تكوين
احتوى القرن التاسع عشر على سؤال كبير وضاغط: كيف ينهضُ العربُ من سباتهم الطويل لكي يصبحوا جزءًا من العالم الحديث بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية؟ وإذا كان بعض متنوري نهايات ذلك القرن قد قارب جوهر الإشكال العميق بين العرب والحداثة، ووضع يده على مكمن الخلل المتمثل في شيوع الاستبداد وسقوط العقل، فكانت الحصيلة كوكبة من المؤلفات التنويرية على رأسها “غابة الحق” لفرنسيس المراش و “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي، وإذا كانت الأفكار الرائدة لمبدعي تلك الحقبة الغنية قد استمرت مع جيل لاحق من المفكرين والأدباء العرب، إلا أن سؤال الحداثة بقي معلقًا ثم ما لبثَ أن عاد أكثر ثقلًا على وعي النخب العربية مع الإنقلاب الراهن على فكر النهضة ومنطلقاتها وعقلها الليبرالي، فقد باتت مقولات الحداثة مرفوضة بشكل أو بآخر على طول الساحة العربية وعرضها، مثل مقولات الديمقراطية السياسية والاجتماعية والفكرية والتنمية وتأسيسُ الدولة الوطنية العلمانية والاعتراف بحق الاختلاف وحق المرأة في المساواة.
هكذا وجد الفكرُ العربي نفسهُ محشورًا في مآزق تتعمقُ أكثر فأكثر مع ثورة العصر العلمية والتكنولوجية والاقتصادية ومع التحولات المتسارعة وغير المتوقعة في اتجاهات التطور وما يحملهُ من قيم ومفاهيم تتناقض مع كل ماهو سائد ومألوف حتى الآن.
ولعلَّ الشاهد الأكبر على هذا المأزق النهضوي ما صدر في الأعوام الأخيرة من القرن الماضي وبدايات هذا القرن من مؤلفات عن النهضة العربية ومأزقها الراهن، فقد طغت صورة تشاؤمية قائمة في الواقع العربي ولو أن بعض هذه الإصدارات اتخذ منحىً ومنهجًا مختلفين، ويمكنُ أن نُدرج في هذا السياق “التفكير والهجرة” لناصيف نصار و “ما العمل” لقسطنطين زريق و”المشروع النهضوي العربي” لمحمد عابد الجابري و “العرب والسياسة… أين الخلل” لمحمد جابر الأنصاري و “قضايا في نقد العقل الديني” لمحمد أركون” “آفاق النهضة العربية” لأبي يعرب المرزوقي و “المأزق العربي الراهن” لأسامة عبد الرحمن، ولعلَّ ما جاء في مقدمة “المشروع النهضوي العربي” لمحمد عابد الجابري نموذجًا معبِّرًا عن خيبة الحلم النهضوي وانكساره ما يزال يتردد في الفكر العربي منذ نهايات القرن الماضي إلى بدايات هذا القرن، كأنما هو لعنة تطارد حركة التنوير العربية منذ بزوغها الخجول منذ مطلع القرن الماضي. يقول الجابري: “لقد عاشَ العربُ طوال هذا القرن على ثلاث قضايا رئيسية: مقاومة هيمنة الغرب، تحقيق نوع من الوحدة بين اقطارهم، تحرير فلسطين. وها هم العرب اليوم يقفون أمام هيمنة الغرب بلا أمل في التحرر منها في المستقبل المنظور، وها هي دولهم القُطرية تفرض نفسها كواقع يعاند أي تفكير في الوحدة معاندة تامة، وأخيرًا وليس آخرًا: ها هي إسرائيل قد انتزعت اعترافهم بينما يواجه الفلسطينيون مصيرًا مجهولًا”.
وهذا الاستنتاج البائس هو بالذات ما انتهى إليه المفكر القومي قسطنطين زريق حيث قال في “ما العمل” علي شخصيًا أن أعترف أني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن “الأمة العربية” فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش… بل إني غدوت أشك في صحة التكلم عن “المجتمعات العربية القطرية” أو عن “المجتمع” العربي العام نظرًا إلى قصور أهل كل منها وأهلها جميعًا عن تكوين ما يصح أن يدعى “مجتمعًا” أو “شعبًا” وإلى استمرار خضوعهم لنزعات ضيقة مفرقة ولمطالب فاسدة مخربة، وبالتالي إلى عجزنا جميعًا عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشرط الأول من شروط البقاء”.
وفي وقت يرى محمد أركون في “قضايا في نقد العقل الديني”، أننا “على عتبة عصر معرفي جديد يتجاوز الحداثة ويفتحُ آفاقًا لم تكن في الحسبان” يجدُ أن هناك “استمرارية إبستمولوجية بين أول تبلور لصيغة الإسلام في القرون الهجرية الأولى والصيغة التي يتخذها الخطاب الإسلامي الأصولي السائد حاليًا في أواخر القرن العشرين”.
أما ناصيف نصار فيرى في “التفكير والهجرة” أن أزمة العرب الراهنة إنما هي “أزمة حضارية” أزمة بنيوية بعامة نافذة إلى صميم حركة النمو والتقدم في المجتمعات العربية، فلا تزال الأسئلةُ الكبرى مثل أسئلة الأمة واللغة والوطن والوحدة والتدين والمرأة والعلم والتربية ونظام الحكم السياسي والتراث والتقدم والتمدن والهوية الحقيقية معلَّقة ودون إجابة.
ورأى محمد جابر الأنصاري في “العرب والسياسة… أين الخلل؟” إن البكائيات التفجيعية ما تزال تطبعُ الخطاب السياسي العربي منذ كارثة حزيران (يونيو) 67 إلى كارثة آب (أغسطس) 90 بانشقاق الجسم العربي في العمق، فلا تزال التكوينات والبنى المجتمعية العضوية تفعل فعلها في النسيج والسلوك المجتمعيين العربيين إلى اليوم.
ومن اللافت في الكتابات النهضوية الراهنة أن أكثرها تشاؤمًا وإحساسًا بالهزيمة ما صدر أخيرًا. ففي “المأزق العربي الراهن” خلصَ أسامة عبد الرحمن إلى أن صورة الواقع العربي “تتجاوز حدود القتامة” حيث النكوص والارتداد يهيمنا على الساحة، إضافة إلى انعدام الثقة في قدرات الأمة وإمكاناتها وسقوط الهم الوطني وضلوع الشريحة المتنفذة في الفساد بينما غالبية المجتمع تطحنها رُحى الفقر والبطالة.
وذهبَ أبو يعرب المرزوقي في “آفاق النهضة العربية” إلى حدِّ اعتبار صياغة إشكاليات الحضارة الإنسانية بعامة والعربية والإسلامية بخاصة في محاولاتي ابن خلدون وابن تيمية، متقدمة على كل محاولات النهضويين إلى الآن، إذ أن فكر النهضة العربية لم يزل دون فكرهما تشخيصًا للداء وتقديمًا للدواء. فقد كان همهما تحريرُ الإنسان من التصور التيوقراطي للدولة والبحثُ عن السبل التي تُحررُ مؤسسات المجتمع الوسطي المتجاوزة لكل دولة، أي مؤسسات التربية والاقتصاد والتعليم وإدارة الشأن العام (الدولة) والشأن الديني (المعبد). لكن العرب لا يزالون يفتقدون هذه المؤسسات الوسطى حتى ليُمكن القولُ إن الإعتراف المتبادل بين القوى التي يتألفُ منها الوجودُ الاجتماعي لم يحصل بعد، بينما الفكر السياسي المسيطر اليوم على الشعوب الإسلامية ذو منزع قومي فاشي طغياني، لأن كل الأنظمة العربية لا يديرها إلا معصومون عن الخطأ لا يجرؤ أحدٌ على مساءلتهم. هذا السلوك المستمرُ منذ المماليك والمغول كرَّسَ “شرعية القبيلة الجاهلية والجيش المملوكي وأجهزة الأمن والمخابرات”. ومن السُخفِ الحديث عن محاكاة أوروبا التي تجاوزت كل فكر قومي فعادت إلى الوحدة القارية في حين أننا لم نتجاوز الدعوة الإقليمية والقطرية كأننا لم نأخذ من أوروبا سوى التنظيمات الشعبوية الفاشية والشيوعية.
أما قيمُ الحرية والجمال والخير والصدق فلا يؤمنُ بها أحدٌ في مجتمع يحكمه العسف والقهر ويسوده الكذب والخبث والمكر والخديعة ونخب تكتفي بالمحاكاة والنسخ الذي لا يولِّدُ إلا المسخ.
في هذا الإطار القاتم يطرحُ المرزوقي السؤالين المعلقين منذ بدايات النهضة العربية: ما هي علة توقف الإبداع عندنا وتحولنا إلى تابعين؟ وكيف يمكنُ تغيير القبلة الإنسانية من جديد بفتح الآفاق التي حددتها ثورتنا الأولى وغفلنا عنها؟
ما يطرحهُ المرزوقي إجابةً عن هذين السؤالين لا يختلفُ كثيرًا في جوهره عما هو سائدٌ في الفكر النهضوي منذ بداياته أعني العلاقةُ المتوترة بين النهضة والتراث والنهضة والغرب. وإذا كان المؤلف قد رأى الخروج من هذه الإشكالية يكون عن طريق التحرر من الماضي تحريرًا يُمكنُ من “إبداع السبل الكفيلة بالتجاوز المطلق لكل الحاصل الإنساني “وبالتحرر الرمزي من الغرب باعتباره نموذجًا حتى نغالبهُ في المجالات التي تفوق فيها علينا” إلا أنه لم يقل لنا كيف وبأية وسيلة يمكن لنا الانخراط في عملية التحرر هذه وكيف يمكننا تجاوز العوائق التاريخية السياسية والاقتصادية والإبستمولوجية التي وقفت عائقًا مستمرًا ضد أي محاولة من هذا النوع.
شاهد أيضاً: كيف ساهم المسيحيون في النهضة العربية؟
هذا الإشكالُ الكبيرُ هو ما حاول محمد عابد الجابري وأسامة عبد الرحمن تجاوزه من باب الأيديولوجيا إذ أدخلا مصير النهضة العربية العاثرة في أمر الاحتمالات والتمنيات والتخمينات من خلال صيغ لُغوية تحمل نقيضها في أحشائها وفق قول الجابري: “هيمنة إسرائيل ليست حتمية… الراجح أن الحملات الاستعمارية لن تتكرر… التطرفُ لا يمكنُ أن يستمر إلى ما لا نهاية” أو وفق قول أسامة عبد الرحمن “قد يأكل النظام السياسي نفسه… قد يعجزُ النظام تحت وطأة المطالب المعيشية… وهذه فرصة قد تُرسِّخُ الحضور الديمقراطي”.
ومن المفارقات الملفتة أن يبقى السجال عن ابن رشد قائمًا حتى الآن ففي حين رأى الجابري أن الطريقة التي سلكها ابن رشد هي الأنسبُ والأقومُ للإجابة عن سؤال الحداثة، يرى نصار أن النهضوي العربي يجب عليه أن يتجاوز عقلانية ابن رشد لكي يواكب التطور الذي حصل بعده. ويرى المرزوقي أن الزعم بأن الرشدية قد أسهمت في التنوير هو “من الأوهام التي تكاد تقتل ضحكاً” وإن استعادتها ما هي إلا “تنغيص حياتنا من جديد بمشاكل جدودنا”.
وما هذا السجالُ المتجدد في نظرنا إلا لأن النهضويين المعاصرين ما برحوا يدورون في الدوامة عينها فقد علق نهضويو آخر القرن التاسع عشر، إذ لم يدركوا بعد استحالة النهضة العربية الراسخة والقابلة للتقدم. والاستمرار دون نهضة عقلية شاملة، لهذا ظلوا أسرى اللغة التراثية والأيديولوجية يستعملون العدة المفهومية نفسها التي كانت ولا تزال سببًا أساسيًا من أسباب انكسار المشروع النهضوي وتعثره فكانوا مثل الذي يعالج الداء والدواء.
ثمة عقل تاريخي ضاغط في رأينا أثقل روح النهضة العربية وقتل روح الإبداع في صميمها يجبُ علينا تقويضه وتفكيكه والحفر في خباياه المعتمة بحثًا عن العطب المهلك الذي وقف دائمًا دون النهوض والانبعاث.
قلةٌ من نهضويي آخر القرن خرجت عن السائد وأمسكت بهذا العطب وذهبت بعيدًا في التصدي له بلغة أخرى وعُدة معرفية مختلفة رغم ما تلاقيه من معاناة المنع أو النفي أو التفكير من هؤلاء محمد أركون الذي ظلَّ يعملُ على مشروعه لنقد العقل العربي والإسلامي، والذي جاء كتابه “قضايا في نقد العقل الديني” نقلة أخرى.
باتجاه تحرير العقل النقدي من القيود الإبستمولوجية التي فرضها العقل الدوغمائي على الفكر والثقافة، وباتجاه تسليط أضواء المنهجية التفكيكية على الممارسة التاريخية، التي حصلت في الجهة العربية الإسلامية كما في الجهة الأوروبية، والمُضي في النقد التاريخي الصارم للتراث للإنتقال من ظلامية العقل الدوغمائي القروسطي إلى آفاق الحداثة والمعاصرة ومن التقليد والاتباع إلى التفكير الحر والإبداع.
هذا المنحى المختلف في التعامل مع العقل تطلع إلى تجاوز تسويات القرون الوسطى العقيمة بين الدين والفلسفة أو بين الشريعة والحكمة أو بين الوحي والعقل، وتحرير العقل من كل وصاية. فأزمة العالم العربي لا يمكنُ التصدي لها من زاوية إيديولوجية، بل إن الفكر الفلسفي المتحرر من التراث والإيديولوجيا هو وحده المُهيأ لمعالجة الأسئلة الكبرى، التي تنطوي عليها أزمة العرب الراهنة في سبيل نهضة عربية في إطار التطور الحضاري الذي يشمل العالم كله.
ولا شك أن هذا المنحى العقلاني العلماني الذي يكافح للاعتراف به منهجًا لإنقاذ النهضة العربية من تعثرها المزمن، والذي تتبناهُ أكثر فأكثر فئة من المتنورين في أكثر من مجال من مجالات الفكر والثقافة، هو السبيل الوحيد في رأينا إلى مستقبل آخر للعرب غير الذي رسمه لهم الفكر الدوغمائي والإيديولوجي حتى لا يبقى السؤال الكبير “كيف ينهض العرب”؟ مُؤجلًا إلى ما لا نهاية.