سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية (الجزء الثاني)

 تكوين

خُلاصة: في الجزء الأول من هذه الدراسة تطرقنا بطريقة موجزة إلى الفلسفة اليونانية، ولموضوع الأخلاق لدى فلاسفة اليونان لدى كلٍّ من افلاطون وأرسطو في علاقة ذلك بمفهومهم وتصورهم لموضوع النفس، وقد بسطت القول بشأن طبيعة دخول الفلسفة اليونانية إلى مجال الثقافة الإسلامية، مبينًا طبيعة التأثر الذي لحق فلاسفة الإسلام وهم يأخذون الفلسفة اليونانية، ويبذلون كل جُهدهم لخلق توافق ما بين تصوراتها وما بين مرجعية الفكر الإسلامي.

في الجزء الثاني، سنحاول الاقتراب من تصور القرآن لموضوعات النفس والأخلاق في إشارة إلى أن فلاسفة الإسلام لم يشغلوا أنفسهم بالحفر المعرفي بخصوص تصورات القرآن ونظرته إلى العالم، وسنبين كيف تحولت الفلسفة إلى موضوع ومجال للخصومة، وفي الأخير سنبين بأن موضوع الأخلاق موضوعٌ يُلامس كلًا من الدين والفلسفة، وبأن التفلسف كامن في الدين وبأن الأخلاق من صفة التفلسف.

النفس والأخلاق في القرآن

لم يشغل فلاسفة الإسلام أنفسهم بموضوع سؤال الأخلاق في القرآن بقدر ما شغلوا نفسهم بموضوعات النفس والأخلاق تبعًا لما عليه فلاسفة اليونان، وقد يبدوا هذا الأمر غريبًا لدى كثيرٍ من المختصين في حقل الفلسفة، لأنهم يرون أن موضوعات القرآن ليست من اختصاصاتهم، وبأن موضوعاته تخص علوم الدين وليس علوم الفلسفة. وفي تقديرنا فتقسيم العلوم إلى علوم الدين وغيرها هو خروج عن جوهر الدين ذاته، لأنه لم يقل بتقسيم يحتفظ به لنفسه بعلوم تخصه على حساب علوم أخرى لا تعنيه، وفي الوقت ذاته ليس الدين في جوهره أمرًا في مِلك وحوزة من له اطلاع بقسم من العلوم دون آخر، سواء كان ذلك القسم يدور في فلك المعرفة الكونية أو المعرفة الإنسانية أو المعرفة المتصلة بأنثروبولوجيا الدين، لأن الدين في مداراته الواسعة غاية وقصدية تتصل بالكون والوجود بأكمله، ومن ثم ليس من الغريب أن نجد القرآن ينفي العبث واللعب عن خلق الكون والوجود بأكمله. [2] فالحق غاية في الخلق الذي خُلقت به السماوات والأرض والحق يتصل بالحقيقة والحقائق التي نتوسل إليها بشتى الطرق والمسالك، والله جل وعلا هو الحق، والحق واحد والطريق إليه مُتعدد بتعدد أوجه الحقائق وتنوعها.

مدارات سؤال الأخلاق في القرآن تتصل بالأبعاد التكوينية الأربعة للإنسان وهي: البدن والحواس والنفس والروح.[3] فتركيبة النفس مأخوذة من الطبيعة (عالم المشيئة الذي بإمكاننا دراسته ففيه تَتَشَيَّأ الأشياء) وتتصف بجدل التكوين إذ تجمع بين المتضادات (كما هي الطبيعة تجمع بين البرودة والحرارة بين النور والظلام…)[4] فالنفس مُلهمة على أضداد التقوى والفجور وهي مخيرة في الفعل فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت[5]، فقد أفلح من زكاها وخاب من دساها [6]، وهي موطن التأثير وموطن التغيير[7] ويصدق عليها فعل الموت[8]. بينما الروح هي أمر من الله[9] ولا يصدق عليها الموت، وهي صلة الوصل بين عالمنا وعالم الغيب، فهي من أمر الله، فالنفس إن كانت محمولة بالروح فذلك مجال التزكية والرقي وإن كانت محمولة بالغريزة فذلك مجال التردي والاقتران بالبهيمة التي تستجيب لمتطلباتها الجسمانية فقط، فالنفس في هذه الحالة تجعل من المادة والمال والأشياء الفانية بطبعها أهم غايتها وبإمكانها أن تُقبل على أي شيء بأي وسيلة كانت بهدف الظفر به.[10] وليست هناك نفس ذات تقوى مُطلق أو فجور مُطلق (فالنفس على جدل بين الطرفين) إلا أن أحد الطرفين يغلب وغطى على الطرف الآخر، ولا نقصد هنا إن كانت النفس محمولة بالروح أنها تستغني عن متطلبات الجسم من المأكل والمشرب… فكل ذلك يكون حاضرًا ولكن بتوجيه الروح لا بتوجيه الغريزة والحواس.

وبهدف تزكية النفس والارتقاء بها تأتي مختلف الشعائر: (الصلاة الزكاة الصدقة البر الإحسان للغير الصبر… وننبه هنا بأن مختلف الشعائر ممكن أن تتحول إلى طقوس وأشكال ميتة فاقدة للمعنى والذوق، لأن الشعائر في الأصل هي وسائل لاستحضار واستذكار المعنى، والمعنى بطبعه متجدد) وكذلك مختلف الفنون الجميلة: (موسيقى الروح الرياضات البدنية الرياضات الذهنية مثل: التفكير والتفكر/التفلسف التأمل…) فالفن والجمال حاضر في مختلف الشعائر الدينية، واستحضارنا هنا لموضوع الشعائر الدينية ليس بالمفهوم الفقهي الذي يجعل من التقليد والشكل غاية وهدفًا. أما العقل فهو ملكة التمييز الفاعلة فهو مُصاحب للنفس في مقاماتها وهو يجمع بين وجهين: وجه بصفته مَلَكَة آلة اشتغال وتمييز (السمع البصر والفؤاد)[11]، ووجه بصفته يُميز الخير عن الشر، ولكن في الوقت ذاته بإمكانه الإقبال على الشر لسبب من الأسباب، فالعقل وسيلة للعلم والتعلم والعلم في آخر المطاف بيد الإنسان (النفس) إما يُوظفه في الخير والصالح العام وإما في الفساد بدل الإصلاح[12]، وعندما تنتفي ملكة العقل فذلك يعني أن النفس تكون في حالة من الحُمق أو الجنون وما شابه.

الخصام بسبب الفلسفة

لدى العقلاء في العالم الإسلامي قديما وحديثا، لا تتعلق المسألة برفض الفلسفة والتفلسف، ولكن تتعلق بما آل إليه الفكر الفلسفي من استنتاجات وآراء فأبو حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ) بـ “تهافت الفلاسفة” بدل تهافت الفلسفة وقد سبقه بكتاب “مقاصد الفلاسفة” فمشكلته تتمحور مع مقاصد الفلاسفة وليس مع الفلسفة[13]، والمعضلة الكبيرة لدى الغزالي أنه لم يؤسس نظامًا معرفيًا فلسفيًا وهو ينقض أقوال الفلاسفة، وهو الأمر الذي كان له أثرًا كبيرًا بأن تكون انتقاداته مدخلًا للحد من التفلسف ومن الفلسفة في العالم الإسلامي، بتجاوز أقوال وآراء فلاسفة الإسلام إلى أقوال وفلسفة بديلة.

صحيح بأن الفلسفة والتفلسف لم يتوقف في العالم الإسلامي، ولكن بقي نقد الغزالي ودوره وأفكاره حاضرة لدى الطرفين، حاضرة لدى الذين يريدون نقض الفلسفة والتخلص منها كُليًا، لأسباب ودواعي ليس هذا مجالَ الحديث عنها، والتخلص من الفلسفة في ذاته تَخلصٌ من العقل ومن البرهان، فمن دون العقل تتحول النصوص جميعها في الدين وفي الأدب وفي القانون وفي الفلسفة نفسها إلى سلطة يستبد بها المستبدين ويعبث بها العابثين، وحاضرة كهاجس لدى الفلاسفة والمُشتغلين بأمرها، مما جعل ابن رشد (520 هـ- 595 هـ) يرد على الغزاليبتهافت التهافت” ويُكرس معظم حياته للفلسفة ولترجمة كتب أرسطو حتى لُقِّبَ بالشارح الكبير، وقد شاع صيت ابن رشد في زمانه وبعد زمانه، فهو طرف مُهم في مجال الخصومة التي تدور في مجال التفلسف وقد كشف “أرنست رينان”  تأثيرَ ابن رشد في الفكر الأوروبي بكتابه الشهير “ابن رشد والرشدية” عام 1852م، وتبعًا لتصور مُتمركز في الذات اتصفت به المركزية الغربية في نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخر يرى “أرنست رينانأن الفلسفة الإسلامية ليست سوى فلسفة اليونان مكتوبة بحروف عربية.

الخصومة المعرفية هنا ليست بالسهلة، لقد بلغ فيها الأمر بأن يُنهي الطرف المسيطر والغالب الطرف الآخر، ومن البديهي أن التفلسف يتصل بالنخبة والخاصة. أما غيره فهو للعامة وعموم الناس، وليس من الغريب أن يرحل جثمان ابن رشد إلى قرطبة بعد أن دُفن في مراكش وبرحيل جثمانه رحلت الفلسفة معه إلى الضفة الأخرى، سواء كان ذلك الرحيل إكراهًا أو اختيارًا، فهو يحمل أبعادًا رمزية، وقد كان شاهدًا على رحيل جثمانه الشيخ الأكبر ابن عربي (558 هـ/ 638هـ) وهو يصف الحدث وصفًا مؤثرًا في كتابه الفتوحات المكية  قوله: “ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية، فأقيم لي رحمه الله في الواقعة في صورة ضرب بيني وبينه فيها حجاب رقيق أنظر إليه منه ولا يُبصرني، ولا يعرف مكاني وقد شغل بنفسه عني، فقلت إنه غير مراد لما نحن عليه فما اجتمعت به حتى درج وذلك سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش ونقل إلى قرطبة وبها قبره، ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسين محمد بن جبير كاتب السيد أبي سعيد وصاحبي أبو الحكم عمر وابن السراج الناسخ فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مَركوبه، هذا الإمام وهذه أعماله يعني تواليفه، فقال له ابن جبير يا ولدي نعم ما نظرت لا فض فوك، فقيدتها عندي موعظة وتذكرة رحم الله جميعهم وما بقي من تلك الجماعة غيري، وقلنا في ذلك: هذا الإمام وهذه أعماله * يا ليت شعري هل أتت آماله“.[14]

تلك الخصومة لم يطويها التاريخ بعد، فهي تمتد إلى زماننا هذا وتُلقي بظلالها على الفكر العربي الإسلامي، فقد ورد على لسان طه عبد الرحمن قولهُ: “لا ينبغي أن نكون رشديين[15] والمقولة هنا تستبطن عكسها، فعلينا أن نكون مع الغزالي ومع تراث الغزالي. وبهذا تكون كل اختلافاتنا تستمد كينونتها ووجودها من التراث، وليس من مصلحة شباب الألفية الثالثة أن يفكروا في الفلسفة وموضوعاتها بالتمذهب نفسه، مع أو ضد، لأن الفلسفة والتفلسف لا يقتضي كل ذلك، ويستند طه عبد الرحمن في الإجابة عن سؤال: لماذا ينبغي ألا نكون رشديين؟ على جانب التقليد في الفلسفة لدى ابن رشد، وحسب قوله وبُلغة جازمة، فقد شهد المتقدمون والمتأخرون بأن ابن رشد مُقلد لأرسطو، بل ليس في فلاسفة الإسلام من هو أشد منه تقليدًا لفلاسفة اليونان. وهذا يُفيد أن امتدادات تأثير الفلسفة اليونانية والاختلاف بشأنها لا يزال ملازمًا لنا حتى اليوم.

الغزالي أو “حجة الإسلام” كما يراه الجمهور يُعد عقبة في طريق أولئك الذين يرغبون اليوم في إعادة الربط بين الإسلام والاجتهاد، ويرى هؤلاء أن دوره قد أدى إلى الجمود، وهذا مثلًا ما قاله المفكر الهندي الحداثي السيد أمين علي (1849م/1920م) في كتابه: (روح الإسلام) “لولا الأشعري والغزالي لربما صار العرب أمة أفرادها كغاليليو وكيبلر ونيوتن” ويعلق أمير علي على رغبة الغزالي في تحقيق التوافق بين الآراء ما أدى إلى قمع أي شيء بوصفه بدعة وخصوصًا العقلانية والإصلاحية قائلًا عن الغزالي: “إن هذا الإمام الصوفي، باستكانته، قد جمد الدماء في عروق الشعوب المسلمة، وثبط  طاقات التقدم والتنمية فيها “[16]، المعول عليه اليوم كي نقطع مع عقلية التفكير بآلية “الخصومة” ونُقبل على عقلية التفكير النقدي، هو توسيع مجال النقد المزدوج بتعبير عبد الكريم الخطيبي نقد تراثنا الفلسفي (نقد من مع ابن رشد ومن ضد ابن رشد نقد من مع الغزالي ومن ضد الغزالي) ونقد لمقتضيات المعرفة المعاصرة، بهدف “بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدًا، آخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة”[17].

ليس هناك اختلاف بين الغزالي وابن رشد، يستحيل معه الجمع في تحليل ونقد، تصورات الجانبين، يرى الغزالي بأن: ” الْعقل لن يَهْتَدِي إِلَّا بِالشَّرْعِ وَالشَّرْع لم يتَبَيَّن إِلَّا بِالْعقلِ فالعقل كالأس وَالشَّرْع كالبناء وَلنْ يُغني أس مَا لم يكن بِنَاء وَلنْ يثبت بِنَاء مَا لم يكن أس وَأَيْضًا فالعقل كالبصر وَالشَّرْع كالشعاع وَلنْ يُغني الْبَصَر مَا لم يكن شُعَاع من خَارج وَلنْ يُغني الشعاع مَا لم يكن بصر”[18] أما ابن رشد فيرى بأن “الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر والغريزة”[19]، فالاختلاف هو اختلاف في طريق بناء أنساق التحليل والنظر والتفكير.

كان مطلب وجهاد ابن رشد أن يحمي الفلسفة من تفاهات العوام، ويحمي الفلاسفة من كراهية عموم الجماهير للتدليل العقلي[20] هذا الأخير (الدليل العقلي) حضوره يقترن بحضور الفلسفة وما اتصل بها من العلوم: (علم الطب، علم الرياضيات، علم الطبيعيات…)، فالتخلي عن الفلسفة في ذاته هو تخلٍ عن العقل. فقبل ابن رشد وبعده بقليل كان الجامع يحقق معنى الجمع، ففي فضائه تُدرس جميع العلوم بما فيها الفلسفة، لكن مع الأسف باتساع دائرة اتهام الفلسفة والفلاسفة في العالم الإسلامي بالزندقة وإفساد أمر الدين كما يحلوا للعوام قولهم، لم يعد أمر الجامع جامعًا، بعد عزل الفلسفة وعلومها وإبعادها عنه وأصبح مُقتصرًا على العلوم الشرعية، وهذه تسمية تحمل في طياتها تُهمةً مفادها بأن هناك علومًا غير شرعية ينبغي الإعراض عنها، ولا شك بأن الفلسفة لا تُعد من العلوم الشرعية في عرف كثيرٍ من الفقهاء والمحدثين والوعاظ وغيرهم سار أمر الدين معزولًا عن العقل بطرد الفلسفة من الجامع ولم يتبقَ في طريقه إلا التقليد والإتباع[21]. بينما القرآن منذ البداية دَشَّن حضوره بالدعوة إلى القراءة[22]وكانت دعوته، دعوة إلى القطيعة مع كل أشكال التقليد والاتباع والآبائية.[23]

لم تُفد جهود ابن رشد في ترميم شأن أمر الفلسفة في العالم الإسلامي، وبقي أمرها موطن شبهة وشك في محترفيها حاول رجال النهضة أمثال: الطهطاوي والافغاني ومحمد عبده وغيرهم تدشين عهدٍ جديدٍ يتسم بالعناية بسؤال الإصلاح الديني، لكن تطورات القرن العشرين وأحداثه جعلت من جماعات الإسلام السياسي  باتجاهاتها المعتدلة والمتطرفة سَدًّا منيعًا أمام محاولات الإصلاح التي سيكون للفلسفة معها نوعًا من الحضور، لقد وجد ذوو الإسلام السياسي وغيرهم التهمة قائمة، تهمة القول بأن الفلسفة تُفسد أمر الدين، في وقت  ما أحوج العالم فيه لفلسفة الدين.

المسألة الأخلاقية تلامس مجال الدين والفلسفة

إن حديثنا ذاك عن المسألة الأخلاقية يُلامس مجال الدين ومجال الفلسفة، فموضوع الأخلاق يعد من الموضوعات الأساسية في مجال الفلسفة، وذلك بالبحث في سيرة الإنسان وشخصيته وقيمه وواجباته تجاه ذاته وتجاه غيره… والبحث في ماهية الخير وماهية الشر. أما الدين، فمن مقاصده العُليا أن يُتمم مكارم الأخلاق كما أشرنا سالفًا، وقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته في إتمام مكارم الأخلاق “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأَخْلاَقِ”[24] وهذا لا يعني أن النظرة الفلسفية للأخلاق هي نفسها نظرة الدين، فالدين له سياقه الخاص وللفلسفة سياق ظهورها الخاص بها.

وقد رأى القرآنيون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أنه إذا كان كتاب القرآن قد أعلن أنه جاء للناس جميعًا، فهو لا بُد ليرسم للناس قواعد الفكر والنظر إلى جانب قواعد الحياة العملية، وأن يُصور لهم الألوهية في صورتها النهائية -الميتافيزيقا- وأن يُعرفهم حقائق الطبيعة وقوانينها –الفيزيقا– وأن يضع قواعد السلوك الإنساني –الأخلاق-.[25] إن القرآن لدى الصحابة “لم يكن كتاب مواعظ أخلاقية أو تاريخًا أُنزل للعبرة عن قرون ماضية، وإنما هو كتاب ميتافيزيقي وفيزيقي وإنساني وعملي، وَضع الخطوط الرئيسة للوجود كله، فهو كتاب كون منذ نشأته إلى فنائه. كان لا بُد لهؤلاء المؤمنين به، أن يلتمسوا فيه أصول تفكيرهم، وأن يطمئنوا إلى أحكامه الكُلية، وأن يجتهدوا ما شاء لهم الاجتهاد في محيطه الواسع”[26]. ولهذا فالتاريخ المصاحب للفلسفة غيره التاريخ المصاحب للوحي في أعلى صوره.

ومن ثم ينبغي فهم معارف الفلسفة وتتبعها في سياقها، وفهم ما جاء به الوحي في سياقه الخاص، بدل إسقاط ما عليه النظر الفلسفي على الوحي، ومن المعلوم أن المتقدمين لم ينظروا إلى الثقافة اليونانية بوصفها ثقافة غريبة عنهم، بل تأثروا بها إلى أبعد حد، ونظروا إلى أنفسهم بوصفهم الورثةَ الحقيقيين لها، وهذا أمر محمود كون “الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها”.[27]

ولكن الأمر الذي في غاية الأهمية هنا يتعلق بالرؤى المنهجية في مدى فهم ما قال به الوحي وما عليه الفلسفة، فمحمد إقبال وهو يُعالج موضوع تجديد التفكير الديني في الإسلام يرى أن الفكر اليوناني مثَّل قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، وأسهم في توسيع النظر العقلي لدى المسلمين، لكن إذا دققنا في مضمون الدرس القرآني من جهة، وفي مقالات المتكلمين من جهة أخرى، على اختلاف مدارسهم التي نشأت مُلهَمةً بالفكر اليوناني، سنقف عند “حقيقة بارزة هي: أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسَّعت آفاق النظر العقلي لدى مفكري الإسلام غَشَت على أبصارهم في فهم القرآن”[28]، كون الحمولة الثقافية التي تَميز بها الفكر اليوناني تختلف عن فلسفة القرآن للوجود وللحياة والإنسان، وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء الإسلام الذين عكفوا على درس القرآن بعدما أن أبهرهم النظر الفلسفي القديم، فقرأوا الكتاب – القرآن- في ضوء الفكر اليوناني“.[29]

وهذا لا ينفي بأن مفكري الإسلام المتقدمين، مثل: ابن سينا وبعض المتصوفة كابن عربي أنهم قد حاولوا فهم القرآن بوصفه وَحْدةً كُلية، إذ المشكلة التي اعترضت هؤلاء، رغم اتساع تأملاتهم وأفقهم الفلسفي، تتجلى كونهم جاءوا إلى فهم القرآن وتأويله، وهم مُحملون بتصورات وآراء من خارجه تأثرًا منهم بالفكر اليوناني وغيره، وبهذا الشكل فرضوا على القرآن تصورات لم يقل بها ولا تتماشى مع خلفيته ونظرته إلى العالم وإلى الإنسان، ولم يعكف أحد منهم على إظهار نظرة القرآن وتصوره من داخله، وسقطوا بذلك في إشكال منهجي مفاده التعاطي البراني مع القرآن.[30] مما يعني أن الفكر الديني القديم، قد تكون في مجمله مفصولًا عن فلسفة القرآن ومعارفه، وقد كلف المتقدمين هذا الأمر كثيرًا من الجهد والعناء في الإغراق في مواضيع شتى من أمور الغيب وقضايا القضاء والقدر… مما ضيع طاقات العقل المسلم، واستنزف عقول العلماء والفلاسفة والمتكلمين وأهل التصوف.[31]

وقد حاول إقبال أن يقترب من فلسفة القرآن ومعارفه، من طريق تأمله وتعامله المباشر معه في تجاوز لآليات علوم القرآن ولآراء المفسرين وغيرهم. وقد أُثِرَ عنه قولهُ: واعجباه القرآن الذي جاء ليهبك الحياة، يُقرأ عليك إذا حضرتك الوفاة. وقوله أشد نصيحة أثرت فيَّ تلقيتها من والدي، يا بني اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا كون إقبال يعترض عن البحث في الحقيقة الفلسفية، أو يُفهم كونه يتعاطى مع الموضوع بمنطق أن ما عليه الفلسفة يتعارض مع ما عليه الدين، بل على العكس من ذلك، إذ يرى أن الدين وما جاء به لا يُعد أمرًا جزئيًا ولا فكرًا مُجردًا، بل هو تعبير عن الإنسان والكون كله. وبهذا، فالدين ينحو منحى تقريب الظواهر وغيرها نحو ما فيها من خلود[32] “وهو ينشد الحقيقة بوصفها كُلًا لا يتجزأ، في حين الفلسفة والعلم ينحوان منحى فهم الظواهر والأشياء، منحى ما فيها من حدوث والعلوم الطبيعية جزئية بطبيعتها”.[33]

ويمكن أن نُعبر عن هذا المُعطى المنهجي وفقًا لمقاربة المفكر السوداني أبي القاسم حاج حمد، إذ يفترض أن هناك منهجيتين وهما: (منهجية الخلق) و (منهجية التشيؤ)، الأولى مُهيمنة على الأخرى، لأنها ذات إطار كوني تصعب الإحاطة به لقصور وعي الإنسان عن إدراك كل قوى التكوين المتسعة باتساع مدارات المحيط الكوني. أما منهجية التشيؤ، فهي ما يُدركه الإنسان من قوانين تتحكم بالتحولات الإحيائية والفيزيائية. فالمسألة هنا مسألة وعي وليست مسألة معجزات أو خوارق تدخلت في صيرورة المادة ونواتج تفاعلاتها.[34]

فينبغي أن نفهم منهجية التشيؤ في سياق منهجية الخلق، أي العمل منهجيًا على فهم ما هو جزئي بطبيعته من طريق ما هو كلي، ولهذا نجد إقبال يَعيب على سقراط فهمه الجزئي للإنسان، إذ كان يرى بأن معرفة الإنسان تكون بالنظر في الإنسان نفسه “لا بالتأمل في عالم النبات… والنجوم، وما أشد مخالفة هذا لروح القرآن الذي يرى في النحل على ضآلة شأنه محلًا للوحي الإلهي والذي يدعو القارئ دائمًا إلى النظر في تصريف الرياح المتعاقب وفي تعاقب الليل والنهار والسحب، والسماء ذات النجوم والكواكب السابحة في فضاء لا متناهٍ”[35] وقد كان أفلاطون وفيًا لتعاليم أستاذه سقراط إلى درجة أنه قَدَحَ في الإدراك الحسي، كون الحس في نظره يفيد الظن ولا يفيد اليقين.[36]

إن إقبال يدعونا إلى فهم المتفرقات في سياقها الكلي والمركب، وهو بهذا ينحو منحى الفهم والتفكير المركب بدل الفهم المعتمد على آليات التفكيك وحدها، فنحن في عملية النقد والتفكير نفكك قصد إعادة التركيب من جديد، سواء في نظرتنا لموضوع الأخلاق أو غيره، فمثلًا فموضوع الخير وما فيه مصلحة للإنسان ينبغي أن يكون فيه خير للخلق والكون بأكمله، ولا فائدة إن ربط أهل الاقتصاد ورأس المال المصلحة بهم وحصروها في الربح على حساب المتاجرة بدماء الشعوب ببيع الأسلحة والأطعمة المضرة وغير ذلك.

وسؤال التركيب هذا ينطوي على بذل الجُهد في الإحاطة بالأبعاد الكلية للنص القرآني في علاقته بالكون والإنسان والزمن والغيب. وهذا يتطلب بسط مناهج تنسجم مع الزمن الذي نحن فيه في فهم “القرآن الكريم” وقراءته، فهو ينطوي على أبعاد تركيبية في نظرته إلى الإنسان وفي نظرته إلى الوجود والكون.

القصدية والغاية في الخلق

يرى إقبال أن الطبيعة يجب أن تُفهم بوصفها مُركبًا حيًا دائمًا، ونموها ليس له حدود خارجية، بل حَدُّه الوحيد داخلي، وهي الذات الأزلية التي تبث الحياة في الوحدة الكونية، فكل شيء يتجه نحو الله جل وعلا وإليه المنتهى قال تعالى: [ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ][37] وإليه الرُجعى كذلك، قال تعالى: [ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى][38] وهذا الرأي في نظر إقبال قد يُضفي على العلوم الطبيعية معنىً روحيًا جديدًا، فالعلم بالطبيعة هو العلم بسنة الله فالطبيعة، ليس شيئا آخر غير أنها سنة لله التي لا تبديل لها ولا تحويل، قال تعالى: [ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا][39] ، فالتأمل والنظر فيها يُعد صوة من صور العبادة.[40]

ومن ثم فالقرآن عندما يتحدث عن الخلق، فهو يربط ذلك بالقصدية والغائية أي بقيمة أخلاقية، إذ يُخبرنا القرآن بأن الله جل وعلا لم يخلق الكون عبثا، بل كان ذلك بالحق قال تعالى: [ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)][41] وعلى الإنسان أن يصل  إلى الحكمة والغاية التي يكتنزها الخلق إذ ينبغي لعلماء الطبيعة وغيرهم أن لا يغضوا الطرْف عن الحكمة والغائية الكامنة في الطبيعة، فلا ينبغي التوقف عند دراسة تكوين العسل من لدن النحل وما صاحب ذلك من المجهود الكبير والمتقن الذي تقوم به الحشرة العجيبة “النحلة” التي جاءت سورة كاملة في القرآن باسمها، وهي سورة النحل…  وتلك أمور كثيرة تدرس للطلاب بطريقة علمية وبلغات عدة عبر العالم، إذ من الضروري أن نرقى إلى فهم الحكمة التي جعلت من العسل مادة شفاء للناس، ولماذا خص الله هذه المادة بشفاء الإنسان دون غيره، ألا يدل هذا على الغائية والقصدية الكامنة في عالم الطبيعة قال تعالى: [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)][42]

والأمر نفسه ينطبق على اللبن الذي يخرج من بين الفَرْث والدم سائغًا لكل الشاربين، قال تعالى: [وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)][43] العلم اليوم يشرح لنا هذه العملية التي تجري في الطبيعة وفق مراحل معينة شرحًا مُفصلًا ودقيقًا، وهناك شيء من وراء هذه العملية التي تجري في الطبيعة منذ الأزل، وهي الحكمة والغاية في أن يكون اللبن سائِغًا وفيه منفعة للإنسان، فالرقي إلى الحكمة والغائية الكامنة في الطبيعة قد تأخذنا إلى الفهم الكُلي والمركب في فهم عالم الشهادة “الطبيعة” في علاقته بعالم الغيب، وهذا مسلك يجعل من الإنسان يعرف ذاته في علاقته بربه الذي استخلفه في الأرض.

ومع الأسف فمناهج المعرفة المعاصرة اليوم وإجمالًا، أُريد لها ألا تمضي لمعرفة حقائق الخلق الكوني وخلفياته، إلى درجة نسبة القول إلى هذه المناهج بوصف هذا العالم بنوع من العبثية، وهذا طرح فيه إساءة لمقام الله المُنزه المقدس بصفته هو الذي خلق وأوجد. إن قضية البحث والنظر والمعرفة في الكون تمضي إلى ما وراء فلسفة العقل الطبيعي[44] المُستند إلى (فلسفة العلوم الطبيعية) تلك الفلسفة التي لا تنفذ بسطحيتها إلى معنى العسل واللبن كما بينا سابقًا.[45]

لقد خلص إقبال في قراءته للقرآن إلى  أن من بين الأهداف الأخلاقية الرئيسة للقرآن “أن يُوقظ في نفس الإنسان شعورًا أسمى بما بينه وبين الخالق، وبين الكون من علاقات متعددة”[46] فالمعرفة الدينية تتأتى نتيجة الرياضة الدينية التي تنتج عنها كثيرًا من الحقائق، وهذا لا يعني أن التجربة الدينية لا تعرف التغير والتطور، بل كل التجارب الرُوحية قابلة للنقد والمراجعة، فنبي الإسلام كان أول من تناول بالنظر النقدي التجارب الرُوحانية،[47] فالتجربة الدينية ينبغي أن لا تنفصل عن النظر في الكون الذي قوامه التجربة والملاحظة، قال تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا][48]. وعليه ففلسفة القرآن تنبني على الربط بين المعرفة الدينية التي قوامها الرُوح، وبين المعرفة الكونية التي قوامها النظر في الكون.

فينبغي أن يُنظر إلى الصلاة بوصفها “تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة”[49]، مع العلم أن القرآن الكريم مليء بالآيات والسور التي تتحدث عن الطبيعة فالعلم بالطبيعة في واقع الأمر ما هو إلا علم بسنن الله ونواميسه في الوجود، وذاك نوع من الاتصال بالذات المطلقة، وصورة أخرى من صور العبادة، وعليه فالجزء الكبير من مشاكل العالم الإسلامي اليوم يرتبط بتخلي الإنسان المسلم عن الرُوح الواقعية للقرآن وعن المراجعة النقدية لتجاربه الرُوحية التي ينبغي أن تبنى على النظر في الطبيعة، فهو اليوم في حاجة إلى يقظة رُوحية تتجدد من بها معالم التجربة الدينية لديه تجددًا يتوافق مع روح العصر، وفي حاجة كذاك إلى يقظة عقلية يواكب من طريقها التطور العلمي الحديث. وبهذا فدعوة إقبال دعوة إلى طبع التجارب الدينية بالعلمية وفصلها عن الخرافة والوهم، وفي الوقت ذاته دعوة إلى تدين المعارف الكونية وفصلها عن الموقف السلبي من المعرفة الدينية (الدين).

إن إقبال يُلِحُّ كثيرًا على ضرورة عدم الإعراض عن مسالك المعرفة الدينية، التي سلكها الأنبياء والأولياء، وقد أعطى تصورًا جديدًا لمفهوم النبوة، التي كانت قبل ختمها تعود إلى فرد بعينه، إلى أن آل الأمر إلى خاتم النبيين محمد عليه السلام. فختم النبوة بمحمد، لا يعني أن النبوة قد انقطعت، بل هي خروج من المخصوص إلى العام وتولي الإنسان هذه المهمة دون تعيين، معتمدًا في ذلك على رسائله الذاتية، فمن الطبيعي أن يُبطل الإسلام الرهبة ويناشد القرآن العقل والتجربة على الدوام ويصر على “أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين يُعد من مصادر المعرفة الإنسانية، وكل تلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة “[50] وخروجها من دائرة التعيين إلى دائرة الكل، مع العلم أن “القرآن يعتمد الأنفس والآفاق مصادر للمعرفة، فالذات الإلهية تُرينا آياتها في أنفسنا وفي العالم الخارجي على السواء، ولهذا وجب على الإنسان أن يحكم على كل ناحية من نواحي التجربة في إفادة العلم”[51]  قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)][52].

أهم ما جاء به إقبال هو تعامله المباشر مع القرآن الكريم، ودعوته إلى الكشف عن فلسفة القرآن للحياة والوجود والإنسان. ولقد قدم المؤلف قراءات جديدة لقصة آدم، كما عمل لتجلي معاني كثيرٍ من الآيات القرآنية، إيمانًا منه بمقولة أحد المتصوفة، التي مفادها ” أن فهم الكتاب لا يتيسر حتى يتنزل على المؤمن كما تنزل على النبي”.[53]

خاتمة

حضور الفلسفة اليونانية في الثقافة الإسلامية حضور بَيِّنٌ ولا جدال فيه، إلا أن ذلك الحضور تلبَس بلبوس الثقافة الإسلامية ولم يبقى حضورًا صافيًا، ففلاسفة الإسلام بذلوا كل ما في وسعهم لإغناء المتن الفلسفي وإثراءه الذي اتصلوا به وهم على وعي كامل بأن المتن الفلسفي اليوناني له تصوراته التي تخصه عن الوجود وعالم الغيب، مما جعلهم يُقبلون على بذل الجُهد في التوفيق والتأليف والتقريب ما بين الفلسفة وما بين الشريعة، وبهذا سارت الفلسفة في خدمة الشريعة فلا أحد من الفلاسفة في تاريخ الإسلام أعطى بظهره للشريعة أي الوحي، فالفلاسفة لهم فهمهم الخاص للشريعة وموضوعاتها، والأمثلة بهذا الخصوص كثيرة ومتعددة من بينها مثلًا: ما كتبه ابن طُفيل (1100م -1185م) في رواية “حي ابن يقظان” التي تُبرهن على معرفة الخالق وعلى أن الإنسان قادرٌ على اكتشاف وبلوغ المرآة التي داخله والتي هي وحدها القادرة على أن تحوي روح الله.[54] ولولا ظهور الوحي، يصعب أن نتحدث عن شيء اسمه الحضارة الإسلامية التي ازدهرت معها الفلسفة ومختلف العلوم ما بعد القرن 7 الميلادي، وتلك مسألة يُغفلُ عنها كثيرًا، إلا أن عملية التأليف والتوفيق هذه لم ترضِ كثير من مثقفي الإسلام، مما جعل الفلسفة موضعًا للخصام الفكري والمعرفي هذا الخصام جسده تجسيدًا واضحًا كلٌّ من الغزالي وابن رشد.

السؤال اليوم ونحن نُعيد قراءة موروثنا الثقافي: إلى أي مدى نمتلك القدرة النقدية للخروج من الاصطفافان التي فرضتها ظروف ثقافية واجتماعية وسياسية لم تعد موجودة اليوم في النظر إلى طرفي كلٍ من الفلسفة والشريعة –الوحي- والعمل لقراءتنا الخاصة التي تنسجم مع محيطنا الثقافي والحضاري، فلا الوحي نقيض للعقل والفلسفة، ولا الفلسفة نقيضة لروح الدين، وهذه المقاربة ليست بالسهلة، فهي لا تتبنى التوفيق أو التلفيق ما بين الأفكار والتصورات القديم منها والحديث، بقدر ما تسعى في بناء نماذج معرفية في التفكير يحضر فيها العقل هذه المرة متصلا بفلسفة الأخلاق التي لولاها لسار الإنسان شأنه شأن الحيوان، وما أحوج الحضارة الحديثة اليوم إلى تعزيز هذا البعد وتقويته الذي اُهمل وهُمش، فمن بين ما يُنظرُ ويُقررُ فيه اليوم في مجال الفكر والفلسفة هو: سؤال الأخلاق فيما جلبته وتجلبه الحداثة في وقتنا الحاضر.

 

لائحة المراجع:

– أبو سليمان عبد الحميد، الرؤية الكونية الحضارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر، ط.1، سنة 2009م

– تأويلية النفس والروح في النص القرآني، صابر مولاي احمد، مجلة تأويليات، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ع.4، صيف، 2020م.

– توفيق الطويل الفلسفة الخلقية، دار المعارف، 1967م

– سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، ترجمة، طلعت فاروق محمد، مراجعة، سعيد فارس حسن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت لبنان، ط.1، 2020م

– طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، سلسلة الزمن، سنة 2000م

– طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان (الدار البيضاء، المغرب)، 2006م

– علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج.1، دار المعارف، القاهرة.

– محيي الدين ابن عربي الفتوحات المكية ج.1 ( دون ذكر تاريخ وعدد الطبعة)

– محسن. س. مهدي الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ترجمة وداد الحاج حسن، دار الفارابي بيروت، لبنان، ط.1، 2009م

– محمد أبو القاسم حاج حمد محمد، تشريعات العائلة في الإسلام، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط.1، سنة 2011م

– محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط.1، 2013 م.

– محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية. ط. 2، 200م

– محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.11، 2011م

– محمد عابد الجابري، نقد العقل الأخلاقي العربي، مركز الوحدة العربية، لبنان، ط.5، 2012م

– محمود محمد نفيسة، أثر الفلسفة الإسلامية على علم الكلام الإسلامي، دار النوادر، ط.1، 2006م

– مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، دار الكتب العلمية لبنان، ط.1، 2004م

– مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2010م (دون ذكر ع. ط.)

– يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، مصر، 2012م

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2]  قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(39)] (الدخان). قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)] (الحجر)

[3]  أنظر: مقالة لنا بعنوان: تأويلية النفس والروح في النص القرآني صابر مولاي احمد مجلة تأويليات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود ع.4 صيف 2020م. وأنظر: مشروع المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد.

[4] قال تعالى: [ومَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)] (فاطر)

[5]  قال تعالى: [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ(286)”(البقرة) قال تعالى:” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)] (المدثر)

[6]  قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)] (الشمس)

[7]  قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد/11) قال تعالى: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)] (الأنفال)

[8]  قال تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)] (الأنبياء)

[9]  تعالى: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)] (الإسراء)

[10]  قال تعالى: [وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)] (الليل)

[11]  قال تعالى: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)] (النحل)

[12]  قال تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)] (الروم)

[13]  الطيب بوعزة الغزالي والفلسفة موقع مؤمنون بلا حدود مقال منشور تاريخ:16/ابريل/2016م

https://www.mominoun.com /

 [14] محيي الدين ابن عربي الفتوحات المكية ج.1 (دون تاريخ الطبعة) ص. 104

[15]  طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، سلسلة الزمن، سنة 2000م

[16] نقلا عن، دعوة إلى العقلانية، م. س. ص. 65

[17]محمد إقبال. تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، ص.2

[18] أبو حامد الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1975م، ص.57-58

[19] أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2017م، ط.7، ص. 125

[20]  دعوة إلى العقلانية، م. س. ص.95

[21]  وأُحضرت الأدلة مثل الأثر: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة )رواه أبو داود والترمذي

[22]  قال تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)] (العلق)

[23]  قال تعالى: [قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)] (المائدة)

[24]  أخرجه أحمد

[25]  نفسه، ص. 31-32

[26]  نفسه، ص. 32

[27]  رواه الترمذي

[28] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية. ط. 2، 200م، ص.10

[29] نفسه، ص.11. (بتصرف)

[30] نفسه، ص. 12

[31]  أبو سليمان عبد الحميد، الرؤية الكونية الحضارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر، ط.1، سنة 2009م. ص. 35ـ-36 (بتصرف).

[32]  نفسه، ص. 9

[33]  نفسه، ص. 56 (بتصرف)

[34]  انظر: تقديم عبد الجبار الرفاعي، لكتاب، منهجية القرآن المعرفية، الصادر عن دار الساقي. 2013 م.

[35]  تجديد التفكير الديني في الإسلام، م. س. ص. 10

[36]  نفسه، ص. 11

[37]  النجم / 42

[38]  العلق / 8

[39]  الفتح / 23

[40]  نفسه، ص.81

[41]  الدخان / 38 -39

[42] النحل/ 69

[43] النحل/ 66

[44] العقل الطبيعي هو العقل الملتصق بالطبيعة إلى درجة أنه لا يؤمن بمصدر للمعرفة والقيم والأخلاق خارج إطار المادة وكل ما هو محسوس.

[45] أبو القاسم حاج حمد محمد، تشريعات العائلة في الإسلام، دار الساقي، ط.1، سنة 2011م، ص. 113 (بتصرف).

[46] نفسه، ص.17

[47] نفسه، ص.25

[48]  الإسراء /80

[49] نفسه، ص.109

[50] نفسه، ص.150

[51] نفسه، ص.150

[52] فصلت / 53

[53] نفسه، ص. 214

[54] دعوة إلى العقلانية م. س. 71

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete