عند البحث في موضوع النهضة وخطابها المأزوم،تقودك الخطوات إلى العقل العربي،ومعه،إلى حقيقة الواقع المرير الذي تعيشه المنطقة العربية نتيجة الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية والأيديولوجية،وما تُحدثه هذه الآفات،بعنفها المستفحل،من آثار سلبية على امتداد الساحات العربية والاسلامية،حتى استقرّ النظر إلى مايجري،على أنه ثمارٌ مرّة من ثمرات هذا العقل،وصدى مدوّ لفشله في إدارة شؤون هذه الأمة،و لهشاشة قدرته على ابتكار السياسات الناظمة لحاضرالمجتمعات العربية والاسلامية والمستشرفة لمستقبلها والمحركة لطاقاتها نحو التطوّر والتحديث.
رأيت في هذه المقالة،أن أعود إلى خطاب النهضة في نقد الجابري،إلى النصوص التي وضعها،والتي جاءت بمثابة تمهيد لكتابة تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي،والتي،ربما كانت المحرّض على الانصراف إلى إنجاز هذا المشروع النقدي…وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض(١).
مع السؤال الذي طرحه شكيب إرسلان”لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم”(٢)،شكّلت فكرة التقدّم والنهوض هاجس الفكر العربي الحديث والمعاصر،وبات سؤال النهضة حاضراً بقوة في الثقافة العربية،شغل الفلاسفة والمؤرخين والأدباء وفي طليعتهم صاحب مشروع نقد العقل العربي،الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري.
خطاب النهضة العربية الجابري
انهمام الجابري بخطاب النهضة العربية هو في أساسه انهمام بالعقل العربي(*)باعتبار هذا الخطاب هو تجلٍّ من تجليات هذا العقل، وتبدٍّ من تبدّياته الحاملة لشعور بالقلق على أحوال هذه الأمة المبتلية بأسباب التخلّف،والرغبة في تغيير هذه الأسباب وإصلاح واقعها والسير به نحو النهوض والارتقاء،كأن في نقد هذا الخطاب خطوة أولى تتوخّى إبراز نوعية النقد الذي سوف يمارسه الجابري في تفكيكه لبنية العقل العربي.
عمد الجابري في تحليل هذاالخطاب،وتحريك المسكوت عنه فيه،إلى تعيين مواطن الخلل التي تسكنه،فهو خطاب يترامى في أفقين مختلفين،أفق يتطلّع إلى الحداثة وقيمها المعرفية والليبرالية،ناظراً إليها باعتبارها باب الخلاص(يسميه المستقبل)وآخر مشدود إلى الخلف(الماضي)،على أنه الأصل الذي يجب أن يبنى عليه في السعي إلى شفاء هذه الأمة من عللها ومكامن ضعفها،ما يكشف عن ارتباك هذا الخطاب في وعي مفهوم النهضة وغيرها من المفاهيم،المتصلة بالإصلاح والثورة وإدراك حيثياتها وشروط استعمالها في البيئة الثقافية التي أنتجتها(٣)،مفاهيم تحيل إلى واقع متحقق في تلك البيئة،بينما هي،في البيئة “المضيفة”بمثابة شيء مأمول تسعى إلى تحقيقه.
تتسم أعمال الجابري بشيء من التشاؤم الثقافي،الرافض لخطاب النهضة وللنظام الاجتماعي السائد،لكنه تشاؤم،لايوصد جميع الأبواب والنوافذ،بل يترك بعضها،معابر إلى حداثة لا تقطع مع الماضي قطعاً جذرياً،وتتجه نحو علاقة إبداعية بين التراث والمعاصرة أو بين الماضي والمستقبل،من أجل حاضر يعيش نهضته بكل معانيها وأبعادها.إن القصد من قراءة التراث وتحليله واستثماره في تحرير العقل العربي من الآليات المعرفية التي انتهت صلاحيتها،لا يخرج عن إرادة تحرير الواقع العربي من أزماته ومشاكله(٤).
١-النقد
أ-تحديد مفهوم الخطاب
افتتح الجابري نقدَه بتحديد مفهوم الخطاب،فعرّفه”بأنه أساساً مجموعة من النصوص”(٥)،وأنه”مقول الكاتب أو أقاويلُه بتعبير الفلاسفة القدماء،إنه بناء من الأفكار(من جهة)…ومقرؤ القارئ أو مقول القول بتعبير المناطقة(من جهة أخرى)،إنه موضوع لعملية إعادة بناء أي نصّ للقراءة(٦)،وعليه،يستقرّ معنى الخطاب على أنه ما يقوله المخاطِب أو المرسِل وما يقرؤه المخاطَب أو المتلقي.
ب-قراءة الخطاب
بعد تحديد المفهوم ينتقل الجابري إلى قراءة الخطاب،فيشير إلى أنواع ثلاثة من القراءة:”القراءة التي تقبل أو تريد الوقوف عند حدود التلقّي المباشر، تجتهد في أن يكون هذا التلقّي بأكبر قدر من الأمانة…قراءة تحاول أن تُخْضِعَ نفسها للنصّ”(٧)،أما النوع الثاني فهي”القراءة التي تعي منذ اللحظة الأولى كونها تأويلاً،فلا تتوقّف عند حدود التلقّي المباشر بل تريد أن تساهم بوعي، في إنتاج وجهة النظر التي يحملها أو يتحملها الخطاب.هي لا تريد ولا تقبل الوقوف عند حدود العرْض والتلخيص والتحليل…بل تريد إعادة بناء ذلك الخطاب…غير أنها تسعى عن طريق التأويل إلى إخفاء التناقضات الطافية على سطح الخطاب(٨).وأخيراً يقترح الجابري قراءة ثالثة،قراءة”تشخيصية”،تنشغل بتعيين عيوب الخطاب ومواطن الضعف في مبتنياته،دون النظر إلى”إعادة تشكيل مضمونه…وبعبارة أخرى،تريد أن تعرض وتبرز ما تهمله أو تسكت عنه القراءتان السابقتان،إنها كشف وتشخيص للتناقضات التي يحملها الخطاب،سواء على سطحه أو في هيكله العام،أكانت تلك التناقضات مجرّد تعارضات أو جملة نقائص(٩).
تتمحورقراءةالجابري”التشخيصية”حول”كيف”يقول الخطاب ما يقوله،فانصبَّ اهتمامه على بنيته المنطقية وآلياته المعرفية،على”علامات”العقل الذي ينتجه،أو “علامات” اللاعقل الثاوية في طبقاته،متوسلاً بمنهجية،تكاملت فيها البنيوية والتحليل التاريخي ومفاهيم مستقاة من باشلار وفوكو وبعض المقولات الماركسية(١٠)،لكنه،يعترف بأنه”لا يتقيّد بتوظيفه لتلك المفاهيم بنفس الحدود والقيود التي تؤطّرها في إطار ها المرجعي الأصلي…بل كثيراً ما يتعامل معها بحرية واسعة”(١١)،ونجح في تعريبها وتبيئتها واستثمارها”على نحو أتاح له المساهمة في تحديث اللغة وتجديد الفكر في آن معاً كما ينمّ عن ذلك خطابه”(١٢).
٢-تفنيد الموقف النقدي
جاء نقد الجابري للخطاب النهضوي،جذرياً،لم يترك سبباً من أسباب فشل المشاريع النهضوية السابقة إلا وكشف عنه،وانتهى إلى رفضها جميعاً لأنها مسكونة بالتناقض والانفعال وعوامل الإخفاق،لقد فنّد موقفه النقدي هذا وفصّله في جملة من النقاط،أبرزها:
أ-التناقض الوجداني:انطلق “ناقد العقل العربي”من معطيات علم النفس والتحليل النفسي ليصف سلوك العرب الفكري إزاء مشروع النهضة”بنوع من التوتّر النفسي،شبيه بذلك الذي يسميه علماء النفس بالتناقض الوجدانيambivalence”،حيث تزدوج في وجدان الشخص نفسه،مشاعر الحبّ والكراهية إزاء الموضوع نفسه”(١٣)،إن وعي العرب للنهضة يقوم أساساً على نوع من”الإنشطار”بين نموذجين،الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية،النموذج الأول”حمل إليهم في آن واحد،الحرية وأغراهم بقيمها الثقافية والعلمية،إلى جانب سياسة القمع والتدخّل الاستعماري،والنموذج الثاني شكّل بالنسبة لهم السند الذي لابدّ منه في عملية تأكيد الذات،غير أنه قدّم نفسه عبر قنطرة طويلة عريضة من الركود والانحطاط.
إن التعامل مع النموذج الأول يتطلّب من العرب السكوت عن الجانب الاستعماري فيه،وقبول هذا الأمر مستبعد لأن الاستعمار يعيق نهضتهم ومناهضته مطلوبة وواجبة”ومن هنا كان الغرب ولا يزال بالنسبة إلى العرب العدو الذي يجب الإحتراز منه والوقوف ضدّ مطامعه وسيطرته من جهة،(وفي الوقت نفسه)النموذج الذي يغري بالاقتداء به والسير في ركابه من جهة ثانية”(١٤)،كذلك يقتضي الاقتداء بالنموذج الثاني(الحضارة الاسلامية)السكوت عن قرون طويلة من الانحطاط،وهوسكوت يصعب القبول به،لأن قرون”الانحطاط”جزء من هذا النموذج نفسه(١٥).
ب-إهمال الواقع أو تغييبه:التفكير بالنهضة خارج الواقع،هو وليد الإحساس بالفارق بين واقع الانحطاط الذي يعيشونه،وواقع النهضة الذي يقدّمه كل من النموذجين:العربي-الإسلامي في الماضي،والأوروبي في الحاضر”فهم عندما يفكرون في النهضة،لا يفكرون فيها كبديل عن الواقع الذي يعيشونه،بديل يجب صنعه انطلاقاً من هذا الواقع عينه وفي ضوء معطياته وإمكانياته…بل إنما يفكرون فيها خارج الواقع أي من خلال نموذج جاهز…النموذج الاسلامي الذي يزداد”توغّلاً” في الماضي،بالشكل الذي يجعل التفكير فيه يفقد أسبابه الموضوعية،والنموذج الأوروبي الذي “يتوغّل في المستقبل بالشكل الذي يجعل الأمل في اللحاق به يتضاءل أمام اطّراد التقدّم العلمي والتكنولوجي الهائل”(١٦)،ما يعني أن الفجوة بين الفكر والواقع في الخطاب العربي الحديث والمعاصر كبيرة،والخلافات النظرية والأيديولوجية فيه،هي “وليدة اختلاف في السلطة المعرفية كمرجع،بدل أن تكون نتيجة الاختلاف في تفسير الواقع وتأويله”إنه خطاب لا يطرح قضايا الملموس والمعاصر،بل قضايا خارج الواقع، مستعارة من النموذج دوماً،فالممارسة النظرية هنا ممارسة “كلامية”في مفاهيم مجرّدة فارغة من كل محتوى واقعي،الشيء الذي يجعلها تنقلب إلى مصدر للتضليل والتعتيم”(١٧).
يبدو جلياً أن هذا الإحساس بالفارق الذي يسكن وعي العرب بالنهضة،هو نتيجة”مقارنة أو مقايسة لا حصيلة تحليل وممارسة”تحليل واقع الانحطاط والبناء عليه من أجل الخروج بنموذج نهضوي يحاكي شروط الواقع ويعبّر عن تطلّعات المجتمع وآمال الناس.
ج-خداع الذات:استمرّ الخطاب المعاصر في خداع نفسه،والنظر إلى دور نهضوي،يتنكّب فيه العرب”قيادة الانسانية”،يبدو هذا الطموح الحالم واضحاً عند الذين “يقيسون” على النموذج الاسلامي والذين يَرَوْن النهضة بعثاً لإسلام جديد”البعث الذي يتبعه- على مسافة قريبة أوبعيدة-تسلّم قيادة البشرية”(١٨)،كذلك ينسج أحد مفكّري الاتجاه القومي على المنوال نفسه،مزاوجاً في تصوّره للنهضة،بين النموذج الاسلامي والنموذج الأوروبي،”فهي انبعاث قومي لأداء رسالة إلى العالم أجمع”انطلاقاً من”أن الأمة التي بُعِثت لتقود العالم وحدها للحق والعدل والسلام،لا بدَّ لها أن تُبعث من جديد في القرن العشرين…لرسالة مستمدّة من حقيقة وجودها كأمة عربية…رسالة،إما أن تؤدّيها عظيمة كاملة وإما أن لا تؤدّيها على الإطلاق”،ما يحتّم على العرب العودة إلى مسرح التاريخ بعد زمن من التهميش،وتمَثُّلَ الحضارة الحديثة وهضمها لكي يكون بالمستطاع تجاوزها تمهيدا لإتمام رسالتهم إلى العالم،ويعلن كاتب قومي آخر”لن ينبعث إبداع العرب إلا من خلال انبعاث إبداع العالم ثانية على صورة مشروعه الثقافي الرحماني،ذلك ما يقوله خطابُ حضارتِه المنصرمة،إذ،لم يخرج العرب من جاهليتهم إلا وهم يُخرجون العالم حولهم من جاهليته،ثم يضيف،وتبقى محاولة أن ينتزع العربي عقلانية الحضارة الأوروبية الموشكة على الانهيار”(١٩).ويورد الجابري الكثير من النصوص المعبّرة عن “سيادة الحلم” في الخطاب العربي المعاصر،حيث يغيب الحدّ الأدنى من التوازن بين الذات والموضوع،وتستحيل الرغبة الذاتية،الحقيقة الوحيدة،فتزيد من لا معقولية الخطاب،ويصبح تحقيق هذا الحلم أمراً مستعصياً،نظراً لعدم معقولية الشروط الضمنية التي تؤسسه(٢١)،في هذا السياق،يصبح تبشير هذا الخطاب بسقوط الغرب،وبانهيار الحضارة الأوروبية بسبب غلوّها المادي وتهميشها الجانب الروحي،توجهاً مفهوماً،باعتباره خطاب يحاكي رغبة أو شعوراً مقموعاً باستحالة” النهضة القيادية” العربية الاسلامية مع حضور الغرب كنهضة قائمة،وإذاً فلا بدّ من سقوطه.
تراث النهضة .. صلة وصل بين الذات والآخر
د-شكّل” قياس الغائب على الشاهد” الآلية الذهنية التي حكمت التفكير النهضوي،وصورة هذا القياس هنا،تتجلّى في “عقل” الحاضر بالماضي(الاسلامي) أو بالمستقبل(باعتبار أن النموذج الأوروبي الراهن هو مستقبل العرب)،وقياسه عليه،مع ما في هذه الآلية المعرفية من تجاوز للشروط الموضوعية العائدة لكل طرف من طرفي القياس.والدعوى القائلة:لا ينهض العرب اليوم إلا بما نهضوا به بالأمس،لا تصحّ إلا إذا تمّ السكوت في حلم النهضة المنشودة اليوم،عن نظير ماسكت عنه في نهضة الأمس…إن “النهضة القيادية”المنشودة والمؤسَّسَة على القياس على نهضة الماضي غير ممكنة التحقيق على مستوى الخطاب السلفي(أولاً)إلا بغياب الآخر الذي هو بالنسبة للحاضر الراهن:الغرب…ولما كان سقوط الفرس والروم شرطاً لقيام نهضة العرب في الماضي-وهذا ما يسكت عنه الخطاب السلفي-كذلك فإن سقوط الغرب شرط لقيام”النهضة القيادية” المنشودة…وهذا ما يسكت عنه الخطاب نفسه(٢٢).
يؤكد الجابري أن منطق الليبرالي العربي لا يختلف عن منطق السلفي،الإثنان يعتمدان الآلية الذهنية نفسها(القياس) مع فارق المرجعية التي يفكّر كلّ منهما من داخلها،لاسيما عندما يعرب عن استحالة تصوّره “نهضة “عصرية لأمة شرقية ما لم تقم على المبادئ الأوروبية للحرية والمساواة والدستور،لكنه يسكت مثل السلفي عن الشروط التاريخية الي رافقت ولادة هذه القيم النهضوية والتي تغيب عن واقع العرب التاريخي والسياسي المعاصر(٢٣).
٣-أفكار من أجل الخلاص
لم يقف الجابري في نقده لخطاب النهضة عند حدود السلب،وإن مواطن الخلل الذي أوردها لم تثنِهِ عن تقديم بعض الأفكار التي من شأن الأخذ بها،أن تسهم في توفير سبُل تحقيق مقاصد الخطاب النهضوي المنشود،لعلّ أبرزها ضرورة إبراز نوع من الاستقلال التاريخي للذات العربية،وذلك عبر التحرّر من النموذجين اللذين حكما توجهات الخطاب النهضوي،:النموذج العربي-الاسلامي،والنموذج الأوروبي،تحرّر من غير قطيعة،وعلى قاعدة القراءة النقدية لتاريخية كلّ منهما،قصد الهضم والتجاوز،باعتبار أن في النموذجين من المفاهيم والقيم ما يمكن أن بغني النهضة المنشودة،ويكون عاملاً من عوامل قيامها.
بالإضافة إلى شرط التحرر من النموذجين،يقترح الجابري التحرّر من المحدّدات الثلاثة:القبيلة،الغنيمة،العقيدة،التي استحكمت بمقدمات العقل السياسي العربي في الماضي،وما زالت تفعل فعلها في الحاضر،وتنتج الأسباب المعيقة،لمقتضيات النهوض والتقدّم،وعليه،فالتحرّر يقضي بتحويل القبيلة في المجتمعات العربية إلى تنظيم مدني،سياسي،إجتماعي(أحزاب،نقابات،جمعيات حرّة،مؤسسات دستورية…)وفتح الباب لتكوين مجال سياسي حقيقي…وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي،بعيداً عن العقلية الريعية…وتحويل العقيدة إلى رأي،و توفير شروط حرية التفكير والمغايرة والاختلاف،كسراً لسطوة التفكير المذهبي والطائفي المتزمّت والمدّعي امتلاك الحقيقة،ما يعني الانتفاضة على العقل الدوغمائي”الوثوقي،وتجاوز تعبيراته الدينية والعلمانية،والإحتكام إلى معايير التفكير النقدي(٢٤).
لا شك أن تحقيق هذه الأفكار يستدعي تربية المجتمع على تقدير الثقافة العلمية والفلسفية،والإفادة منها،في قراءة الأشياء ومقاربة الوقائع ومستجدات الحياة، وتشجيع البحث العلمي وتطوير مناهجه في مؤسساته التعليمية،مع وضع سياسة تربوية تعير الإهتمام لتدريس اللغات الأجنبية والتحفيز على إتقانها، وهذا كله،يقع في منزلة الضروري لقيام نهضة جديدة،بكل المعاني والأبعاد.
لا ينسى الجابري التعبير عن انحيازه القومي،فيربط تحقيق هذه المتطلبات الضرورية لقيام النهضة الجديدة،بإنجاز مشروع الوحدة العربية الحقيقية،وطريق هذه الوحدة تمر عبر تمكين الدولة القطرية من تأمين شروط ممارسة الديمقراطية الحقيقية،عندها تصبح مقاليد الأمور معلّقة على إرادة الشعوب العربية الحرة،فتختار بقناعة صادقة شكلاً من أشكال “دولة الوحدة”،ترى فيه تجسيداً لآمالها وتطلّعاتها(٢٥).
أختم بالقول:
إن المتابع لمشروع الجابري،بوجوه المختلفة،لا يستطيع إغفال المقاصد المعرفية والثقافية التي يحملها،ولا يملك إلا أن يعترف بجرأة صاحبه في تعرية الواقع العربي وإبراز أسباب تخلّفه،داعياً،من أجل تجاوز هذا الواقع،إلى تحرير الذات العربية من ثقافة الإقتداء والتبعية.والثابت أيضاً،أن المشروع أصاب اهتماماً كبيراً في الأوساط الفكرية والثقافية العربية،وغدت مؤلفات الجابري من المراجع المكرّسة في الفكر العربي، تتمتع بقدر عالٍ من الأكاديمية والموثوقية عند المهتمّين بهذا الفكر والمتشوّفين إلى التبحّر في دقائقه وأبعاده.
لكن الجابري بلغ من القسوة في نقده الخطاب النهضوي،حدّاً قاده إلى إغفال مزايا في هذا الخطاب لا يصحّ تهميشها،منها،إسهامه في تنشيط الفكر العربي وتزويده بالكثير من المفاهيم الحداثية التي يمكن أن يُبنى عليها في تحقيق نهضة جديدة،تكتسي ملامح استقلالية،من غير قطيعة مع ثقافات العالم وإبداعاته،وفي الوقت الذي ينادي فيه بالإعلاء من شأن العقلانية باعتبارها الطريق الوحيد إلى النهضة والتحرّر ،وتعميم الثقافة العلمية والاستفادة من منجزاتها،متغافلاً عن جوانب أخرى لها دورها في إثراء تجربة التقدّم والنهوض،مثل الأخلاق والفنون،تراه ينظر بعين الحذر والارتياب إلى التكنولوجيا الحديثة،وهي “زبدة البحث العلمي”،لأنها ليست سوى وسيلة للهيمنة،و باباً من الأبواب الجالبة “للغزو الثقافي”، المفسد للأفكار والقيم،وأداة للسيطرة على إرادات الشعوب ونهب ثرواتها والتحكّم بمصائرها.
———————————-
قائمة المصادر والمراجع:
*_إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل”العلمي”ل”عقل”تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة،بواسطة هذه الثقافة نفسها:الثقافة العربية الاسلامية(تكوين العقل العربي…ص١٤).
١- م.ع.الجابري،تكوين العقل العربي،مركز دراسات الوحدة العربية،ط٣،(١٩٨٨).
٢-دار الأنوار،بيروت،د.ت.
*_إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل” العلمي”
٣-راجع:الجابري،الخطاب العربي المعاصر:دراسة تحليلية نقدية،ط٤،م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٩٢.
٤-راجع:الجابري،بنية العقل العربي،دراسة تحليلية نقدية للنظم المعرفية في الثقافة العربية،م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٩٢ص٥٦٨٥
٥-الخطاب العربي المعاصر…م.س.ص١٠
٦-م.ن.ص١٠
٧-م.ن.ص١١
٨-م.ن.ص١٢
٩-م.ن.ص١٢
١٠-م.ن.ص١٤
١١-م.ن.ص١٢
١٢-علي حرب،نقد النصّ،ص٢،م.الثقافي العربي،الدار البيضاء،١٩٩٥،ص١١٧
١٣-الخطاب العربي المعاصر…،ص١١٩
١٤-م.ع.الجابري،إشكاليات الفكر العربي المعاصر ،بيروت،م.د.الوحدة العربية،بيروت،١٩٨٩،ص٢٧.
١٥-الجابري،الخطاب العربي المعاصر…ص١٩
١٦-الجابري،الخطاب العربي المعاصر…ص٢٠
١٧-الجابري،الخطاب….ص١٨٥
١٨-راجع:سيد قطب،معالم في الطريق،دار دمشق،د.ت.
١٩-الجابري،الخطاب…ص٢١،حيث يعود إلى(اليأس فرح،دراسات في القومية،دار الطليعة،بيروت١٩٦٠،ومطاع صفدي،مجلة الفكر العربي المعاصر،العدد١٢أيار:ص١٧-١٨).
٢٠-فرنسيس المرّاش،(مشهد الأحوال،ص٣٩)،ذكره كرم الحلو في كتابه”الفكر الليبرالي عن فرنسيي المرّاش…م.د.الوحدة العربية،بيروت،٢٠٠٦ص١٨٣).
٢١-الجابري،الخطاب…ص٣٢-٣٣
٢٢-الجابري،الخطاب…ص٣٠
٢٣-الجابري،الخطاب…ص٣١
٢٤-الجابري،العقل السياسي العربي…م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٩٠،ص٣٧٤
٢٥-راجع:الجابري،إشكاليات الفكر العربي المعاصر،م.د.الوحدة العربية،بيروت١٩٨٩.