تكوين
لقد كرّستُ كلَّ حياتي للشّاعر الصّوفي الكبير جلال الدّين الرّوميّ، لأنّي وجدتُ أنّ رسالته تُخاطبُ الوقتَ الراهنَ. إنّها رسالةُ حبٍّ، ذات بُعدٍ أخويّ. [إيفا دوفيتري ميروفيتش].
(1)
في كتابه هذه الأمريكا أبحاث في الجذور العربيّة والإسلامية في للمجتمع الأمريكي Al’ America travels through America’s Arab and Islamic roots خصّص جوناثان كورييل Jonathan Curiel فصلًا للحديث عن الإغواء المستمر للكتابات الصوفيّة والقصص العربيّة التي تأخذ بلبّ الأمريكيّ، لما فيها من إنسانيّة راقية وعزفٍ لأنغام السلام الدائم وروح التسامح الحقّ الذي يبحث عنه كلّ إنسان على هذه الأرض الملآى بالعنف والدمار. تتنزل ملاحظة كورييل على الإنسان العربيّ اليوم إذ يلاحظ المتابع فرار كثيرين إلى روحانيّة الإسلام باعتبارها ملاذًا آمنًا وعاصمًا من الوقوع في آتون استلاب الحديث عن السياسات.
في السنوات الأخيرة قدّمت لنا الكاتبة المغربيّة عائشة موماد ترجمات صوفيّة عن الفرنسيّة لـكلّ من إيفا دوفيتري ميروفيتش وليلي أنفار وأستاذ إلهي ونهال تجدد ممّن اهتمّوا أو استفادوا من دروس الروميّ، فنقلت موماد شهادة الشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاويّة في حقّ إيفا دوفيتري ميروفيتش. وعرّفتنا موماد كيف دخلت إيفا إلى عالم العشق المولويّ، فعبر ترجمتها لكتب محمّد إقبال من الفارسية والإنجليزية إلى الفرنسية “قابلت” إيفا مولانا وفُتح لها وبها أبواب العشق والمعرفة. فأغلب قرائها في الغرب، وخاصّة في فرنسا والدول الفرنكوفونيّة قدمت إيفا لهم مفاتح عدّة لولوج بوّابة الإسلام، عبر محو الكثير من الأحكام المسبقة وربط الجسور بين الشرق والغرب. وقد كرّست إيفا كلّ حياتها للروميّ، لأنّها وجدت أنّ رسالته تخاطب الوقت الراهن. فرسالة الروميّ في نظرها رسالة حبّ، ذات بعد أخويّ ووحدويّ. لذا رأينا أن نعرّف برحلة إيفا في عالم التصوّف نظرًا لما تركته من آثار علميّة في هذا المجال.
إيفا دوفيتري ميروفيتش Eva Devitray-Meyerovitch
“إنّي لأذكرُ هذه السيدة الفرنسيّة المسلمة، التي دخلتْ في دين الله على إثر دراستِها لجلال الدين الروميّ، حياته وكتبه. إنّها تتردد كثيرًا على قونية، لتنعم برؤية مريدي هذا المرشد العظيم. وإذا رأيتَها وهي تحاضر عن الإسلام، ونورُها يسعى بين يديها، ترى الفتحَ الإلهيّ والقربَ من الله والبركة المباركة”. [يحيى الخشّاب-1977].
سيدةٌ وقورة ترتدي زي السيّدات العجائز في رحلة الحجّ لا تظهر ملامحها الأوروبيّة. ولا شيء يميّزها عن بقيّة النساء التي تجلس بجوارهن، لكن بمجرد الحديث معها تجد أنّك إمام امرأة مثقّفة من الطراز الرفيع، ومريدة تحيا جمال التصوّف والروحانيّات بأسلوب فريد، تنتقل من قارّة إلى قارّة كي تتعرّف على ملامح الإسلام عبر رجاله قديمًا وحديثًا، وتناقش أعلام المستشرقين الكبار مثل ماسنيون، وتنعقد بينها وعلماء الإسلام أواصر صداقة وطيدة مثل علاقتها بالشيخ محمّد حميد الله والتي شاركته العمل العلميّ والاجتماعيّ. لماذا لا تُذكر كثيرًا في المصادر العربية؟ ربما يعود ذلك إلى ندرة الترجمات لأعمالها.
شاغلٌ كبيرٌ للقارئ المسلم، لماذا يكتب فلان عن الإسلام أو تكتب فلانة بشكل جيّد ولمّا تدخل الإسلام بعد؟! وأوّل سؤال يوجّهه القارئ العربيّ للكتّاب الغربيّين المشتغلين بالروحانيات والتصوّف: هل أسلمت؟ لماذا لم تسلم بعد؟ كان هذا السؤال يلاحق أنّا ماري شيمل التي تخصّصت في نفس المجال، لكن الأمر مختلف هنا مع إيفا، فقد التحقت بالإسلام وصارت من أهله، لذا سيكون السؤال الأهمّ كيف أسلمتِ؟ ولماذا؟
في عام 1970 سافرت إيفا من باريس إلى مصر، وهناك درّست في جامعتي الأزهر وعين شمس، وأجريت معها اللقاءات، وأجابت على هذا السؤال، قائلة: تعرّفتُ على الدّين الإسلامي بطريقة أكاديميّة في بادئ الأمر، درستُ مؤلّفات الشاعر الباكستانيّ إقبال دراسة فاحصة. ودرست ما يتخلل شريعة الإسلام والسُّنة من أمور مبهمة على الفهم العادي، لكي أتعرّف على حقيقته. فقرأت للغزّاليّ وغيره. واكتشفتُ أنّ الإسلام دينٌ حيّ. وقد كنتُ محبّة دومًا لتعريف المفسّر البيضاويّ وتفسيره للإيمان إذ يرى أن الإيمان يقتضي باختصار وتركيز أن يتقبّل الإنسانُ الشيء على أنّه حقيقي مع سلامة القلب والعقل. وقد رأيتُ أنّ الإسلام وحده هو الكفيل بأن يحقّق لي هذا الإيمان.
أهَّل تحصيل إيفا العلميّ والثقافيّ لتكون عضوة فاعلة في المركز القوميّ للبحث العلميّ العالي في فرنسا (CNRS). إذ حصلت على دكتوراه الدولة في الفلسفة وإلى جانب دراستها للفلسفة كانت قد درست العلوم الإسلاميّة واللغة الفارسيّة، لتخرج ثمرة زكيّة بعد ذلك بعنوان: التصوّف والشعر في الإسلام. وقد أولت عنايتها الروميّ والدراويش المولويّة خاصّة في هذا الكتاب. وبعد حصولها على دكتوراه الدولة طلبت أن تُعفى من مهام وظيفتها الإداريّة لتتفرّغ للأبحاث وحدها، ولكي تقوم على الإشراف البحثيّ الخاصّ بتلاميذها بصورة مناسبة.
تخصّصت إيفا في الأبحاث المتعلّقة بالفلسفة الإسلاميّة، لا سيّما أدبيّات التصوّف الفارسيّ، التي كانت دائمة البحث عن المخطوطات المتّصلة بها وتصوريها ودرسها وتلخيصها ونقلها إلى القارئ الأوربيّ في لغة مبسّطة ومفهومة. وتمكّنت بعد هذه الرحلة البحثيّة الطويلة من تأليف وترجمة عدّة كتب في هذا المجال، كما نشرت الكثير من المقالات في المجلّات والدوريّات العلميّة.
إيفا في رحلة الحجّ
أرسلت الحكومة الفرنسيّة إيفا في بعثات علميّة إلى المغرب وتركيا ولبنان ومصر، وفي مصر توطّدت صلتها بالدكتور طه حسين الذي كان له دور بارز في العناية بآداب الأمم الشرقيّة، وأشرف على نقل كثير من عيون الأدب الفارسيّ إلى اللغة العربيّة. وكان لقاء إيفا بشيخ الأزهر وقتئذ الدكتور محمّد الفحّام، ووزير الأوقاف عبد العزيز كامل مثمرًا لها وللأزهر، إذ أصبحت عضوًا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، وظلّت تكتب بصفة مستمرّة أبحاثها عن الإسلام باللغة الفرنسيّة في مجلة منبر الإسلام، كما قُدّمت إليها منحة تفرّغ من المجلس لستة أشهر لاستكمال أبحاثها عن الإسلام.
إيفا مع شيخ الأزهر الدكتور محمّد الفحّام
وفي كلّية البنات بجامعة الأزهر ألقت العديد من المحاضرات، التي ركّزت فيها على العوامل المشتركة بين الحضارة والثقافة الإسلاميّة، وسجّل لها المركز الثقافي الفرنسيّ بمصر محاضرة عن (التصوّف في شعر إقبال) وفي جمعية (نساء الإسلام) التي ترأستها وقتئذ الأستاذة مفيدة عبد الرحمن حاضرت إيفا عن التصوّف الإسلاميّ. وبدعم من الأستاذ محمد توفيق عويضة أسّست في فرنسا ما عُرف بالجمعية الفرنسيّة الإسلاميّة، التي كانت راعية للتبادل العلميّ بين الأزهر وفرنسا.
كانت إيفا تحلم بأن تعرّف الشعب الفرنسيّ وجميع الدول الناطقة بالفرنسيّة على الرسالة الجماليّة للإسلام، وقد تمكّنت من تحقيق حلمها عندما ترجمت أغلب أعمال جلال الدين الروميّ. فقدّمت للغرب، وللمسلمين أنفسهم قوّة ثقافية وروحيّة، لواحد من الرجال الذين أحيوا الإرث الروحيّ للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم عبر القرون، وساعدتها إجادتها للغة الفارسيّة من تمكين قرائها، ليس فقط من الفهم، بل من تذوّق المعاني العميقة لنصوص مولانا جلال الدين الروميّ.
كيف دخلت إيفا إلى عالم جلال الدين الروميّ؟
ولجت إيفا إلى عالم الروميّ عن طريق محمّد إقبال. كانت البداية مع إقبال القائل:
صيّر الروميّ طيني جوهرا من غباري شاد كونًا آخرا
ففي بداية رحلة إيفا العلميّة كان صديقها الباكستانيّ قد أهداها كتاب Reconstruire la pensée religieuse de l’Islam وقد وجدت في الكتاب جوابًا للعديد من الأسئلة التي كانت تطرحها على نفسها، ولكلّ ما وضعته بين قوسين -على حدّ تعبيرها- عن ديانتها السابقة. كان ذلك الكتاب يحاور بعض الفلاسفة الغربيّين ويحلّل تعدّدية التيارات الفكريّة داخل الإسلام، ما بين التقليد والمعاصرة، التشدّد وقوّة التحمّل، الأصوليّة والتطرّف، ويدعو المسلمين في كافة البلاد إلى إعادة النظر في منظومة الإسلام، دون أن يشكّل قطيعة مع الماضي.
من هنا أقبلت إيفا على مؤلّفات محمّد إقبال وقدّمتها للقارئ الغربي، فحظي كتاب تجديد التفكير الدينيّ في الإسلام ورسالة الخلود لإقبال بعناية منها، فقامت بترجمة الكتابين. ولأنّ صلة قد انعقدت قديمًا بين إقبال والمستشرق الفرنسيّ ماسنيون، استفادت إيفا بالرجوع إلى ماسنيون في بعض المسائل الخاصّة بالكتاب، وقدّم لها الترجمة وأثنى عليها وعلى تجربتها العلميّة والروحيّة. وما ان مرّ وقت قصير حتّى فاجأت إيفا القارئ الفرنسيّ بترجمتها لكتاب آخر يمثل باكورة أفكار إقبال النظريّة، وهو كتاب تطوّر الميتافيزيقا في بلاد فارس. وقد عُرف الكتاب في مصر وصارت نسخة إيفا بعد ذلك أصلًا للترجمة التي أعدّها الأستاذ حسين مجيب المصريّ للكتاب في سبعينات القرن المنصرم، قبل أن تظهر الترجمة العربيّة الكاملة للكتاب على يد الأستاذين محمّد السعيد جمال الدين والشيخ الجليل حسن الشافعيّ.
وكما نقلت القسط الأكبر من أفكار إقبال الفلسفيّة إلى الفرنسيّة، نقلت قسطًا وافرًا من أشعاره. فترجمت ديوان الأسرار والرموز الذي أثار جدلًا واسعًا وقت صدوره في حياة إقبال. وترجمت ديوانه الذي ساجل فيه الفكر الغربيّ أيضًا، والذي عنونه إقبال بـ رسالة المشرق.
وجّه إقبالٌ إيفا إلى عالم جلال الدين الروميّ، فبعد أن خدمت تراث الأوّل بشكل لائق اتجهت إلى دراسة الرّوميّ، فظهرت بحثها عن (الروميّ والتصوّف) عام 1977 بعد أن نالت درجة الدكتوراه في عام 1968 عن (التصوف والشعر في الإسلام). وكان من حسن حظّها أن نُشر كتابها عن الرّومي في سلسلة “أساتذة روحيّون“.
العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى
واستهدف الكتاب جمهورًا مفكّرًا أكثر عددًا. وقد تُرجم إلى الإنجليزيّة على يد سيمون فتّال، وعن هذه النسخة نقله إلى العربيّة الأستاذ عيسى علي العاكوب ونشره في طهران عام 2000. وقد حظي بقبول عند القرّاء، فقدّم له أكثر من شخص عرضًا مفصّلًا في الدوريّات العربيّة. غير أنّه لم يقدّم في هذه العروض أو في ترجمة الأستاذ العاكوب تعريفًا بجهود إيفا في الدرس الصوفيّ.
لا يملك متتبّع أعمال إيفا دوفيتري ميروفيتش إلّا أن يبدي دهشته بإخلاصها وقدرتها على نقل أعمال الروميّ إلى الفرنسيّة. فبعد أن أصدرت هذه الدراسات ترجمت ديوان شمس تبريزيّ لمولانا جلال الدين الروميّ بالتعاون مع محمّد مُقري، وهو عالمٌ كُرديٌّ كتب بالفرنسية عن أساطير النور والنار. ثمّ جعلت كتاب فيه ما فيه -وهو عمل نثريّ يعدّ نسخة مختصرة ومفتاحًا لقراءة المثنوي- في متناول القارئ الفرنسيّ. كما قدّمت مختارات من رسائل الروميّ التي توقفنا على الدور الاجتماعيّ والسياسيّ للصوفيّة في قونية في عصر الروميّ. كما ترجمت إيفا بالاشتراك مع جمشيد مرتضوي كتاب ولد نامه. وهو نصّ تأريخي كتبه الوارث الحقيقي لمولانا الروميّ، ابنه سلطان ولد. ومن خلال هذا الكتاب يستطيع المرء أن يتعرّف بشكل دقيق على التاريخ الفكري للروميّ والمولوية، ولم تنس إيفا أن تختم حياتها بعمل ضخم نُشر في عام1990، وهو ترجمتها الكاملة للمثنوي.
بدأت إيفا طريقها بفرنسا، مارّة بإقليم البنجاب المشبع بالتصوّف، وصولًا إلى تركيا وتحديدًا قونية القرن الثالث عشر الميلادي، حيث عاش مولانا. فساهمت في نشر رؤية جديدة للإسلام، بعد أن تشبّعت عقلًا وروحًا بمعاني الكونيّة والانفتاح والأخلاقيّات والتعايش والاجتهاد والاستقلاليّة.
وفي آخر محاضرة ألقتها إيفا بقونية في يوم 26 من شهر مايو لعام 1998، صرّحت للحضور قائلة: “أودُّ أن أدفن بقونية كي أبقى تحت ظلال بركات مولانا إلى يوم الحساب”. وقد كانت تلك الرحلة آخر رحلاتها إلى تركيا. رحلت إيفا عن عالمنا في الرابع والعشرين من يوليو عن 89 عامًا عاشت أغلبها مع التصوّف والفلسفة، ودُفنت بمقبرة Thiais بالقرب من باريس.
من هم شيوخ الصوفية في مصر؟
رغبتها في أن تكون قونية المحطة الأخيرة للروح العاشقة لعوالم التصوّف، حتّى تنعم بالقرب من مولانا وأقربائه، جعلت بعض أصدقائها الأتراك (يلدز آي وعبد الله أوزتورك)، يساهمون في نقل جثمانها إلى قونية في 17 من ديسمبر 2008 في احتفالية يوم عُرس (ذكرى رحيل مولانا). وهناك تمّت مراسيم الدفن على الطريقة الإسلاميّة، ودُفنت بمقبرة Uçler المتواجدة أمام ضريح مولانا. وقتها التفّ مئات من المحبّين من جنسيّات مختلفة ليودّعوا تلك الروح العاشقة التي استطاعت أن تبني جسرًا لا يقدّر بثمن بين الشرق والغرب.
إيفا ورسالة جلال الدين الروميّ
كان لقاء إيفا بالرّومي نقطة تحوّل حاسمة قلبت حياتها رأسًا على عقب، لذا حاولت أن تنقل رسالته، معتقدةً في تناغمها، أكثر من أي رسالة أخرى، مع كلّ المساعي والتطلّعات. ولا تنسى في مجمل حواراتها أن تعبّر عن سعادتها بترجماتها لأعمال الروميّ وما كُتب عنه. فترجمت كتاب فيه ما فيه، والمثنويّ والغزليات والرباعيات والمعارف وكتاب ولد نامه لسلطان ولد. وقد مكّنتها هذه الترجمات من قياس مدى تأثير الفكر الصوفيّ في حياتها. حاولت إيفا جاهدة في عرضها الذي نقلته إلى العربيّة عائشة موماد أن توضّح ما اعتقدت أنّه المكوّن الأساسي لرسالة الروميّ، وخصّت بذلك العرض الشباب الغربيّ المتعطّش للروحانيّة.
نظرة عامة على تعاليم مولانا
يُعد هذا العرض أول ما نشرته إيفا دوفيتري ميروفيتش من أبحاثها حول جلال الدين الرومي عام 1957 بمؤسسة Ernest Renan المتخصّصة في تطوير الدراسات حول تاريخ وفلسفة الأديان، وكان من أهم الأعمال التي نشرت بالمؤسسة، دراسات ماسنيون وكوربان وماسي ورودنسون ومحمد مقريّ. نُشر هذا العرض مجدّدًا ضمن مجموعة من المقالات الخاصّة بالسيدة إيفا تحت عنوان:Universalité de l’Islam بدار النشر الفرنسيّة Albin Michel عام 2014، بتقديم وتعليق Jean-Louis Girotto.
تناولت إيفا في هذا العرض الحدث التاريخيّ الأكثر أهميّة في حياة الروميّ عام 1244ميلاديّة، وهو لقاؤه بالدرويش الجوّال شمس تبريزيّ. حيث ألهبته نار العشق الروحيّ عند رؤيته لشمس. ويشهد الروميّ أنّ حكمته قد طُمست كما تطمس شمس الصباح نور المشكاة. غدت هذه الشخصية الغريبة الصديق والمريد والشيخ لجلال الدين الروميّ.
كما تحدّثت بإيجاز عن تلك الحلقات التي يرقص فيها الدراويش على نغمات الناي في دوران كدوران الكون وجولة الكواكب المذهلة. فالموسيقى نفسها إحياء للروح، تخلق تلك الحالة التي يلغى فيها الزمن داخل اللحظة المقدسة، تمنحها تناغمًا في طريق الخلود حيث تمكنها من التذّكر. ولم تنس أن تذكّرنا بالبصمة الكونيّة والتسامح الظاهر في كافة أعمال الروميّ. بما أنّ الله هو الحقيقة الوحيدة وهو الهدف الوحيد للصوفيّ في طريق بحثه المتواصل، فالطريق المؤدّي إليه لا يكتسب أيّ أهميّة. يقول الروميّ: «هناك طرق كثيرة للبحث، لكن موضوع البحث يبقى واحدًا».
المذهب الشعريّ في الإسلام
تصبح القصيدة في دراسة إيفا عن المذهب الشعريّ في الإسلام شبيهة بحبّات لؤلؤ في خيط عقد، يمثل الخيط آنذاك نغمة روحيّة تقع تحت هذه اللحظات. كذلك الأمر في لوحة انطباعيّة، فتلك اللمسات الصغيرة من الدهان، لم تأت إلّا دليلًا على وجود الشيء في حياة أخرى. نفس الشيء بالنسبة للموسيقى، تشبه الموسيقى ذات النبرة الحادة Musique Syncopée نبضات القلب، إنّها موسيقى إيقاعيّة، بإيقاعات متفاوتة الطول. الشعرُ كذلك مُفعّل، فهو إذن مصنوع من نبضات الزمن.
وقد استحضرت إيفا في دراستها الجامعة بين الفلسفة والتصوّف الإسلاميّ مصطلح (المقام) عند الصوفيّة، والذي يتطابق مع (مقام الألحان) في الموسيقى، فهو عبارة عن مرتبة لا تضيع بعد أن يتمّ الوصول إليها. تكون هذه الرؤية مشروطة بمقاربة معيّنة للزمن، حيث يؤسّس المطلق الزمن ويجلوه ويمنحه استمراريّة ظاهريّة.
نقلت عائشة موماد إلى اللغة العربية كثيرًا من أبحاث إيفا حول الإسلام والتصوّف، كما نقلت أكثر من 100 رباعيّة لمولانا جلال الدين الروميّ عن ترجمة إيفا للرباعيّات. ونشرت موماد جزءًا من هذه الترجمات في كتاب الرومي بين الشرق والغرب. ثمّ تابعت مسيرتها في نقل أعمال إيفا بتقديم أكثر من 300 رباعيّة في ترجمتها لـرباعيات مولانا جلال الدين الروميّ معتمدة على النسخة الفرنسيّة التي نشرتها مريدة مولانا إيفا دوفيتري ميروفيتش.