تكوين
لازالت رحلتنا مستمرة لبحث مسألة الحدود، بذات المنهج، نبدأ من تراثنا الفقهى القديم نرتب مسائلة نحلله نرسم صورة تراثية واضحة، ثم ننطلق نحو أفق الإجتهادات الفقهية الجديدة، وقد جاء دور بحث مسألة حد الرجم للزنا ومن ثم نقول:
هل الرجم حد من حدود الله؟
وأما الرجم ففى كونه حد خلاف قديم أثبته الفقهاء فى كتبهم بين جمهور الأمة والخوارج، وبعض المعتزلة، الذين ينكرون الرجم؛ فإنهم-أى الخوارج وبعض المعتزلة- قالوا: الجلد للبكر والثيب، لقول الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] . وقالوا: لا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين، لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها، ولأن هذا يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة، وهو غير جائز[1].
والحق أن الخلاف، والكلام، فى كون الرجم حد، أم لا، يبدو أقدم، وأسبق، من الخوارج، والمعتزلة، مما اضطر عمر رضي الله عنه-حسبما تزعم الرويات- أن يجمع الناس ويخطب فيهم، وَهو جَالِسٌ علَى مِنْبَرِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: إنَّ اللَّهَ قدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عليه الكِتَابَ، فَكانَ ممَّا أُنْزِلَ عليه آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فأخْشَى إنْ طَالَ بالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ فَيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وإنَّ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ حَقٌّ علَى مَن زَنَى إذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كانَ الحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ[2].
وهذا ما اثبته ابن حجر بعد جمع الرويات المختلفة فقال: ووقع في رواية سعيد بن إبراهيم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في حديث عمر عند النسائي وإن ناسا يقولون ما بال الرجم وإنما في كتاب الله الجلد ألا قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن عمر استحضر أن ناسا قالوا ذلك فرد عليهم[3].
وما نسب لعمررضى الله عنه من قوله:”إن الرجم فى كتاب الله حق” يجعلنا نقول:أين هو؟ القرآن محفوظ موجود فأين هو فى كتاب الله؟!
على أية حال هذاما نُسب إلى عمر وخُرّج في الصّحاح. وفى رواية أخرى قال عمر: ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي” إذن هى ليست فى كتاب الله، فهل جامل عمر الناس فى آية زُعم أنها من كتاب الله فتركها خارج المصحف مخافة الناس؟!
ستأتى روايات أخرى يمكن مناقشتها، ومسائلتها، تقول: إنها كانت آية، ثم نسخت. لكننا لسنا بصدد المسائلة، والمناقشة، لهذه الرويات فما يهمنا هنا هو مجرد الإشارة لذلك الخلاف القديم فى هذا الحكم، إذ حديثنا هنا يخص الفقه القديم.
استحالة التطبيق
فإذا ما تجاوزنا ذلك الخلاف القديم وأكملنا سرينا مع تراثنا الفقهى القديم لوجدنا الإستحالة فى تطبيق هذا الحد أوضح ما تكون.
استحالة من ناحية عدد الشهود
حيث اشترط فقهائنا لتطبيق الحد أربعة شهود عدول، يشهدون، أنهم رأوه ورأوها رؤيا العين على التحقيق بمعنى محققين كونه فلان وفلانة.
فإن شهدوا يسألهم القاضي عن ماهيته-الزنا-وكيفيته، ومكانه، وزمانه، والمزني بها، فإذا بينوا ذلك، وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه، وشهدوا به كالميل في المكحلة، وعدلوا في السر، والعلانية حكم به، فإن نقصوا عن أربعة فلا حد عليه بل هم قذفة-أى مفترون يقام عليهم حد السب والقذف[4].
استحالة عدالة الشهود
والعدالة كما يقول ابن عابدين فى حاشيته هى: ملَكةٌ تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والشرط أدناها، وهو ترك الكبائرِ والإصرارِ على الصغائر، وما يُخلُّ بالمروءة، ويلزم أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً .
فالشاهد العدل هو من لا يأتي بكبيرة، ولا يصر على صغيرة، ويكون ستره أكثر من هتكه، وصوابه أكثر من خطئه، ومروءته ظاهرة، ويستعمل الصدق، ويجتنب الكذب ديانةً ومروءة، ويكون ظاهر الأمانة، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، فكل من صدر منه تعدٍّ أدّى لسقوط الدين والمروّة فهو قادحٌ في شهادته[5].
ولا بأس بذكر بعض الامثلة لمن نص الفقهاء على سقوط عدالتهم، وبالتالى لا تصلح شهادتهم ؛ إذ بالمثال يتضح المقال، وقد نصو على سقوط عدالة:
كل من ترك الصلاة بجماعة، ومن سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته[6].
وكذا من ترك الجمعة من غير عذر، ومن ترك ركعتي الفجر[7]، وكل من أخر الفرض بعد وجوبه لغير عذر، مثل من لم يحج إذا كان موسرا.
وكل متعصب لا تقبل شهادته، كمن يبغض المرء لكونه من بنى فلان أومن القوم او البلدة الفلانية[8].
ولا تقبل شهادة من أكل فوق الشبع بلا عذر، أوخرج لرؤية قدوم أمير، أوركب البحر، ولبس الحرير، والبول في سوق، أو إلى قبلة، أو شمس، أو قمر، أو طفيلي ومسخرة، وكل شتام للدابة.
وتسقط عدالة كل من ركب البحر للتجارة!، وكذا التجارة إلى أرض الكفار وقرى فارس ونحوها؛ لأنه مخاطر بدينه ونفسه لنيل المال فلا يؤمن أن يكذب لأجل المال[9]!.
ولا تقبل شهادة البخيل!، ومن يؤخر الفرض بعد وجوبه لغير عذر، ولا من انتقل من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي!.
ولا تقبل شهادة بائع الاكفان والحنوط لتمنيه الموت، وكذا الدلال(السمسار)، ولا تقبل شهادة من يلعب بالنرد(الطاولة)أو الشطرنج.
ولا تقبل شهادة من يسمع الموسيقى والغناء!، ولا من يغني للناس لانه يجمعهم على كبيرة، أو يجلس مجلس الغناء. أو مجلس الفجور والشراب وإن لم يسكر ولم يشرب
ولا عدالة لصاحب المعصية-هكذا على الإطلاق كما قال صاحب البدائع[10]– لقوله: – عليه الصلاة والسلام – «ليس منا من مات على المعصية».
وتسقط عدالة كل من أعان على المعاصي أوحث عليها، والمجازف في كلامه، ومن يحلف كثيرا، ومن أعتاد شتم أولاده أو غيرهم لانه معصية كبيرة.
وتسقط عدالة كل ما يخل بالمروءة، وإن لم يكن محرما ولذا قال في الهداية ولا تقبل شهادة من يفعل الأفعال المستحقرة مثل البول والأكل على الطريق[11].
والمروءة أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل[12].
وقيل السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنيء[13].
والسخف رقة العقل من قولهم ثوب سخيف إذا كان قليل الغزل…وقد ذكر مشايخنا مما يخل بالمروءة أشياء نذكرها فمنها الأمور الأربعة المذكورة ومنها المشي بسراويل فقط، ومد رجله عند الناس، وكشف رأسه في موضع يعد فعله خفة وسوء أدب وقلة مروءة وحياء، ومصارعة الشيخ الأحداث في الجامع[14].
ومنها الإفراط في المزح المفضي إلى الاستخفاف، وصحبة الأراذل، والاستخفاف بالناس ولبس الفقيه قباء[15].
طرق تعديل شهود الزنا عند الفقهاء:
ثم يأتى ما هو أشد من ذلك وهى طريقة تعديل الشهود أو تزكيتهم حتى يصلحوا لأداء الشاهادة عند الفقهاء.
وقد صرح الفقهاء أن الطريق الذى يسلكه القاضى؛ لتزكية، أو تعديل الشهود لتقبل شهادتهم فى هذه الجريمة طريقين: طريق فى السر، وطريق فى العلن، فيبحث القاضى عمن يزكيهم فى السر، وتسمى تزكية السر، ثم يأتى القاضى بالذين شهدوا بعدالة الشهود فى السر أمامه ليتأكد مما قالوه ومن توافر شروط التعديل فى حضرته، وتسمى هذه، تزكية العلانية.
كيفية تزكية السر
يبدأ القاضى تزكية السر، بأن يختار أوثق الناس، ومن تتوفر فيه الشروط الآتية
ليقوم باختيار من يزكون الشاهد ويعدلونه فيختار القاضى:
أورع ديانة، وأخبرهم بأحوال الناس، وأكثرهم اختلاطا بالناس مع عدالته، عارفا بما يكون جرحا، وما لا يكون غير طماع، ولا فقير؛ كي لا يخدع بالمال، وأعلمهم بالتمييز فطنة، فيوليه البحث عن أحوال الشهود[16].
ثم يختار هذا الرجل الموكل من قبل القاضى، اثنين-حسبما قال جمهور الفقهاء-يشهدان على كل شاهد من الشهود الأربعة للواقعة هل هو عدل، أم لا؟
قال ابن قدامة : ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين[17]. ويشترط فى هذين الأثنين أن يكونا من أصحاب الخبرة الباطنة. يقول ابن قدامة فى المغنى أيضًا[18]: لا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة، والمعرفة المتقادمة. لأن عادة الناس إظهار الصالحات وإسرار المعاصي، فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة، فربما اغتر بحسن ظاهره، وهو فاسق في الباطن.
وروى عن مالك: تزكية اثنين في كل شيء، إلا في الزنا، فنص مالك أنه لا يعدل كل واحد، إلا أربعة قياسا على الأصل[19].
ولو أخذنا بقول مالك هذا لصار العدد المطلوب للشهادة على هذه الواقعة عشرين رجلاً، أربعة للشهادة الأصلية، وستة عشر لتعديل الشهود الأربعة!.
لكننا لو تنزلنا على رأى الجمهور واكتفينا باثنين فقط لكل شاهد فهذا يعنى أن العدد المطلوب لتزكية وتعديل الشهود الأربعة فى هذه الجريمة ثمانية على أقل تقدير، اثنين لكل واحد من الأربعة، ليكون العدد الإجمالى المطلوب لإثبات هذه الجريمة كلية اثنا عشر رجلًا، أى طعن فى واحد منهما يسقط شهادته، ومن ثم يسقط الحد.
ولعلك تدرك بمجرد النظر للعدد المطلوب لإثبات هذه الجريمة، بالإضافةً لشروط تعديل هذا العدد، أن اثبات هذه الجريمة يغدو أمرًا فى غاية الصعوبة إن لم يكن الإستحالة.
بل يمكننا القول بضمير مستريح، إنه إذا ما نظرنا لتطبيق الفقهاء لهذه الشروط، وحديثهم عن مسقطات العدالة؛ سندرك أنها كانت لزمن غير هذا الزمن، ولعصر مختلف تمامًا عن هذا العصر.
مما يجعل نتيجة محاولة إعمال وتطبيق نظريتهم فى العدالة، نتيجة صفرية أو قريبة منه، ولعل هذا ما دعا بعض الفقهاء المعاصرين أن يصفوا عصرنا بأنه عصر شبهة، والشبهة تسقط الحدود فلا حدود فى هذا العصر.
مصر لم يطبق فيها الحد ولا مرة منذ عهد الخلفاء
ولك أن تتخيل أن مصر لم يطبق فيها حد الرجم ولا مرة منذ عهد الفتح والخلافة عام 642م، وحتى عصر “قانصوه الغوري”عام 1513م، الذى حاول تطبيقه فى أحدى الوقائع فلم يوافقه على التطبيق قضاة المذاهب الفقهية الأربعة، لعدم توافر شروط تطبيق حد الرجم، مما أضطره لعزل القضاة واستبدال عقوبة الرجم بالشنق فى حق رجل وامرأة، ثبت لديه إرتكابهما هذه الجريمة[20].
تطبيق أبويوسف قاضى قضاة الدولة العباسية
ومرة أخرى بالمثال يتضح المقال، ومن ذلك أن الفضل بن الربيع شهد عند أبي يوسف فرد شهادته فشكاه إلى الخليفة فقال الخليفة إن وزيري رجل دين لا يشهد بالزور فلم رددت شهادته.
قال: لأني سمعته يوما، قال للخليفة: أنا عبدك فإن كان صادقا فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذبا فكذلك. فعذره الخليفة زاد في فتح القدير بعده والذي عندي أن رد أبي يوسف شهادته ليس للكذبة؛ لأن قول الحر للغير أنا عبدك إنما هو مجاز باعتبار معنى القيام بخدمتك وكوني تحت أمرك ممتثلا له على إهانة نفسي في ذلك إلى آخره[21].
دليل عدم الإمكان وإن تحققت الشروط المستحيلة.
وبعد هذه التطوافة المرهقة مع عدد الشهود ومن يشهدون على عدالة الشهود، وشروط تلك العدالة التى باتت مفقودة فى الأغلب حسب رؤية فقهائنا القدامى.
لكن على فرض تحققها، فأى خلل، وإن دق، وقل عند إداء هذه الشهادة يبطلها، وبهذا تصبح إستحالة إثبات هذه الحد أقرب ما تكون للواقع، وخير مثال على هذه الإستحالة تلك القصة الآتية[22] :
كان المغيرة بن شعبة يباغي أبا بكرة وينافره، وكانا بالبصرة متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين في داريهما، في كل واحدة منهما كوة تقابل الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح، ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه(ليغلقه)، فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة(النافذة) في مشربته(غرفته) وهو بين رجلي امرأة قد توسطها.
فقال للنفر: قوموا فانظروا، ثم اشهدوا؛ فقاموا فنظروا، فقالوا: ومن هذه؟ فقال هذه أم جميل بنت الأرقم.
وكانت أم جميل غاشية للمغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعل ذلك في زمانها، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة، فقال: لا تصل بنا، فكتبوا إلى عمر بذلك، فبعث عمر إلى أبي موسى واستعمله، وقال له: إني أبعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرخ؛ فالزم ما تعرف، ولا تبدل فيبدل الله بك.
فقال: يا أمير المؤمنين؛ أعني بعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ من المهاجرين والأنصار؛ فإني وجدتهم في هذه الأمة، وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به.
قال: فاستعن بمن أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر.
ثم خرج أبو موسى، حتى أناخ بالبصرة، وبلغ المغيرة إقباله، فقال: والله ما جاء أبو
موسى زائرا ولا تاجرا، ولكنه جاء أميرا. ثم دخل عليه أبو موسى فدفع إلى المغيرة كتاب عمر رضي الله عنه وفيه:
أما بعد: فإنه قد بلغني أمر عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا؛ فسلم إليه ما في يديك،
والعجل.
فأهدى المغيرة لأبي موسى وليدة من وليدات الطائف تدعى عقيلة، وقال له: إني قد رضيتها لك. وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة، وزياد، وشبل بن معبد، حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة.
فقال المغيرة لعمر: يا أمير المؤمنين؛ سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أو مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة، وهل عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي على امرأتي، والله ما أتيت إلا زوجتي، وكانت تشبهها.
فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل، وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة. قال: وكيف رأيتهما؟ قال: مستدبرهما. قال: وكيف استثبت رأسها؟ قال: تحاملت حتى رأيتها.
ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة؛ ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، ولكنه قال:
رأيته جالسا بين رجلي امرأة. فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفين، وسمعت حفزانا شديدا. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبهها. قال له: تنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13].
قال المغيرة: اشفني من الأعبد يا أمير المؤمنين. فقال له: اسكت، أسكت الله نأمتك(صوتك والمعنى دعاء بالموت)، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
ورد عمر شهادة أبي بكرة، وكان يقول له: تب أقبل شهادتك، فيأبى حتى كتب عهده عند موته: هذا ما عهد به أبو بكرة نفيع بن الحارث، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن المغيرة بن شعبة زنى بجارية بني فلان. وحمد الله عمر حين لم يفضح المغيرة.
وروي أن الثلاثة لما أدوا الشهادة على المغيرة، وتقدم زياد آخرهم قال له عمر قبل أن يشهد: إني لأراك حسن الوجه. وإني لأرجو ألا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -. فقال ما قال.
وليس لى تعليق فالأمر أوضح من أى قول ولكن السؤال هنا فماذايُفعل بمثل هذا
الشخص الذى رؤى بهذه الطريقة فى بيت غيره؟!
ولا جواب سوى اللجوء للعقوبات التعزيرية بلغة الفقه، أوالوضعية المطبقة حاليًا بلغة العصر.
المفاجأة بعد تحقق المستحيل
فماذا لو شهد أربعة رجال عدول بوقع هذه الجريمة من شخص ما، وأطبقوا أنهم رأوه مع فلانة المعروفة لهم، وكانت رؤيتهم له وهو يأتيها، كالميل فى المكحلة، واطمئن القاضى لعدالتهم بعد تعديل ثمانية رجال لهم؛ لتكتمل عدتهم اثنا عشر رجلًا، وعجز الخصم بالطعن فى واحد منهما ولو بشهادة واحد من قبله على أن واحد من هؤلاء الأربعة غير عدل، ماذا لو حدث ذلك هل يمكن إقامة هذا الحد؟
المعتمد فى مذهب الأحناف أن الأمر لم ينتهى بعد؛ إذ يستطيع الزانى، أو محاميه، أن يلجأ لحيلة بسيطة فيقول: نعم، فعلت هذا، ولكنى أعطيتها أجرها، وحينئذ تكون هذه شبهة تسقط الحد!!
إقرأ أيضاً: المرأة في سياق خطبة الوداع: حقوق أم انتهاكات؟
فقد روي أن امرأة استسقت راعيا لبنا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، ثم رفع الأمر إلى عمر – رضي الله عنه -، فدرأ الحد عنهما وقال ذلك مهرها، ولأن الإجارة تمليك المنافع، ومنافع البضع منافع فأورث شبهة وصار كالمتعة.
قال صاحب الإختيار[23]: ولو استأجر امرأة ليزني بها وزنى بها، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج، أو لاط فلا حد عليه ويعزر.
المراجع:
[1]– (انظر: المغني لابن قدامة (9/ 35، ط: مكتبة القاهرة) وفتح الباري لابن حجر (12/ 148ط:دار المعرفة-بيروت)
[2]– (رواه مسلم والبخارى عن ابن عباس)
[3] -(انظر: فتح الباري لابن حجر (12/ 148ط:دار المعرفة-بيروت)
[4] -(انظر:الاختيار لتعليل المختار (4/ 80، دار الكتب العلمية-بيروت).
[5] -(انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 385 ط:دار الفكر- بيروت) (الذخيرة للقرافي (10/ 201ط:دارالغرب الإسلامي-بيروت).
[6] – المحيط البرهاني في الفقه النعماني (8/ 96).
[7] البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 91 ط:دار الكتاب الإسلامى).
[8] -(البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 90).
[9] – تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (4/ 225 ط:دار الكتاب الإسلامى)
[10] – بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (6/ 269).
[11] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[12] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[13] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[14] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[15] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[16] -.( تكملة حاشية رد المحتار (1/ 506).
[17] -(المغنى/10/ 60) (انظر: . الحاوي الكبير (16/ 187ط:دار الكتب العلمية-بيروت)والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ت التركي (28/ 500 ط: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهر) الموسوعة الفقهية الكويتية (37/ 106). وهذا هوالمفتى به فى مذهب الأحناف، وقولٌ لمالك، ومذهب الشافعية، والحنابلة إنه لا بد من اثنين.
[18] – المغني لابن قدامة (10/ 61).
[19] – الذخيرة للقرافي (10/ 207 ط:دارالغرب الإسلامى).
[20] -انظر:”حكايات من دفتر الوطن” صلاح عيسي، ص 52، وما بعدها، ط: الهئيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة لسنة 1998م.
[21] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/ 92).
[22] – انظر:”أحكام القرآن” القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)
المحقق: علي محمد البجاوي،ج3 ص 290: 293، ط:دار إحياء الثراث العربي بيروت، الطبعة الأولى.
[23] – الاختيار لتعليل المختار (4/ 90 ط: دار الكتب العلمية-بيروت)