تكوين
تمهيد:
هناك أجماع لدى المختصين على أن وضع الفلسفة عمومًا في البلدان العربية ليس على ما يرام، ورغم الانفتاح المُسجل مؤخرًا على الفلسفة في بعض البلدان العربية، إلا أن الوضع يبقى في حاجة إلى تغيير نحو الأفضل سواء تعلق الأمر بتدريس الفلسفة أو توظيف خريجي أقسام الفلسفة أو تنويع مواضيع الكتابة الفلسفية، فهناك عوائق جمة تُحيط بهذا المجال المعرفي الذي يفترض أن تكون له مكانة مرموقة في بلداننا تأسيًا بالبلدان المتطورة، وسعيًا في الاستفادة مما يتيحه من إسهام في حل مشكلات عديدة في الواقع أو استشراف لقضايا استراتيجية مستقبلية.
وإذا لاحظنا الكتابة الفلسفية بصورة عامة في السياقات العربية، سوف نجد أن هناك مباحث وموضوعات استأثرت باهتمام المشتغلين بالفلسفة دون غيرها من المباحث، فهناك كتاباتٌ عديدة عن موضوعات الفلسفة السياسية والأخلاقية وفلسفة الدين وعلم الكلام والتصوف، في حين تقل الكتابات بدرجة كبيرة عن موضوعات فلسفة الفن والجمال والعلم، ومن بين المباحث الفلسفية التي لا تزال تعاني التهميش وعدم الاهتمام، مبحث تاريخ العلوم، فيؤكد مؤرخ العلوم المصري رشدي راشد -الذي نال الاعتراف بالمنزلة الراقية في الغرب، ولا يكاد يعرفه كثيرٌ من العرب- إذ يقول:
“على الرغم من وجود محاولات لتأسيس معاهد لتاريخ العلوم في مدينة حلب وفي بغداد إلا أنها لم تستمر ولم تنجح، ولم يعد هناك أي معهد لتاريخ العلوم جدير بأن يُسمى كذلك في أي بلد عربي أو إسلامي”[1].
والحقيقة أن الاهتمام بتاريخ العلوم وإن كان قد بدأ مُتأخرًا لدى الفكر الغربي، أي منذ القرن الثامن عشر، إلا أنه يزدادُ يومًا بعد يوم في البلدان الغربية، وذلك بالنظر لأهميته الكبيرة، أين نجد أقسامًا للبحث في تاريخ مختلف المجالات العلمية ومراكز بحث متخصصة في هذا المبحث تتوفر على إمكانات كبيرة ولها ميزانيات ملائمة، في حين لا تزال المسيرة عندنا في بداءتها، إن لم نقل لم تبدأ بعد البداءة الحقيقية. ومن باب التعرف أكثر على هذا المبحث الفلسفي، سنحاول التوقف في هذا المقال عند بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ العلوم خاصة أسئلته ومنهجه وأهدافه، مُسترشدين ببعض آراء الأستاذ رشدي راشد وإسهاماته الرائدة في هذا المجال، فما هي معالم رؤية هذا الأخير لتاريخ العلوم؟ وفيم تكمن أهميته لدى البلدان العربية الإسلامية؟
التعريف برشدي راشد
هو رياضي ومؤرخ للعلم وفيلسوف مصري ولد عام 1936في عائلة لها باع في العلم، إذ كان جده الذي كفله بعد وفاة والده، حاصلًا على دكتوراه في جامعة الأزهر[2]، درس في القاهرة حتى تحصل على شهادة الليسانس في قسم الفلسفة، في هذه الفترة كان قد انضم إلى حركة الإخوان المسلمين، ولكنه لم يستمر معهم كثيرًا، وفي عام 1956 سافر إلى باريس مستفيدًا من منحة دراسية، وهناك أتم دراساته العليا واختص في تاريخ العلوم، وبالموازاة مع تكوينه الفلسفي كان يتردد على قسم الرياضيات لحضور الدروس والمحاضرات لأنه كان شغوفًا بها منذ صغره، كما تحصل على دبلوم في الاقتصاد.
عام 1958 نُظمَ احتفال في سفارة مصر بباريس، بخصوص الوَحْدة مع سوريا، وفي أثناء الحفل تناول رشدي راشد الكلمة وقال:
“إن الوَحْدة لا يُمكن أن تقوم في ظل الدكتاتورية، لأن الدكتاتورية حتمًا سوف تنتهي بكارثة”
بسبب هذه الكلمة أُوقفت منحته الدراسية من السلطات المصرية آنذاك[3]، وهذا ما جعله يُضطر للعمل حتى يُوفر مصاريف إتمام دراساته، ونتيجة لميوله الماركسية التي كانت موضة في ذلك الوقت خصوصًا في فرنسا، ذهب إلى العمل في ألمانيا الديمقراطية ليكتشف الوجه الحقيقي للشيوعية بطريقة ملموسة، مما مَثَّل له صدمة نفسية جعلته يرجع إلى فرنسا بعد أقل من سنة وكان ذلك عام 1963. وبمساعدة الفيلسوف الشهير جورج كانغيلهمGeorges Canguilhem (1904-1995) الذي كان مُشرفًا على أطروحته التكميلية للدكتوراه وكانت عن أعمال ابن الهيثم، وُظف باحثًا دائمًا في المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) عام 1965، وبقي يعمل في ذلك المركز بوصفه باحثًا ثم مديرًا للبحث فمديرًا فخريًا للبحوث، مع استفادته من منح وزمالات في عديدٍ من الدول ليدرس في أرقى الجامعات في أوروبا واليابان وإيران وغيرها، ناقش رشدي راشد أطروحته للدكتوراه عام 1984، وفي العام نفسه أسس فريق بحث “البحوث الإبستيمولوجية والتاريخية في العلوم الصحيحة والمؤسسات العلمية“. وهو يُعد رائدًا لتأريخ العلم في العالم العربي الإسلامي بسبب بحوثه وتحقيقاته وترجماته الكثيرة التي تُقدم صورة علمية موضوعية دقيقة عن العلوم العربية خاصة الرياضيات، بعيدًا عن فكرة التمجيد والسبق والأفضلية مقارنة بالعلم الغربي، وهي الفكرة المنتشرة كثيرًا لدى الكتاب العرب في الأعمال المكرسة لتاريخ العلوم العربية على قلتها.
قدم رشدي راشد عشرات المقالات والكتب والترجمات والتحقيقات والموسوعات في الجبر والهندسة وعلم المناظر وفي تاريخ العلوم وفلسفتها، فقد كتب عن عمر الخيام والسموأل والكرخي وثابت بن قرة والخوارزمي وابن الهيثم والفارابي والكندي، كما كتب عن ديوفنطس وديكارت وغيرهم، وأعماله تنم عن اطلاعه الدقيق وتحكمه الكبير في تاريخ العلوم منذ اليونان إلى يومنا هذا، وبفضل أعماله نال عديدًا من الجوائز والتكريمات من منظمات وحكومات كثيرة (فرنسا، إيران، السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، اليونيسكو إلخ) كما نال عضوية كثيرًا من الأكاديميات العلمية الدولية، ولا يزال يفيد المختصين بحواراته ومقالاته الثمينة.
مفهوم تاريخ العلوم
لعل أولى المشكلات التي يصطدم بها المهتم بتاريخ العلوم تتمثل في تعريف هذا المجال المعرفي وتحديده بدقة، وذلك نظرًا لعديدٍ من العوائق، أهمها تعدد وجهات النظر إليه وتباينها من مؤرخ لآخر، فهناك من يتحدث عن التاريخ الحضاري للعلوم، وهناك من يتحدث عن التاريخ النسقي للعلوم، في حين يتحدث آخرون -وهم المعاصرون خاصة في فرنسا- عن التاريخ الإبستيمولوجي للعلوم، هذا التباين مرده الموقع البيني لهذا الحقل المعرفي والعلاقات التي يُقيمها مع ثلاث مجالات معرفية أخرى، فهو مرتبط بالفلسفة وأحد مباحثها الحديثة ضمن فلسفة العلوم، ومرتبط بصورة ما بالتاريخ العام، ومرتبط أيضا بالعلم أو العلوم، مع أن “الاهتمامات التخصصية للمؤرخين من جهة وللعلماء من جهة ثانية، لا تقودهم إلى تاريخ العلوم إلا بطرق جانبية”[4]، فالتاريخ العام يركز في الجوانب السياسية والاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية والحقوقية والديمغرافية، مع نظرة على تاريخ الأفكار الدينية والفلسفية، ومن ثم فهو ليس في حاجة إلى التفصيل في المفاهيم والنظريات العلمية، كما أن دراسة العلوم بمختلف تفريعاتها لا تكترث كثيرًا بتاريخها، وإن اهتمت به فمن زاوية وصفية أو مقارنة مستقلة عن العوامل غير العلمية، لذلك فإن العلاقة الأكثر متانة لتاريخ العلوم تكون مع الفلسفة، ذلك أنه يُمثل الخزان الذي تستقي منه فلسفة العلوم موضوعاتها، فمن دون تاريخ العلوم لن يكون لها موضوع تشتغل عليه، من جهة أخرى فالفلسفة هي تاريخها كما قال هيجل، أو على الأقل هي المجال المعرفي الذي يجر تاريخه معه، وضمن هذا التاريخ نجد كثيرًا من متعلقات تاريخ العلوم (شخصيات علمية، مفاهيم، مدارس، نظريات…).
ناقش رشدي راشد هذه الوضعية غير الواضحة لتاريخ العلوم ضمن مقال موسوم بـ: “تاريخ العلوم فيما بين الإبستيمولوجيا والتاريخ“، مؤكدا أن “تاريخ العلوم ليس فَنًّا مختصًا، بل هو ميدان نشاط يتوسع توسعًا غير محدود وذلك بإضافات متواترة، إنه عنوان لمواضيع مختلفة ومتنافرة (…) فيرى البعض أن تاريخ العلوم هو تاريخ الأفكار، أي تاريخ العقليات، في حين يرى البعض الآخر وهم أكثر صرامة وفطنة، أن تاريخ العلوم هو تاريخ المفاهيم العلمية، تاريخ تكونها وتطورها وتعديلها، ويرى آخرون، وهم مؤرخون في أصل تكوينهم، أنه لا يبالي بالمفاهيم وبطبيعتها الخاصة، بل إن تاريخ العلوم قد يكون تاريخ إنتاج ثقافي، ولنذكر أيضًا أولئك الذين يجعلون منه ضربًا من علم النفس الاجتماعي للعلماء، وكذلك الذين يجعلون منه علم اجتماع ميداني، أي علم اجتماع للجماعات والمخابر والمؤسسات”[5]، هكذا نلاحظ شبكة العلاقات التي تربط تاريخ العلوم لا بالفلسفة والتاريخ فحسب، بل بمختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى لعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون… وهو ما يُعقد مسألة تحديده بدقة، خاصة وأنه كما قال رشدي راشد -وهو يشترك في ذلك مع أستاذه جورج كانغيلهم– يتمدد ويتسع، بفعل زيادة المواضيع التي يدرسها وشبكة العلاقات التي تُكتشف ضمن هذه الدراسة.
إشكاليات تاريخ العلوم
تاريخ العلم هو رصد للنشاط العلمي وتتبعه عبر مختلف الحقب الزمنية، إلا أن الأمر لا يقتصر على مجرد تتبع ميكانيكي لتطور مختلف الفروع العلمية عبر التاريخ، إنما يهتم مؤرخوا العلم ضمن بحوثهم بكثيرٍ من التمفصلات مثل: العلاقة بين العلم والمجتمع أو العلم والسلطة أو العلم والمؤسسة… ولأن الفكر البشري لم يبلغ مرحلة العلمية إلا بعد أن قطع أشواطا من التدرج عبر أشكال تفكيرية قبل علمية، لا سيما الأسطورة والخرافة والميتافيزيقا… فإن ذلك يجعل مؤرخي العلم يهتمون بهذه الأشكال التفكيرية والتعبيرية للإجابة عن إشكالية نشأة المعرفة العلمية وعلاقتها بأنماط المعارف الأخرى غير العلمية.
كما أن تطور المعرفة العلمية عبر التاريخ يطرح عديدًا من الإشكاليات التي يهتم بها مؤرخو العلم، وعلى رأسها البحث عن العوامل التي جعلت التطور ممكنًا، أي العوامل التي سمحت بظهور مفاهيم ونظريات علمية جديدة، ومن المؤكد أن هذه العوامل لم تكن علمية فقط، بل هناك عوامل كثيرة غير علمية ولكنها تتدخل بصورة مؤثرة في مسار تطور المعرفة العلمية، إن بتيسير التطور أو تثبيطه، وهذا ما يجعل وظيفة مؤرخ العلم تزداد تعقيدًا وثراءً في الوقت نفسه، ويرى رشدي راشد أنه من الضروري: “الوصل بين العلم بوصفه نشاطًا عقليًّا والمجتمع بوصفه بنيةً تحتية مؤسساتية مُنتجة له، وهذه البنى الاجتماعية والمؤسساتية هي التي بها نفسر ازدهار العلم وتطوره أو ركوده ولا نفسره بالبنى الذهنية أو المفهومية فقط”[6]، بعامة يحاول مؤرخو العلم الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المُرتبطة بالمعرفة العلمية والتي حددها جورج كانغيلهم في: الـــ: من؟ الـــ: أين؟ الـــــ: لماذا؟ الـــــ: كيف؟ [7]، وكل سؤال من هذه الأسئلة يتطلب كثيرًا من البحث التاريخي والنقدي، والنقد هنا يكون في مستويين: نقد داخلي يتعلق ببنية المعرفة العلمية في ذاتها (علاقة النظريات العلمية ببعضها الآخر)، ونقد خارجي يتعلق بمختلف المؤسسات غير العلمية المحيطة والمتدخلة في بناء المعرفة العلمي (سياسية، قانونية، اقتصادية، دينية، اجتماعية)، فـــ “العمل العلمي هو إنتاج مادي وثقافي، أي إنتاج لأناس معينين في مكان وزمان محددين، ويتعين على المؤرخ البحث عن الشروط الاجتماعية والمادية لهذا الإنتاج”[8].
تاريخ العلوم في السياق العربي الإسلامي:
من المؤسف ولكن من الضروري الإقرار أن ميدان تاريخ العلم بدأ ونشأ في أوروبا منذ القرن الثامن عشر خاصة مع أعمال برنارد لوبوي دوفنتنيل (1657-1757) الذي كان أمينا عامًا للأكاديمية الملكية الفرنسية للعلوم منذ 1697، وتبعه في ذلك التوجه كثيرٌ من الفلاسفة على غرار أوغست كونت (1798-1857) وإيميل مايرسون (1859-1933)، غاستون باشلار (1884-1962)، ثم طور هذا المجال المعرفي في بريطانيا (1902-1994) والولايات المتحدة توماس كوهن (1922-1995) وغيرهم كثير في الفكر الغربي، دون الفكر العربي أو الإسلامي الذي لم يُسهم بشيء ذا بال في نشأة هذا المجال المعرفي وتطوره، اللهم إلا بعض الأعمال للمفكرين العرب والمسلمين الذين يشتغلون ضمن مؤسسات غربية على غرار رشدي راشد وأحمد جبار(1941- ) * في فرنسا، يقول رشدي راشد عن تأسيس تاريخ العلوم: “إن الاهتمام بالتراث العلمي وتاريخه لم ير النور قبل القرن الثامن عشر وفي قلب فلسفة التنوير(…) ما كتب قبل ذلك كان هدفه التذكير والتسجيل، ولم يقصد تتبع هذا العلم أو ذاك في ذاته لبيان كيف أصبح على ما هو عليه في عصر من العصور وما قابله من عقبات تغلب على بعضها أو كان لها جُل الأثر في تغيير مجراه وابتكار بنيات نظريات جديدة، وهذا السعي يتطلب نهجًا جديدًا في الدراسة والتحليل”[9].
ومن ثم فالكتب التي يحفل بها التراث العربي الإسلامي كثيرة عن إحصاء العلوم، تصنيف العلوم، وكتب الطبقات (طبقات الأطباء، طبقات الحكماء، طبقات المعتزلة…) والمعاجم وموسوعات الأعلام، وإن كانت لها علاقة ما بتاريخ العلوم، فإنها في الغالب تتوقف عند الوصف والتسجيل والإحصاء، أو التأريخ للعلماء بدل التأريخ للعلم، لذلك فهي تبقى على أهميتها بعيدة عن الأغراض التي يهتم بها تاريخ العلوم في صورته الراهنة، ولا تجيب عن الإشكاليات التي يطرحها.
لذلك يرى رشدي راشد أننا في حاجة ماسة ومستعجلة إلى الاهتمام بهذا المجال المعرفي والبحث عن سبل الاستفادة منه أكثر من طريق تأسيس أقسام لتاريخ العلوم وإنشاء مؤسسات ومراكز بحثية على أعلى مستوى ووصلها بمراكز البحث العالمية، لتكوين باحثين في هذا المجال علميًا وتاريخيًا ولغويًا، ومع إقراره بوجود محاولات في هذا الصدد في بعض البلدان العربية، إلا أنها تبقى في حاجة إلى دعم الدول “لتطويرها إلى مؤسسات حقيقية لتأهيل المختصين بتدريس هذه المادة والبحث فيها، فلا يزال البحث الجاد في التراث العلمي العربي يحدث خارج البلدان العربية والإسلامية، أعني في أوروبا وأمريكا خاصة”[10].
عن سؤال بخصوص أهمية تاريخ العلوم ودوره في حل المشكلات الاجتماعية أجاب رشدي راشد قائلا: ” إني مقتنع بذلك، لأني أعتقد، وهذا اختياري الشخصي، أنه يجب تربية القيم العقلية ونشرها وحمايتها، وأنا على يقين من أن تاريخ العلوم وفلسفتها وسيلتان ناضجتان في هذا الغرض”[11]، بالإضافة إلى الهدف التربوي الذي يمكن أن نستفيده من تدريس تاريخ العلوم، من طريق التعرف على أنماط العقلانية وتطور الأفكار العلمية في مختلف المجتمعات والحقب الزمنية بعيدًا عن التصورات التقليدية المرتبطة بفكرة السبق والتنافس مع الآخرين، وكذا العوامل المساعدة على ذلك، يسمح لنا تدريس تاريخ العلوم والاهتمام به “بمعرفة الثقافة الإسلامية حق المعرفة بإعادة ما كان من أبعادها وهو البعد العقلي العلمي، فالتراث الإسلامي لم يكن لغة ودينًا وأدبًا، بل كان علومًا وفلسفةً ومنطقًا، وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث في عالميته وانفتاحه”[12].
ما أحوجنا إلى إحياء البُعد العقلي والإنتاج العلمي الذي يستطيع بلوغ العالمية، في زمن نعيش فيه على هامش العالم من مختلف النواحي وفي مقدمتها الناحية العلمية، فنحن مجرد مُقلدين ومُستهلكين لما يُنتجه غيرنا من أفكار وعلوم وتطبيقات لتلك العلوم. وقد كنا في وقت ما نُنتج أفكارا ونظريات علمية عالمية، باعتراف مؤرخي العلم الغربيين أنفسهم، فيقول توبي هوف Toby Huff(1942-) وهو مؤرخ علم أمريكي معاصر كتب أحد أهم الكتب التي تناولت العلم العربي الإسلامي من منظور إشكاليات تاريخ العلم سماه بــــ: “فجر العلم الحديث، الإسلام – الصين -الغرب“: “العلم العربي من القرن الثامن حتى أواخر القرن الرابع عشر ربما كان أرقى علم في العالم، مُتفوقًا بذلك على العلم في الغرب والصين، وكان العلماء العرب في كل حقل تقريبًا، في الفلك والسيمياء والرياضيات والطب والبصريات وما إليها في طليعة التقدم العلمي، وكانت الحقائق والنظريات والتصورات التي تضمها رسائلهم العلمية أرقى ما يمكن الحصول عليه في أي مكان في العالم”[13]. هذا النص بقدر ما يحتفي بالعلم العربي، ويصور درجة رقيه في فترة ما من التاريخ بقدر ما يجعلنا نطرح إحدى أهم إشكاليات تاريخ العلوم، بشأن العلوم العربية، فما الذي ساعد الحضارة العربية الإسلامية على الرقي العلمي لبلوغ تلك الدرجة الرفيعة، ما هي المؤسسات والقوانين ومختلف العوامل العلمية وغير العلمية التي أسهمت في تحقيق ذلك الرقي؟ ثم ما الذي حدث حتى انحسر هذا العلم وانطفأ نوره وأَفُلَتْ نجومه وأصبح العرب والمسلمون مستهلكين لا منتجين، منفعلين لا فاعلين في التاريخ عمومًا وفي تاريخ العلوم خصوصًا؟ هي أسئلة معقدة ولا نملك أجوبة نهائية عنها، قد تكون هناك إجابات معينة ولكنها تبقى غير كافية وربما بعيدة عن الحقيقة، طالما أن البحوث والدراسات تمت من مؤرخي العلم الغربيين، ونحن نعلم مدى حضور الذاتية والأيديولوجيا في كل بحث تاريخي، بالإضافة إلى الأغراض السياسية والاستعمارية والشوائب العنصرية التي تشوب مثل هذه الأبحاث.
إجابة عن الإشكاليات السابقة عن العلوم العربية بين الرقي والاضمحلال يُجيب توبي هوف قائلا: “إن لغز النجاح الذي صادفه العلم الحديث في الغرب وفشله في الحضارات غير الغربية يكمن حله في دراسة المجالات غير العلمية من الثقافة: أي القانون والدين والفلسفة واللاهوت وما إليها”[14]، وهو في ذلك يعقد مقارنة بين عوامل أفول العلوم العربية مع نهاية القرون الوسطى ونشأة العلم الحديث في أوروبا مع عصر النهضة، التي كانت في نظره “نتيجة لتضافر فريد لعوامل ثقافية ومؤسسة هي في جوهرها غير علمية”[15]، في حين يُجيب رشدي راشد عن الإشكاليات نفسها بقوله: “لماذا يوجد انحطاط علمي في وقت معين وفي مجتمعات معينة؟ هذه أسئلة يقتضي طرحها والسعي في حلها اجتماع كفاءات عديدة، ويقتضي ذلك تعاون مؤرخي الاختصاصات كلها: مؤرخو الوقائع العسكرية، ومؤرخو الظواهر الديمغرافية، ومؤرخو العلوم، ومؤرخو الاقتصاد مثلا، قد نحتاج إلى دراسة مُفصلة لتاريخ التجارة العالمية من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، وينبغي ربط ذلك بعضه ببعض…”[16].
كلا الجوابان يؤكدان تعقد البحث في تاريخ العلوم خاصة في الحضارة العربية الإسلامية، نتيجة ما أشرنا إليه سابقًا من ارتباط تاريخ العلوم بتخصصات معرفية كثيرة، وهذا أمر طبيعي جدًا طالما أن الظواهر العلمية هي نتاج البشر وكل الظواهر البشرية والاجتماعية معقدة ومتشابكة العناصر. ومع ذلك يبقى التأريخ للعلوم العربية مُهمًا وضروريًا لمعرفتها بصورة أكثر دقة وأكثر موضوعية، ومن ثم “تجديد صورة تاريخ العلوم عامة بإعادة رسم الصورة التي شوهتها النظرة العقائدية”[17]، والمقصود بالنظرة العقائدية هنا، تلك النظرة القائمة على أيديولوجية المركزية الغربية التي لا ترى في مرحلة العلم العربي الإسلامي إلا جسرًا نُقل عبره العلم اليوناني إلى أوروبا، وهي نظرة فيها إجحاف كبير في حق العلم العربي الإسلامي، الذي وإن انطلق من ترجمة العلم اليوناني، إلا أنه من المهم التذكير أن الترجمة لم تقتصر على علوم اليونان فقط، بل امتدت إلى علوم الفرس والهند وغيرهم، ومن ناحية أخرى لم يتقبل العلماء العرب والمسلمون العلم اليوناني كما هو، بل انتقدوه وأضافوا إليه وتجاوزوه في مسائل كثيرة، وأبدعوا علوما ونظريات جديدة، فرضت على مؤرخي العلم الغربيين ضرورة المرور على العلوم العربية والتعرف عليها حتى يتسنى لهم فهم علوم اليونان، وهي الفكرة التي تتمحور حولها أعمال رشدي راشد، فقد سعى في كثيرٍ من أعماله إلى إبطال ما يُسمي في تاريخ العلوم بـ “المعجزة اليونانية” أو “المعجزة الغربية“، لأن تاريخ العلوم في نظره هو بناء من التراكمات عبر الفترات الزمنية “وكل فترة هي وريثة الفترة التي تقدمتها”، وقد أجاب محاوره حين سأله عن أهم ما أنجزه طيلة أزيد من نصف قرن من البحث في تاريخ العلوم، قائلًا: “أنا أعيد بناء مختلف العقلانيات الممكنة دون الادعاء بوجود معجزة”[18].
خاتمة:
تأسيسًا على ما سبق يُمكن القول من الضروري الاهتمام بتاريخ العلوم بعامة وبتاريخ العلوم العربية بخاصة في بلداننا، لأن معرفتنا بهذا المجال المعرفي تبقى محدودة في ظل غياب تام لأقسام جامعية تدرس تاريخ العلوم وغياب مراكز بحثية متخصصة ومسايرة لما يحصل في البلدان المتقدمة، فالتراث بما فيه التراث العلمي هو ذاكرة الأمة، ومعرفتنا بتراثنا العلمي لا تزال ضحلة ولا تُغني من جوع بعبارة رشدي راشد، هناك مهام كثيرة تنتظر المجتمعات العربية والإسلامية وتجد نفسها عاجزة أو متخبطة في التعامل معها، لأنها لا تملك قاعدة نظرية دقيقة لإنجاز تلك المهام، إننا في حاجة إلى معرفة ذواتنا ومعرفة الآخر ومعرفة سبل التقدم وأسباب الإخفاق، وهي معرفة لا يُمكن تحصيلها دون التعرف على تاريخ العلوم ومسيرة تطورها في مختلف الثقافات والحقب الزمنية، لا يُفيدنا أن نكتفي بمعرفة نُتف صغيرة من هذا العلم أو ذاك، مثلما لن يفيدنا التغني والتمجيد والتفاخر بتلك النُتف أو ذلك الماضي الراقي، وترديد عبارات أننا كنا سباقين لهذه النظرية أو ذلك العلم، إن الاهتمام بتاريخ العلوم لا يعني التوقف عند معرفة التراث العلمي، إنما ينبغي أن يوجه إلى التفكير في الحاضر والمستقبل، ومن شأن الاهتمام بتاريخ العلوم تهيئة الظروف الملائمة للتحديث الفكري الذي نحتاجه، بالتعرف على مختلف العوامل العلمية وغير العلمية المساعدة على بث الحيوية في الميدان العلمي وتطويره ومن ثم الاشتغال على توفيرها، وكذا التعرف على العوامل التي تكبح جماحه لتجنبها وتجاوز العوائق التي تفرزها.
الإحالات:
[1] حوار مع الدكتور رشدي راشد أجرته منظمة المجتمع العلمي العربي، 12 مارس 2015، موقع المؤسسة: mmr@arsco.dr
[2] ديدي غازانيادو: محادثة مع رشدي راشد، ت: يوسف بن عثمان، منظمة المجتمع العلمي العربي، مؤسسة الريان للدراسات، ط1، 2025.
[3] المرجع نفسه، ص ص 46-47.
[4] جورج كانغيلهم: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ت: خليل أحمد خليل، بيروت: دار الفكر اللبناني، ط1، 1992، ص 6.
[5] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2011، ص ص 15-16.
[6] ديدي غازانيادو: مرجع سابق، ص 16.
[7] جورج كانغيلهم، مرجع سابق، ص 5.
[8] رشدي راشد: في تاريخ العلوم، ت: حاتم الزغل، تونس: بيت الحكمة-كرسي اليونيسكو للفلسفة، ط1، 2005، ص 16.
* أحمد جبار رياضي ومؤرخ للعلم جزائري له العديد من الكتب والإسهامات حول تاريخ الرياضيات العربية رفقة رشدي راشد، وشغل منصب وزير للتربية الجزائر (1992-1994).
[9] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، مرجع سابق، ص 32.
[10] المرجع نفسه، ص 8.
[11] رشدي راشد في تاريخ العلوم، مرجع سابق، ص 141.
[12] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص 41
[13] توبي أ.هف: فجر العلم الحديث، الإسلام-الصين-الغرب، ت: محمد عصفور، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط2، 1990، ص 65.
[14] المرجع نفسه، ص 25.
[15] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[16] رشدي راشد: في تاريخ العلوم، ص 139.
[17] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص 41.
[18] ديدي غاوانيادو: محادثة مع رشدي راشد، مرجع سابق، ص 82.