لا زال كاهن المعبد الذي كان يُشعل النار في المعابد القديمة في التاريخ، كجزء من الطقوس اليومية للبركة والتطهير أو كوسيلة للتواصل مع الآلهة، ويُجسد معها الوساطة بين الإله والبشر، أو رمزية القداسة والتقوى وحفظ التقاليد والطقوس بتفويض من السلطة الروحية أو الإلهية المباشرة. يُشعل نار الإيمان حتى يومنا هذا، في نفوس المؤمنين، ويُحرك أعتى الجيوش بفتوى واحدة، ويدفع الملايين من البشر للنار دفاعاً عن الأرض أو الجماعة أو المقدس. و يُحقق في أنبل أدواره، حفظ أمان الحياة الروحية للإنسان، وعيشه السليم وإبعاده عن الظلم والخطايا، في دوره الحارس للأخلاق والفضيلة وكل السمو الإنساني الصاعد نحو التكامل الروحاني. ويغفل الجمع البشري عامة، طبيعة وحقيقة دور هذا الرجل، والعوامل التي تتحكم به وبما يؤديه من عمل أو وظيفة أو رسالة، نتيجة لاستلابهم للهالة القدسية والرمزية التي يحملها ويُجسدها معه.
القائم بالاتصال
غير أن التفكيك البسيط لدور رجل الدين، يُحيلنا مباشرة إلى كونه قائماً بالاتصال، سواء أكان خطيباً أو مُحاوراً أو مستصرحاً في فتوى، أو منضوياً في مؤسسة دينية، أو غيرها من المهام الاتصالية المباشرة وغير المباشرة. ومن المعلوم أن صفة القائم بالاتصال، أخذت بداياتها المتشكّلة مع علوم الإعلام والاتصال، والتي كانت بداءة تُشير إلى العاملين في الإعلام، من صحفيين ورؤساء تحرير ومراسلين وغيرهم من الذّين يتولون القيام بالمهمة الإتصالية. لكن، مع توسع الفهم للعملية الإتصالية وظهور النظرية التي تبلور بها أُفهوم هذا الدور والوظائف المنوطة به، بات معلوماً أن صفة القائم بالاتصال تُلحق بكل ” شخص يبدأ بعملية الاتصال بإرسال فكرة أو رأي أومعلومات من خلال الرسالة التي يقوم بإعدادها. وقد يكون هذا الشخص هو مصدر الفكرة أو الرأيّ أو المعلومات، وقد لا يكون. وقد يكون مصدرها فرد آخر كما يَظهر واضحاً في عملية الاتصال التي يقوم أفرادها بالتواصل مع المصدر للحصول على المعلومات وصياغتها وإعدادها للنشر وإرسالها مرة أخرى” للجمهور” (1) الذي هو بطبيعة الحال، على المستوى الفردي إنساناَ واحداً، أو على المستوى الجماعيّ إثنان أو أكثر، وصولاً إلى جماعات بشرية كاملة وشعوب وحضارات. واتجه البعض إلى تعريف هذا الدور، انطلاقاً من منظور القدرة على التأثير في المتلقي، فاعتُبر القائم بالاتصال هو ذلك الشخص الذي ” يستهدف التأثير في أفكار الناس، ولديه خلفية واسعة عنها، يؤمن بها، ويصدر عنها في سلوكه وتصرفاته، ويستخدم لذلك كافة الإمكانيات والوسائل المتاحة، ويستخدم الأساليب الإقناعية لتحقيق التأثير المطلوب وفق منهج علميّ وفنيّ مدروس ومخطط” (2)
نظرية حارس البوابة
وبالعودة التي التأسيس النظريّ للبحوث في (الدور)، لا بد لنا من الوقوف على نظرية حارس البوابة (Gatekeeper)، وهي من النظريات الأساس في دراسة القائمين بالاتصال. ويُنسب الفضل إلى عالم النفس النمساوي الأصل، الأمريكي الجنسية (كيرت ليفن Kurt Z. Lewin ( في صكّ مصطلح (حارس البوابة) “خلال بعض أبحاثه حول سلوك الجماعة إزاء مسألة التعبئة العامة حول المجهود الحربي، إذ تركز الجهد البحثي لعالم النفس في وضع استراتيجيات إقناعية بهدف تغيير مواقف ربات البيوت بخصوص الأنظمة الغذائية ضمن اقتصاد تميّز بالندرة، وقد تجلّت وتحددت، خلال هذه التجارب فكرة الحارس أو المتحكم في تدفق المعلومات بصفتها وظيفة يقوم بها “قادة الرأي” غير الرسميين”. (3) وقد نشر ايفين دراسته تحت عنوان “القوى وراء عادات الطعام وأساليب التغيير، لوصف كل القنوات وحراسها التي تتحكم في حركة الطعام وأنواعه في ظل الحرب.
وعلى الرغم من أن هذه النظرية سُرعان ما استندت إليها بحوث علوم الإعلام والاتصال، بإعتبارها البراديغم الأمثل للدراسات الإعلامية، فقد تم استخدامها في بحوث الإدارة والاتصال السياسي لاحقاً، وبعدها في دراسات الاتصال بشكل عام. وفي الدراسات الإعلامية برزت في دراسة دور محرري الصحف كون عملهم الأساسي يقتضي حراسة المعلومات حيث تسير المادة الاتصالية في قنوات حتى تصل إلى الجمهور. وخلال هذه القنوات تمر بعدة نقاط تكتسب فيها تصريحاً بالمرور من هذه النقاط التي تشبه حواجز التفتيش، وفي هذه النقاط يتم إصدار التصريحات، أي تقرير ما يمر وما لا يمر.
رجل الدين ودور حراسة المؤسسة الدينية:
يُعتبر رجل الدين أو القائم بالاتصال “الديني”، أوالمنتسب أو المنضوي في مؤسسة دينية، أحد العناصر الفاعلة في نظام عملها. فهو يُدين أولاً إلى مجموعة السياسات التي يرسمها القائمون عليها، وتتفق مع أهدافهم من إنشاء هذه المؤسسة. ويعتبر التزامه بهذه السياسات التي قد تكون معلنة أو مستترة، ويكتسبها من خلال علاقات التزامل والانتماء، ضرورة لاستمرار وجودها واستقرارها في علاقتها بالمجتمع. فالحفاظ على صورتها ودورها، هو مهمة جميع المتمترسين خلفها، والدفاع عنها في أي أزمة واجب حتميّ عليهم. وكما يجب الحفاظ على صورة وهيبة المؤسسة، وجب على رجل الدين الحفاظ على صورته وهيبته، لأنها تتأثر وتؤثر بدورها في الصورة العامة للمؤسسة.
ثانياً، إن الإنتماء إلى مؤسسة دينية، في الكثير من الأحيان يعتبر مهنة مدفوعة الأجر، تتطلب مزاولة أعمال مكتبية أو اللقاء بجموع المؤمنين، أوالعمل الإلكتروني في الإعلام الديني، ويقوم رجل الدين بهذا بعمل الرقابة على محتوى الرسالة الدينية التي يجب أن تصل إلى الجمهور، أو إنه يتحكم برجع الصدى المتأتي عنه. وللحفاظ على مهنته، يتماهى رجل الدين تماهياً تاماً مع سياسة المؤسسة، لتحصيل الثناء والتقدير من الرؤساء، وللاستمرار في مهنته مع عدم الإضرار من فرص الترقي.
وبهذا، فإن الإرادة الحرّة لرجل الدين تتغيب، ويتغيب معها الفرصة في الخروج عن الجمع العام، والرضا الناتج عن الإنتماء إلى المجموعة. ويُصبح من النادر تشكل الشخصية الدينية المجددة التي يتطور بها ومعها أي دين بنصوصه وفهمه ومواكبته للمشاكل والظواهر والتحديات المعاصرة، وبهذا يتم محاربة كل من يتطلع إلى دور تنويريّ أو لكل من يُفكر بمنهجية جديدة و مختلفة.
يبقى أن الانتماء إلى أي مؤسسة، يترتب عليه القيام ببعض الوظائف الاجتماعية، التي اعتبرها بيير بورديو ” أوهاما اجتماعية”، و”أن طقوس المؤسسة هي التي تجعل ممن تعترف له بالدخول في بوتقتها، ملكاً أو فارساً أو قساً أو أستاذاً، فترسم له صورته الإجتماعية، وتشكل التمثل الذي ينبغي أن يتركه كشخص معنوي أي كمكلف من لدن جماعة ناطق باسمها. ولكنها تفعل ذلك أيضا بمعنى آخر، فهي إذ تفرض عليه اسما أو منصبا يحدده أو يعينه ويشكله، ترغمه أن يصبح ما هو عليه، أي ما ينبغي أن يكونه، فتلزمه بالقيام بوظيفته ويدخل في اللعبة والوهم، ويلعب اللعبة والوظيفة” (4)، من حين ارتداء الزيّ الذي يُمظهر الدور حتى كل تفصيلة من حياته الاجتماعية.
المعايير الذاتية المتحكمة في دور رجل الدين
تلعب الخصائص والسمات الشخصية للقائم بالاتصال دوراً في ممارسة دور حارس البوابة مثل: النوع، والعمر، والدخل، والطبقة الاجتماعية، والتعليم، والانتماءات الفكرية والعقائدية، وتقديرالذات Self Esteem.
ويعد الانتماء عنصراً محدداً من محددات الشخصية، لأنه يؤثر في طريقة التفكير أو التفاعل مع العالم المحيط بالفرد، كما أن الفرد ينتمي إلى بعض الجماعات: التعليمية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. وتعد هذه الجماعات بمثابة جماعات مرجعية Reference Groups (5).
فنجد أن معيار النوع يشترط ذكورة الجندر، كشرط أساسي للتصدي للعمل الديني، إلا في بعض الدول أو الديانات. ما يعكس معه رؤية وفهم (الرجل) للإنسان والعالم، وإلحاق الغبن بالمرأة وإقصائها عن تقديم رؤيتها في تفسير النص الديني وتأويله وقراءته بأدواتها المعاصرة وظروفها الحالية. و بهذا تبقى الفتاوى التقليدية التي انتجها (رجال)، تُعاد ويتم التمسك بها كأنها نصوص مقدسة، ويُحافظ (رجال) اليوم عليها مع ما يُلحقون بها من فتاوى جديدة في مسائل مستجدة .
ويعتمد قياس مصداقية رجل الدين على عنصرين أساسيين هما الخبرة وزيادة الثقة به، وهاتين الصفتين تُكتسبان بالتجربة من خلال صوابية طروحاته وإجاباته وإنجازاته، والشخص الخبير هو الذي يملك المعلومات الصادقة والحقيقية في معالجة أي موضوع، وغالباً ما يكون التقدم في السن مصدرا لتحصيل ثقة العموم، وما يخلفه من عدم الثقة غالبا ما يكون بخروج أحد اليافعين عن ثوابت الجمع العام.
وعلى المستوى السياسي، لطالما كان للسلطة السياسية عبر التاريخ فقيهاً، عرف ب “فقيه السلطان”، حتى صار في وقت لاحق “للولي الفقيه” السلطان، بالتحكم في قرارعمل السلطات السياسية مجتمعة…وفي أضعف الأوضاع، كان انتماء رجل الدين للأحزاب السياسية، الدور الأكبر في خياراته وتوجهاته ومضمون رسائله الدينية.
قيم المجتمع وتقاليده وتأثيرها على دور رجل الدين:
إن خطاب رجل الدين والمضمون الديني، ينطلق إجمالاً من القيم الثقافية التي تُحدد كيف يجب أن تُصاغ الرسائل لتكون ملائمة ومقبولة، عبر توقعات ردود أفعال الجمهور أو نظام المجتمع المحلي أو العالمي”ويعد النظام الاجتماعي الذي تعمل في إطاره القوى الأساسية التي تؤثر على القائمين بالاتصال. فأي نظام اجتماعي ينطوي على قيم ومبادئ يسعى لإقرارها، ويعمل على تقبل المواطنين لها، ويرتبط ذلك بوظيفة التنشئة الاجتماعية، أو التطبيع والحفاظ على القيم الثقافية والاجتماعية السائدة”(6). وعليه، لا يجب أن تكون الرسائل الدينية حساسة للأعراف والتوقعات الثقافية لتجنب الإساءة أو سوء الفهم، و التسبب بإلحاق الأذى الجسدي أو المعنوي بالقائم بالاتصال الديني.
وبهذا فإن القائم بالاتصال الديني، يعمل على الحفاظ على الأنساق الثقافية السائدة في المجتمع، ويتماهى مع الأديولوجيات القائمة فيه، فضلاً عن تأثير الصفوة السياسية والثقافية عليه من خلال العلاقات الاجتماعية.
في الختام،
على رغم استمرار دور رجل الدين كقائم بالاتصال الديني ودوره في حراسة الرسالة الدينية والمؤسسة الدينية، مع احتكارعمل التفسير والتأويل للنص الديني، وعدم الاعتراف بقدرات الباحثين الأكاديميين في العمل على فهم وتفكيك وتأويل النص بالمناهج الحديثة، ظهرت مسارات تكنولوجية جديدة لسير الرسالة الدينية مباشرة بين المرسل والجمهور، أي دون المرور في وسيط هرمي مؤسسي، بحيث بات بإمكان الرسالة أن تصل للجمهور بالحالة التي خرجت بها من عند القائم بالاتصال أو المرسل، ودون إمكانية التحكم من المؤسسة الدينية أو حراس البوابة الدينية ، أو “رجال المؤسسة” وذهنية المأسسة. وأصبح بوسع قوى اجتماعية جديدة المشاركة في عمليات بناء المعنى. وعليه، بات من الواجب قراءة البراديغم الجديد في ظل الاتصال الشبكي وتنوع الرسائل وأساليب الضبط.
المراجع:
- محمد عبد الحميد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، ط1، (القاهرة، عالم الكتب،1997) ص25.
- محمد حجاب، نظريات الاتصال، ط1، (القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2010) ص168.
- عزام أبو الحمام، نظرية حارس البوابة الإعلامية في ظل البيئة الجديدة لتكنولوجيا الاتصال، (مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية: المجلد الأول- العدد الرابع: ديسمبر 2017) ص275.
- بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي (دار توبقال، 2007) ص27.
- حسن مكاوي وليلى السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة،(الدار المصرية اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع،1998) ص179.
- مرجع نفسه، ص178.