تكوين
على مر القرون المتعاقبة شهدت الحضارة العربية الإسلامية تلاقح عديدٍ من الآراء والأفكار من جانب مختلف المذاهب والجماعات الفكرية، في هذا السياق تمكنت بعض الأفكار من فرض نفسها داخل المنظومة المعرفية الجمعية، ومع مرور الزمن وتراجع الثقافة السائدة عن مراجعة ما رسخ في ضميرها الجمعي من معتقدات، تحولت تلك الآراء إلى ما يشبه البداهات التي لا تقبل النقد أو التشكيك، فقد نُظر إليها بوصفها حقائقَ مطلقة، وقد اُحيطت بهالة من هالات التبجيل والتقديس.
في هذا السياق احتلت الرسائل التي بعث بها النبي محمد إلى ملوك الروم والفرس ومصر والحبشة، مكانة مهمة في الوجدان الإسلامي الجمعي، وذلك رغم وجود عديدٍ من النقاط التي تشكك في مصداقيتها التاريخية، الأمر الذي يدفعنا دفعًا للاعتقاد بأن تلك الرسائل إنما كُتبت في فترة زمنية متأخرة نوعًا ما، وأنها إنما استهدفت منح المسلمين نوعًا من أنواع الشرعية السياسية التي احتاجوا إليها زمن التوسعات العسكرية.
السياق التاريخي: صلح الحُديبية والتفرغ لأمر الدعوة العالمية
وفق ما ورد في كتاب “تاريخ الرسل والملوك” لابن جرير الطبري المُتوفى 310هـ، فأن النبي لمَّا رأى في منامه في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، أنه يطوف بالبيت الحرام، فإنه قد جمع المسلمين وانطلق بهم قاصدًا مكة المكرمة، وقد عقد النية على أداء مناسك العمرة. وفق الطبري، فإن عدد المسلمين الذين رافقوا الرسول كانوا ألفًا وأربعمائة، لا يحملون معهم سوى ما اعتاد المسافرون على حمله من السلاح الخفيف، وكانوا يلبسون ثياب الإحرام، ولمّا وصلوا إلى منطقة الحُديبية القريبة من مكة، أمر الرسول عثمان بن عفان أن يذهب إلى قريش، وأن يخبرهم أن المسلمين لا يريدون الحرب، وأنهم لم يقدموا من المدينة إلا لأداء مناسك العمرة.
طبقًا للمصادر التاريخية الإسلامية، فإن عثمان لمّا وصل لمكة واجتمع بسادة قريش، فإنهم لم يصدقوه وحبسوه عندهم، ولما وصلت المسلمين بعض الأخبار التي تروج لمقتل عثمان، فإن الرسول قد دعا المسلمين إلى البيعة على القتال، وقد عُرفت تلك الحادثة باسم بيعة الرِضوان أو بيعة الشجرة.
الأحداث ستتلاحق سريعًا فيما بعد، إذ سوف ترسل قريش بعض السفراء للتفاوض مع الرسول، وسوف يتفق الجانبان على مجموعة من البنود التي سوف يطلق عليها اسم صُلح الحُديبية، ومن ضمن ما جاء فيه، أن تُعقد الهُدنة بين الجانبين لمدة عشرة سنوات، وأن يرد المسلمون كل من يأتيهم من جانب قريش، فيما لا يرد القرشيون من يأتيهم من جانب المسلمين.
رغم أن النظرة الأولية إلى تلك الشروط تُبيّن الإجحاف الظاهر في حق المسلمين، إلا أنها -في الحقيقة- قد مهدت السبيل إلى النبي للتفرغ لأمر الدعوة خارج شبه الجزيرة العربية، إذ تتحدث كثيرٌ من المصادر الإسلامية أن الرسول قد أرسل بمجموعة من الرسائل الدعوية إلى ملوك مصر والشام وبيزنطة والحبشة وبلاد فارس والبحرين واليمن.
ماذا وَرَدَ في تلك الرسائل؟
على الرغم من كثرة الرسائل المتبادلة بين النبي من جهة والملوك من خارج شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى، إلا أن هناك ثلاث رسائل محددة نراها وقد حظيت بقدر كبير من الأهمية والاعتداد، وذلك للطابع الودي-التصالحي الذي ميزها، بما يشي بتقارب وجهات النظر بين الجانبين.
على سبيل المثال جاء في رسالة النبي للإمبراطور البيزنطي هرقل، قوله
“… سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم جميع الآريسيين…”.
وقد أوردت المصادر رد هرقل الذي جاء فيه “إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أَشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ولو أطاعوني لكان خيرًا لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك“.
أيضًا تحدثت المصادر الإسلامية عن رسالة النبي إلى المقوقس حاكم مصر التي جاء فيها
“… إني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين…”
وذكرت تلك المصادر أن المقوقس قد رد على رسالة النبي، برسالة جاء فيها “… أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام...”. في السياق نفسه أبرزت المصادر الإسلامية رسالة النبي إلى النجاشي ملك الحبشة التي جاء فيها “… أشهد بأن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه كما خلق آدم بيده…“، وقد ذكرت المصادر أنه قد جاء في رد النجاشي على النبي “… سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام فقد بلغني كتابك يا رسول الله… أَشهد إنك رسول الله صادقًا مُصدقًا…“.
الرسائل في ميزان النقد التاريخي
على الرغم من الشهرة الكبيرة التي حظيت بها تلك الرسائل في الثقافة الإسلامية الجمعية، إلا أن هناك كثيرٌ من الانتقادات الموجهة إليها التي تُشكك في تاريخيتها وتقدح في الاعتقاد بأنها -أي تلك الرسائل- قد كُتبت في زمن الرسول.
- أول تلك الانتقادات هو ذلك المتعلق بالنسخ القديمة لتلك الرسائل -وهي النسخ المحفوظة الآن في كثيرٍ من المتاحف العالمية- التي قيل إنها: هي نفسها الرسائل التي بعثها الرسول إلى الملوك. كثيرٌ من الباحثين المتخصصين في علوم الخط واللغات القديمة، أكدوا استحالة أن تكون تلك المخطوطات هي نفسها التي صدرت عن النبي وذلك لسببين: أولهما، أنها قد كُتبت على ورق البردي الذي لم يُعرف استخدامه في تلك الحقبة المُبكرة من تاريخ الإسلام، وآخرهما، أنها قد كُتبت بخط متطور، لا يتلاءم أبدًا مع الخطوط المعروفة في تلك الفترة.
- ثاني تلك الانتقادات، يتعلق بالأسلوب الذي دُونت به الرسائل، سواء تلك التي أرسلها النبي، أو تلك التي حملت ردود الملوك، فعلى سبيل المثال، سوف نجد أن عبارة “اسلم تسلم” التي تكررت أكثر من مرة في رسالات النبي -وهي العبارة التي تفوح منها رائحة التهديد- لا تتفق مع موازين القوى المعروفة في تلك الفترة، التي كان الرسول فيها أشبه ما يكون بشيخ إحدى القبائل العربية، فيما كان هرقل إمبراطورًا يفرض سيطرته على مناطق واسعة من العالم القديم، ومن هنا يصبح من الغريب أن ينتهج الرسول هذا النهج في مخاطبة هرقل، وهو -أي الرسول- الذي لطالما مال إلى الحُلم واللين والدبلوماسية في دعوته لسادات مكة وغيرهم من زعماء القبائل والعشائر العربية، التي لا يمكن مقارنة قوتهم بقوة الإمبراطور البيزنطي. في السياق نفسه سنلاحظ أن ردود الملوك تتعارض مع خلفياتهم الثقافية والدينية، فعلى سبيل المثال، سنجدهم -أي الملوك- يتحدثون عن الإنجيل لا عن الكتاب المقدس أو العهد الجديد أو الأناجيل الأربعة المعروفة في الدين المسيحي، وسنجدهم يتحدثون عن البشارة بأحمد، وهو أمر لم يرد -بصيغته المباشرة- إلا في القرآن الكريم دونًا عن باقي الكتب المقدسة، أيضًا سنجد الملوك يشيرون إلى المسيح باسم عيسى، وهو الاسم الذي اقتصر استعماله على القرآن الكريم والمسلمين فحسب، فيما شاع لدى المسيحيين الإشارة للمسيح باسم يسوع. بما يعني أن الردود كانت معتمدة -بالأساس- على مفردات الثقافة الإسلامية، ولا سيما المصطلحات القرآنية التي تَنَزَّلت باللغة العربية، ولم تُتَح الفرصة لترجمتها إلى أي من اللغات الأخرى في تلك الفترة المبكرة من عمر الحضارة العربية الإسلامية.
- ثالث الانتقادات المُوجهة إلى الرسائل، أنه وعلى الرغم من الروح الودية الغالبة عليها، وما حملته من اعتراف ضمني بإقرار هؤلاء الملوك بنبوة النبي محمد، فإننا سنجد أن السجلات التاريخية الخاصة بالشعوب التي وجهت إليها الرسائل، لم تذكر شيئًا على الإطلاق عن تلك المخاطبات، وفي الوقت نفسه، فإننا لا نجد أي إشارة تاريخية عن إسلام هؤلاء الملوك، هذا في الوقت الذي تجتمع فيه المصادر التاريخية -الإسلامية وغيرها- على أن بعضًا من هؤلاء الملوك -مثل المقوقس وهرقل– قد دخلا في كثيرٍ من المعارك ضد المسلمين فيما بعد.
- أما رابع الانتقادات، فيتمثل في أن الآية القرآنية التي اختتمت بها جميع الرسائل الصادرة عن الرسول، وهي الآية رقم 64 من سورة آل عمران “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”، لم تكن قد نزلت في تلك الفترة -أواخر السنة السادسة من الهجرة- بعد، إذ يشيع الاعتقاد في كتب تفسير القرآن وأسباب النزول، أن تلك الآية قد نزلت في وفد نَجران الذين قَدِموا إلى المدينة وقابلوا النبي محمد في السنة التاسعة من الهجرة، أي بعد ما يقرب من السنتين من التوقيت المفترض لإرسال الرسائل.
- أما خامس الانتقادات الموجهة إلى تلك الرسائل، فيتعلق بصحة بعض المعلومات التاريخية الواردة في طياتها، من ذلك ما ورد في الرسالة الموجهة إلى هرقل “فإن توليت فعليك إثم جميع الآريسيين”، فقد جرى تفسير كلمة الآريسيين فيها كونهم طائفة الأريوسيين، الذين يتبعون معتقد أريوس السكندري، الذي قال في القرن الرابع الميلادي أن الابن مختلف عن الآب في الجوهر. الإشكال التاريخي في تلك العبارة يَظهر بوضوح إذا عرفنا أن الإمبراطورية البيزنطية لم تكن تدين بالمعتقد الأريوسي، بل وعدَّته نوعًا من أنواع الهرطقة والتجديف والكفر، فكيف إذن يصح وصف النبي لهرقل وشعبه بأنهم أريوسيين؟
الإشكال التاريخي نفسه نلاحظه في الرسالة الموجهة إلى المقوقس التي وصفته بأنه “عظيم القبط“، الأمر الذي لا يتفق على الإطلاق مع المعلومات التاريخية المُتعارف عليها التي تؤكد أن المقوقس “كان بطريركًا ملكانيًّا “رومانيًّا” لا علاقة له بالكنيسة القبطية”، وأن اسمه الحقيقي هو كيرس، أما اسم المقوقس فقد اشتُقَّ من القوقاز، موطنه الأصلي، وذلك وفق ما يذكر ألفريد بتلر في كتابه “فتح العرب لمصر“. من الممكن فهم هذا الإشكال التاريخي على الوجه الأمثل، إذا عرفنا أن القبط/المصريين كانوا يعتنقون المسيحية على المذهب اليعقوبي، بعكس المقوقس والبيزنطيين الذين كانوا يتبعون المذهب الملكاني، مما يعني أن هناك خلافًا مذهبيًا صريحًا بين الحاكم والشعب، فكيف لم تنتبه الرسالة إلى هذا الخلاف؟ وكيف لم يلتفت النبي له وهو يلقي على كاهل المقوقس مسؤولية اعتناق القبط للإسلام؟
إقرأ أيضا: نهايات الخلفاء المسلمين..قصة مقتل عمر إبن الخطاب وأبو بكر الصديق
كيف أسهمت الرسائل في شرعنة التوسعات العربية؟
إذا ما تماشينا مع الرأي الذي يذهب أصحابه للقول بزيف تلك الرسائل، وبأنها إنما اُختلقت في فترة زمنية متأخرة عن وفاة النبي، فسيكون من المهم هنا طرح سؤال عن السبب الذي دفع واضعوها لتدوينها والعمل لنشرها، وبثها في مختلف المصادر التاريخية والحديثية.
في الحقيقة يُمكن تحديد سببين مهمين لتفسير اختلاق تلك الرسائل ونشرها: أولهما، إثبات وقوع التقارب الإسلامي-المسيحي، زمن استعار الحرب مع اليهود، فوفق ما نعرف فإن المسلمين قبل صلح الحديبية –بقليل- وبعده، قد تفرغوا لقتال التجمعات اليهودية في خَيبر والمدينة وما حولهما، ففي العام الخامس من الهجرة، وقعت غزوة بني قريظة، وبعدها قام المسلمون بعمليتي اغتيال لاثنين من كبار زعماء اليهود، وهما سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام، وكانا من كبار قادة اليهود الذين يحرضون القبائل العربية على غزو المسلمين، أما في العام السابع من الهجرة، فقد تمكن المسلمون من الانتصار على القوى اليهودية المتمركزة في حصون خَيبر المنيعة.
الخطاب القرآني جاء في تلك الفترة متماشيًا مع السياق التاريخي، إذ نجده يميل إلى جمع اليهود والمشركين في كفة واحدة، فيما يُقرن بين المسيحيين والمؤمنين، وفي ذلك المعنى جاءت الآية رقم 82 من سورة المائدة “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى …”. لو عدنا إلى التفسيرات القرآنية لتلك الآية، ومنها تفسير الطبري، سنجد أن أغلب الروايات تتفق مع بعضها الآخر، على أن تلك الآية قد نزلت في “الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة“، في أوائل السنة السابعة للهجرة، الأمر الذي يتزامن من توقيت إرسال الرسائل إلى ملوك العالم المسيحي، وما ورد فيها من نبرة توافقية هادئة بين النبي من جهة والملوك المسيحيين الثلاثة –هرقل، المقوقس، النجاشي– من جهة أخرى، ما يعني أن واضعي الرسائل قد أرادوا أن يثبتوا تقارب المسلمين في تلك الفترة مع المسيحيين من أهل الكتاب، تقاربًا يتوازن مع عدائهم المُستعر -في الفترة نفسها- مع الفصيل الأخر من أهل الكتاب، ألا وهم اليهود.
أما السبب الثاني لاختلاق تلك الرسائل، فيتمثل في أنها قد مثلت إرهاصًا مُبكرًا للتوسعات العربية، بما يعني أن الإنذار/التهديد الذي وجهه الرسول لملوك الأرض في حياته، سوف يتحقق تحققًا عمليًّا بعد وفاته على يد خلفائه الراشدين المهديين. الرسائل إذن حملت ما يشبه النبوءة أو الوعد الإلهي للفاتحين، وفي طياتها استقر المبرر الأخلاقي للتوسع العسكري، كما مهدت السبيل إلى الاعتراف بالإسلام بوصفه دينًا تبشيريًّا عالميًّا، قادر على فرض كلمته في قلوب الناس في شتى الأقاليم والبلدان، ومن هنا كان تأكيد صحة تلك الرسائل ببثها وتناقلها في الأغلبية الغالبة من المصادر الإسلامية، بغض النظر عن مراجعة/تقييم الانتقادات الموجهة إليها.