رينيه حبشي: فيلسوف الانسان والفكر المتوسّطي

 تكوين

رينيه حبشي، كاتب لبناني فيلسوف متميّز بشخصيّته وثقافته الشمولية، وبإيمانه بالشخصانية التي عبّر عنها بعمقٍ وتفصيل في مؤلّفاته ومحاضراته وفي تدريسه الطلاّب الذين يفتخرون بأنهم كانوا ممّن نهلوا من معين فلسفته، هو الذي اتّبع معهم الأسلوب التحفيزيّ داعياً إيّاهم إلى التعمّق الموضوعيّ في البحث الفلسفي.

إنعقد همّه الأكبر على الانسان مفهوماً وقضيةً وتفكّراً في ذاته وفي الكون. ذو فكرٍ متوسّطي روحاني مجدول على تقييم الأفكار ونقدها توصّلاً إلى الحلول المرجوّة، صاحب هدوء وثورة في آن بهدف بناء الانسان، كلّ إنسان، وبناء الدولة القائمة على العدالة والحقّ.

  رأيه في الدين والله، في المسيحية والاسلام، في الطائفية والعَلمانية، في المجتمع الثوريّ وفي الحضارة الشرق-أوسطية.. عناوين أساسية لدراستنا بعد عرض نبذةٍ موجزة عن حياته.

 حياة رينيه حبشي

أولاً: حياته (1915-2003)

  فيلسوف ومفكّروشاعر وموسيقي لبناني-مصريّ. ولد في القاهرة، يحمل شهادتيّ البكالوريا الفرنسية والمصرية، وإجازة تعليم في الفلسفة من كلّية الآداب في غرونوبل (Grenoble) في فرنسا، وماجستير في الفلسفة حول الفيلسوف الفرنسي مان دي بيران Maine de Biran (1766-1824) الذي كان ينتمي إلى المذهب الروحاني (Le spiritualisme)، إضافةً إلى دبلوم عازف منفرد على البيانو من المعهد الموسيقي الألماني برغرون Bergrun . بين العامين 1940 و 1952، درّس الفلسفة في المدارس الثانوية، وأسّس “المركز الفلسفي في الزمالك” في مصر، ونال منحةً من أكاديمية الحقوق الدولية في لاهاي (هولندا).

بين العامين 1952 و 1969، عاد إلى بيروت حيث درّس في الجامعات اللبنانية والأميركية والفرنسية قبل أن يدعوه المجمع البريطاني (British Council  ) لزيارة أوكسفورد وكمبردج. العام 1960، أسّس معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية وأشرف على تنظيمه. بين العامين 1961 و 1964، عُيّن مديراً معاوناً في مركز الأونسكو للتصميم التربوي في الدول العربية. قَبل دعوة الخارجية الأميركية إلى زيارة جامعات الولايات المتّحدة الأميركية، ثمّ سافر إلى باريس العام 1969 حيث عُيّن مديراً معاوناً، ثمّ مديراً لقسم الفلسفة في الأونسكو. العام 1972، دافع عن أطروحة دكتوراه دولة في الفلسفة، وكان موضوعها: “متطلّبات فلسفة متوسّطية”. نظّم مؤتمرات دولية للأونسكو، وبين العامين 1977 و 1983، درّس الفلسفة في باريس، وفي جامعة بربينيان (Perpinian)، ثمّ في جامعة ديجون (Dijon). دُعي مرّاتٍ أربعاً إلى جامعة لافال (Laval) في كيبك (كندا). أسّس حلقةً دراسية حول الثقافة المتوسطية ونظّمها، كملحق لجامعة بربينيان. خلال العامين 1983 و 1984، ألقى محاضرات وأدار حلقات دراسية في بلجيكا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا.

 

من أبرز مؤلّفاته:

  • على مستوى الانسان (1949).
  • ثلاثة مفكّرين أمام مشكلة الوجود (1954).
  • الفكر الملتزم والفكر المنعتق في لبنان (1954).
  • معنى الشفقة (1954).
  • تجلّي الخوف (1954).
  • البحث عن الانسان من خلال التجربة الفلسفية لمان دي بيران (1957).
  • نحو فكر متوسّطي: الفلسفة المسيحية، الفلسفة الاسلامية، والوجودية (1959).
  • فلسفة لزماننا الحاضر (1960).
  • حيوية ثقافية موحّدة (1960).
  • حضارتنا على المفترق (1960).
  • بدايات الخليقة (1965).

 

ثانياً: الدين في فكر حبشي

في غمرة التيّارات الفلسفية المترنّحة بين النزعة الدينية والاتّجاه الالحادي، طرح حبشي مسألة الدين بأُسسها وجذورها الفكرية، توصّلاً إلى تظهير مفهومه لله ولواقع المسيحية والاسلام في الشرق. وحاول أن يُخرج الدين من إطاره التقليديّ داعياً الشرقيين عموماً واللبنانيين على وجه الخصوص إلى التعمّق “في سرّ الله وحياته الفاعلة فينا وفي مجتمعنا.”1

فالدين في خطر، والايمان يتأرجح بين الشعور الدينيّ الوراثيّ وبين العلم المنطقيّ الحديث، والطوائف في حالة صراع مستمرّ.

في الحقيقة، وللتمكّن من طرح مفهومه لله ولمسألة العلاقة بين المسيحية والاسلام، ينبغي التوقّف عند محطّتيْن بارزتيْن في فكر حبشي: الشخصانية، والوجودية.

تأثير رينيه حبشي على الفكر العربي

  1. الشخصانية Le personnalisme

تشتمل الشخصانية عموماً على معانٍ ثلاثة: فهي مرادفة للذاتية عند الفيلسوف الفرنسي رينوفييه Charles Renouvier (1815-1903) الذي اعتبر “فكرة الشخصية مقولة ضرورية لإدراك العالم”2 ، وهي كذلك “مذهب أخلاقي واجتماعي مبنيّ على القول إنّ للشخص الانساني قيمة مطلقة”3 ، وهذا هو مذهب الفيلسوف الفرنسي مونييه Emmanuel Mounier (1905-1950) الذي شدّد على كرامة الشخص في مواجهة الفردية الجافة والجماعية المادية، في طريقه نحو الاندماج في المجتمع. كما تُعتبر الشخصانية أخيراً “مذهب القائلين إنّ الله شخص، وهذا المذهب مقابل لمذهب القائلين بوحدة الوجود.”4

أما في فكر حبشي، فكما أنّ الشخص “هو حضور فينا، فالشخصانية هي حضور في العالم”5 ، هي فلسفة تتميّز بالانفتاح وبالصفة الروحانية. وقد أساء البعض تفسير هذه الصفة، فقالوا إنها تعني الروح بدون الجسد، الأمر الذي قادهم إلى الانجرار وراء مثالية الفيلسوف الاغريقي أفلاطون  Platon (428-347 ق.م.). لكن مع اصطدام هذه المثالية بالواقع، فإنها تغدو حلماً يحاول كثيرون تجنّبه بالسير نحو المادّية التي ينعتونها غالباً بالجدلية. وهذا المزج بين المفاهيم الفلسفية إنّما ينتج عن “جهلنا الفلسفة وتاريخها”6 في رأي حبشي، ويكمن الحلّ الوحيد للخروج من هذا المأزق الفكري في أن نكون شرقيين وشخصانيين قولاً وفعلاً.

وقد تمحورت الشخصانية في فلسفته حول ثلاث مسائل أساسية:

  • الانسان الذي يمتلك العقل والغريزة والايمان.
  • الحرية التي نتلمّسها من خلال معرفتنا العميقة لجوهر هذا الانسان كفردٍ قائمٍ بذاته.
  • الحقيقة غير المرتكزة على أسسٍ حسابية، بل على قوةٍ تدفع الانسان إلى محاولة الكشف عن أساس وجوده. وهذه هي الحقيقية التي تستثير لدى الانسان رغبةً في تغيير حياته حيثما يقتضي التغيير، روحياً واجتماعياً ومدنياً.

وعلّق التاريخ، في نظره، أهميةً كبرى على تسامي الشخص الذي، إن بحثنا في جذوره، فإننا لا نجد فقط “الحدّ الجامع بين الشرق والغرب، بل نلقى الصلة الفضلى بين الاسلام والمسيحية.”7

  1. الوجودية L’existentialisme

  الوجودية، في معناها العام، هي عقيدة فلسفية موضوعها وجود الفرد في واقعه المعاش وعلى مستوى اندماجه في المجتمع، وهي تُعلي قيمة الانسان مؤكّدةً أنه صاحب حرية وتفكير وإرادة. من أبرز مفكّري هذا المذهب: الفيلسوف واللاهوتي الدانماركي كيركيجارد Soren Kierkegaard (1813-1855)، والفيلسوف الألماني ياسبرس  Karl Jaspers (1883-1969)، والفيلسوف الفرنسي سارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980) وغيرهم.

إعتبر سارتر أنّ “الوجود متقدّم على الماهية، وأنّ الانسان مطلق الحرية في الاختيار، يصنع نفسه بنفسه ويملأ وجوده على النحو الذي يلائمه.”8 لكنّ الوجودية لم تعنِ الالحاد لجميع الفلاسفة كما كانت لسارتر، فقد عرض الفيلسوف الفرنسي مارسيل Gabriel Marcel (1889-1973) لمذهب الوجودية المسيحية مشدّداً على صفة الأمانة في إطار العلاقات الانسانية.

رفض حبشي اعتبار الوجودية نظرة عابرة في الوجود، بل كانت بالنسبة إليه “أسلوباً في التفكير، وطريقة في الحياة، وتطوّراً طبيعياً للفلسفة التقليدية الأصيلة.”9 ورأى أنّ الوجودية الكاثوليكية في فكر مارسيل أكثر تحصيناً من موقف كيركيجارد البروتستانتي، وكذلك من موقف الفيلسوف الألماني هايدغر Martin Heidegger (1889-1976). وتجدر الاشارة هنا إلى أنّ هايدغر كان يرفض تصنيف فكره في إطار الفلسفة الوجودية، ولم يعتبره حبشي ملحداً (كما كان يشير إلى ذلك سارتر)، وقال فيه: “إذا لم يتحدّث مطلقاً عن الله، فليس بدافع الالحاد، بل لأنه لم يلتقه بعد في أفقه الوجودي.”10 كما لمس تناغماً بين إله كيركيجارد وإله الاسلام، إضافةً إلى تقاربٍ بين الفكر المتوسّطي والفكر الوجودي ذي الأصل الديني، وهذا الفكر، في رأيه، ديني ليس فقط بسبب الديانتيْن المسيحية والاسلامية، بل لأنّ الفكر الاغريقي الذي توارثناه لا سيّما عبر فلسفة كلّ من أفلاطون وأرسطو Aristote (384-322 ق.م.)، والذي يشكّل في حدّ ذاته ظاهرة متوسطية، إنما حمل إلينا هذه البذور الدينية. وأكّد أنّ الشرق زاخر بمعالم الوجودية في الفكريْن المسيحي والاسلامي، الأول عبر روح الأسرار اللاهوتية، والثاني عبر الوجد الصوفي اللذين شبّههما “بفوّهاتٍ تنطلق منها في الشرق دعاءات إلى الوجود”11، إلى وجود غنيّ بآفاق المعرفة حيث يلتقي الماضي بالحاضر ولو على بعض اختلاف.

  1. الله

  “إنّ الله وجود وحضور. هو في العالم بدون أن يكون من هذا العالم. إنّ العالم لا يلتقط الله، بل يحتفظ بأثره فقط. وهذا الأثر يشير إليه بدون أن يسمّيه.”12

الله هو المنقذ الذي يوقظ في الانسان الشعور بالقيم الانسانية المثلى، إلا أنّ البشر يقتلون باسم الله، فيقتلون الله ذاته. وفي هذا الاطار، وجّه حبشي انتقاده إلى الفيلسوف الألماني نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900) الذي تجرّأ على إعلان موت الله، فتأثّر الشرق بفكره وصار يشهد موت الله في بطء. وحذّر من موت الله في الشرق وفي وجداننا كشرقيين، مشيراً إلى أنّ الانسان الشرقيّ لا يملك الجرأة على البوح بشعوره المتأثّر بالأفكار الثورية المادية، فيعمد إلى كبت هذا الشعور خوفاً من الله الذي اعتاد أن يؤمن به تبعاً لجوّ بيئته الشرقية، وخوفاً كذلك من أن يُتّهم بالالحاد. والمثقّفون أنفسهم الذين انطفأ الله في قلوبهم لا يقرّون بذلك، وحين يموت الله فينا، فالانسان أيضاً يموت في داخلنا، فيضعف اتصالنا بعالمنا الداخلي ويسهل انجذابنا نحو العالم الخارجي. علينا إذاً أن ننقذ الله في الشرق لكي لا نرتمي في حضن المجهول.

في مواجهة هذا الواقع، طرح حبشي موضوع الله من وجهتيْن: الأولى “إله العقل” أو الاله-السؤال، والثانية “إله الايمان” أو الاله-الجواب بحسب تعبيره. وتناول مسألة “إله العقل” عبر موضوعات أربعة: الاقتصاد، السياسة، العلم، والفلسفة.

رينية حبشي والاقتصاد

في الشأن الاقتصادي، قال إنّ الاقتصاد سبيل إلى الايمان أو إلى الالحاد. فالماركسية تعتبر الاقتصاد ديناً، وحجّتها في ذلك أنّ الانسان الجائع ينظر إلى الخبز وكأنه المطلق الأول. صحيح ، في رأيه، أنّ الانسان الشرقيّ يتعلّق بالايمان في زمن الأزمات والصعوبات والأمراض، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن عندما يتحوّل البؤس إلى وعيٍ للبؤس من خلال التطوّر الاجتماعيّ، تبدأ حينئذٍ عملية إفساد “فكرة الله عن طريق تحويلها إلى تعزية يضاعفها إستسلام كسول أو يائس.”13 وفي الشأن السياسي، أعطى مثل القومية مشيراً إلى أنه يجب النظر إليها كوسيلةٍ ، لأنّ من يرفعها إلى مستوى الغاية يزيد من خطورتها، فيفقد الانسان السبل التي قد ينفتح من خلالها على الله. ومن خطر القومية إلى عجز العلم، فالعلم، في رأيه، غير قادر على اكتشاف الله، “وقد تصل ضربات معول العلماء إلى أعماق الليل، لكنهم لن يلاقوا ولن يثقبوا غلاف الألوهة، لأنّ الله لا يغلّفه شيء.”14 أما في الشأن الفلسفي، فميّز بين فلسفة الطبيعة وفلسفة ما وراء الطبيعة اللتيْن بحثتا مسألة الله، وخلص إلى الاستنتاج الآتي: “لم يبقَ جدال بين الذات والتسامي، بل هناك حوار وغيرية. الذات بواسطة التسامي، والتسامي بواسطة الذات، ولكن ها نحن على عتبة ما نسمّيه الوحي…”15

وأما إله الايمان، فتناوله حبشي كذلك على صعدٍ عدّة. فعلى صعيد الحياة الدينية، رأى وجوب الجمع بين الطوائف وتشعّباتها وبالتالي تخطّي الطائفية؛ وعلى صعيد الحياة الثقافية والفلسفية والعلمية، دعا إلى تقبّل جميع تجرّؤات العلم والفلسفة بدون أيّ تخوّفٍ على سلامة الله أو الثقافة. أما في السياسة، فالله متسام، “لا ينتسب إلى مطلق أمّة، ولا يتكلّم لا الفرنسية ولا العربية ولا العبرية… إنه الكلمة، فعل الكلمة، وكلّ يفهمه ويعبّر عنه بلغته الخاصة.”16 وفي الاقتصاد أخيراً، نادى باقتصادٍ إنساني يمنع إبعاد الله عن الانسان أو الجماعة.

وفي كلّ ذلك، وصف السبل نحو التسامي في ما يخصّ إله العقل، والسبل نحو التمكّن في ما يخصّ إله الايمان، معتبراً العمل الانساني القائم على التضامن بين البشر كفيلاً بإعلان حضور الله في ذواتنا، ليس فقط في حالة الشدّة، بل كذلك في حالات الاطمئنان والسعادة.

يمتدّ وجود الله عبر الزمن من الماضي إلى الحاضر، الله حرية، لم يفرض ذاته يوماً على الانسان، هو “ذات لا تحدّها نهاية”17 ووجوده فينا كلّ متكامل بحيث “لا يمكن أن يدركه جزء من ذاتنا، فيما جزء آخر منفصل عنه وغريب”18 . من هذا المنطلق، رفض حبشي القول الشائع: “إمّا الله وإمّا الانسان”، بل ينبغي أن يُقال: “الله والانسان”، أو في الأولى أن نقول: “الله، على أن يبلغ الانسان ملء قامة الانسان.”19  الله إذاً هو “الكائن الترابطي”20 بفعل العطاء بين الآب والابن.

أمّا في ما يخصّ الارتهان الديني، فميّز حبشي بين الدين كصلةٍ بالله، وبين العقيدة التي تعني انتماءً إلى طائفةٍ معيّنة. واعتبر أن لا وجود في لبنان لهذا النوع من الارتهان بمعنى خضوع الانسان لله، لأنّ اللبناني، في رأيه، ذكيّ وجيّد التصرّف لا يتّكل كثيراً على العناية الالهية في حلّ مشكلاته.

إلى ذلك، فقد حذّر من خطر الشيوعية في مجتمعنا، ومن تحجّر القلوب والاستسلام للأمور الدنيوية، كما رفض محاولات إهانة الله عبر اتّهامه بالتفرقة بين البشر، فالله لا يفصل بين أبنائه ولا يحرّض بعضهم على البعض الآخر، فهو إله الوحدة ومعقل التلاقي بين المؤمنين به من كافّة الطوائف، فكيف لهذا الاله “أن يطيب له مشروع الهدم، في حين أنه يدعو دائماً إلى الأخوّة والحنان والتعاون المجدي؟”20

  إنطلاقاً من هذا الايمان بالخير والسلام الالهييْن، طرح حبشي موضوع الدين ومسألة العلاقة بين المسيحية والاسلام من مختلف جوانبها.

  1. المسيحية والاسلام

  “إنّ الشعور بالوحدة لا يتأتّى إلاّ بعد وحدة الشعور التي هي، في جزء منها على الأقل، ثمرة التربية والثقافة.”21 لكن هل من وحدة في الشعور بين المسيحية والاسلام؟ هل من تقارب في التربية والثقافة؟ هل هناك احتمال علاقة إندماجية تناغمية المفاهيم بين “الفريقيْن”؟

  • المسيحية

  طرح حبشي قضية المسيحية في الشرق عموماً وفي لبنان خصوصاً، ورأى أنّ مسيحيّي الشرق مربوطون ظلماً بالغرب. وحاول أن يرشد المسيحية في لبنان إلى حقيقتها عبر دعوته إلى محاولات تقارب بين الطوائف الانجيلية والأرثوذكسية والكاثوليكية، وإلى إقامة جسور تعاطف بينها باسم الله. فإذا استمرّ كلّ فريق على اقتناعه بأن لا حقيقة إلا حقيقته وبأنّ كنيسته هي الأمثل بين الكنائس، فإنّ ذلك يشكّل فساداً في التفكير وعقماً في الحوار وتشويشاً لفروع المسيحية كلّها، إذ يبدأ بعض المسيحيين بالتساؤل: “إذا لم أكن مؤمناً بالكنيسة التي أنتمي إليها، وإذا لم تكن حقيقتها هي الحقيقة، فلمَ أبقى في كنيستي مع ذلك كلّه؟ أمّا إذا كانت هي مستودع الحقيقة، فكيف لي ألاّ أتمنّى لو يوافيني إليها الآخرون؟”22

إلى ذلك، دعا حبشي المسيحية إلى تأدية دورها في المجتمع اللبناني عبر إقامة نظام إجتماعي متجدّد مبنيّ على العدالة والضمير المسيحي. قد تنتهي المسيحية في الشرق الأدنى، كما اعتبر، لكنّ السماح بموتها في لبنان أمر مرفوض. وفي هذا المجال قال، بأسلوب أقرب إلى الشاعرية: “إذا حُكم على المسيحية بالموت في بلدنا، فليتمّ هذا الموت على الأقل بحركة سخاءٍ ومروءة. لا يجب على المسيحية أن تتوارى ببخل وضعف، بل يجب أن تترك وراءها ذكرى كبَرها الذي لم تستطع إنقاذه وذكرى حضورها التاريخي الذي هو معنى وجودها الوحيد.”23

 

  • الاسلام

للأسف، فقد الاسلام، في رأي حبشي، كلّ اتّصالٍ بالفيلسوف الاغريقيّ أرسطو وبفلسفته منذ العصور الوسطى، “ومنذ ذلك الحين، هو يغتذي فقط من الدين.”24  وقد مرّ الفكر الاسلامي في مأساة عبر تاريخه الطويل، فقد فُتحت أبواب الاجتهاد وكثر الفقهاء.. وكان ذاك الركود الاسلامي، وكان ذاك الشعور بضربٍ من العبث، ما أقلق الفكر الاسلامي، فانقادت الثقافة العربية لغيرها من الثقافات. ووصف عمل المصلحين المسلمين كجمال الدين الأفغاني (1838-1897) ومحمد عبده (1849-1905) بغير الكافي. فصحيح أنهم حاولوا الاستجابة لبعض مطالب التقدّم، إلاّ أنّ “الماضي الذي استأثرت به أحكام التقاليد ضيّق عليهم، فلم يجرؤوا أن يبتكروا نسقاً للحياة جديداً، ولو اضطروا معه إلى عنف القطيعة في أحيان.”25 من هذا المنطلق، فقد رأى وجوب خروج المسلمين من حالة الجمود في الزمن عبر الانعتاق من قيود التقاليد لتحقيق انفتاح حقيقيّ وفاعل، وعلّل سبب انهيار الايمان لدى بعض المسلمين برغبتهم في تحدّي التقاليد تماشياً مع ضرورات التجدّد.

ج- العلاقة بين المسيحية والاسلام

“على المسيحية والاسلام أن يتلاقيا في الفكر وليس فقط في الطريق.”26

أشار حبشي إلى عجزٍ عند المسيحيين عن معالجة المشكلات الاجتماعية، على رغم كونهم من روّاد النهضة، وإلى عدم تكيّف المسلمين مع التطوّر في العالم الحديث. لكن على اللبناني المسيحي واللبناني المسلم أن يتلاقيا وأن يتعاونا لأنّ “هدف الله هو أن يُلغي الانسان حدوده، وأن يسمح لله بالظهور من خلاله بإشراقة حضوره ووحدته، فكيف يرفضان إذاً التعاون؟”27 وبين الديانتيْن تقارب وسمه كلّ من الانجيل الذي يشدّد على المحبة، والقرآن الذي يركّز على الوحدة: فالمحبة هي طبيعة الله ذاتها، والوحدة هي وحدته. وعندما تعود المسيحية إلى ينابيعها، فإنها تحسن التعاطي مع الاسلام، وعندما يعود الاسلام إلى وحيه الأساسيّ، فإنه يحسن التحاور مع المسيحية، فيبتعد الفريقان بذلك عن أيّ تصلّبٍ ذهنيّ، ويعيشان حياتهما المشتركة على الايقاع ذاته، فيكون تعاونهما مثمراً وفاعلاً. وفي التاريخ والثقافة، كلّ من المسيحيّ والمسلم متوسّطي، والفكر المسيحيّ لا يعني اللبنانيين المسيحيين فقط، بل يخصّ كذلك اللبنانيين المسلمين، والحال نفسه بالنسبة إلى الفكر الاسلاميّ الذي لا يعني مسلمي لبنان فقط، بل يخصّ أيضاً اللبنانيين المسيحيين. إلاّ أنّ هناك نقصاً في الثقافة الدينية من شأنه أن يقيم جسوراً من التباعد بين الطرفيْن للأسف، فالمسيحيون عموماً يجهلون تفاصيل المبادئ الاسلامية، وكثيرون من المسلمين يجهلون تعاليم الانجيل. ويقع على عاتق المسؤولين في البلد توعية الشعب اللبناني على حقيقة الديانتيْن وأصولهما، لأنّ العلاقة الحسنة بين المسيحيين والمسلمين هي بالفعل رسالة تاريخية.        

 

ثالثاً:

الطائفية والعَلمانية

مشاركةً في التطرّق إلى مسألة “الطائفية والعَلمانية” التي عالجتها أقلام كثيرة، طرح حبشي الموضوع طرحاً واقعياً، أبدى من خلاله ملاحظاته ووجّه انتقاداته في بلد كان الاصطراع فيه وما زال عنيفاً بين مؤيّدي النظام الطائفي من جهة، والداعين إلى اعتماد العَلمانية من جهةٍ أخرى.

  1. الطائفية
  • الطائفية بوجهيها الايجابيّ والسلبيّ

  ليست الطائفية سيّئة في حدّ ذاتها، كما رآها حبشي، فإنّ لها وجهين: الأول إيجابي، والثاني سلبي.

في وجهها الأول “الطائفية موقف جماعيّ يتّخذ طابعاً إيجابياً كلّما استند إلى حياةٍ دينيةٍ حقّ.”28 وهي تمتلك ميزتيْن: الاخلاص للدين، والتوحيد بين الفئات الاجتماعية في تقاليدها وثقافاتها ومواردها الفكرية والنفسية. على هذه الطائفية إذاً أن تكون إئتلافية تجمّعية، تعكس وجه المجتمع المركّب وتغذّي إيجاباً التنوّع فيه. وكلّما كان التعامل مع التنوّع راقياً وشفّافاً، كلّما كانت الطائفية حصيلة واقعية لتلاقي الأديان والطوائف.

أمّا في وجهها الثاني، فصحيح أنّ الطائفية أتت لإقامة توازنٍ مسيحيّ-إسلاميّ، إلاّ أنها ليست وليدة الأديان، بل وليدة من يدّعون الايمان. من هذا المنطلق، عرض حبشي سلبيّات الطائفية ومساوئها، هي التي حطّمت المقدّسات، وقسّمت الفئات المجتمعية في ظلّ ما سمّاه، في تعبيرٍ قاسٍ “الزوولوجيا الانسانية” حيث تعمد كلّ طائفة إلى اتخاذ موقف الحذر من سائر الطوائف. والأسوأ في النظام الطائفي أنه بقدر ما يقرّب الانسان من طائفته، بقدر ما يبعده عن انتمائه الوطني، فقبل أن يكون كلّ لبنانيّ مواطناَ لبنانياً، فإنه يكون ملتحقاً بطائفته. وما أوقع اللبنانيين في هذا المأزق هو أنهم لم يجدوا مثالاً يقتدون به، فتهافتوا “على ذواتهم في خيبةٍ ووقاحةٍ وهزيمةٍ ولهو. وكما تتساقط مياه النافورة رذاذاً، تحطّم الضمير الوطني في أنانياتٍ إنعزالية وانفراديات طائفية ومذهبية.”29 لذلك سقطنا، كما اعتبر، في آفة الارتهان الطائفي بحيث استولت الطائفية ذات المنحى السلبي على حياتنا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، فبتنا نلمس هذا الارتهان في السياسة الداخلية والخارجية، في توزيع الوظائف التنفيذية والادارية والمناصب التقنية والتعليمية، وهذا ما أفضى إلى حالة التعصّب الطائفي الذي يذكّي دوماً تعصّباً مضاداً، فيقع الفرد في التقليد المنغمس في الماضي، وفي الأنانية المنغلقة في حدود الحاضر، فتنهار الذات الانسانية في أعماق اللاوعي، وتبدأ المادة باستعباد الله واستبعاده.

وفي الواقع، واستكمالاً لعرض وجهيّ الطائفية، نبّه حبشي إلى علاقتها الدقيقة بالدين، فإذا هي حافظت على جذرها الدينيّ وارتشافها من ينبوع الحياة الالهية، كانت طائفيةً خلاّقة. أمّا إذا حاولت التفلّت من الحياة الدينية، فإنها تقع سجينة الغرائزية المتناقضة مع القيم الدينية، والمتمثّلة بالأثرة وبحبّ البقاء والسيطرة وبتغليب مصلحة الطائفة على مصلحة الوطن. وعندما يضمحلّ الضمير الوطني، يسقط الانسان في أخطر أنواع الطائفية وهي طائفية الملحد والوصوليّ والساعي أبداً إلى استغلال الدين. وقد دفعت العلاقة الملتبسة بين الطائفية والدين في لبنان إلى تأكيد حبشي أنّ الطائفية بوجهها الايجابي غير موجودة في بلادنا. فبقدر ما تُبعدنا عن الدين، بقدر ما تُقيم جسوراً بيننا وبين القيم والفضائل الانسانية، علماً بأنّ السبيل الوحيد إلى أن  “يكون الانسان حقاً متديّناً هو أن يكون إنساناً حقاً.”30

  • الطائفية والديمقراطية

في المبدأ، يفترض النظام الديمقراطي أن يمتلك المواطنون “نضجاً سياسياً ونزاهةً وشعوراً بالمصلحة العامة، ذلك الشعور الذي لا يتمتّع به جميع اللبنانيين.”31 فقد دخلت التركيبة الطائفية في عمق النظام الديمقراطي اللبناني، كما اعتبر حبشي، مع الابقاء على الذهنية القديمة الموروثة للأسف، حيث تحوّل السيّد القديم إلى زعيم في القرن العشرين، يعتلي المنابر ويتقن فنّ الخطابة، يرشّح نفسه للنيابة، يُعيّن وزيراً، ويدّعي تجسيد حقوق الشعب. ولكن غاب عن بال هذا الزعيم أنّ الزمن تغيّر، وتغيّر معه المناخ الاجتماعي، كما فاته أيضاً أنّ ولوج عهد الديمقراطية يتطلّب إنعام النظر في الامتيازات القديمة بغية إعادة تقييمها.

أضف أنّ الديمقراطية الحقيقية تكون “نوعية لا كمّية”32 ، فإذا طُبّق النظام الديمقراطي على هذا الأساس، كان خطوةً أولى نحو إبراز أهمية الوظيفة والكفاية في ممارستها والتآلف بين الوظائف. وأعطى مثلاً على ذلك البرلمان حيث يتقرّر مصير الأمّة والذي يجمع وظائف البلاد، من السياسة والادارة إلى التعليم والانتاج والدفاع… وعلى جميع هذه الوظائف أن تتشارك في تنسيق مصالحها بهدف خدمة الدولة. عندئذٍ لا يكون هذا البرلمان طائفياً، بل يتّخذ صفة “المهنية” الحقّة.

ج- الميثاق الوطني

كان ضرورياً أن يتطرّق حبشي إلى موضوع الميثاق الوطني في معرض تحليله النظام الطائفي اللبناني لأنّ الميثاق رسّخ الطائفية في لبنان. صحيح، في رأيه، أنّ ميثاق 1943 كان اتّفاقاً، لكنّ كلمة “إتّفاق” تُخفي في طيّاتها في العموم بعض المفاجآت، ويعود ذلك إلى اختلاف الاتّفاقات الشفوية عن تلك المدوّنة. وقد ووجه الميثاق بردّتيّ فعل رفضية وقبولية، فبعض اللبنانيين كان يعتقد بأنّ سلبيّتيْن لا تكوّنان أمّة، إذاً كيف يمكن الجمع على حدّ اعتبارهم، وفي اتّفاقٍ شفويّ، بين المسيحية اللبنانية المتأثّرة علناً بالغرب، والاسلام اللبناني المدافع أبداً عن العروبة؟ أما البعض الآخر فرأى الحلّ في التعاضد والتضامن بين الطوائف اللبنانية كبداية تكوين للوطن اللبناني. في هذا الاطار، إتّفق الطرفان، المسيحي والمسلم “على الأرض التي تجمعهم، والقيم، والتكوين النفساني والثقافي، كما اتّفقا على تقدمة الشهداء ضدّ المعتدين.”33  كما سعى الميثاق إلى تحقيق نوع من الصقل للقوى الدينية، وإلى التشديد على فكرة الايمان بالله الواحد. لكنّ حبشي، كسواه من المفكّرين اللبنانيين، أكّد أنّ الميثاق لم ينجح قط في ترسيخ إرادتنا، وكأنّنا كنا في حاجةٍ إلى وقتٍ أطول لتتآلف القوى السياسية والاقتصادية والدينية وتتحوّل إلى قوة تغيير وتطوير.

والحقيقة أنّ ما أصاب لبنان، منذ توقيع الميثاق وإلى اليوم، يبرهن أنه كان شكلياً فقط، ولم تمنع مثاليته نشوب الصراعات والحروب المؤلمة التي لا تزال مستمرّةً حاضراً وبأشكالٍ مختلفة، ولا شيء ينبئ بإمكان انتهائها على المدى المنظور.

و- الدعوة إلى تخطّي الطائفية

بعدما نبّه حبشي من مخاطر اعتماد النظام الطائفي في لبنان، أطلق دعوته إلى تخطّي الطائفية. وحاول بدايةً أن يوضح التباين القائم بين مفهوميّ “اللاطائفية” و “تخطّي الطائفية”. فاللاطائفية هي رفض شديد الوضوح لكلّ المراجع الدينيّة، وترتكز على الفصل بين الروحانيات والزمنيات (وهو ما سنبحثه في القسم الرابع من الدراسة)، كما تسعى إلى تحقيق دولةٍ عَلمانيةٍ بعيدةً عن أيّ “تضليلٍ” دينيّ. وفي الواقع، هذه اللاطائفية الكاملة غير مقبولة في لبنان. أمّا تخطّي الطائفية فمفهومٌ تبنّاه المعتقدون أنّ الطائفية “ليست النتيجة الطبيعية الحتمية للطوائف، بل هي عدوّتها.”34 بين هذين الحلّين، الثاني هو الأكثر صعوبةً، في رأيه، وعلى التربية اللبنانية أن تساعد في تطبيقه عبر إنضاج تضامن المعتقدات في ضمائر اللبنانيين، وليس عبر “جعل لبنان بلا لون بنزع الطوائف والمذاهب الدينية منه.”35

ولأنّ الطائفية اللبنانية ليست،على المستوى العملاني، تضامناً خلاّقاً كما يحاول البعض تصويرها، فتخطّيها إذاً واجب وطنيّ وإنسانيّ، خصوصاً أنّ نفوراً منها بدأ ينتشر في أوساط الأجيال الصاعدة. والسبيل الأمثل إلى ذلك هو التشديد على احترام الانجيل والقرآن، والتخلّص من عقدة الحرمان لدى بعض الطوائف، مع اعتبار التغيير في النظام إلتزاماً. هكذا تكون الطائفية مرحلة إنتقالية ومؤقّتة قبل تنفيذ الخطوات اللاحقة المتمثّلة في إزالتها من الادارة “مع الاحتفاظ بالتمثيل الطائفي في السلطتيْن التشريعية والتنفيذية.”36

نستنتج إذاً من كلّ ما تقدّم أنّ تخطّي الطائفية، نظرياً وعملياً، بحسب حبشي، ليس بالأمر السهل على الاطلاق، ولا يكون حتماً بتجاوز الدين، بل بإنماء العلاقة التي تجمع الله والانسان، وبالسير قُدُماً نحو تطوير المعرفة، إلى جانب اعتماد العدالة لحلّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.

  1. العَلمانية

بعدما شجّع حبشي اللبنانيين على محاولة تخطّي الطائفية، وجدناه يسارع إلى التأكيد أنّ ذلك لا يعني أبداً إختيار الحلّ العَلماني. “الطوائف وليس الطائفية، تخطّي الطائفية وليس العَلمانية المتناقضة مع واقعنا الجغرافي ومستوانا الثقافي.”37 هذا ما نادى به ساعياً وراء تبرير أسبابه.

  • نقد عَلمانية الدولة

في رأي حبشي أنه في اعتماد عَلمانية الدولة، من الوهم أن نعتبر أننا ننقذ الديانات في ضمائرنا. هو رفض اللاطائفية الكاملة، وكذلك العَلمانية الكاملة للدولة التي لا تشكّل حلاً للأزمات بل مجرّد إخفاء لها. فالأساتذة ذوو الاتجاه العَلماني، والقادة الذي يفاخرون باستقلالهم الفكري، والسياسيون الذين يحاولون وضع حدّ لدور الله في حياة الانسان… وكلّ هؤلاء “الذين ينشدون الزمنيات مهما نشروا أهداف القومية في جرائدهم وعلى إعلامهم، يتّجهون بخطى واسعة نحو خصومهم ويسلّمونهم أسلحتهم مسبقاً، الواحد بعد الآخر.”38 أضف أنّ من يرمي إلى عَلمنة لبنان بحجّة التقدّمية لا يعلم أنه يزجّ بالوطن في فوضى الصراعات وفي حقول الألغام السياسية والاقتصادية. لكن لماذا يستمرّ الشباب اللبناني في المطالبة بدولةٍ عَلمانية؟ لأنّ الطوائف الدينية تتدخّل في حياتهم الوطنية مدخلةً إيّاهم في أنفاق سئموا الاستمرار في تحمّل ظلمتها. وأمّا عَلمانية العمل، فشبّهها حبشي بالمسخ لأنها تجرّد الفرد من نبله الديني والانساني، وفي حين تتسبّب الحضارات العَلمانية بتدنيس العمل، فالديانات تقدّسه، لذا ينبغي أن تستعيد الحضارة التقنية مداها الروحي من جديد، وهذا ما يبعدنا عن الاقتصاد الغربيّ المعلمَن، وخصوصاً عن الاقتصاد الماركسي القابع في الالحاد.

لبنان إذاً، في فكر حبشي، شديد التعلّق بالديانات بحسب ما يؤكّده تاريخه، وعليه فإنّ العَلمانية تهدّد بضرب تلك الشخصية التاريخية الموسومة بطابع التديّن.

  • نقد العَلمانية في الثقافة اللبنانية

  إعتبر حبشي أنّ ثلاثة عوامل تساهم في تألّق الثقافة اللبنانية واستمرارها في التقدّم: “تعاون ثقافي بين الشرق والغرب، وتضامن الاسلام والمسيحية، والتقاء الماضي والحاضر.”39

بدأت الثقافة الغربية بالانتشار في لبنان عن طريق عددٍ من الجمعيات التبشيرية التي تعلمنت تدريجاً في وقتٍ لاحق. كانت الثقافة التي نقلها إلينا رجال الدين الغربيون، في تفتّحها الأول، متناغمةً مع الجوّ الدينيّ المسيطر في مجتمعنا، إلى أن برزت الحركات العَلمانية فحاولت تحرير هذه الثقافة من المركّب الدينيّ وممّا قد يستتبعه من احتمالاتٍ تطرّفية. وانتقد حبشي الأنجلوسكسونية العَلمانية التي تؤدّي إلى تخمةٍ فكريةٍ لدى الطلاّب اللبنانيين، وقد أظهرت فشلها في لبنان. ومن الأمثلة التي قدّمها لإظهار هذا الفشل، مَثَل أستاذ الفلسفة الذي يتبنّى الفلسفة الوضعية، ويطرح أمام تلامذته الشرقيين مسألة الله ضمن صيَغٍ لا تسمح إلا بالإجابات السلبية والابتسامات الساخرة. ووجّه انتقاده كذلك إلى الثقافة اللاتينية العَلمانية حيث يعمد المسؤولون إلى التغاضي عن القيم الروحانية في مواد التدريس، وحيث يسعى الأساتذة، في الوقت ذاته، إلى توجيه تلامذتهم الشرقيين نحو الوجودية الملحدة، فيفصلونهم عن جذورهم الدينية الأصيلة.

إلى ذلك، حذّر حبشي الطلاّب اللبنانيين لئلا ينخدعوا بالعقلية العَلمانية، أكانت لاتينية أو أميركية أو عربية تقدّمية، داعياً إلى إحياء القيم التقليدية المثلى، ونبّه في المقابل من خطورة الوقوع في الأخطاء التي تشوب الطرق الدينية أيضاً في المجال الثقافي، تلك الطرق التي قد تؤدّي إمّا إلى الغوص كلّيانياً في الماضي وإمّا إلى الشعور باللامبالاة حياله. ولم تسلم الطريقة الرسمية للتعليم من تقييمه، فرأى أنّ ما تقدّمه، على مستوييّ المنهج والمحتوى، ضعيف الفاعلية من الناحية التربوية، كما أنه يقضي على قوّة الخلق والتطوّر لدى المتعلّم. وما اقترحه، في المحصّلة، هو جعل التعليم في لبنان أكثر ديمقراطيةً، عبر ما سمّاه “إستنهاض العقل اللبناني.”40

  1. الروحانيات والزمنيات

  إستكمالاً لبحثه المفصّل للنظاميْن الطائفي والعَلماني، طرح حبشي مسألة الروحانيات والزمنيات، رافضاً الخلط، أوالفصل، أوالتمييز بينهما، داعياً إلى صيغةٍ جديدة تتمثّل في تطوير الشؤون الزمنية بالمبادئ الروحانية. “لا خلط بين الزمني والديني ولا فصل بينهما. فخلطهما يعني الطائفية أي خيانة الله، وفصلهما يعني العَلمانية أي خيانة لبنان.”41

إعتبر بدايةً الخلط صيغةً رجعية لا تواكب تطوّر المجتمعات، وتؤدّي إلى انتفاء الاتجاهات الروحانية كما حدث في روسيا السوفياتية. ولم يبقَ، في رأيه، من بين الداعين إلى هذه الحالة سوى بعض المتخلّفين والمتعصّبين. كذلك عارض الفصل بينهما لأنه يترك وراءه إرادة انتقامٍ تدفع الزمنيات للحلول مقام الروحانيات بطرقها البعيدة عن العقلانية. ويكون هذا الفصل عزلاً لله عن الحضارة ما يؤدّي بالانسان إلى خطر المادية والشيوعية والالحاد. فالمرء المتديّن في صورةٍ غامضة ملحد عملياً، والروحاني في صورةٍ غامضة ماديّ عملياً، كما أنّ السياسة والاقتصاد قد يتّخذان بدورهما طابعاً دينياً يكون أشبه بالقناع، فإذا تهدّدت الأمة، تكون القومية الديانة الجديدة، وإذا تهدّدت اللقمة، تكون الشيوعية الديانة الجديدة. ولدى اختيار الكثيرين التجريبية بديلاً عن الدين، أفقدوا الدين جذوره، فتبخّرت الروحانيات مخلّفةً وراءها “فوضى الغرئز وتفجّر اللامعقول.”42 أضف أنه اتّهم بعض الأحزاب السياسية باتّخاذ مسألة فصل الروحي عن الزمني ستاراً لتمرير مآربها الخاصة، وهذا، في رأيه، ما يفعله التقدّميون الذين يعتقدون أنهم بإنقاذهم الأمّة وتنظيمها الاجتماعي من وجود الله، فإنهم يعيدون الحياة إليها. وهذا ما يطبّقه الماركسيون كذلك الذين ألغوا الروحانيات نهائياً معتبرين أنها سجن للانسان.

من جهةٍ أخرى، سارع حبشي إلى الوقوف في وجه من أراد التمييز أيضاً بين الشؤون الروحية والزمنية على قاعدة “الدين لله والوطن للجميع”. فالتمييز، كما اعتبر، سهل جداً، لكنه يُظهر جهلاً حقيقياً للتاريخ المشرقيّ. وعندما نرفض هذا التمييز، فإننا نفتح الباب أمام نموّ إنسانيةٍ عقلانية مرتكزة على علم خاص بنا، وفلسفة خاصة بنا، وعلى مفهوم خاص للانسان وللحياة، “فلا ينبع الله عندئذٍ منّا، ولا يكون شبيهاً بغرائزنا وحرفية قوانيننا، بل نلاقيه في منبعه الصميميّ الحرّ، عبر تجربة العلم الحديث وفلسفة اليوم والعدالة الاجتماعية الحاضرة.”43 ربما يعتقد البعض أنّ التمييز ضروريّ لتحقيق يقظة المشرقيين وتسهيل دخولهم السياسة الدولية، لكن ألا يُدركون أنه قادهم إلى مأزق البعد عن الله والانقياد إلى الالحاد والوقوع ضحايا الغرائز الدفاعية والعدائية في العلاقة مع الآخر، وكذلك إلى الابتعاد عن العلاج المتناسب مع هيكلنا التاريخيّ والروحانيّ؟ الخلاصة أنّ جميع الذين يفكّرون بتفادي الطائفية عن طريق هذا التمييز، إنّما يخطئون كلّ الخطأ في حساباتهم.

إنطلاقاً إذاً من التقييم الذي قدّمه، إرتأى حبشي وضع صيغة جديدة لعلاقة الروحانيات والزمنيات، قائمة على احترام الشؤون الروحية والانفتاح على الشؤون الزمنية، وأدرجها، كما سبق أن ذكرنا، تحت عنوان: “تطوير الشؤون الزمنية بالمبادئ الروحانية”، واصفاً إيّاها بالملائمة والصحيحة في كلّ مكانٍ وزمان. فضمن هذه الصيغة، تؤدّي الروحانيات دوراً بالغ الأهمية، إذ أنها “بسيادتها على الزمنيات وإشرافها عليها بدون الانفصال عنها، وبإلهامها الزمنيات بدون الامتزاج بها، مؤهّلة أن تحوّلها تحويلاً جذرياً وأن تحدث فيها ثورةً.”44 وما قصده بالثورة هنا هو تفتّح الله في ذواتنا عن طريق تساميه ليكون المحور الوجوديّ لكافة علاقاتنا الزمنية. وماذا إذا حاول الكون أن يصطنع ذاته بدون إله؟ ما يحدث هو عندذاك تناقض يضربه في الصميم، لأنّ الله (وقد تناولنا مفهومه مطوّلاً في قسمٍ سابق من الدراسة) هو هيكل أساسيّ للعالم، للدولة، للتنظيم السياسيّ، وللتوغّل عميقاً في عالم الاكتشافات والعلوم الحديثة. فإنقاذنا معنى الروحانيات وحفاظنا على المقوّمات الروحية لتنظيمنا السياسيّ وعلى اتّصالنا بمصادر الوحي الدينيّ..كلّ هذا يدفعنا أكثر فأكثر نحو العلم والتطوّر. من هذا المنطلق، أشار حبشي إلى أنّ الروحانيات والزمنيات تتعادلان في الجوّ الشرقيّ عموماً، وفي الجوّ العربيّ المسلم عل وجه الخصوص، بحيث أنّ ما هو دنيويّ وما هو مقدّس يتساويان فعلياً في العمل. أضف أنّ الانتقال من المقدّس إلى الدنيوي، أي من الروحانيات إلى الزمنيات، “يتطلّب من الاثنيْن أن يكونا مختلفيْن حتى تعلِن نهاية الأول بزوغ الثاني. أمّا إذا كان واقعهما واحداً… ففي إمكان الواحد أن يحلّ مؤقّتاً محلّ الآخر بدون أن يُلغى أيّ منهما. وفي إمكان كلمة الله أن تعبّر عن الزمنيات في الوقت الراهن، فيما تبقى الروحانيات بالقوة، كما في إمكانها أن تعبّر عن الروحانيات، فيما تبقى الزمنيات بالقوة.45

إلى ذلك، أعلن حبشي شرطيْن للصيغة التي طرحها: الأول ألاّ “تقع الروحانيات في أشكال الزمنيات العابرة”46، والثاني ألاّ تنغلق الزمنيات “في أشكال الروحانيات المجمّدة”47 . وفي اتّباعنا هذين التحذيريْن، نجد أنفسنا في طور اكتشافٍ جديدٍ لإله العقل ولإله العدل. وخلاصة القول أنّ حبشي خرج، بفضل صيغته الاستثنائية المقترحة، من أسْر الاطاريْن الطائفيّ والعَلمانيّ المألوفيْن والمستهلكيْن، ليحطّ رحاله في مبدأ جديد أراد من خلاله تثبيت العلاقة، والتي ما زالت ملتبسة إلى اليوم لدى الكثيرين، بين الروحانيات والزمنيات في شكلٍ يبعدهما عن التأثيرات السلبية المتبادلة.

 

رابعاً: نظام الدولة

  متأثّراً بالفلسفة الاغريقية وحالماً بتلاقي الفلسفات الشرقية والغربية، أراد حبشي أن يبني وطن الفكر المتوسّطي وأن يوضّح مفهومه الخاص للحضارة الشرق-أوسطية. من هنا، سنتناول في هذا القسم موضوعات الثورة والتنظيم المجتمعي وصولاً إلى الخصائص الأساسية للحضارة الشرق-أوسطية التي وسمت تفكّره الفلسفيّ.

  1. الثورة

  الثورة، في رأي حبشي، ضرورة نكاد نقول مصيرية لوجودنا الانساني لأنها تعبّر عن ذواتنا الرافضة ما لا يتناسب مع مفاهيمنا وتطلّعاتنا على كافّة الأصعدة الحياتية.

 

 

  • ماهيّة الثورة وحالاتها

  إذا خلا الوجود الانساني من حيوية الثورة ومن المتغيّرات التي ترمي إلى تحقيقها، فهذا يعني أحد أمريْن: “إمّا أن تكون متناقضات هذا العالم تقلّصت في تناغمٍ عام، وعندئذٍ نصبح من غير هذا العالم، وإمّا أن يكون الانسان أعفى ذاته من مشاق الثورة لأنه مات في اللامبالاة وأصبح غير موجود. فالثورة في عالمٍ مليء بالمتناقضات والفروق هي علامة الوجود.”48

إنطلاقاً من هذا التعريف، ميّز حبشي بين ثلاث حالات ثورية عند الانسان الذي يكون فوضوياً أو حزبياً أو شاهداً. لا يهمّ الفوضويّ إلاّ أن يستخدم كلمة “لا” بدون النظر إلى نتائجها ومفاعيلها، ويذهب الحزبيّ إلى أبعد من هذه ال “لا” ويستهدف إقامة نظام جديد يعمل جاهداً لإحلاله محلّ النظام القائم، أمّا الشاهد فهو الوحيد الذي ينخرط عميقاً في حركة التاريخ في شكلٍ إيجابيّ مقصود يمكّنه من تغذية العصيان لإنضاجه وتحويله إلى ثورةٍ حقيقية.

في تحليله الحالة الأولى، حاول حبشي أن يشرح دوافع الوقوع في الفوضوية، وعلّل ذلك بالظروف السياسية والاجتماعية المتأتّية من النظام القائم والتي تضغط على الانسان، فتُرغمه، في وقتٍ من الأوقات، على أن ينطوي على ذاته وهو مقيّد، عاجز عن التنفّس في حرية إلى حدّ الشعور بالاختناق. حالة الكبت هذه تدفع بالفوضوي سريعاً إلى الانخراط في صفوف المعارضة، فتكون حركته في الغالب عنفيّة بعيدة عن الهدوء العقلانيّ، وكأنّ الردّ على الكبت يكون أقرب إلى الغرائزية. وليس الأفراد وحدهم هم الذين يتحوّلون إلى فوضويين، بل كذلك بعض الجماعات أو الطبقات الاجتماعية أو الأحزاب السياسية وأحياناً الشعب بأكمله. هؤلاء يرفضون واقعهم وأوضاعهم الضاغطة، فيسعون، كما اعتبر حبشي، إلى خلق جوّ من الهدم والتفكّك الاجتماعي “يقوم على أنقاضه نظام جديد غير منتظر، وربما كان مكروهاً.”49

وإذا كان الفوضويّ متمسّكا بال “لا” في حربه التغييرية، فالحزبيّ يختلف عنه بتخطّيه تلك ال “لا” وانفتاحه الايجابيّ على ال “نعم” لأنه يضع نصب عينيه أهدافاً دقيقةً ومحدّدة، ويركّز على الوسائل الواجب اعتمادها لتجسيد تلك الأهداف، ضمن تصوّر عام لشكل المستقبل الذي يطمح إليه. ولا يكتفي الحزبيّ بالمحاربة ضدّ المسائل التي تناقض انتماءه في الحزب، بل هو يحارب لأجل قناعاته التي على أساسها إتّخذ القرار بالتحزّب. واعتبر حبشي أنّ ثلاثة عناصر تؤلّف الحزب عموماً: “الجمهور والنظام والبرنامج.”50 لكن إذا فرغت هذه العناصر من محتوياتها ولا سيّما الانسانية منها، فالحزبيّ مهدّد بالانزلاق في الفوضوية وفي اقتراف أمور لطالما احتقرها كإنسان.

أمّا الحالة الثورية الثالثة عند الانسان، والتي تتمثّل في الشاهد، فمنحها حبشي أهميةً كبرى. أربع صفات، في رأيه، تؤهّل هذا الشاهد ليكون رجل حزب: المعرفة والذاكرة والتصميم وحسّ المسؤولية. أما انقلابه فوضوياً، فرهن بنتائج مجابهته الواقع، ذلك أنّ الشاهد لا ينتهي إلى العنف إلا بعد أن يبلغ آخر حدود القوة والعدل مجتمعيْن، وبعد أن يستنفد جميع أنواع المقاومات المعنوية والمادية وجميع محاولات الاضراب والتظاهر. فالعصيان والفوضى يزرعهما كلّ من الفوضويّ والحزبيّ عموماً، أمّا الثورات الحقيقية، فلا يجسّدها واقعاً إلاّ الشاهد. وإذا كان الفوضويّ يثير غالباً أعمال الشغب، والحزبيّ يحرّض طائفةّ على سواها من الطوائف، فالشاهد وحده هو الساعي الدائم إلى التحاور مع الآخر، وإلى دفع عجلة التاريخ إلى الأمام، حتى وإن كان الأمر دوماً إنطلاقاً من عقيدته الايديولوجية.

وفي الخلاصة، ينبغي ألاّ يمنع تعدّد الحالات الثورية الثورة ذاتها من أن تنبثق من الجميع وأن تكون للجميع، هادفةً أولاً وأخيراً إلى عقلنة العمل السياسيّ قدر المستطاع في سبيل لبنان الدولة.

  • ثورة حبشي على بعض التيارات السياسية

  “كلّ رجلٍ يثور يستند في ثورته إلى مطلق يتمثّله في وجدانه. ومهما كانت طبيعة المطلق هذا، فلا يبذل الانسان حياته إلاّ فداء قيمة متسامية يقدّسها.”51

التقدّميّ يثور، القوميّ يثور، وكذلك الشيوعيّ.. ولكن إلى أيّ مدى تدرك هذه الفئات جوهر الثورة الحقيقية؟ تقذف بنا ثورة التقدّميين غالباً في المعمعة المنعتقة من أيّ وعي، وتفتقر ثورة القوميين إلى الحدود الثورية الواضحة، وأمّا ثورة الشيوعيين فتركّز حصراً على الحلول الاقتصادية للمشكلة اللبنانية.

وفي إطارٍ تقييميّ، شدّد حبشي خصوصاً على ثغرات القومية العربية، مميّزاً بين تحديدها كتعبيرٍ إجتماعيّ وبين مضمونها الأخلاقيّ. فإجتماعياً، وصف هذه القومية بالموجة المتأخّرة، لكن لا الأخيرة من موجات يقظة القوميات التي هزّت تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا كلّها وفي شكلٍ متواصل. أمّا بالنسبة إلى المضمون الأخلاقيّ، فاعتبر أنه عندما تتهدّد الشعوب بوجودها، فهي تتمسّك بالأمّة كقيمةٍ أساسية. هذه القومية العربية تناهض الغرب، وتستمدّ قوّتها من موقفها هذا. تعتبر الجماهير المتديّنة أنها قومية منعقدة على الايمان، فيما ترى الجماعات التقدّمية أنها قومية مرتكزة على التضامن في الحياة الحاضرة والمستقبلية. ولكن أين يكمن خطرها؟ تهيّئ القومية العربية، في رأيه، لبروز نوعيْن من التعصّب يتوزّعان في فئتيْن: المتعصّبون للشعور القومي الذين سيتحوّلون إلى أعداء للماركسية، ولكنهم أعداء وصفهم بالقصيري النظر، والمتعصّبون للاقتصاد الذين تجذبهم ماركسية مطلقة لا خبرة لها. يغذّي هذان النوعان، بدون إدراكٍ مباشرٍ منهما، الجوّ الشيوعيّ في منطقة الشرق عموماً، وفي لبنان خصوصاً، لذا قال حبشي: “…نخشى كلّ الخشية أن تكون القومية العربية بمفهومها الضيّق، عاجزة عن الصمود في وجه الشيوعية الملحدة، إذ أنها لا تنفكّ مثلها تجنّد الطاقات في خدمة الالحاد.”52  لذلك وصفها بالبدائية والخطيرة في آن في إفساحها المجال واسعاً أمام بروز الماركسية. فما هي الماركسية في مفهومنا العربيّ؟ يعتبرها البعض تصفيةً للماضي وأملاً في ولوج الحاضر ومواجهة المستقبل، وينتمي إلى هذه الفئة العرب المتألّمون من تاريخهم القريب المثقل بالذلّ السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ويرى فيها المثقّفون “نظاماً كاملاً تامّاً يرتاح الانسان فيه، إذ يتضمّن أوامر عملية تروي عطش الثورة.”53  وآخرون يعتبرون أنها خيبة متأتّية من تقصير في دور الاشتراكية. ومهما اختلفت المفاهيم، ينبغي، كما قال حبشي، “ألاّ ننسى أنّ الماركسية ولدت من موت الله في حضارةٍ لم يكن الله فيها قد بقي الإله الحيّ.”54 وهي تجلب الشرّ للانسان عبر كلّيانية الحزب التي تطبقّها، تماماً كالبورجوازية التي تطغى فيها كلّيانية المال، وكالفاشية الهتلرية أو الموسولونية التي تهلّل لكلّيانية القائد.. طبعاً على رغم التناقضات بينها.

وتجدر الاشارة إلى أنّ ثورة حبشي على بعض التيارات السياسية لم تكن قط عبثيةً، بل كانت ثورة هادفة إلى تنظيم المجتمع الانساني وفق قيم الانسان والوطنية.

 

  1. تنظيم المجتمع

  ميّز حبشي بين ثلاثة أنواع من المجتمعات: “المجتمعات الايديولوجية حيث تسيطر قوى المعتقد، المجتمعات النظامية حيث تهيمن قوى العقل، وأخيراً المجتمعات الغريزية التي تستخدم كلتا القوتيْن.”55 ومهما كان نوع المجتمع، فقد سعى إلى توضيح الأسلوب الذي يجب على جميع المجتمعات اعتماده بهدف تنظيم كياناتها على أسس العدالة والوحدة.

وقد أولى مفهوم “العدالة الاجتماعية” إهتماماً خاصّاً، أولاً لأهمية هذه العدالة وانعكاسها على أحوال المجتمع، وثانياً لعدم إدراك الكثيرين المعنى الحقيقيّ لمفهومها. ورفض اعتبار هذه العدالة مجرّد تنازلات أو تعاون بين أرباب العمل، بل هي طرح يهدف إلى إقرار التعادل في الحظّ لكلّ أفراد المجتمع لكي يحقّقوا ذواتهم بأسلوبٍ راقٍ. هكذا تقوى الوحدة بين المواطنين ويتعزّز إنتماؤهم الوطني بتضامنهم الفاعل، وبتخلّيهم كذلك عن التعلّق بفكرة الزعامة الوراثية. فالمرء لا يصبح بطلاً بوراثةٍ عائلية، وكما قال: “لقد عرفت شباباً يشعرون بالذلّ والكآبة كارهين استجداء معونة زعيم جماعتهم بغية توقيع معاملاتهم. إنهم يحتقرون هذا الزعيم أيّما احتقار، وإن كان دخوله إلى دوائر الحكومة مكفولاً بفضل زعامته.”56

  صحيح أنّ الديمقراطية حلّت اليوم إلى حدّ ما محلّ الأرستقراطيات والأنظمة العشائرية، إلاّ أنّ المشكلة الاجتماعية في لبنان تحتاج إلى تنظيمٍ فنّي مخطّط تساهم فيه جميع طاقات الوطن ليدخل المجتمع مرحلة النضوج العمليّ والتقنيّ.

  1. حضارتنا الشرق-أوسطية

بعدما عرض حبشي لأهمية الثورة في حياة الانسان في شكلٍ عام، وفي حياة اللبناني في شكلٍ خاص، وبعدما أبدى رأيه في تنظيم المجتمع والعدالة الاجتماعية، فقد عمد إلى طرح قضيّة العلاقة بين الشرق والغرب، داعياً اللبنانيين إلى محاولة إدراك جوهر هذه العلاقة ومدى انعكاسها على حضارة لبنان الشرق-أوسطية.

في شرقنا حضارة تعود إلى حقباتٍ متتالية من الزمن توّجها إشراق ثلاث ديانات. ويتوق الشرقيون حاضراً إلى مدّ الجسور بين الشرق المهدّد بالظلمة والغرب المنفتح على النور.

كيف قيّم حبشي سياسة الغرب؟ فعل ذلك بقوله إنها تكشف عن ثنائيةٍ تحتوي التناقضات، فهي، في رأيه، “هذه الروحانية في العقيدة إلى جانب المادية في التطبيق، وهي هذه الأفلاطونية في الفلسفة السياسية إلى جانب المصلحة في العمل السياسي، وهي هذه الديمقراطية في المبادئ إلى جانب هذه الامبريالية في التطبيق…”56 وعلى هذا التناقض أن يكون الدافع الأكبر للشرقيين لإجراء دراسةٍ تقييميةٍ موضوعيةٍ للحضارة الغربية، بكافّة أنظمتها ومتغيّراتها وتبدّل سياساتها، مع عدم الاغفال أنّ الغرب حاد، جزئياً حيناً وكلّياً حيناً آخر، عن طريق الله والذهنية الروحية.

إذاً كيف يمكن تحديد حضارة لبنان، إن لم تكن شرقية أو غربية؟ إنها حضارة شرق-أوسطية تقوم على أركان فكرٍ متوسّطي وثقافة متوسطية. وبحسب حبشي، إنّ لبنان هو الوحيد بين بلدان الشرق الأدنى الذي يحمل المقوّمات الأساسية التي تؤهّله لأن يكون فعلياً بلد الفكر المتوسّطي. وهذا الفكر ليس تصوّراً جمّده الماضي، بل هو في تجدّدٍ مستمرّ كونه حقلاً لنموّ الثقافات وتشابك التيّارات الفكرية والعقيدية، وهو منعقد على الصلة القائمة بين الثقافتيْن الشرقية والغربية. ويقع لبنان “على ملتقى اتجاهيْن جغرافياً، ويجب أن يكون على ملتقى اتجاهيْن تاريخياً.”57 وهذه هي تحديداً الثقافة المتوسّطية. فالثقافة الشرقية وحدها غير قادرة على مواكبة تطوّرات القرن العشرين لأنها لا تملك ما لدى الغرب من تقنيات حديثة واكتشافات متجدّدة. ولكن، على رغم حاجتنا إلى الغرب، فثقافتنا لا تستطيع أن تكون إلا ثقافة عربية ولاتينية ويونانية. إنها ثقافة متوسّطية تميّزنا عن سائر العرب وتمنحنا القدرة على النطق بلغاتٍ غير العربية. وكما أنه لا ينبغي مطلقاً إلغاء التعايش بين الطوائف اللبنانية، كذلك ينبغي ألاّ يُلغى تعدّد اللغات، فيصبح اللبنانيون ضرورةً للشرق وللغرب معاً، في ظلّ هذا الحصاد الثقافيّ العقليّ المتميّز. وعليه، “فالمسلم البيروتي يختلف عن المسلم الدمشقي، وهذا الأخير عن مسلم القاهرة، وذلك تبعاً للتأثير المتوسّطي، والحال هي ذاتها بالنسبة للمسيحي.”58

ولا تقوم هذه الحضارة الشرق-أوسطية بدورها الأمثل إلاّ إذا هي حافظت على طابعها الانساني المرتكزعلى احترام القيم الانسانية. ولبنان اليوم، في نظره، هو الرئة التي يتنفّس من خلالها الشرق الأدنى كلّه، وإنّ أيّ تفكيرٍ بتخلّينا عن المتوسط يعني تخلّينا “كشعب وكتاريخ عن كلّ أسباب وجودنا.”59

 

خامساً: نظرة تقييمية في فكر حبشي

إتّضح لنا أنّ حبشي أدرك خطورة الاستمرار في الخضوع للنظام الطائفيّ في لبنان، وتأكّد له، في الوقت ذاته، صعوبة اختيار الحلّ العَلمانيّ للمسألة اللبنانية. فعمد إلى البحث عن مخرج للمأزق عبر مفهومٍ جديدٍ للروحانيات والزمنيات، قائم على “مبدأ تطوير الشؤون الزمنية بالمبادئ الروحانية”، وهو مبدأ شاء من خلاله أن يقف موقفاً وسطاً بين التعصّب الطائفي الذي نبذه بقوّة والتطرّف العَلماني الذي لم يعتبره يوماً حلاً ناجعاً، كما شرحنا ذلك في معرض الدراسة.

لا شكّ في أنّ الاعتدال أمر إيجابيّ، لكنّ أنصاف الحلول لم تنجح يوماً في ما يخصّ الأزمة اللبنانية. والقول إنّ على الشؤون الزمنية أن تتطوّر بالمبادئ الروحانية يستمرّ كلاماً لا يتعدّى الاطار التنظيريّ البحت. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها خصوصاً أنّ لبنان يضمّ طوائف عدّة مختلفة المفاهيم والركائز ومتباينة المعتقدات، ولكلّ طائفة موقف خاص من شتّى القضايا، ومنها المخرج الفكري الذي اقترحه حبشي. فهل يكون ما اقترحه نوعاً آخر من الطائفية أو أسلوباً مغايراً في التعبير عن الروح الطائفية؟ هذا تساؤل مشروع: فإن كانت لدينا شؤون زمنية معيّنة لا نتمكّن من تطويرها إلاّ بالعودة إلى مبادئنا الروحانية، فهذا يعني أننا في حاجةٍ إلى الارتكاز إلى أسس طائفتنا. وإذا استند كلّ مواطن لبنانيّ إلى المبادئ الروحانية لطائفته، فهذا يعني أنه طائفيّ عاجز عن الانعتاق من قيود طائفته أو من تحرير أفكاره ومواقفه من تأثيراتها السلبية منها والايجابية. وفي حال حدوث هذا الأمر، يعود المارونيّ إلى مارونيّته، والسنّي إلى سنّيته، والأرثوذكسيّ إلى أرثوذكسيّته… وكذلك بالنسبة إلى سائر المذاهب للنظر في أمورهم الزمنية والعمل على تطويرها. وهنا تظهر المشكلة الطائفية، فمهما تقاربت المبادئ الروحانية بين الطوائف، فاختلافات عديدة تُسجّل بينها؛ من هذا المنطلق، قد يكون المبدأ الروحاني الذي استعان به المارونيّ لحلّ مشكلةٍ زمنية مناقضاً للمبدأ الذي اعتمده الكاثوليكيّ أو الدرزيّ أو الشيعيّ مثلاً. تبعاً لذلك، يكون لكلّ طائفةٍ مبدأها الخاص في هذا المجال.

أين يكمن الحلّ إذاً؟ وهل يكون هذا المبدأ، على غير ما أراده مفكّرنا، صورةً أخرى للحالة الطائفية التي نرزح تحت ثقلها في لبنان؟ صحيح أنّ حبشي تأثّر بالوجودية المسيحية ذات الطابع الايمانيّ، وهو اتّخذ لفكره منهجاً شخصانياً قناعةً منه بأنّ الفلسفة تعبّر عن وعي الانسان أمور الحياة، وصحيح أنّ مفهومه الخاصّ بالدين والله، وبالعلاقة بين المسيحية والاسلام، كان مفهوم الفيلسوف المتعمّق في جوهر الأديان ومشكلات الطوائف الدينية.. لكنّ الطرح الذي تقدّم به لحلّ للنظام اللبنانيّ كان بعيداً من مستوى الواقعية الفلسفية.

بيد أنّ تقييمنا هذا لا يمنعنا حتماً من القول إنّ حبشي انطلق من “الانسانية” ليعالج مشكلات الانسان ضمن فلسفةٍ شخصانيةٍ وجوديةٍ تقدّس حرية الفرد. ونمّق فلسفته هذه بنفحاتٍ إيمانيةٍ منبّهاً من الخطر المحدق بإيمان الشرقيّ عموماً واللبنانيّ خصوصاً، ومع أنه شعر أنّ الله مات في الشرق أو يكاد يموت، فقد أكّد أن “لا وجود للالحاد على ضفاف المتوسّط”.60  وقد برع في تحليل فكرة التطوّر في الديانتيْن المسيحية والاسلامية إلى حدّ قول المفكّر والباحث اللبناني الشيخ صبحي الصالح (1926-1986) أنّ حبشي كفاه مؤونة البحث في موقف المسيحية من هذه المسألة في ما كتبه في محاضرته ومؤلّفاته، ولا سيّما منها “حضارتنا على المفترق” و “فلسفة لزماننا الحاضر” بل إنه أوشك أحياناً أن يكفيه مؤونة البحث حتى في موقف الاسلام من حركة التطوّر “وإن أبدى قلقاً من جمود المسلمين “التقليديين” إزاء القضايا التي يستثيرها التطوّر، حتى اضطّر إلى مجابهتهم بأنّ “تقدّم العلم لا ينال من إله العقل الذي هو عند المحقّقين إله القرآن والانجيل.”61 وهذه شهادة قيّمة من مفكّر في الاسلام عبر “مباحث في علوم القرآن” و “النظم الاسلامية: نشأتها وتطوّرها” وسواها من مؤلّفاته.

ولا يسعنا أخيراً إلاّ أن نقدّر مفهوم الحضارة الشرق-أوسطية الذي أطلقه حبشي في شكلٍ يجعل روحانية الشرق ووجودية الغرب تتواصلان بهدف تحقيق تطوّر الانسان في شرقٍ مأزومٍ لطالما عاش تخبّطاً بين الوحي والدين من جهة، والعلم والفلسفة من جهة أخرى.

 

خاتمة

  أراد رينه حبشي أن يوقظ في الشرقيين عموماً وفي اللبنانيين خصوصاً إرادة الحياة. والحياة، كما نستنتج من فكره، تبدأ بمصالحة مع الذات، وبإدراكٍ واعٍ للحضارة والثقافة والتاريخ، توصّلاً إلى مواكبة التقدّم الفكريّ والعلميّ والانفتاح على العالم، بعيداً من أيّ عقدة نقصٍ تجاه الغرب. وفق هذه الأسس، بنى فلسفته التي يمكن وصفها بفلسفة الرجاء، حيث أنها تناولت مشكلات الانسان من منطلقٍ إيمانيّ مجدول على الأمل بمستقبلٍ أفضل. وقد دعانا حبشي إلى أن نتلمّس جدّياً أهمية تراثنا المسيحي والاسلامي، وإلى أن نكتشف معه فلسفةً شرق-أوسطية جديدة مبنيّة على شخصانيةٍ مميّزة شاءها أن تكون فلسفةً في مستوى الانسان، تحرّر ذاته في عمقه الكيانيّ، ليحقّق من خلالها التكامل الأمثل مع الآخر.

 

    المراجع

  • منير سغبيني، الشخصانية الشرق-أوسطية، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1982، ص. 97.
  • جميل صليبا،المعجم الفلسفي، بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص. 690.
  • المرجع نفسه.
  • المرجع نفسه.
  • René Habachi, Sociologie et développement, Liban II, Ed. CENTURION, Paris, Cénacle libanais, Beyrouth, 1972, p. 270.
  • René Habachi, Une philosophie pour notre temps, les conférences du cénacle, XIVème année, Nº 9-12, Juin, 1960, p. 81.
  • Ibid, p. 108.
  • جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، مرجع مذكور، ص. 565.
  • René Habachi, Une philosophie pour notre temps, op.cit., p. 13.
  • René Habachi, Pour une pensée méditerranéenne, 3º cahier : Philosophie chrétienne, Philosophie musulmane et Existentialisme, Institut de lettres orientales, Beyrouth, 1959, p. 178.
  • René Habachi,Une philosophie pour notre temps, cit., p. 179.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة السادسة)، منشورات “الندوة اللبنانية”، بيروت، 1960، ص. 205.
  • المرجع نفسه، ص. 192.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة الخامسة)، ص. 204.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة السادسة)، ص. 215.
  • المرجع نفسه، ص. 219-220.
  • رينه حبشي، بدايات الخليقة، ترجمة خليل رامز سركيس، المنشورات العربية، المطبعة البولسية، تشرين الأول، 1968، ص. 25.
  • المرجع نفسه، ص. 26.
  • المرجع نفسه، ص. 74.
  • René Habachi, Jeunesse, culture et engagement, Liban I, Ed. CENTURION, Paris, Cénacle libanais, Beyrouth, 1972, p. 57.
  • رينه حبشي، حيوية ثقافية موحّدة (محاضرة)، منشورات “الندوة اللبنانية”، السنة الرابعة عشرة، النشرة 3-4، 31 آذار، 1960، ص. 158.
  • رينه حبشي، بدايات الخليقة، مرجع مذكور، ص. 111.
  • René Habachi, Pour une pensée méditerranéenne, (2º cahier), cit., p. 14.
  • René Habachi, Sociologie et développement, cit., p. 18.
  • رينه حبشي، بدايات الخليقة، مرجع مذكور، ص. 109.
  • René Habachi, Sociologie et développement, cit., p. 403.
  • Ibid, p. 119-120.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة الثانية)، مرجع مذكور، ص. 55.
  • رينه حبشي، حيوية ثقافية موحّدة، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 158.
  • René Habachi, Culture et engagement, cit., p. 290.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة الثانية)، مرجع مذكور، ص. 56.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة السابعة)، ص. 254.
  • René Habachi, Sociologie et développement, cit., p. 129.
  • René Habachi, Jeunesse, culture et engagement, cit., p. 198.
  • رينه حبشي، حيوية ثقافية موحّدة، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 161.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة الثانية)، مرجع مذكور، ص. 62.
  • René Habachi, Jeunesse, culture et engagement, cit., p. 278.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة السابعة)، مرجع مذكور، ص. 236.
  • رينه حبشي، حيوية ثقافية موحّدة، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 162.
  • المرجع نفسه، ص. 176.
  • René Habachi, Sociologie et développement, cit., p. 65.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة السادسة)، مرجع مذكور، ص. 186.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة الخامسة)، ص. 167.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة السابعة)، ص. 231.
  • René Habachi, Exposé critique sur « les arabes d’hier à demain » de J. BERQUE, (Conférence),les conférences du cفيénacle, XVIIIº année, Nº 3, 1964, p. 99.
  • René Habachi, Jeunesse, culture et engagement, cit., p. 8.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة الأولى)، مرجع مذكور، ص. 13.
  • المرجع نفسه، ص. 20.
  • المرجع نفسه، ص. 25.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة الثانية)، ص. 30.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة السابعة)، ص. 228.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة الرابعة)، ص. 141.
  • المرجع نفسه، (المحاضرة السابعة)، ص. 236.
  • René Habachi, Sociologie et développement, op.cit., p. 273.
  • رينه حبشي، حضارتنا على المفترق، (المحاضرة الخامسة)، مرجع مذكور، ص. 169.
  • رينه حبشي، حيوية ثقافية موحّدة، (محاضرة)، ص. 161.
  • René Habachi, Sociologie et développement, cit., p. 118.
  • René Habachi, Une philosophie pour notre temps, cit., p. 138.
  • René Habachi, Pour une pensée méditerranéenne, cit., p. 179.
  • عدد من المفكّرين، رينه حبشي فيلسوف لبناني، الشيخ صبحي الصالح: “المسيحية والاسلام في حركة التطوّر”، محاضرات “الندوة”، السنة الحادية والعشرون، النشرة 7، 1967، ص. 15.

 

 

 

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete