تكوين
مقدمة
لئن سعت بعض اتجاهات الفكر الإسلامي قديمًا وحديثًا في التشديد على الطابع المقدس للنظرية السياسية القائمة على الخلافة فإن اتجاهات أخرى حاولت دحض هذا الرأي، وهو ما تميزت به النظرية السياسية لدى المعتزلة.
حاولنا انطلاقًا من هذه الملاحظة أن ننظر في كيفية مقاربة الكاتب المصري محمد عمارة لهذه المسألة.
واخترنا أن نركز في هذا الصدد على كتابه “الإسلام وفلسفة الحكم” فهو ثري بالمسائل التي من شأنها أن تضيء لنا كيفية تقبله للنظرية السياسية الاعتزالية.
وقد دشنا بحثنا بالنظر في المصطلحات السياسية بين الدنيوية[1] والتقديس على غرار مصطلحات الخليفة والإمام وأمير المؤمنين. ويتمثل مبتغانا من هذا المبحث في تتبع مسعى عمارة إلى بيان مدى ارتباط هذه المصطلحات بالمقدس والبشري.
وآثرنا في المبحث الثاني من عملنا مسألة وجوب الإمامة لدى المعتزلة بوصفها لدى عمارة وجهًا من وجوه دنيوية السلطة السياسية لدى هذه الفرقة. واخترنا في هذا السياق أن نتطرق إلى مسألتين فرعيتين: تتمثل أولاهما، بدنيوية السلطة من طريق رفض ضرورة وجودها. في حين تتمثل ثانيتهما، في عد العقل مصدرًا لوجوب السلطة لدى المعتزلة. فهذا الرأي في نظر عمارة أحد تجليات دنيوية السلطة لديهم، فما هي ركائز هذا الموقف ومستنداته النظرية؟
اخترنا في مبحث لاحقٍ أن نسبر أغوار موقف عمارة من مبدأ الاختيار بوصفه من أسس دنيوية النظرية السياسية لدى المعتزلة. إن الحجم الكبير الذي خصصه عمارة لهذا المبحث يُبرز مركزيته في النظرية السياسية التي كان يُمزقها الصراع على مصدر الإمامة هل هو النص أم الاختيار؟ فما هو منهج عمارة المعتمد في هذا الصدد؟ وهل بدا مُحايدًا أم مُنحازًا في مقاربته لهذه المسألة؟ وهل من أثر لسياق الكتابة في موقفه؟
ولما كان مبحث الاختيار يُثير عدة مسائل فرعية، اخترنا أن نتوقف عند مسألة من يختار الإمام أو المؤهلين لاختيار الإمام بوصفها تجليًا من تجليات دنيوية النظرية السياسية لدى المعتزلة، فهل اختيار الإمام واجب على كل الأمة مثلما ذهب إلى ذلك أحد علماء المعتزلة؟ أم أن الأمر ينبغي أن يقتصر على فئة من الأمة؟
آثرنا بعد ذلك مسألة عزل الإمام لدى المعتزلة فهي في نظر عمارة من علامات دنيوية السلطة في نظرية الخلافة لديهم، فما هي خلفيات هذا الموقف؟ وما علاقته بالصراع المذهب والسياسي بخصوص هذه المسألة؟ وتطرقنا في المسألة الأخيرة من بحثنا إلى نقد محمد عمارة الفكر السني، بسبب شرعنته حكم مغتصب السلطة والمُستبد بها، فهو ينطلق من عد الإمامة عقدًا أو تعاقدًا، أي أنها شأن دنيوي يمكن نقده ولا قداسة له مثلما تذهب إلى ذلك بعض اتجاهات الفكر الإسلامي.
1-المصطلحات السياسية بين الدنيوية والتقديس
سعى محمد عمارة في دراسته لبعض المصطلحات السياسية التي شاع استخدامها في المصادر الإسلامية السنية وغير السنية في بيان أبعادها وخلفياتها الدينية والدنيوية ومساعي مُمثلي الفرق الإسلامية لشحن هذه المصطلحات بالدلالات التي تلائم اختياراتهم العقائدية والمذهبية.
واختار أن يتوقف في المستوى الأول عند مفهوم الخلافة أو الخليفة. وانطلق من ملاحظة حضور لفظ “خليفة” في الآية ” يَا دَاوُودُ إِنَا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَاسِ بِالْحَقِ وَلَا تَتَبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَكَ عَن سَبِيلِ اللَهِ ۚ” (26).
ويبدو أن مصطلح الخليفة في هذه الآية لا يعني في نظره المنصب السياسي الذي برز بعد وفاة الرسول، وإنما يُقصد به خلافة الله أو نيابته في الأرض من طريق منصب النبوة. ولئن كانت مشمولات الخليفة في الحالتين سياسية ودينية، فإن نقطة الخلاف الرئيسة أن خلافة داود أكثر ارتباطا بالمقدَس، لأن مصدر التعيين إلهي والوظيفة مرتبطة بهذا المصدر لأن صاحبها نائب له يقوم مقامه، أما الخلافة المعروفة فهي خلافة للرسول لكنها غير مرتبطة بالمقدس من جهة أن النبي لم ينص على خلافة أي إنسان يحل محله وهو الموقف السني المخالف للاختيار الشيعي.
ولئن ورد مصطلح الخليفة في الآية السابق ذكرها في سياق سياسي وديني لاقترانها بلفظ الحكم، فإن آيات أخرى ورد فيها لفظ الاستخلاف في صيغة عامة تدل على وظيفة تعمير الأرض، وهو ما يستشف من الآية ” هُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ” (الأنعام 165).
ويحضر الخلط بين الدلالتين الدينية والدنيوية في آيات أخرى مثل: ” وَعَدَ اللَهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِلَنَهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (النور 55).
والواضح وفق عمارة أن لفظ الخلافة ومشتقاته في القرآن لم يكن دالًا في أغلب الأحيان على المعنى السياسي، لأن مصطلحًا آخر كان خاصًا بهذا المعنى وهو لفظ الأمر المنصوص عليه في الآية 59 من سورة النساء ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ” . ويبدو أن مصطلح “خليفة رسول الله” الذي ظهر في زمن أبي بكر ووثقته مراسلات هذا الخليفة ووثائق عصره يتميز بطابعه الدنيوي السياسي، وهو ما تجلى مثلًا في رفض أبو بكر دعوة الناس له بخليفة الله قائلًا لهم: “لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله”[2].
أ-مصطلح الإمام
ارتبطت نشأة هذا المصطلح بنشأة الفكر النظري الشيعي في موضوع الإمامة. ولئن ورد المصطلح في القرآن فإنه لم يكن يتعلق بدلالات سياسية وإنما بدلالات دينية، ذلك أنه يختص بالنبوة والتقوى أكثر من اختصاصه بمن يتولى رئاسة الدولة.
مثال: ” وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ” (يس 12) يدل على اللوح المحفوظ.
– ” وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” (البقرة 124) والمقصود بالإمام هنا النبوة.
– ” أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً” (هود 17) والمقصود الكتاب المؤتمر به والمقتدى به في الدين.
أما الأحاديث المنسوبة إلى النبي فالظاهر أنها استخدمت مصطلح الإمام بمعنى المقدم في الدين والتقوى وما ورد منها في سياق سياسي تغلب عليه علامات الوضع لغايات سياسية مثل: “من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنقه”[3]. ويبدو أن هذا الحديث، وهو من صنف الآحاد يتطرق إلى مسألة خلافية هي إمامة المُتغلب الذي تمرد على سلطة الإمام، لذلك فإن شبهة الوضع تُشتم منه في نظر عمارة.
ونجد عدة أحاديث استخدمت لفظ الإمام مع استبدالها بصيغ أخرى منها: صيغة الأمير على غرار “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته”[4]. ويروي مُسلم هذا الحديث باستبدال لفظ الإمام بالأمير يقول: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته”[5].
أما حديث الأئمة من قريش فالظاهر حسب بعض الدارسين أن أبا بكر لم يحتج به في اجتماع السقيفة، بل استخدم لفظ الأمير “منا أمير ومنكم أمير” وورد على لسانه قوله: “إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش”[6].
وما يدعم هذا الاتجاه في التأويل استخدام مصطلح أمير المؤمنين بدلالة سياسية لا غبار عليها، وهو ما اختاره عمر بن الخطاب مستبدلًا به لقب خليفة رسول الله. والراجح أن الشحنة الدينية لمصطلح الإمام كانت وراء اختيار الشيعة استخدامه لإضفاء المشروعية الدينية على أئمتهم.
وجماع القول إن البحث في الدلالة اللغوية أو الاصطلاحية لهذه المصطلحات مهم، لكن الأهم منه سبر الخلفيات المذهبية والسياسية التي أدت إلى نشأتها، وهو ما يُفضي إلى استخلاص صبغتها البشرية الدنيوية والتاريخية التي تنزاح عن المقدس على الرغم من رغبة بعض الفرق في تجذير هذا الطابع المقدس فيها.
وفيما يذكره القاضي عبد الجبار سند قوي لهذا الفهم فهو يقول: “لا يمكن أن يدعى في لفظ الإمامة التعارف من جهة اللغة لأنه لا يعقل في اللغة أنها تفيد القيام بالأمور التي تخص الإمام، ولا يمكن ادعاء العرف الشرعي فيه، فالذي حصل فيه من التعارف إنما حصل باصطلاح أرباب المذاهب، وما حل هذا المحل لا يجب حمل الخطاب عليه. ولذلك لم يروَ عن الصحابة ذكر الإمامة وإنما كانوا يذكرون الأمير والخليفة ولذلك قالوا يوم السقيفة :” منا أمير ومنكم أمير، وقالوا لأبي بكر: خليفة رسول الله، ولعلي أمير المؤمنين ولم يصفوا أحدا منهم بالإمام”[7].
2-دنيوية السلطة السياسية لدى المعتزلة: مسألة وجوب الإمامة نموذجًا
لم تكن مقاربة محمد عمارة لمسألة “وجوب الإمامة” مقتفية خطوات الباحثين السابقين، بل حاول أن تكون مقاربة إشكالية تدرس المسألة بين موقفين أساسيين: يتجه بها أحدهما وجهة دينية، في حين يوجهها الموقف الآخر نحو وجهة مدنية دنيوية بشرية.
1- المعتزلة ودنيوية السلطة السياسية
لم يكتفِ محمد عمارة بعرض موقف المعتزلة من دنيوية مسألة وجوب الإمامة، وإنما سعى في الغوص في خلفيات هذا الموقف لتأكيد الطابع الدنيوي والبشري المُهمين عليه. أقر بناءً على هذا أن المُنطلق الذي انطلق منه المعتزلة إلى القول بوجوب الإمامة هو أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وأنه لا يمكن للفرد أن يعيش بمعزل عن العشيرة والطائفة والجماعة، ولما كانت لهذا الفرد مصالحه الخاصة ونزواته وغرائزه التي ستلقى المناقضة من الآخرين… فإن صلاح الهيئة الاجتماعية والحفاظ على هذه الشركة المدنية يستوجب وجود الحكام”[8].
ويرى عمارة –باستخدام مصطلحات مدنية- أن وقوف المعتزلة –ومعهم كل الفرق الإسلامية تقريبًا- إلى جانب القول بضرورة وجود سلطة حاكمة في المجتمع، أي في صف القائلين بوجوب الإمامة، ليس أمرًا جديدًا في الفكر الإنساني، بل هم في نظره امتداد لأصحاب الفكر “المدني والمتمدن” من مفكري الحضارات. وقد اختار عمارة –تجسيدا لما ذهب إليه من أن وجوب الإمامة أو ضرورة السلطة فكرة مدنية- أن يضرب مثالين من علماء المعتزلة مُستهلًا ذلك بقول الجاحظ: “الناس يتظالمون فيما بينهم بالشره والحرص المركب في أخلاقهم، فلذلك احتاجوا إلى الحكام”[9]. ولئن اكتفى عمارة بهذه الملاحظة السريعة فيجدر بنا أن نُضيف إلى ما ذكره أن الجاحظ ذكر في كتابه “الحيوان” أنه صنف كتابًا في حكاية مقالة من أبى وجوب الإمامة ومن يرى الامتناع من طاعة الأئمة. وذكر بعض حججهم في رد وجوب الإمامة، فهم قد “زعموا أن ترك الناس سُدى بلا قيم أرد عليهم وهملًا بلا راعٍ أرتَعُ لهم وأجدر أن يجمع لهم ذلك سلامة العاجل وغنيمة الآجل، وأن تركهم نشرًا لا نظام لهم أبعد من المفاسد وأجمع لهم على المراشد”[10].
أما المثال الثاني فهو يتعلق بموقف الماوردي (ت. 450 هـ) فهو يقول –قبل ابن خلدون– وفق عبارة عمارة-: “والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعه، وخلقة قائمة في جوهره”[11]. ولئن كان هذا القول لا يتعلق بضرورة السلطة فإن عمارة أورده ليُشدد على مدنية الإنسان التي تفطن إليها الماوردي وليوجه للباحثين في المسائل الحضارية القديمة رسالة تفيد أن زمن الكتابة لا بُد أن يكون حاضرًا، منه المنطلق وإليه الرجوع، وهو ما تجسد من طريق ملاحظة عمارة أن الماوردي يتحدث “عما نسميه في أدبنا السياسي الحديث بأن الإنسان مدني بالطبيعة والجبلة”[12].
لقد كان هذا الرأي قاعدة أساسية للقول بضرورة وجود سلطة تسير المجتمع حتى لا ينتشر الفساد فيه. وتبنت المعتزلة وأغلب الفرق الإسلامية هذا الموقف فقالوا: إن الإمامة واجبة فهل كانوا سباقين إلى هذا الرأي؟
إن مما يُحسب لفائدة عمارة أنه التزم بالموضوعية التاريخية فبين أن ضرورة وجود سلطة فكرة قديمة وأن المسلمين لم يخترعوا جديدًا ولم يأتوا بأمر مُستحدث في الفكر الإنساني، وإنما كانوا امتدادًا لأصحاب الفكر “المدني والمتمدن” من مفكري الحضارات التي سبقتهم أو عاصرتهم.
هذا الرأي على قدر كبير من التميز لأنه رفض أن يسير في صف المُتغنيين بالتاريخ الإسلامي حتى إن استدعى الأمر تزييف الحقيقة التاريخية. فالباحث الجاد –في هذه الشهادة- هو من يتحلى بالموضوعية ويعتمد التنسيب معيارًا لأحكامه. فلا عيب من نسبة الفكرة إلى صاحبها وإن لم يكن مُنتميًا إلى حضارة الكاتب وتاريخه نفسه. وصَرَّحَ عمارة بناءً على هذا أن فكرة ضرورة السلطة سبق أن عَبر عنها أرسطو في رسالته إلى الإسكندر “عندما رفض الفكرة الداعية لإلغاء السلطة الحاكمة في المجتمع وطالب بها مع اشتراط أن تكون سلطة عادلة”[13].
أ- دنيوية السلطة من طريق رفض ضرورة وجودها
لئن كانت أغلب الفرق الإسلامية تتبنى فكرة ضرورة السلطة، فإن الموضوعية فرضت على عمارة أن يُشير إلى وجود خلاف تاريخي في المسألة. وقد وَثَّقَ أبو الحسن الأشعري (ت324ه) ذلك بقوله: “واختلفوا في وجوب الإمامة، فقال الناس كلهم إلا الأصم: لا بد من إمام. وقال الأصم: لو تكاف الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام”[14]. ولا يقتصر هذا الموقف على الأصم المعتزلي وإنما يشترك فيه معه الفوطي المعتزلي (ت286ه) والنجدات من الخوارج.
ويعد هذا الموقف في نظر عمارة من أهم تجليات دنيوية الفكر السياسي الإسلامي، وهو ما عبر عنه باستبعاد أصحاب هذا الموقف أن يكون الشرع مصدر وجوب الإمام. وقد سعى في تقديم ما يُفسر هذا الرأي، فهو يقوم من جهة على غياب نص يُصرح بوجوب الإمامة سواء في القرآن أو في السنة. وينهض من جهة أخرى على غياب إجماع على هذا الوجوب على صعيد الشَرْع. وهذا الغياب يُلتمس في التاريخ، فالإجماع الأول في زمن أبي بكر لا يوجد نص يدعمه، لذلك فلا سند لهذا الإجماع شرعًا، وفضلا عن ذلك فإن هذا الإجماع لم يحدث، لأن هناك من رفض البيعة أو لم يشارك فيها أو بايع مع الامتعاض والنفرة وأيضًا فإن تصور حصول الإجماع من كل واحد من آحاد الأمة هو تصور لأمر يدخل في عداد المستحيلات”[15].
ويحرص عمارة على تنزيل موقف الأصم والفوطي والنجدات في إطار مقاربة مخالفة للمعهود، فهم في نظره لا يُنكرون وجوب الإمامة، بمعنى ضرورة قيام السلطة الحاكمة في المجتمع، وإنما هم في نظره يُلغون الطابع الديني للمسألة ويرسخون الطابع الدنيوي والمدني لها، يقول في هذا السياق: “وإنما هم يُخرجون هذه القضية من إطار الشرع والدين إلى إطار المصلحة المدنية للمجتمع، فعندما تكون هذه السلطة ضرورية لإقامة العدل، والعدل واجب فإن وجوبها يصبح أمرًا لا نزاع فيه لأنها تستمد وجوبها هذا من الوجوب الدائم لإقامة العدل بين الناس. أما إذا قام العدل بين الناس وانتفت المظالم وأسبابها، فإن العدل الواجب يكون قد تحقق فكأنما الإمامة متحققة. ولهذا لا وجه ولا مبرر لإقامة سلطة حاكمة قد انتفت دواعي قيامها في هذا المجتمع العادل”[16].
ويخالف عمارة اتجاه من عد موقف العالمين المعتزليين وموقف النجدات مثاليًا، لأنه لا أحد منهم عاش في مجتمع عادل، فقد كانوا –وخاصة النجدات- في ثورة دائمة ضد الظلم، فضلا عن أنهم لم يُهملوا نَصب إمام لهم، فإمامهم نجدة بن عامر (ت. 69 هـ) هم من اختاروه وهم ينتسبون إليه، وإنما تكمن القضية –وفق عمارة مجددًا- في رغبتهم في إلغاء الطابع الديني عن السلطة، حتى لا يُصبح وجودها أبديًا، وسعيهم في مقابل ذلك إلى إضفاء الطابع الدنيوي والبشري على السلطة بما يجعلها مصلحة يقتضيها استهداف إقامة العدل بين الناس.
ولئن كان هذا الافتراض مُغرقا في المثالية –وفق عمارة– فهو مطلوب لتأكيد الطبيعة المدنية لطريق وجوب الإمامة أو السلطة.
يواصل عمارة التشديد على الطابع الدنيوي البشري لوجوب الإمامة اعتمادًا على رأي قديم للشهرستاني (ت. 548هـ) يقول فيه: “قالت النجدات من الخوارج وجماعة من القدرية مثل الأصم وهشام الفوطي إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبًا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته، فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد، والناس كأسنان المشط، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله”[17].
ولا ريب في أن عبارة الشهرستاني التي تُفيد أن الإمامة “مبنية على معاملات الناس” ناطقة نُطقًا لا غُبار عليه بأن أصحاب هذا الموقف انزاحوا عن التبرير الديني لموقفهم ليشددوا في المقابل على طبيعته الدنيوية البشرية.
ويُمعن عمارة في تطبيق المنهج التاريخي عندما يحاول الوصل بين الموقف النظري للعالمين المعتزليين وواقعهما التاريخي. وقد انطلق في ذلك من التساؤل عما إذا كان موقفهما افتراضًا وحلمًا بمجتمع عادل فحسب أم أنه قد قامت نماذج في المجتمع الإسلامي “نبهت إلى إمكان تحقق مجتمع من هذا القبيل في الواقع والتطبيق لا في التصورات والأحلام”[18].
أجاب عمارة عن تساؤله بعدم استبعاد الافتراض الثاني، والدليل على ذلك أنه في حياة العالمين المعتزليين وتحديدًا في عام 201 هـ ثار العامة وأسقطوا الدولة العباسية مستغنين عن الخليفة وولائه وجيشه، وأداروا شؤون الناس بأنفسهم. وقد سرد الطبري أحداث هذه الثورة في مبحث وسمه بـ “ذكر خروج المطوعة للنكير على الفساق”. وقد جاءت هذه الثورة بعد انتشار فساد الجُند في البلاد فتصدى لهم متطوعون تطبيقًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يتساءل عمارة –من خلفية الإعجاب بالمعتزلة– “هل للقائمين بهذه الثورة صلة بفكر المعتزلة وتنظيمهم؟”[19]. لئن كانت المصادر تسكت عن الجواب فإن عمارة يُرجح ذلك لأنهم كانوا يعتمدون مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أصل من أصول المعتزلة وإن لم ينفردوا به، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يتهمون خصومهم بأنهم فسقة ولم يسموهم بالكفرة مثلما فعل الخوارج، و”الفسقة” تسمية المعتزلة لمرتكبي الكبائر. ويختم عمارة احتجاجه لقرب هذه الثورة من المعتزلة بكون الخليفة المأمون هو الذي أطلق سراح سهل بن سلامة قائد تلك الثورة، يقول الطبري عن سهل: “وظل في السجن حتى دخل المأمون بغداد بعد مقتل الأمين ففك سجنه واستدعاه للقائه فأجازه ووصله وطيب خاطره”[20].
ب- العقل مصدرًا لوجوب السلطة عند المعتزلة: من تجليات دنيوية السلطة
لئن تبنت أغلب الفرق الإسلامية فكرة ضرورة السلطة أو وجوب الإمامة، فإنها اختلفت في مصدر هذا الوجوب: هل هو العقل أم الشرع؟ وقد حضر هذا الاختلاف داخل الفرقة الواحدة على غرار ما نلفيه لدى المعتزلة. فقد ذهب معتزلة البصرة، وكذلك الجبائيان وجمهور أهل السنة إلى أن السمع هو مصدر هذا الوجوب، إلا أن عمارة اختار التركيز في الفريق المنتمي إلى المعتزلة الذي قال بوجوبها عقلًا، وهو إنما يوجبها على الناس لا على الله، لأن ممثلي هذا الاتجاه يرونها أمرًا دنيويًا لا دينيًا. ويشدد عمارة على الطابع الدنيوي فيقول: “فهم يوجبون الرياسة على المكلفين من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية”[21]. فمهام الإمام “كلها من مصالح الدنيا”[22].
والظاهر أن عمارة يُركز في هذا الفريق من المعتزلة الذي يوجب الإمامة بالعقل، لأنه ينزاح بها من منطقة الشرع والدين فيجعلها بذلك منصبًا دنيويًا خالصًا في مخالفة صريحة للشيعة الذين وإن اتفقوا مع المعتزلة في جعل العقل مصدرًا لوجوب الإمامة فإن هاجسهم ديني، ذلك أن الإمامة في نظرهم قضية دينية، بل هي أصل أصول الدين.
يوضح عمارة هذا الاختلاف من طريق ذهاب الشيعة إلى إيجاب الإمامة على الله لا على الناس “لأنها عندهم لطف يبتعد بالناس عن القبائح العقلية. وهذا قول الاثني عشرية، ولأنها معلم يؤدي إلى معرفة الله سبحانه، وهو قول الإسماعيلية”[23].
وتنهض دنيوية السلطة السياسية لدى المعتزلة على معارضتهم رأي الشيعة الذي يعدُّ الإمامة لطفًا إلهيًا، فأكثرهم يميل إلى أن نصب الإمام إنما تُراد به المصلحة الدنيوية، لذلك فإنهم لا يشترطون فيه العصمة كما هو حال الأنبياء الذين تبتغى منهم المصلحة الدينية والبلاغ الديني عن الله تعالى. وقد استعرض عمارة ردود المعتزلة على براهين الشيعة على الوجوب العقلي للإمامة والإمام بوصفه لطفًا إلهيًا لا يصح التكليف دونه فالمعتزلة يرون:
أولًا، في القرآن وفي السنة العملية المتواترة الحجج الدينية والشرعية، ومن ثم فليس الإمام هو الحجة مثلما يقول الشيعة.
ثانيا، يثقون فيما تُجمع عليه الأمة وما ترويه ويرون أن مغالاة الشيعة في الإمام إنما نبعت من قدحهم في سائر المكلفين من جهة جواز الكتمان والكذب عليهم.
ثالثا، يقولون إن وجوب الإمامة إذا تعلق بالتكليف –وهو رأي الشيعة– فلا يخرج أمرها عن طرق ثلاثة:
- أن يكون الإمام هو المؤدي إلى تمكين المكلفين من القيام بما كُلفوا به… وهذا ما ينكره العقل.
- أن يكون الإمام هو البيان للدين، لأنه الحُجة في الشريعة وقيامه ضروري كالنبي وهذا أيضًا لا تُسلم به المعتزلة.
- أن يكون الإمام لُطفًا وهذا لا يستقيم، لأن ذلك يتطلب أن يكون الإمام معلومًا لكل مُكلف حتى تُزاح عِلة المُكلف.
ويقول المعتزلة إن اعتراضاتهم هذه على إيجاب الشيعة للإمامة عقلًا وعلى مفهومهم المُتمثل في عد الإمامة لُطفًا لا يتم التكليف من دونه، لا تعني إبطال اللُطف وإنما تعني رجوعهم في ذلك إلى السمع حتى يتخلصوا من الاعتراضات الواردة على موقف الشيعة ومذهبهم[24].
وقد تطرق عمارة تطرقًا سريعًا ومختزلًا إلى الموقف السني من هذه المسألة، مُبينًا اختلافها مع المعتزلة في عد مصدر وجوب الإمامة هو الشرع لا العقل. وقد انتصر عمارة للموقف المعتزلي من طريق نقد عدم الاتفاق على تأويل حجة السنيين، فقد أوردوا أحاديث كثيرة من صنف الآحاد لتعضيد موقفهم، إلا أن هذه الأحاديث –وفق عمارة– غير دالة على الإيجاب فقد تكون دالة على الاستحسان أو الندب[25].
ولم يخفِ عمارة موقفه الشخصي المنتصر لدنيوية السلطة لدى المعتزلة والنجدات بوصفه مُنسجمًا مع العقل، يقول: “ولعل موقف الخوارج النجدات والمعتزلة البغداديين والجاحظ من البصريين والأصم هو أكثر هذه المواقف اتساقا مع منطق العقل في هذا الموضوع”[26].
3-دنيوية النظرية السياسية الاعتزالية من طريق الانتصار لمبدأ الاختيار
يعد مبدأ اختيار الإمام في النظرية السياسية الإسلامية بعامة وفي النظرية السياسية المعتزلية بخاصة ركيزة من ركائز دنيوية الفكر السياسي في مقابل نظرية النص التي سعت في تغليف هذا الفكر بالمقدس.
وقد خصص محمد عمارة لهذا المبحث ما يزيد على مئة صفحة في أطول فصل من فصول القسم الثاني من كتابه “الإسلام وفلسفة الحكم“، ولم يكن هذا الحجم اعتباطيًا وإنما هو دليل على وعي صاحب الكتاب بأن القضية الجوهرية في الخلاف على الإمامة تتمثل في التنازع على طريقها هل هو النص أم الاختيار”؟[27]
ينطلق عمارة في دراسة هذه المسألة من هذا الاختلاف الذي قَسَّمَ فرق الإسلام إلى معسكرين: يرى أحدهما أن تختار جماعة المسلمين إمامها وتبايعه، ويمثل هذا الاتجاه أغلب علماء أهل السنة وكل المعتزلة والخوارج. في حين يرى الآخر أن النص والتعيين الذي حدث من الله ورسوله لشخص الإمام ولصفاته هو الطريق إلى تنفيذ حكم وجوب الإمامة، وهذا الموقف ناشئ من رؤية هذا الفريق أن الوجوب يقع على الله لا على الجماعة.
فالميزة الرئيسة إذًا بين الفريقين أن من قالوا بوجوب الإمامة على الله، وهم الشيعة تبنوا مبدأي النص والتعيين في حين أن من قالوا بوجوب الإمامة على الجماعة من غير الشيعة قال أغلبهم بالاختيار والعقد والبيعة. هكذا نحن أمام نظريتين: إحداهما تذهب إلى تقديس السلطة في حين تذهب الأخرى إلى دنيوية هذه السلطة ومدنيتها.
اعتمد محمد عمارة منهجًا تاريخيًا حاول من طريقه ألا يقتصر عرض أطروحات الفرق الكبرى، ذلك أن الوفاء للحقيقة التاريخية يقتضي التطرق إلى أطروحات الفرق أو الاتجاهات الصغرى والمهمشة. توقف من هذا المنطلق عند اتجاه تمثله قلة من أهل السنة والظاهرية وأصحاب الحديث قالوا إن الإمامة بالنص وإن خلافة أبو بكر تستند إلى نص من الرسول، ويُطلق على هؤلاء البكرية.
وقد أوضح عمارة رأيه المعارض لهذا الاتجاه لغياب نص جلي يدعم رأيهم ولوجود اعتراض رئيس عليه عَبَّرَ عنه عمارة بقوله: “إذا كان هناك نص فلم لم يذكره أبو بكر في السقيفة عند الاختلاف”[28]. ويفصل عمارة موقفه عندما يرد على ابن حزم مُعتبرًا أن موقفه غير مقنع لينتهي إلى أنه “لا الأحاديث التي روتها البكرية بشهادة ابن حزم تستحق أن يستدل بها ولا هذا التخريج اللُّغوي المستند إلى الاستنتاج يصلح أن يكون دليلًا تطمئن إليه النفس والعقل في هذا الأمر الخطير”[29].
وما يُعضد استخدام عمارة المنهج التاريخي في دراسة مبحثه هذا سعيه في إبراز أن كل الأطروحات السياسية التي انبثقت في التاريخ السياسي كان لها طابعًا تاريخيًا، أي أنها ارتبطت بالصراع المذهبي بين الفرق الإسلامية. ويمكن أن ندلل على ذلك بأن البكرية نشأت “عندما ظهرت مطاعن الشيعة في إمامة أبي بكر بنشأة نظريتهم في الوصية، أي إن نشأتهم كانت بعد عصر صدر الإسلام. وأقدم علم نُسب إليه هذا القول هو الحسن البصري (ت 110 هـ). كما أن الراوندية قد نشأت لتُبرر استئثار العباسيين بالخلافة دون العلويين، وكان ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري”[30].
ويُشدد عمارة على أن محور الخلاف بين اتجاهي النص والاختيار يقوم على ثنائية تقديس السلطة أو دنيويتها. فالشيعة يجردون –في نظره- مجموع الأمة من الثقة التي تؤهلها لحمل إمامة اختيار الإمام فيضعون الإمامة في الله، أما أصحاب الاختيار فإنهم يثقون في مجموع الأمة للاضطلاع بالأمانة ذلك أن السلطة لديهم شأن بشري يقررون عن طريقه ما يتفق ومصلحتهم في هذه الدنيا. هكذا يضع عمارة المسألة في قلب الصراع بين مرجعيتين: إحداهما بشرية، والأخرى مرتبطة بالمقدس تنأى عن الطابع الدنيوي المدني.
يحاول عمارة أن يُفكك آليات الموقفين المتعارضين فيركز على المنطلق النظري لكل منهما. فلئن كانت الشيعة تجيز وقوع مجموع الأمة في الخطأ أو الكذب على غرار جواز وقوع الفرد فيه، فإن المعتزلة ومعهم فرق أهل السنة لا يُقرون المماثلة بين الفرد والجماعة فلئن كان الفرد يجوز عليه الخطأ فإن الجماعة معصومة منه.
لا يُخفي عمارة انحيازه لموقف أهل الاختيار من طريق نقده اللاذع لنظرية الشيعة التي ترفع بعض الناس إلى مرتبة تعلو على مرتبة سائر البشر مُفترضًا ذلك نوعًا “من أنواع الطبقية والعرقية والحديث عن الدم الأزرق –كما عرفته أمم وشعوب وحضارات أخرى- ولكن في ثياب دينية صبغوها بصبغة الإسلام واجتهدوا كي يفسروا بعض آيات القرآن لتشهد لها”[31].
عرض عمارة بعض الأمثلة من تأويلاتهم لآيات بعينها منتقدًا اعتمادها آلية تضييق الدلالة، وهو ما يُعبر عنه الأصوليون بتخصيص الدلالة العامة. ولئن لم يشر عمارة إلى أن وراء هذا التأويل دافع أيديولوجي مذهبي، فإنه أشار إلى المعنى ذاته وهو تقديس علماء المذهب أو أئمته، وسعى في بيان خلفية نشأته التاريخية التي دفعته إلى أن يصطبغ بالغلو. هكذا يبين أن هذا الموقف انبثق في عهد جعفر الصادق أساسًا وأنه “جاء رد فعل على اضطهاد آل البيت الذي تنامى في عهد الحكم الأموي وخاصة بعد استشهاد الحسين في كربلاء“[32].
إن دنيوية السلطة السياسية لدى المعتزلة تقترن بخلفية أخلاقية قرآنية تؤول في نهاية المطاف إلى تكريس الطابع المدني للسلطة السياسية، ويتعلق الأمر برفضهم الوراثة طريقًا إلى الحكم على غرار رفضهم النص والوصية والتعيين، بناءً على هذا رَوى المعتزلة –ومعهم أهل السنة والخوارج– في كتبهم الاعتراضات التي جُوبِهَ بها مُعاوية عندما أراد تقرير حق الميراث في الإمارة لابنه يزيد. ويرى عمارة أن هذه الاعتراضات “تُدافع عن فلسفة دولة الخلافة، فلسفة الشورى ضد التأثيرات الغريبة والمناقضة لروحها، تلك التأثيرات التي كانت معروفة للعرب مصادرها في نظم كسرى وقيصر”[33].
يُبرز هذا الرأي تلميحًا إلى عدم رفض عمارة نظام الخلافة وتشبثه بالأساس الأخلاقي القرآني الذي ينهض عليه هذا النظام وفي صدارته مبدأ الشورى. ولئن كان عمارة يُغيب التاريخ الاستبدادي الذي هيمن على هذا النظام فإنه يبدو من جهة أخرى وفيًا لمنهجه التاريخي حين ذهب إلى أن مصدر الوراثة تأتت من نظم الفرس والرومان.
ولا يقوم مبدأ الشورى لدى عمارة على القرآن فحسب، وإنما ينهض أيضًا على الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، ذلك أن النظر فيما حدث بين معاوية والحسن بن علي يؤكد –في نظره- موقف المعتزلة والسنيين المُتمثل في أن الشورى هي فلسفة الإمارة كما أقرها المسلمون وليس الميراث كما يقول الشيعة والأمويون “فالعهد الذي تصالح على أساسه الحسن ومعاوية قد نص فيه الحسن على أن تعود الإمارة لشورى المسلمين بعد انقضاء خلافته لمعاوية“[34].
ولا يكتفي عمارة بإضفاء الصفات المثالية على مبدأ الشورى، وإنما يزيده رسوخًا وأصالة في التربة الإسلامية باستخدام آلية شيطنة المبدأ الذي يُعارضها وهو التوارث ذلك أنه في نظره من “الأفكار الدخيلة على فكر المسلمين الذي امتاز في بواكيره بفلسفة الشورى في دولة الخلفاء الراشدين”[35].
لا يشذ عمارة في رأيه هذا عن ممثلي الفكر الإسلامي القديم الذين كانوا يشيطنون أغلب ما يرد إليهم من الآخر غير المسلم، وأسهل تهمة يرمون بها ذلك الطارئ عليهم أنه دخيل عليهم لم ينبت في تربتهم.
ولعل عمارة لم يقتنع بأن البرهنة على دنيوية السلطة لدى المعتزلة والسنيين إجمالًا كافية شافية، لذلك اختار أن يفصل ردود المعتزلة على نظرية السلطة لدى الشيعة المُغلفة بالمقدس، ولا يُخفي عمارة تماهيه مع الموقف المعتزلي في هذه المسألة فيسمح لنفسه بأن يُعلن حكمًا لعل المعتزلة أنفسهم لم يصرحوا به فيقول: “أدرك المعتزلة أن قول الشيعة بالنص هو الخطأ الأكبر فطلبوا أن يكون الجدل حول هذا الموضوع”[36].
والمُرجح لدينا أن هذا التماهي وليد تطابق في الرأي بينه وبين المعتزلة، فكلاهما يرى أن الإمامة أو السلطة منصب ذو طبيعة دنيوية ومهامه دنيوية. ويتجلى هذا التشديد على الطابع المدني والبشري للسلطة من طريق تواتر صفة الدنيوي لدى عمارة، يقول في هذا السياق: “أدركوا -المعتزلة- أن مقولة الشيعة قد اعتمدت على أن طبيعة الإمامة ومهمات الإمام دينية، فرفضوا هذا القول وقالوا: بل هو منصب دنيوي، والإمام يقام لمصالح الدنيا، ويقاس هذا المنصب طبيعة ومهامًا على المناصب المتفق على أنها ومهامها مناصب دنيوية”[37].
ونقدر أن انتصار عمارة للمعتزلة والسنيين المُتمسكين بمبدأ الاختيار يُفسر على الأرجح بأن هذا الموقف يتسق مع الواقع السياسي الحديث الذي كَرَّسَ الانتخاب مسلكًا إنسانيًا من مسالك الوصول إلى سُدة الحكم في الدول الحديثة، وكم من عبارة أفلتت من رقابة عمارة لتنطق بتدخل لخطة الكتابة في ثنايا بحثه حتى إن كان موضوع بحثه القديم يقتضي مصطلحات قديمة، ومن ذلك مثلا ما يقوله عن المعتزلة: “فهم يرون أن المسلمين قد سلكوا بعد وفاة الرسول طريق الاختيار لرئيس دولتهم”[38]، لكنه مع ذلك يحاول أن يسبغ شرعية ماضوية على رأيه تعود به إلى الرسول حتى لا يجعل لأي مشكك مدخلًا لمناقشته ومعارضته. فالاختيار والشورى في نظره تعود جذورها إلى الجانب الدنيوي من سلطات الرسول، وهو جانب يتميز بحضور عنصر الاختيار فيه وبدور البشر والرأي الإنساني في معالجته.
إن الفكر السياسي الإسلامي يتميز إذًا منذ عهد الرسول بطابعه الدنيوي، وقد عضدت الممارسة السياسية للرسول ولصحابته هذا الطابع المدني للسلطة.
لا شك لدينا في أن لحظة الكتابة أثَّرت في محمد عمارة، فقد كانت طبعة كتابه الأولى عام 1977، والمعلوم أن تلك السنة شهدت بداءة الإضرابات ضد حكم الشاه في إيران، وقد كانت تلك الثورة التي اندلعت عام 1979 تُهدد بصعود رجال الدين إلى الحكم، ومن ثمَّ هيمنة نظرية النص الشيعية. ولعل هذا ما دفعه إلى تخصيص حيز كبير لإسقاط هذه النظرية اعتمادًا على مواقف فرقة قديمة النشأة يختفي خلفها هي المعتزلة.
ولئن سعى الشيعة منذ القديم في اختراق موقف المعتزلة من هذه المسألة لإظهار عدم تماسكه من طريق نسبة القول بالنص إلى العالم المعتزلي إبراهيم النظام (ت 231 هـ) فإن عمارة يدافع عنه منتهيًا إلى أنه ليس في المعتزلة قاطبة من قال بالنص على الذات والتعيين والتحديد والتسمية، وحتى ما ذهب إليه البغداديون من المعتزلة، وهم الذين يسمون أنفسهم ويسميهم غيرهم شيعة المعتزلة… فإنه أمر آخر يختلف اختلافا ما عن النص كما تراه الشيعة”[39].
وما يهمنا في ثنايا هذا الخطاب الحجاجي ما صرح به عمارة من أن “الإمامة سياسة وأمور دنيا”[40]، ومن شأن هذه العبارة أن تؤكد من جديد بشرية النظرية السياسية لدى المعتزلة.
وللمعتزلة في هذا الشأن –وفق عمارة– فضل الريادة لذلك اتبعهم أهل السنة في إنكارهم النص على إمامة علي[41]، ولم يكتف المعتزلة بهذا الموقف والاستدلال على انتفاء حدوثه عقلًا وسمعًا، وإنما تعقبوا حجج الشيعة من القرآن والحديث التي اعتمدوها تَعضيدًا لرأيهم وتصدوا لتفنيدها. ولم يخفِ عمارة موقفه المناصر للمعتزلة وهو ما يتجلى من طريق العبارات التي اختارها لوصف جهود المعتزلة وتصوير مخالفيهم في صورة العدو الذي يقع الاستعداد للإجهاز عليه، يقول عمارة في هذا السياق: “تعقب المعتزلة نشاط الشيعة الذي بذلوه في حقل التفسير والتخريج والتأويل لهذه النصوص وذلك بهدف الإجهاز على أية شبهة تعرض في أن يكون هناك نص من الله على لسان نبيه يحدد الإمامة والإمارة في أحد من صحابة رسول الله (ص)”[42].
ويتضح أكثر موقف عمارة المناصر لرأي المعتزلة في مسألة الاختيار وما يترتب عليه من دنيوية السلطة السياسية من طريق عدة مؤشرات نصية أخرى على غرار ذكره إحدى حجج الشيعة وهي الآية ” إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا…” (المائدة 55)، ثم يذكر أن المعتزلة ينقضون دليلهم ويقول: “ويوردون على استدلال الشيعة بهذه الآية من الاعتراضات ما لا سبيل إلى دفعها”[43]، ويعترف في موضع لاحق أنه رغم عدم الحسم الذي تسببه التخريجات والتعليلات التي لا تنتهي في هذه المجادلات، فإنه يعتقد أن حُجج المعتزلة أقوى”[44].
ولا يكتفي عمارة بنقل هذه الاعتراضات وبيان موقفه منها، وإنما يُدخل طرفًا في الجدل المذهبي لذلك قدم أكثر من مرة ما سماها “ملاحظات” هي بمنزلة اعتراضات خاصة به تنضم إلى قائمة اعتراضات المعتزلة على حجج الشيعة.
والواضح إذًا أن هاجس عمارة لم يكن دراسة مسألة تاريخية قديمة، وإنما الانطلاق منها لتأكيد فكرة حديثة تتمثل في الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية بما يعنيه ذلك من غياب النص والمرجعية الدينية لهذه السلطة وفتح المجال أمام اجتهاد العقل لتحقيق المصلحة العليا وهي خير الناس وأمنهم وصلاحهم، يقول عمارة في هذا السياق: “وإنه لو جازت شبهة الشيعة هذه لكان واجبًا على الله أن يختار وينصب الأمير والحاكم وذلك ظاهر البطلان، وذلك فضلًا عما في اختيار الترك وإيثار إطلاق الحرية لعقول الناس في أمور حكمهم وسياستهم من اختيار أكثر الطرق المحققة لخير الناس أمنًا وصلاحًا كما أثبتت وتثبت تجارب الأمم عبر تاريخها الطويل”[45].
أ-من يختار الإمام أو دنيوية المؤهلين لاختيار الإمام؟
لئن كان انتخاب رئيس الدولة في العصر الحديث من واجبات كل مواطن بالغ فإن الأمر كان على خلاف هذا في الفكر السياسي الإسلامي قديمًا، فقد كان أغلب ممثلي هذا الفكر يفرقون بين الخاصة والعامة في هذه المسألة.
وقد اختار محمد عمارة –قصدًا- أن يستهل بحثه في هذا الصدد بموقف شاذ داخل المعتزلة يتمثل في انفراد أبو بكر الأصم وأتباعه من فرقته المعتزلة بمذهب مخصوص في مسألة اختيار الإمام، ينص على أن نصب الإمام واجب على كل الأمة مما يعني ضرورة إجماع الخاصة والعامة على من يختار للإمامة.
وقد ذكر الشهرستاني موقف الأصم قائلا: “الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم”[46].
يخالف عمارة التأويل القديم لهذا الموقف ويرى أن ما يُفسر موقف الأصم رفض التأويل النخبوي للفظ الأمة “وإنما الذي أعتقد أن الأصم قد أراده هو رفض قول القائلين –وهم كل من عداه- بأن الإمامة هي فرض الخاصة وواجب أهل الحِل والعَقد وحدهم هم الذين يختارون الإمام ويعقدون له ولا شأن لجمهور الأمة وعامتها في هذه الأمور”[47].
والظاهر أن منطلق تأويل الأصم فَهم متسع عام لدلالة لفظ الأمة، يجعلها تقوم على ركيزتين هما: العامة والخاصة، وقد أشار عمارة إلى هذا المعنى عندما ذكر انفراد الأصم بالقول “باعتبار العامة شيئًا مذكورًا في الأمر الأمة فأوجب عليها نصب الإمام واشترط موافقتها وإجماعها كي تنعقد إمامة الإمام”[48].
لا يكتفي عمارة بالمنهج الإبستمولوجي في فهم تأويل الأصم وإنما يُعضده بالمنهج التاريخي، ليبين صلة الفكرة النظرية بسياقها التاريخي، لذلك يرى أن هذا الرأي يُعد مؤشرًا على تطور الفكر السياسي بعد ظهور الإسلام فكان من جرائه إحلال الأمة مكان القبيلة مما يعني توسيع قاعدة المشاركة السياسية ورفض معياري القبيلة والوراثة.
ولئن أقر عمارة بمثالية رأي الأصم بسبب استحالة تطبيق الإجماع الذي تحدث عنه، فإن فضل هذا المذهب أنه طالب منذ ذلك الزمن البعيد بتوسيع ما يُسمى الآن قاعدة العمل السياسي الخاص باختيار رئيس الدولة كي يشمل الأمة كلها.
ويغوص عمارة أكثر في الخلفيات الدينية لموقف الأصم فيذهب إلى أنه سعى في دنيوية منصب الإمام من طريق نفي البعد الديني القدسي عنه، فهو يستمد مشروعيته من الأمة بعامتها وخاصتها لا من الخاصة وحدها أو من مرجعية دينية معينة، يقول عمارة في هذا السياق: “إنما الذي نعتقده أنهم قد راموا أن يجردوا أولئك الحكام الذين لا يحوزون ثقة الأمة وإجماعها من لقب الإمام وقدسية منصبه فليكونوا حكامًا وأمراء وولاة مثلًا، أما من رام أن يكون إمامًا للمسلمين فلا بُد من أن يحوز ثقة أهل المِلة وإجماعهم على إمامته وإطباقهم على الرضا به”[49].
لم يقتصر عمارة على موقف الأصم، بل وسع دائرة نظره ليتوقف عند غيره من المعتزلة، فهم جميعًا اتفقوا على أن اختيار الإمام هو واجب الخاصة دون العامة.
ويتطرق عمارة في هذا الصدد إلى رأي الجاحظ، فهو يُساير موقف الأغلبية التي أقصت العوام من المشاركة في اختيار الإمام، بسبب قصورها المعرفي، يقول في هذا السياق: “العامة لا تعرف معنى الإمامة وتأويل الخلافة ولا تفصل بين فضل وجودها ونقص عدمها ولأي شيء ارتدت ولأي أمر أملت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي مع كل ريح تهب وناشئة تنجم، ولعلها بالمبطلين أقر عينا منها بالمحقين”[50].
ويضيف الجاحظ بعد ذلك عبارات تهجينية وإقصائية للعامة تُفيد أن من كان يتصف بالصفات التي ذكرها “فهو هَمَلٌ لا يعدو أن يكون من سَقْط المتاع فلا مكان له في أمر الإمامة واختيار الإمام وتنصيبه لأن مثل هؤلاء أدوات يحركها الآخرون وآلات في يد الخاصة”[51].
يمكن أن نحاول تفسير هذا الموقف بإيمان الجاحظ الكبير بالعقل بوصفه أداةً جوهريةً تُميز الإنسان عن الحيوان، لذلك يستهجن ما تقوم به العامة من أفعال تتنافى مع من يتصف بالعقل من ناحية اختيار أفعاله لا الإنسان مع أفعال الآخرين. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضًا اقتناع الجاحظ بمعتقد بشري قديم موجود في الحضارة اليونانية وغيرها يرى أن تبعية العامة للخاصة وتقسيم الأدوار والأعمال بين الفئتين أمر طبيعي وضروري، وهو ما انعكس في تجليات كثيرة منها محدودية معرفة العامة بالدين، يقول الجاحظ في هذا الصدد: “أما الأمر الذي يعرفون، فالتنزيل المجرد بغير تأويله وجملة الشريعة بغير تفسيرها، وما جل من الخبر واستفاض وكثر ترداده على الأسماع وكروره على الأفهام. وأما الذين يجهلون –وتعرفه الخاصة- فتأويل المنزل وتفسير المُجمل وغامض السنن التي حملتها الخواص عن الخواص من جملة الآثار وطلاب الخبر مما يتكلف معرفته ويتتبع في مواضعه ولا يهجم على طالبه ولا يقهر سمع القاعد عنه”[52].
والواضح إذًا أن الجاحظ يؤمن بثبات كل طبقة اجتماعية في مرتبتها وهو ما نقضه الفكر الحديث الذي أضحى يؤمن بحركية الطبقات أو بمفهوم الانزلاق الطبقي، فبالتعليم مثلًا يمكن أن يصعد الفرد من طبقة إلى طبقة وكل الطبقات بإمكانها أن تُسهم في العمل السياسي، لأنها تتمتع بطاقات عقلية متكافئة، لكن غياب المساواة بين ممثلي الطبقات في الفكر القديم لا يعني عدم الحاجة إلى بعضها وإنما هو تقسيم للوظائف ثابت يجعل الخاصة في مقام الرأس والقلب، والعامة في منزلة الجوارح: فالأولى مهمتها التفكير والتدبير. والأخرى دورها الانقياد والطاعة “فصلاح الدنيا وتمام النعمة في تدبير الخاصة وطاعة العامة”[53]، بناءً على هذا فعندما يذكر الجاحظ أن على الناس أن يتخذوا إمامًا وأن يقيموا خليفة فإن دلالة لفظ الناس نخبوية انتقائية تقتصر على الخاصة دون العامة.
ولئن كانت هذه قراءتنا الخاصة لموقف الجاحظ فإن قراءة عمارة حاولت فهم آليات هذا الموقف دون نقد صريح له، فهو ينطلق من تلميع موقف المعتزلة فهم في نظره لم يتبنوا إقصاء العامة لدافع قبلي وإنما لعامل فكري، والمعيار الذي يميز الخاصة من العامة في نظره هو “دورها في جعل الاختيار أكثر صوابًا والرأي أكثر إحكامًا”[54]. بناءً على هذا عُدت الخاصة الفئة التي تجيد معرفة الإمامة ومهامها وشروط الإمام أما العامة فهم عاجزون عن الخوض في هذا المجال.
والظاهر أن إعجاب عمارة بالمعتزلة جعله لا ينقد موقف الجاحظ هذا، فهو في نظرنا ينبع من النظرة التفاضلية للطبقات الاجتماعية المُهيمنة على الفكر الإنساني قديمًا، ولعل ما هو لافت للنظر في خطاب الجاحظ، أن التفاضل بين العوام والآخرين ليس في المعرفة، وإنما في الطبائع. ويبرز اعتقاده ثبوت طبع كل طبقة اجتماعية أن مصير كل طبقة قدر محتوم لن تقدر على تغييره، يقول الجاحظ في هذا السياق: “وأقدار طبائع العوام والخواص ليست مجهولة فنحتاج إلى الإخبار عنها بأكثر من التنبيه عليها، لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع الخلفاء وطبائع الخلفاء فوق طبائع الوزراء وكذلك الناس على منازلهم من الفضل وطبقاتهم من التركيب في البخل والسخاء والبلادة والذكاء… ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة كانت العامة خاصة وذهب التفاضل في المعرفة، ولو لم يخالف بين طبقاتهم سقط الامتحان”[55].
يتطرق عمارة إلى تجلٍ آخر من تجليات دنيوية النظرية السياسية لدى المعتزلة تُضاف إلى رأي الجاحظ، يتمثل في وضعهم شروطًا ثلاثة لأهل الاختيار تجمع بين الأخلاق والعلم ولا تضع للدين مكانًا ضمن هذه الشروط.
والظاهر أن ما شدَّ انتباه عمارة في هذه الشروط بطريق خاص طابعها الدنيوي غير الديني، فأما الشرط الأخلاقي الأول وهو العدالة الجامعة لشروطها فيتبدى هذا الطابع فيها من طريق العامل المذهبي الذي هيمن عليها ذلك أن هذا الشرط يقتضي عدم الاتصاف بالفسق بنوعيه: فسق الجوارح، وفسق الرأي والمذهب. فلا ينبغي أن يكون مذهب أهل الاختيار “خارجا عن مذهب أهل الحق داخلا في أهل الأهواء –وإن فسر كل “الحق” و”الفسوق” بمقاييس فرقته ومذهبه”[56].
أما الشرط الثاني الدائر على العلم الذي يعتمد لمعرفة من يستحق الإمامة فإن دنيويته تتجلى من طريق رؤية أن المقصود به العلم بالسياسة وأمور الدنيا أكثر منه علما بأمور الدين”[57]، ولعل تميز موقف عمارة في هذا السياق أنه ابتعد عن النظرة الماهوية التي كانت تفرض صفات ثابتة على شرط العلم، فقد تبنى نظرة تاريخية حركية لهذا الشرط تجعله متغيرًا متطورًا بتغير الأعصر والأمكنة والأحوال “فعلم أهل الاختيار المعتد به والمطلوب مرتبط –كمًا وكيفًا- بالظروف والملابسات”[58].
أما الشرط الثالث فيتمثل في أن يكون أهل الاختيار من المتصفين بالرأي والحكمة، ويفسر عمارة هذا الشرط بما ينسجم مع دنيوية النظرية السياسية، فيرى أن المقصود به التمتع “بالرأي والحكمة والخبرة بأمور السياسة وفن الاختيار وتمييز الرجال…”[59].
ويشدد عمارة على الطابع الدنيوي لهذه الشروط عندما يستخلص أنها شروط سياسية تشترط في فئة قد أُنيطت بها مهمة سياسية، ومن ثم فإن الطابع السياسي يحجب الطابع الديني هنا فلا نرى ذِكرًا لشروط التقوى والصلاح والفضل في الدين.
وما يُعضد به رأيه قول للقاضي عبد الجبار عن أهل الاختيار: “… ولا يجب أن يكون من صفتهم أن يكونوا من أهل الفضل أو يكونوا أفضل من في الزمان أو كالأفضل، لأنه قد ثبت أن فيمن عقد لأبي بكر من لم يقاربه في الفضل”[60]. والملاحظ أن مصطلح الفضل –وفق عمارة– يُراد به الفضل في الدين والرجحان في الثواب[61].
ولئن ذهب بعض العلماء قديمًا إلى تحميل أهل الاختيار المقيمين في الحاضرة التي يقيم بها الإمام السابق مسؤولية أخص في اختيار الإمام الجديد، فإن عمارة ينتبه إلى أصوات قديمة عارضت هذا التوجه مُكرسة دنيوية النظرية السياسية لدى المعتزلة على غرار الماوردي الذي رأى أن المسألة عُرفية لا شرعية، يقول: “وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عُرفًا لا شرعًا لسبوق علمهم بموته ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجود في بلده”[62].
ويتضح لنا في ختام هذا المبحث أن عمارة احتفى بالموقف الذي مال إلى الاختيار في مقابل النص، لأنه يكتب انطلاقًا من عصره وثقافته الحديثة، فقد وجد الاختيار أكثر المبادئ انسجامًا مع الديمقراطية الحديثة، لذلك لم يخفِ اعتداده بالمعتزلة رواد التأسيس لبعض أشكال الديمقراطية الحديثة، يقول: “ومن هنا نستطيع أن نقول إن فكر المعتزلة وكل من قال بالاختيار قد أرسى منذ قرون عدة “المبادئ والأسس” لبعض أشكال الممارسات الديمقراطية التي يشهد عصرنا تطبيقها اليوم فيما يتعلق باختيار السلطة العليا في البلاد… وهم بذلك قد أسهموا في الفكر السياسي الإنساني بنصيب وخاصة عندما وقفوا إلى جانب الشورى والاختيار ضد النص والتعيين“[63].
4-عزل الإمام لدى المعتزلة من تجليات دنيوية السلطة
يعد عزل الإمام من علامات دنيوية سلطته، ذلك أنه في النظرية التي تربط الخلافة بالمقدس على غرار القول إنها بمنزلة قميص سَرْبَلَ الله به الإمام لا يجوز عزل الإمام.
وقد ذهبت المعتزلة عكس النظرية السابقة قائلة إن الأمة من حقها الدائم مراقبة الإمام وخلعه إذا أحدث أو حدث له ما يوجب الخلع.
يرى عمارة أن هذا الموقف ينسجم مع فلسفة الاختيار الذي يتم من الأمة، فهذه الفلسفة تقتضي أنه كما أن لها أن تولي فإن لها أن تعزل وتغير”.[64] ويضرب مثالًا داعمًا لرأيه هذا قول القاضي عبد الجبار: “إن الإمام يأخذ على يده العلماء والصالحون ينبهونه على غلطه ويردونه عن باطله ويذكرونه بما زل عنه وإن زاغ عن طريق الحق استبدلوا به، وهذا يُبطل قولهم إنه لا يؤخذ على يده ولا يعزل”[65].
ولئن رفض الشيعة محاكمة الإمام لأن سلطته أعلى من سلطة الأمة في نظرهم، فإن المعتزلة أجازوا ذلك وأوجبوا أن يتعهد بها الإمام الجديد “لأن ذنب الإمام إذا بلغ حد الفسق أو استوجب إقامة الحد عليه وجب عزله وكانت محاكمته الإمام الجديد”[66].
ويذهب عمارة إلى اتفاق المعتزلة على أن ما يقتضي عزل الإمام ينبغي أن يصل إلى درجة الفسق أو ما يجري مجراه معتمدين في ذلك على إجماع الصحابة أي على أصل تشريعي بشري اجتهادي.
ومن دواعي عزل الإمام تحوله عن العدل إلى الجور لأنه “إن حكم بالحق استديمت إمامته وإن حكم بالجور انتقض أمره وتعين خلعه”[67]. وقال المعتزلة كذلك بخلع الإمام إذا ضعف عن أمر الأمة.
ويستعرض عمارة اختلاف السُنيين في مسألة عزل الإمام: بين فريق يقول بخلعه، وفريق مُنكر لذلك هم الجمهور من أهل الإثبات (الصفاتية والمشبهة) وأصحاب الحديث.
وقد بدأ موقف عمارة يتضح في آخر هذا المبحث فهو يورد أحيانًا أحكامًا انطباعية ذاتية تُبرز استغرابه من تبني بعض العلماء موقف رفض عزل الإمام على غرار النسفي من الماتريدية والتفتازاني شارح مذهبه، وما أثار دهشة عمارة تبريرهما هذا الموقف يقول: “ولكنهما يُمعنان في الغرابة عندما يُعللانه (عزل الإمام) بشيوع الجور والفسق في البلاد بعد الخلفاء الراشدين فيقولان: “ولا ينعزل الإمام بالفسق أي بالخروج عن طاعة الله والجور أي الظلم على عباد الله لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين”[68].
ويُعضد عمارة موقفه الناقد للعالمين فيتهمهما بتجاهل إجماع سلف الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصرح: “إن مذهب أغلب هؤلاء السلف في وجوب الخروج والسيف لتحقيق هذه الغاية الشريفة”[69].
وينقد عمارة فريقًا آخر من السُنيين رآهم يمعنون في نوع آخر من الإغراب عندما يتجاهلون قول من قال منهم بعزل الإمام بالفسق والجور أو يُهونون من رأي هذا الفريق، ولا ريب أن ما أثار عمارة تخطئة أصحاب هذا الموقف لرأي الموقف المُخالف عند بعض السُنيين والمعتزلة.
ويورد عمارة مثالًا من أمثلة هذا الموقف يُجسده النووي (ت. 676 هـ) ذلك أنه يقول: “وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل –ويحكي عن المعتزلة أيضًا- فغلط من قائله مخالف للإجماع… وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه”[70].
ويستند عمارة في نقده الموقف السني الرافض عزل الإمام إلى المنهج التاريخي، ذلك أن الحجة التاريخية تفند وجاهة هذا الرأي غير أن أصحابه يتفادون الحقيقة التاريخية المتمثلة في خروج الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وكذلك خروج جَمْعٌ كبير من التابعين على الحجاج مع ابن الأشعث. وينقل عمارة قول أصحاب الموقف الذي ينتقده، ليبرهن على مراوغتهم للحقيقة التاريخية “فيقولون: إن هذا الخروج على الحجاج لم يكن لمجرد الفسق، بل لتغيير الشرع ومظاهرة الكُفر… ولكنهم لم يقولوا هل كان ذلك هو حال يزيد وعبد الملك بن مروان اللذين خرج عليهما الحسين وابن الزبير”[71].
ويسخر عمارة من أصحاب هذا الموقف عندما يلاحظ أنهم يصرون على إهدار معطيات التاريخ تجنبا للحرج فيزعمون أن الإجماع على عدم العزل قد تم بعد ذلك العصر الذي خرج فيه الحسين وابن الزبير وابن الأشعث مع أهل الصدر الأول والتابعين.
وينقد عمارة تناقض أصحاب هذا الموقف ويُبدي عجبه من أنهم يوجبون عزل الإمام إذا ضعف بصره ولا يوجبون عزله إذا جُرحت عدالته، ففسق وفجر وذهب في الناس مذهب الجور والظلم والاستبداد. ويحاول عمارة أن يتجاوز الموقف الانطباعي ليقدم تحليلًا علميًا لخلفيات هذا الموقف فيشير إلى أنه مُستمد من الواقع الظالم والظلم الذي ساد في فترات معينة ومواطن محددة في التاريخ السياسي للعرب والمسلمين وليس مستمدًا من روح الإسلام وتعاليمه، هكذا يتهم عمارة التاريخ الإسلامي ويُبرئ الإسلام.
ولما كان المعتزلة ومن تبنى موقفهم نفسه في مسألة عزل الإمام هو الموقف الذي ينتصر له، كال لهم عمارة المديح واصفًا إياهم بأنهم “فرسان الدفاع عن الفكر الإسلامي النقي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما يوجبون عزل الإمام بالفسق والجور والضعف عن القيام بأمر المسلمين”[72].
نقد محمد عمارة الفكر السني لشرعنته حُكم مُغتصب السلطة والمستبد بها
تطرق عمارة ضمن بحثه في مسألة الإمامة بوصفها عقدًا أو تعاقدًا –أي شأنًا دنيويًا يتفق عليه بين طرفين- إلى مسألة تغلب سلطة ظالمة مغتصبة على الإمام الشرعي، وتوقف عند موقف المعتزلة الرافضة لحكم المُتغلب وتصرفه والرافضة منحه أية شرعية مهما كانت الظروف.
ولئن أجاز بعض متأخري المعتزلة الذين عاصروا حُكاما مُتغلبين أفعال الحكام الظلمة إذا لم تعارض أحكام الدين وضوابط العدل حفاظًا على مصالح الناس ونزولًا عند الضرورة، فإن جمهور المعتزلة كانوا “يمنعون إجازة حكم المُتغلب وتصرفاته في كل ما لا يجوز التصرف فيه للإمام، فليس له ولا لمن يستثيبهم أن يحاكم الناس ويقضي بينهم وليس له أن يحبس الناس حبس عقوبة ولا أن يقيم الحدود ولا أن يتدخل في الأموال تدخل الإمام”[73].
ومنع جمهور المعتزلة أن يستعين الناس بالبُغاة في الأحكام والترافع والمقاضاة ومنع أكثر المعتزلة أن يُصلي الناس خلف الإمام الجائر وأوجبوا على من صلى خلفه إعادة الصلاة[74].
وبَيَّنَ عمارة أن الزيدية والخوارج وافقوا المعتزلة على موقفهم داعين إلى الخروج على المتغلبين، وتطرق في مقابل ذلك إلى موقف أهل السنة والشيعة الإمامية “فإنهم وإن استنكروا الاستبداد والتغلب من حيث المبدأ، إلا أنهم رجحوا كفة الاعتبارات العملية الداعية إلى إمضاء الأحكام وإقامة الحدود وتصريف الشؤون حتى تستمر حياة الناس وتستقيم على نحو ما من الاستقامة… فأقروا المستبدين على السلطة وقالوا بشرعية تصرفاتهم واستنكروا الخروج عليهم بالثورة والسيف والقتال”[75]. وتطرق عمارة إلى مثال من أمثلة العلماء الذين شرعنوا الاستبداد وهو أبو يعلى بن الفراء (ت458ه) فقد وضع للمستبد المُهيمن على الإمام الشرعية شروطًا سبعة منها: أن يحفظ منصب الإمامة فلا يغيرها ولا يلغيها، وأن يظهر الطاعة للإمام دون العناد والمباينة… وانتقد عمارة بعد استعراض نماذج لعلماء آخرين من السنيين ومن الشيعة الإمامية أجازوا المستبدين النتائج السلبية لهذا الموقف السني قائلا: “ولقد تكون لهذه المبررات العملية التي ساقها أهل السنة حظوظًا من الوجاهة في بعض المواقف والملابسات، ولكن الأمر السلبي الذي أدى إليه هذا الموقف هو أنه أعطى الشرعية لنظام الاستبداد بالسلطة ولحكم المستبدين حتى صار هو القاعدة وصار الخضوع له والطاعة لأهله هو الشريعة والقانون وأصبح الحديث عن الإمامة بشروطها وصفات القائم بها لا يتجاوز نطاق المباحث الكلامية والفقهية إلى أرض الواقع والتطبيق، كما أصبحت الثورة والخروج على أئمة الجور والاستبداد مُنكرًا يُوصف أصحابه بالخروج والمروق، أي إن هذا الفكر المُبرر لسلطة الاستبداد واستبداد المتسلطين قد جعل حكم الطغاة هو القاعدة ونظام الخلافة الشوروية هو الشذوذ والاستثناء”[76].
الخاتمة
يتضح لنا في ختام هذا العمل المتواضع أهمية دراسة فكر محمد عمارة من زوايا نظر غير معهودة كثيرًا على غرار زاوية الدنيوية أو العلمنة، وهو ما يفتح الباب لمزيدٍ من اختبار مبدأ العلمنة في صلته بكثيرٍ مما أنتجه العلماء المسلمون قديمًا أو حديثًا، فلعل إحدى أكثر المهمات البحثية المستعجلة تنقية ذلك الفكر من محاولات إضفاء القداسة عليه وإبراز أنه اجتهاد بشري تاريخي فحسب محكوم بعصره وسياقات إنتاجه، وما يستخلص من بحثنا هذا، أن المصطلحات السياسية التي سعت بعض الفرق الإسلامية في وصلها بالمقدس، إن هي في نظر محمد عمارة إلا مصطلحات ذات طبيعة بشرية دنيوية.
إن من أهم نتائج هذا العمل سعي عمارة إلى إبراز طابع أساسي تتصف به النظرية السياسية عند فريق من المعتزلة بخاصة هو الانفصال عن المقدس، وهو ما تجلى مثلًا من طريق استبعاد بعض المعتزلة وغيرهم أن يكون الشَرْعُ مصدرَ وجوب الإمامة.
ولا شك في أن هذا الرأي من أهم ركائز علمنة الخطاب السياسي لدى فريق من المعتزلة، ومن نتائج عملنا أيضًا التوصل إلى التماهي بين عد العقل مقومًا أساسيًا لنظرية العلمنة وعد عمارة أن من تجليات دنيوية السلطة السياسية عند قسم من المعتزلة النظر إلى العقل بوصفه مصدرًا لوجوب السلطة على خلاف من يرى أن مصدرها هو الشرع.
إن من أهم ما استخلصناه من بحثنا أيضًا تفطن عمارة إلى أن جوهر الخلاف في الخطاب السياسي الإسلامي الدائر على الإمامة يكمن في التنازع بين اتجاهي النص والاختيار، وركز عمارة في هذا الصدد على مبدأ اختيار الإمام في النظرية السياسية المعتزلية بوصفه مستندًا جوهريًا من مستندات دنيوية هذه النظرية. إن من أهم ما انتهينا إليه أن خطاب عمارة وإن كان سطحه يشي بأنه يدرس مسألة تاريخية سياسية قديمة، فإن باطنه يُخبر أنه ينطلق في دراسته من فكرة حديثة تُفيد أن السلطة السياسية ذات طبيعة بشرية دنيوية منفصلة عن طابع القداسة الذي أريد له أن يلتصق بها، وهذه الخلفية الحديثة هي التي تبرر في نظرنا مواقف انحياز عمارة إلى المعتزلة وإعجابه بها.
فلولا تقديمهم للعقل وتبنيهم لبعض قيم المساواة والتقائهم مع جزء من المنظومة القيمية الحديثة ما كان عمارة ليعجب بهم. والواضح أن رسالة عمارة لقرائه وللكتاب بخاصة مدارها على أن من يكتب في موضوع ما وإن كان موضوعا تاريخيًا قديمًا يجدر به أن تكون عينه على الحاضر والمستقبل لا على الماضي، وأن من يكتب دون أن يكون له هدف يهم كل المجتمع لن يكون لما يكتبه حظوظ الاستمرار. وقد بينا أن عمارة كان يكتب كتابه “الإسلام وفلسفه الحكم” في فتره انتصار الثورة الإيرانية وما يعنيه ذلك من انتصار نظرية النص فأراد أن يُجدد الموقف القديم المعارض لها لأن ذلك هو ما يفرضه العصر الحديث في نظره.
غير أن هذا النقد الخارجي لا يظهر لدى عمارة بقدر ظهور النقد الداخلي لذلك التمس حججه من علماء السلف أحيانا ومن إعادة النظر في بعض النصوص الدينية من القرآن والحديث أحيانًا أخرى.
ولعل أهم نتيجة برزت لنا من هذا البحث في المستوى المنهجي، تواتر اعتماد محمد عمارة على المنهج التاريخي، فلإن آثر كثير من الباحثين العرب السلامة من طريق اعتماد المنهج الإبستيمولوجي في مقاربه مسائل الفكر الإسلامي، فإن محمد عمارة لم يتردد في توخي المنهج التاريخي النقدي، فعقد الصلة بين المواقف النظرية وسياقاتها التاريخية وعرض أطروحات الفرق الكبرى المنتصرة والفرق المُهمشة وفاءً للحقيقة التاريخية في الوقت الذي سكت فيه كثيرون عن مواقف القلة من العلماء الذين هُمشوا لأنهم كانوا يغردون خارج السرب.
إن اعتماد هذا المنهج جعل مقاربة عمارة مُتسمة بالحيوية وملتحمة بالواقع التاريخي وما حدث فيه من صراع بين الأفكار والمذاهب. ولئن بدا عمارة موضوعيًا في مقاربته لكثير من المسائل فإن مما يُمكن أن يُلام عليه أنه يسكت أحيانًا عن نقد المعتزلة، وهو ما لاحظناه في سكوته عن نقد موقف الجاحظ من العامة.
قائمة المصادر والمراجع:
الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1966.
البخاري، الصحيح، كتاب الأحكام، القاهرة: دار الشعب، د.ت.
التفتازاني، شرح العقائد النسفية، القاهرة، 1913.
الجاحظ، رسائله، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1964، و1965.
الجاحظ، الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، ط2، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1965.
الجاحظ، العثمانية، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1955.
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1959 .
الشهرستاني، الملل والنحل القاهرة، 1321.
الطبري، تاريخه، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1،القاهرة ، دار المعارف،1967.
القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل ،القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ت.
محمد عمارة، الإسلام وفلسفة الحكم،ط2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1979.
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2006.
الماوردي، أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1973.
الماوردي، الأحكام السلطانية، القاهرة ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي،1960 .
المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، دار الرجاء، 1966.
مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة، طبعة محمود توفيق، 1930.
[1] راجع مفهوم الدنيوية في كتابنا “أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدنيوية”، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024.
[2] – المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد(القاهرة: دار الرجاء، 1966)، ج1، ص 516.
[3] – مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي( القاهرة: طبعة محمود توفيق، 1930)، ج12، ص 233-234.
[4] البخاري، الصحيح، كتاب الأحكام( القاهرة: دار الشعب، د.ت) ج4، ص 77.
[5] مسلم، المصدر المذكور، ج12، ص 213.
[6] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1( بيروت: مؤسسة الرسالة، 2006)، ج1، ص396.
[7] – القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، د.ت )،ج20، القسم 1، ص 129.
[8] – محمد عمارة، الإسلام وفلسفة الحكم، ط2( بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1979)، ص 315.
[9] – الجاحظ، رسائله، تحقيق وشرح عبد السلام هارون( القاهرة، مكتبة الخانجي، 1964، و1965)، ج1، ص 161.
[10] – الجاحظ، الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، ط2( القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1965)، ج1، ص 21.
[11] – الماوردي، أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا، (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1973)، ص 132.
[12] – عمارة، الإسلام وفلسفة الحكم، ص 316.
[13] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[14] – الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين( القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1966)، ج2، ص 149.
[15] – عمارة، المرجع المذكور، ص 318.
[16] – المرجع نفسه، ص 318.
[17] – عمارة، المرجع نفسه ص 320.
[18] – المرجع نفسه ، ص 322.
[19] – المرجع نفسه، ص 325.
[20]-الطبري، تاريخه، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1(القاهرة : دار المعارف،1967)، ج8، ص 551-553.
[21] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم(القاهرة:1959)، ج2، ص 308.
[22] – المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[23] – عمارة، المرجع نفسه، ص 326.
[24] – القاضي عبد الجبار، المغني، ج20 ، القسم1، ص 16-19-22-23-27.
[25] – عمارة، المرجع المذكور، ص 331.
[26] – المرجع نفسه، ص 331.
[27] – يقول محمد عمارة في هذا السياق: “ونستطيع القول بأن ميدان الصراع الحقيقي والاختلاف الجذري في قضية الإمامة قد كان ولا يزال حول هذه المسألة هل طريق الإمامة النص أم طريقها الاختيار؟ تلك هي المسألة الرئيسية في الخلاف حول الإمامة. والإمامة هي قضية الخلاف الرئيسية بين المسلمين… فالخلاف حول النص والاختيار هو خلاف المسلمين الجوهري لأنه هو الذي فرق صف المسلمين إلى شيعة أو غير شيعة وهو الانقسام الأعظم في صفوف الإسلام والمسلمين”، الإسلام وفلسفة الحكم، المرجع المذكور، ص ص 336-337.
[28] – عمارة، الإسلام وفلسفة الحكم، ص 338.
[29] – المرجع نفسه، ص 339.
[30] – المرجع نفسه، ص 339.
[31] – المرجع نفسه، ص 343.
[32] – المرجع نفسه، ص 347.
[33] – المرجع نفسه، ص 353.
[34] – المرجع نفسه، ص 355.
[35] – المرجع نفسه، ص 356.
[36] – المرجع نفسه، ص 359.
[37] – المرجع نفسه، ص 359.
[38] – المرجع نفسه، ص 359.
[39] – المرجع نفسه، ص 364.
[40] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[41] – يقول عمارة: “… ولقد اتبع أهل السنة المعتزلة في إنكارهم النص على إمامة علي”، المرجع نفسه، ص 367.
[42] – المرجع نفسه، ص 368.
[43] – المرجع نفسه، ص 369.
[44] – المرجع نفسه، ص 370.
[45] – المرجع نفسه، ص 401.
[46] – الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص 109.
[47] – عمارة، المرجع المذكور، ص 432.
[48] – المرجع المذكور، ص 432.
[49] – المرجع المذكور، ص 434.
[50] – الجاحظ، العثمانية( القاهرة، دار الكتاب العربي، 1955)، ص 250.
[51] – المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[52] – الجاحظ، العثمانية، ص 253.
[53] – المصدر نفسه، ص 252.
[54] – المرجع المذكور، ص 434.
[55] – المرجع المذكور، ص 436.
[56] – المرجع المذكور، الصفحة نفسها.
[57] – المرجع المذكور، الصفحة نفسها.
[58] – المرجع المذكور، ص 437.
[59] – المرجع المذكور، الصفحة نفسها.
[60] – القاضي عبد الجبار، المغني، ج20، القسم 1، ص 267.
[61] – عمارة، المرجع المذكور، ص 437.
[62] – الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 6.
[63] – عمارة، المرجع المذكور، ص 453.
[64] – المرجع نفسه، ص 634.
[65] – القاضي عبد الجبار، المغني، ج20، ق1، ص 96.
[66] – المصدر نفسه، ص 53.
[67] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 294.
[68] – التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص 488.
[69] – ص 639.
[70] – شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص 229.
[71] – عمارة، المرجع المذكور، ص ،640 نقلا عن النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج،2 ص 229.
[72] – عمارة، ص 640-641.
[73] – عمارة ، المرجع المذكور، ص 628.
[74] – الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج2، ص 139.
[75] – عمارة ، المرجع المذكور ، ص 630.
[76] – عمارة، المرجع المذكور، ص 632-633.