق خصوصاً أنه المصوِّر، وذلك من دون الاعتماد على أنموذج سابق، بل يخلق من العدم. انطلاقاً مما تقدّم، انحصر استخدام مصطلح “صور” في مجال “خارج النطاق الإنساني”، بعد أن كان متداوَلاً بشكلٍ أوسع في الجاهلية. ولم يعد هذا الربط بين التصوير وفعل الخلق في الإسلام السبب الوحيد المانع له، بل إن هناك سبباً آخر وهو العلاقة بين الروح والصورة[12]. والمقصود بهذه العلاقة “المناسبة” بين العالمين، أو القطيعة في ما بينهما عبر “الصفاتية” و”المشبّهة”؛ ليتوصّل الفكر الإسلامي إلى “عملية تبعيد” بين العالمين إلى حدِّ القطيعة. مع العلم أن هناك مفاهيم عدّة أسهمت في ازدياد وتيرة هذا التبعيد، وهي “مفاهيم التعيين” المتداوَل بها في المجالين، فيصبح تعيين ما هو علوي بنفي ما هو سفلي أو إثباته، أي أن العالم العلوي مستحيل الوصف والتشبيه. إن هناك حالة رفض لأي محاولة تقرّب من العلوي، أو التوسط بين السفلي والعلوي، وذلك من أجل “التمنّع عن وصف الله وتبرئته عمّا يصفه به المشركون”. لذا، يصبح أي تعيين لما هو علوي مستحيلاً بالمقابلة مع ما هو سفلي، وأي تسمية له، أو أي وصف له، أو تقرّب منه، خصوصاً أن ما هو علوياً يبقى بديعاً: إن “البدع” هي قوة علوية من شأنها أن تُحدث ما لم يكن سابقاً، أي الخلق من العدم، أي “بدء تام”. أما التوهّم فيبقى خارج أي إمكانية، إنطلاقاً من عملية الخلق[13].
إقرأ أيضاً: الإسلام والوجه الآخر: الروحانيّة في مواجهة الأصوليّة
أما في الوقت الراهن، فحالة التصوير في أماكن العبادة الإسلامية تكاد تكون معدومة، باستثناء صور للإمام علي أو أحداث السيرة النبوية. كما أن فيلم “الرسالة” وبعض المسلسلات التلفيزيونية تمتنع عن إبراز صورة للرسول. في حين أن فيلم “المهاجر” ليوسف شاهين وأغنية مارسيل خليفة أثارا ضجّة دينية، وغيرها من الأحداث قد استجدّت قضية الـ”حدود” القديمة من أجل استحسان فنون معيَّنة واستقباح غيرها. من هنا، يتبيّن أن الـ”حدود” القديمة تبقى غير مخترَقة، على الرغم من التجديد في الأسلوب والمعالجة. ولكن يرى داغر أن هذه “الحدود تبقى مهدّدة بالزوال”، كما حصل مع قضية منع الموسيقى في الإيام الأولى من الثورة الإيرانية. في حين أن قضية الفتوى التي تجيز هدر دمّ سلمان رشدي قد تُشعر الإنسان بأنه يعيش في الـ”حدود” القديمة عينها، إلاّ إنها مجرَّد “تدبير إداري” تقوم به “الإدارة الدينية للمقدّسات في سياق تنازعي يشمل دولاً بعينها”، يتشابه إلى حدٍ ما مع قضية “الحلول في جسد الله” عند الحلاّج، وبفتوى هدر دمِّه، ولكن الفرق يكمن في أن الفتوى بحق سلمان رشدي تبقى خارج دائرة التنفيذ، مما يدلّ إلى الإبقاء على الـ”حدود” القديمة عينها، من ناحية ما هو “ممكن إخباره” وما هو “غير ممكن إخباره”، ولكن تبقى هذه الفتاوى من دون تنفيذ، بسبب الصراع الدائر بين الدول بعضها بعضاً، من جهة، وبين “مديري المقدّس” في الدول عينها، من جهةٍ أخرى، خصوصاً أن هناك غياب واضح للفصل بين السلطتين السياسية والدينية، أي بين الـ”حدود” والقانون[14].
رابعاً- التحرّر بـ”التظاهرة” من الاستبداد السياسي
بعد أن بحثنا في حرية الفنان عند اختيار موضوعات الفن، بهدف الإنتاج، رأينا أنه من الأفضل البحث في تحرّر الجمهور العربي، من خلال “التظاهرة”، من أجل الخروج عن السلطة، بحسب ما ورد عند داغر. فهو يبحث في ظاهرة “التظاهرة” على أساس أنها “بروز أو ظهور المواطن نفسه” انطلاقاً من مبدأ “العلانية”، ويقصد بها التغييرات الحاصلة على المستويين المعماري، والبنيوي الاجتماعي، في البلدان الإسلامية على أثر الإستعمار، خصوصاً بوجود محال تجارية تعرض منتجاتها، رافقتها سلوكات غربية كالتنزّه برفقة الزوجة من أجل المتعة، وهذا ما كان مرفوضاً لأنها موضة غربية، تسمح للمرأة بالخروج إلى الشارع “مع حليلها أو خليلها” مما يزيد الاختلال في المجتمع[15]. فإذا كانت الموضة الغربية هي أولى أشكال الظهور إلى العلن، فقد عقبتها “التظاهرة”، لذا أراد داغر البحث فيها، وفي أسبابها التاريخية، والسياسية، والنفسية، والاجتماعية. مع العلم أن دراسة ظاهرتها تبقى عصيّة على أي باحث في ظل غياب أي دراسة عنها في البلدان العربية، وفي ظلّ نِدرتها، لاسيما أنها قد حدثت بوجه الاستعمار أو الاحتلال الصهيوني. وظلّت “التظاهرة” تعبّر عن اللا توازن لمصلحة السلطة، خصوصاً أن الحاكم يرى فيها خروجاً عن سلطته.
أما من الناحيتين النفسية والاجتماعية للـ”تظاهرة”، فيجد داغر أن هناك “استعداداً”، أو “تهيؤاً”، أو “مؤثرات”، أو “دوافعاً متحركة” عند المتظاهرين أكثر مما هو فعل “كسر حاجز الخوف”، ومن ثمَّ، فهي “تصدر عن إحساسات ودوافع ومحركات وآراء، وتستدعي تدابير وخبرات، كما تظهر في أشكال وإداءات، وتفضي إلى وقائع وحدوثات وأشكال تلقٍ وتقويم”. إن هذا “الاستعداد” يؤثر على قوى قد تتألف من طبقة معيّنة، أو من فئة تتكوّن فيها طبقات عدّة، وتتمظهر من خلال حزب، أو أحزاب عدّة، أو منطقة، تتشارك فيها “مسارات فردية خالصة” لتشكّل خروجاً صعباً أو خروجاً برياً، إذ يصدر عن هذا الخروج مواجهات بين الأفراد في “حقيقتهم المحدودة”، من جهة، والأجهزة الأمنية، من جهةٍ أخرى. في المقابل، تتصف السلطة بأنها تتشكّل من أنظمة حكم “سلطانية” و”استبدادية” اقتصرت على “عهود الأسر السياسية” و”التوريث السياسي” في البلدان العربية، وذلك بعد انتهاء “مجالس الصحابة” في عهد الخلفاء الراشدين.
أما من الناحية الجمالية، فقد تبيّن أن “التظاهرة” هي مشهد له “تعبيرات دالة، فردية، وجماعية”. علماً أن الفردية تتمثّل بتنوّع التعبيرات، في حين أن ما هو جماعي يتّصف بما يجمع المتظاهرين من تعبيرات لا تقتصر فقط على بروز المتظاهرين عند “مجيء الكلام”، و”انكشاف الجسد”، و”تعالي التطلّع”، “ورفع الصوت”، و”رفع اليد”، و”رفع الجسد نفسه”؛ بل تتعدّاه إلى ما يدعوه داغر بـ”الإزاحة” عند تدافع أقدام المتظاهرين كما تتدافع الكلمات في الجملة. كما يصف داغر جمهور “التظاهرة” بأنهم ممثلون كانوا في حالة غيبوبة، أو غيّبتهم السلطة، ثم أصبحوا “صارخين، مطالبين، ورافضين” بصورة مفاجِئة. انطلاقاً مما تقدّم، تجمع التظاهرة بين ما هو فني وما هو سياسي، إذ إنها تشكّل شراكة بين المجالين بواسطة الإحساس.
خامساً- خروج الفن من القصر ودوره السياسي
بعد أن جسّدت “التظاهرة” ثورة على السلطان، وخروجاً من جسده، وفتنة سياسية، خصوصاً أنها وجه من أوجه تحرّر الإنسان العربي من نير الاستبداد السياسي، يجد داغر أن هناك “ثورة إبداعية” في الفن، تمثّل بخروجه من قصر الإقطاعي، وتوجّهه نحو الجمهور، ليدخل إلى السوق الرأسمالية. ومن أهم آثار هذه الثورة الفنية هي بناء مكانات اجتماعية متمايزة بين المبدعين بالصراعات في ما بينهم. إن هذه الصِراعات تتمظهر بقيام مدارس فنيّة عدّة، و”تحتكم” إلى الجمهور، بمعنى أنها تحصل على شرعيتها مستندةً إلى أذواق الجمهور المتباينة، لكي تغيّر في مقترحاتها وتعدّل فيها لتتناسب مع الأذواق عينها. لذا، أصبح الفن هو أحد تعابير “التفاعل” الحاصل بين الفنان، من جهة، وبيئته التي تقدّم له “طروحات المعنى المختلفة”، من جهةٍ أخرى. كما أن هذا الخروج أدّى إلى تغييرات في آلية اشتغال الفن، فيتشابه بذلك مع اشتغال الدعاية من ناحية الاتّكال على موضوعهما. انطلاقاً من هذا التغيير، أصبحت نجومية الفنان تمثّل “ماركة ضامنة للعمل الفني”، بعد أن كان الفن يستند إلى “الإبداع البصري” أو “الإبداع اللغوي” في ما مضى، بما معناه أن العمل الفني الحالي أصبح “بارداً” و”جافاً” وغائباً عمّا هو “راهن”، ومبتعداً عن الإحساس، ومنقطعاً عنه، ليميل بذلك إلى ما هو “ذهني”، وإلى ما هو “مصنوع”، وإلى “المرجع” أو موضوعه. لذا، جعلت هذه الثورة المتلقّي متنبأً للمستقبل، ومتخيّله بصورة مسبوقة، لكنه يبدو متفاجأ به، وكأنه “يراه للمرة الأولى”؛ كما جعلت الفنان يتوجّه إلى الجمهور، بدلاً من التوجّه إلى الحكّام، فيقترح الأعمال الفنية. من هنا، يصبح التشابه واضحاً بين العمل الفنّي والعمل السياسي؛ من ناحية التوجّه إلى الجمهور، والتوقّع، والاعتماد على لغتين جمعية وفردية معاً[16]. وبعد تبيان العلاقة بين السياسة والفن، أين دور التحررّ السياسي للجمهور؟
الحرية والفن
سادساً- المواطنة العربية والتحرّر
لقد أسهم الرومان في اكتشاف “أجهزة توسطية بين الإنسان والسياسة” من أجل حفظ حرية الجمهور في العيش الكريم، والسعادة، والاختيار؛ على اعتبار أنهم “مواطنون” و”أصحاب سيادة”، على الرغم من تعاقدهم بشكلٍ إرادي مع الحاكم، وتوكيلهم حريتهم إليه، إلاّ أنهم يبقون أحراراً. فالمواطنة هي نِتاج عملية تاريخية ولّدت بدورها تفككاً للبنى التقليدية، أو “علامة خروج” عن المجتمع التقليدي، و”علامة بناء” أجهزة توسطية بين الشعب والسياسة، لتتخطّى الوعي نحو “التذرر الاجتماعي والاقتصادي”. بناءً على المواطنة الرومانية، يحاول داغر تعريف المواطنة عند العرب، فيجدها تختلط مع مفاهيم عدّة، كـ”الإنسان، والفرد، والعضو في الجماعة”، لذا يغيب مفهوم المواطنة عن العرب. فأين يتشابه الحِراك العربي، باعتباره خروجاً عن جسد السلطان وتحرراً منه، مع التدوين الشعري؟
يرى داغر أن الحِراك العربي هو خروج الشبان والشابات “من عتمة التواصل الحاسوبي”، وهي صورة متطوّرة عن المنشور السياسي فوق الحائط، وعن “أحاديث المقاهي”، من دون أن تؤدّي هذه السلوكات في “الجدران الإلكترونية” إلى حِراك سياسي؛ وذلك ليظهروا هؤلاء الشبان والشابات إلى العلن، وقد توحَّدوا في الأحاسيس والمشاعر من أجل بلوغ ما هو سياسي. علماً أن هناك تشابه بين “الخروج إلى الشارع” والتدوين الشعري حين يتوجّه كلٌ من السلوكين إلى الآخر في ظلّ الغموض الذي يسود الملاقاة بين المتظاهرين، والذي يجعل الكلام غير مفهوم لحين ملاقاة المتلقّي “في منتهى المعنى”[17].
خلاصة
لقد بحث داغر في الحرية وعلاقتها بالفن من خلال نصوص عدّة، إلاّ أننا أردنا اختيار هذين النصين، نظراً إلى ما يحمله الأول من تعيين لمصطلحات أساس تتعلّق مباشرةً بالموضوع؛ وإلى أهمية النص الثاني خصوصاً أنه يعاصر الثورات العربية، والحِراك الشعبي من أجل التحرّر من الاستبداد. وقد توصّل إلى مدى حريّة الفنان العربي في اختيار موضوعاته، سيما أن الحدود تتغيّر من جيل إلى جيل، وقد شهدت انتقالات أربعة سبق أن تكلمنا عليها؛ اما في قضية تحرّر الجمهور سياسياً من جسد السلطان كما تحرّر الفن من قبضة الإقطاعيين، فقد حلّل فشل هذه الحِراكات، كما فشلت “الثورات الإبداعية” في الفن حين اتصّفت بالصيغة الاستهلاكية. لذا، نرى أن هناك رؤية متشائمة عند داغر في قضيتي الحرية والفن، وكما قال فوكو أن موت الله أدى إلى موت الإنسان، ألا نستطيع أن نقول الشيء عينه هنا: موت الفن وثورته الإبداعية أدى إلى موت الحرية؟
المراجع
[1] – رمضان، بسطاويسي. علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت، أدورنو نموذجاً، طبعة أولى، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1998، ص 25
[2] – مجموعة من المؤلفين. الحرية في أبعادها الحضارية، تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع م.م.، 2005، ص 69 ولغاية ص 92
[3] – داغر، شربل. “أخبار الأدب”، القاهرة، 10-3-2012
[4] – راجع الحرية في أبعادها الحضارية، م.س.، ص 69-71
[5] – راجع الحرية في أبعادها الحضارية،م.س.، 72
[6] – راجع م.ن.، ص 72-73
[7] – راجع م.ن.، ص 74
[8] – راجع م.ن.، ص 77-78
[9] – راجع م.ن.، ص 78-79
[10] – راجع م.ن.، ص 79
[11] – راجع الحرية في أبعادها الحضارية،م.س.، ص 79-80
[12] – راجع م.ن.، ص 81
[13] – راجع م.ن.، ص 83-84
[14] – راجع م.ن.، ص 89-91
[15] – راجع “أخبار الأدب”، م.س.
[16] – راجع “أخبار الأدب”، م.س.
[17] – راجع م.ن.