سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية: الجزء الأول

تكوين

خلاصة:

الجزء الأول من هذه الدراسة، يلقي الضوء على الفلسفة اليونانية بشكل موجز، كما يقترب من موضوع الأخلاق عند فلاسفة اليونان، كل من أفلاطون وأرسطو؛ في علاقة ذلك بمفهومهم وتصورهم لموضوع النفس، مع بيان طبيعة دخول الفلسفة اليونانية إلى مجال الثقافة الإسلامية، وطبيعة التأثر الذي لحق فلاسفة الإسلام؛ وهم يأخذون الفسلة اليونانية، ويبذلون كل جهدهم لخلق توافق ما بين تصوراتها؛ وما بين مرجعية الفكر الإسلامي.

 

******

  • 1 – اليونان أساتذة الفلسفة

مجالات الفلسفة اليونانية مجالات واسعة، شملت كل من الطبيعيات والرياضيات والمنطق والأخلاق… وامتدادها في مجالات ثقافية أخرى؛ كان امتدادا متشعبا ومتعدد الأوجه؛ لأنها أخذت لون وصفات الفضاءات الثقافية التي دخلت عليها؛ إلى درجة يصعب معها تمييز الأصل عن الفرع نتيجة تعدد قراءة وفهم تأويل الأصل من لدن قراء تعددت خلفياتهم ومطالبهم.

مرت الفلسفة اليونانية بثلاثة أدوار: دور النشوء، ودور النضوج، ودور الذبول؛ فالدور الأول كان: ما قبل وما بعد سقراط؛ والدور الثاني: ملأه أفلاطون وأرسطو؛ والدور الثالث: امتاز بتجديد المذاهب القديمة وبالعودة إلى الأخلاق والتصوف والعناية بالعلوم الواقعية[2]. وقد بدأ التفلسف المنهجي عند اليونان مع الطبيعيين الأوائل؛ إذ انتهجوا نهجا عقليا أقاموه على التساؤل والتعليل العقلي لتفسير الوجود المادي والوقوف على طبيعته، فكانت مهمة الفلسفة إذّاك البحث عن طبائع الموجودات. [3]

ظهر الحكماء الطبيعيون قبل سقراط، وكان لهم دور بيّن وبارز في تمهيد الطريق لتشكل الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، وكان عملهم يتمثل في مواجهة الفكر الأسطوري، وعملوا على تفسير الطبيعة من خلال عناصر تعود للطبيعة ذاتها. وقد تم إرجاع العناصر المتعددة في الفهم والتفكير إلى عنصر واحد كقول طاليس: «الماء أصل الأشياء» ومن أهم الحكماء: طاليس، أنكسِمندرس، أنكسِمانس، هيراقليدس، بارمنيدس، أنبادوقليدس، وأنكساغوراس، ويطلق عليهم “الحكماء السبعة الطبيعيون “. لقد شكلت آراء الفلاسفة الطبيعيين قطيعة مع الفكر الأسطوري(الميتوس)، مما جعل هؤلاء الحكماء يمثلون الإرهاصات الأولى للتفكير الفلسفي العقلي (اللوغوس)، وبهم ترتبط بداية فعل التفلسف. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، سيتم الانتقال من الحكمة إلى الفلسفة مع سقراط.

والبدء هنا لا يعني أنه بدء غير مسبوق بمقدمات تسلم إليه، فإن في حكمة الشرق الضاربة في أغوار الماضي السحيق اتجاهات أخلاقية واضحة المعالم في تراث مصر والهند والصين واليابان؛ صور مختلفة في التفكير الأخلاقي الأصيل نبتت في ظله فلسفة الأخلاق في أعمق اتجاهاتها[4] فضلا على رسالات الأنبياء والرسل الضاربة في أبعاد الماضي السحيق لتاريخ الإنسان.

لا شك أن الفلسفة اليونانية عرفت عطاء مثمرا مع فيلسوفين بارزين، وهما: أفلاطون (ولد في أثينا عام 427 قبل الميلاد) وأرسطو؛ أرسطوطاليس كما كان يسميه العرب (ولد عام 385 أو 384 قبل الميلاد) وله مؤلفات كثيرة ومتنوعة، ولكن لم يصلنا منها إِلا سبعة وأربعون مؤلفاً يمكن جعلها، من حيث الموضوع، في الأقسام التالية: الكتب المنطقية، وتشمل: المقولات، والعبارة، والتحليلات الأولى، والتحليلات الثانية، والجدل، والمغالطات السفسطائية.

·      أفلاطون ومفهوم الأخلاق

الحديث عن موضوع الأخلاق لدى فلاسفة اليونان بشكل عام؛ ارتبط بعلاج ومقاربة موضوع النفس الإنسانية؛ كقوة موجهة للفعل الإنساني؛ فصلاح الإنسان بدل فساده يتصل بشكل مباشر بموضوع النفس الإنسانية؛ والبحث في موضوع النفس في حد ذاته هو بحث في موضوع الخُلق والأخلاق؛ التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان الفرد والمجتمع؛ وإذا كانت الأخلاق بشكل عام تتصل بالخير والشر؛ إذ نتحدث عن الإنسان الخيّر والإنسان الشرير؛ فالنفس كذلك تنقسم إلى نفس خيّرة ونفس شريرة؛ وبالتالي فموضوع تغيير الإنسان هو موضوع تغيير الأنفس؛ وتغيير الأنفس في حد ذاته هو تغير وبحث ونظر في موضوع الأخلاق المرتبط بالنفس.

يرى أفلاطون أن النفس أسمى من الجسد، فهي الحاصلة على الوجود الحقيقي، وما وجود الجسد إلا وجود ثانوي وغير مؤكد، وهو الذي يحمل قواها الروحية النبيلة ويوجهها وجهة أخلاقية؛ لأنها مصدر الشرور والآثام. ولهذا، فالنفس تشقى بهذا الوجود الأرضي وتعود، فتحاول الانطلاق من محبسها إلى العالم المعقول.[5]

فمن المعروف أن أفلاطون كان خصما شرسا؛ للسفسطائيين القائلين باللذة، والذين يربطون موضوع العدالة بسيادة الأقوى وإذعان الأضعف له؛ وإن الجميع يبغون السعادة، فلا ضرورة للخضوع لأي قانون؛ لأنه يكفي أن يتعهد الإنسان في نفسه أقوى الشهوات حتى تتحقق العدالة؛ والفضيلة والسعادة؛ فعلى الشخص استخدام ذكائه وشجاعته لإرضاء شهوته مهما بلغت من القوة؛ فالإقبال على الشهوات في نظر أفلاطون يعد مدخلا لألم النفس وخرابها، فتصبح حياة الشهوة موتا متكررا، مثل الأجرب الذي لا يفتأ يحسّ حاجته لحك جسده؛ فيحكه بقوة فتزيد حاجته ويقضي حاجته في هذا العذاب؛[6]بينما الحكيم هو الذي يتقيد بحياة الاعتدال؛ وقد ارتبطت الأخلاق عند أفلاطون بالسياسة؛ فالحكيم في السياسة بوجه خاص يجب عليه الاعتدال وضبط شهواته؛ قبل الحكم على الآخرين وإلا فسدت حاله وحالهم.[7]

يخلص أفلاطون إلى أن ضعف اللذة والألم هي سمة الحياة الفاضلة وهي ألذ حياة، بينما حياة الرذيلة هي التي تتسم بالألم الذي يغلب ويدوم، والفضائل عنده أربع:

  • الحكمة فضيلة العقل تكمله بالحق؛ وهي أولى الفضائل ومبدؤها
  • العفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء
  • الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية

ومثل أفلاطون لهذا التقسيم بالعربة التي يجرّها جوادان؛ فالجوادان بمثابة القوتين: الغضبية والشهوانية؛ بينما الحبل الذي يشد أعنة الجوادين فهو بمثابة القوة الناطقة؛ فإذا ما تحقق التناسب والنظام، تحققت العدالة وهي الفضيلة الرابعة.[8]

وإذا كان العدل على المستوى الفردي عند أفلاطون هو التوازن بين المستويات الثلاثة، فإنه يصبح على المستوى الاجتماعي أداء الوظيفة المناسبة في المجتمع “القوة العاقلة أو الناطقة بها يكون التمييز والرؤية واستخلاص الدروس من التجارب والتفكير والعواقب الخ؛ فإذا تغلبت هذه القوة في الإنسان، ساد لديه العلم على الجهل، وصار ينظر إلى العواقب ويميز بين النافع والضار له ولغيره، واتجهت قوته العاقلة نحو فعل الأفضل، فتصدت للقوة الشهوانية تكبح جماحها كي تميل نحو العفة؛ فضيلتها؛ واستخدمت في ذلك القوة الغضبية بعد أن تروضها على فضيلتها: الشجاعة؛ فالقوة العاقلة إذن يجب أن تكون المدبر للقوتين الأخريين؛ وعليها أن لا تبالغ في قمعهما؛ فليس المطلوب الزهد التام في الحياة، بل المطلوب هو العفة؛ وليس المطلوب هو تجنب الجرأة والإقدام إلى درجة الجبن، بل المطلوب هو الميل بهما نحو الشجاعة، والقيام بهذه المهمة يتطلب المعرفة بالأفضل والأنسب في كل وقت. ومن هنا كانت فضيلة القوة العقلية هي الحكمة”.[9]

·      أرسطو ومفهوم الأخلاق

يستند مفهوم الأخلاق عند أرسطو إلى مبدأ السعادة؛ لأنها هي الغاية التي يجتمع عليها البشر. فالوصول إليها تترتب عليه أعمال، غير أن مفهوم السعادة يختلف من شخص إلى آخر تبعا لاختلاف السلوك لكل فرد؛ هذا السلوك الأخلاقي صنفه أرسطو إلى ثلاث مراتب؛ الأولى: ترى السعادة في اللذة وهم أصحاب الطبائع الغليظة الذين اختاروا بمحض ذوقهم عيشة البهائم. الثانية: أصحاب العقول الممتازة النشيطة الذين يرون السعادة في تحقيق المجد أو الكرامة السياسية. الثالثة: أصحاب الحكمة، أو العيشة التأملية والعقلية، وهي السعادة الحقيقية عند أرسطو.

وبما أن الأفعال ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك الخلقي وحدوده المعرفية وقدراته وأدواته في الاختيار؛ الأمر الذي جعل أرسطو يميل إلى الجمع بين فضيلة الأخلاق والمعرفة، باعتبارهما الأساسيين لبلوغ السعادة، وهي عنده الخير الذي وصفه بالغاية العظمى التي يتوقف عليها توجيه الحياة اختيارا، غير أن تلك الأفعال ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك الخلقي وبالحدود المعرفية لكل فرد، وقدراته وأدواته في الاختيار، وهو ما دعا أرسطو إلى الجمع بين فضيلتي الأخلاق والمعرفة واعتبارهما الركيزتين الأساسيتين لبلوغ السعادة، وهي عنده الخير الذي وصفه بالغاية العظمى التي يتوقف عليها توجيه الحياة اختيارا.[10]

وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان دون المخلوقات جميعها يمتلك استعداداً للسير في طريق الخير والصلاح، وأن لديه ميولا غرائزية تدفعه نحو طريق الشر، وأن الأخلاق هي المسؤولة عن مجابهة هذه النزعة، وأنها هي الدالّة على الخير، وأنّ المعايير الخلقية هي الحاكِمة فيما نقوم به من أفعال، مع الأخذ في الاعتبار، أن أرسطو يرى أن التطبيق الأخلاقي هو الكاشِف لحقيقة النظرية الأخلاقية، فالأخلاق عنده ليست خطبا أو علما نتعلمه، وإنما أفعال واقعية.

ما يعنى أن هناك نوعين من الفضيلة: الفكرية والأخلاقية.  فأما الفضائل الفكرية، فنتحصل عليها عن طريق التعليم، وأما الفضائل الأخلاقية، فتأتي من العادة والممارسة المستمرة. وقد أشار أرسطو إلى استعدادنا جميعا لأن نكون فاضلين؛ فقد ولدنا جميعا ولدينا القدرة على أن نكون فاضلين أخلاقيا، ولكن ذلك لا يأتي إلا من خلال التصرف بالطريقة الصحيحة، وأن ندرّب أنفسنا على أن نكون فاضلين من خلال الممارسة، وليس عن طريق التفكير في الأمر. ولأن الظروف العملية تختلف كثيرا عن التنظير الفلسفي، فإنه لا توجد قواعد سلوك مطلقة يجب اتباعها بدلا من ذلك، يمكننا فقط أن نلاحظ أن السلوك الصحيح يتكون من نوع ما من الوسطية بين النقيضين؛ المنع والإفراط.[11]

فـ”السعادة مرتبطة بالفضيلة الكاملة إذن، والمقصود فضيلة النفس، والنفس منها الناطقة وغير الناطقة. وهذه الأخيرة، يظهر أن جوانب تشبه فيها النفس الناطقة، ولذلك تنقاد لها؛ وذلك واضح في الشهوة. فالإنسان يتأثر بالوعظ والتأنيب والعقاب وهو فعل النفس الناطقة، فيكبح جماح شهواته وهي فعل النفس غير الناطقة. وعلى هذا الأساس، يمكن تصنيف الفضائل إلى فضائل فكرية، مثل الحكمة والفهم والعقل، وهي تخص النفس الناطقة، وفضائل خلقية مثل الحرية والعفة، وهي تخص غير الناطقة. وهكذا نقول عن خُلق الإنسان إنه حليم أو عفيف، ولا نقول عنه إنه حكيم أو فهيم”.[12]

لقد اتخذ أرسطو منذ البداية موقف سقراط وأفلاطون في محاربة اللذة، واعتبر السعادة غاية قصوى لأفعال الإنسان؛ وها نحن نلاحظ في تقسيمه للسلوك الأخلاقي أن الاقتصار على اللذة يجعل الإنسان في مرتبة البهائم؛ ذلك أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات بالفعل، وكمال وجوده مرهون بتأديته لهذه الوظيفة؛ لأنه يشارك النبات في النمو والحيوان والحس، ولكنه ينفرد دونهما بالتأمل العقلي. ومن ثم كانت مزاولة التأمل أكمل حالات الوجود الإنساني؛[13] “فالفضيلة هي من الأمور التي ترجع إلينا، إلى إرادتنا واختيارنا، وكذلك الرذيلة فهي ترجع إلى إرادتنا واختياراتنا”.[14]

 

v 2- دخول الفلسفة إلى مجال الثقافة الاسلامية

من الصعب جدّا إن لم نقل من المستبعد الحديث عن فكر فلسفي عند العرب قبل الإسلام؛ “فالفلسفة ظهرت -أول ما ظهرت – في اليونان، إذ كان اليونان أساتذة الفكر الإنساني في مجال الفلسفة […] فكان الدين اليوناني في مجمله عبارة عن أساطير غامضة”[15] كما أن العرب في الجزيرة العربية قبل القرن السابع الميلادي؛ بشكل عام كانوا على عبادة الأوثان والأصنام والأنصاب؛ ولم تملكهم الأسئلة المتصلة بالطبيعة والنفس والأشياء… بقدر ما كان يملكهم ويأسرهم البيان؛ بيان اللغة وكلماتها؛ فجمالية إيقاع ونظم بيت شعري معين قد ترفع من قيمة قبيلة ما، أو تحط منها بين القبائل؛ وهذا لا يعني أن الأنثروبولوجيا العربية في القرن السابع الميلادي كانت تتصف بالخواء العقلي في نظرتها للطبيعة وموضوعاتها؛ وللإنسان والحياة ومقتضياتها؛ “ومهما كان حال العرب عند ظهور الدين المحمدي، فإنهم لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأولى من الناحية الفكرية التي تهمنا؛ يدل على ذلك ما عرف من أديانهم وما روي عن آثارهم الأدبية”.[16]

إلا أن كل ذلك غير محكوم بنظام فلسفي معين؛ له مقدمات ونتائج “فالعرب لهم نوع آخر من التفكير العلمي دعت إليه حاجة الجماعة والبشرية؛ لا يتصل بما كان ينازعهم من مختلف العقائد والنحل؛ فالعلم عندهم بمعرفة العرب لأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم السير؛ وكانت لديهم معرفة بوقت مطالع النجوم ومغايبتها وعلم بأنوار الكواكب وأمطارها؛ على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة؛ لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم”.[17]

الحدث الأكبر والأهم في حياة العرب في القرن السابع الميلادي هو نزول الوحي، وهي ظاهرة حلت ببني إسرائيل حتى بعثة محمد بن عبد الله من نسل إسماعيل بنزول القرآن الكريم عليه؛ ولا شك أن كتاب الوحي يكتنز تصورا للوجود والإنسان والطبيعة؛ إذ يأخذ القارئ إلى عالم يتصف بالغنى من حيث المعنى والدلالة في حديثه وتصويره للموجودات والكائنات وعالم الغيب وعالم الشهادة؛ فضلا على أنه كتاب يحث على النظر العقلي والقلبي والفكر والتفكر في الموجودات؛ إلى درجة أن مجمل حججه وبراهينه يستمدها من حديثه عن الطبيعة والكون والوجود؛ مما يجعل _من القارئ _ ذاتا في أتم الاستعداد العقلي لاستحضار وجلب مختلف المعارف الإنسانية التي اتصفت بها مختلف الثقافات، بما فيها تلك التي عاصرت زمن الوحي.

فلولا الوحي -القرآن-لما تحدثنا عن شيء اسمه الحضارة الإسلامية؛ فمجمل العلوم التي تشكلت ونضجت في رحم الثقافة الإسلامية كانت تحوم حول النص خادمة وشارحة له؛ وقد صدق نصر حامد أبو زيد قوله في أن الحضارة الإسلامية حضارة نص بامتياز؛ وهي الحضارة التي استوعبت بداخلها مختلف التجارب الثقافية التي سبقتها؛ ففي هذا السياق حدث استيعاب وحضور الفلسفة اليونانية في إطار المجال التداولي للحضارة الإسلامية.

فالفلسفة نشطت في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية ما بين القرنين 9 و13 الميلادي؛ فهي “في أرض الإسلام تمثل تاريخا من تلاقي روافد مختلفة؛ فهي نتيجة تلاقح الفلسفة اليونانية وقضايا الفكر الإسلامي وتلاقي اللغتين السريانية واليونانية من جهة، واللغة العربية من جهة أخرى؛ فروافد التراث الديني الفلسفي تتشابك، حيث لا يمكن القول إن تاريخ فلسفة العصور الوسطى نابع من رافد واحد فقط هو الفلسفة اللاتينية المسيحية”. يقول ألان دوليبيرا؛ الذي قدم لنا صورة لفلسفة العصور الوسطى كحلقة من اللقاءات والتداخلات التراثية: “إن الفلسفة في الدولة الإسلامية ليست فلسفة المسلمين وحدهم؛ ولكنها تنطوي على تاريخ الفلسفات التي أنتجها المسلمون أو ساعدوا في إنتاجها بعد الفتوحات، وهي تشمل فلسفات وثنية ومسيحية وإسلامية ويهودية؛ فلسفة إسلامية قدمها علماء الدين[…] وفلسفات شرقية وغربية؛ شرق أوسطية؛ عربية وغير عربية؛ وفلسفات فارسة وتركية”.[18]

وظهور الفلسفة في العالم الإسلامي يعد استجابة لتحدي حضاري ثقافي عالمي بفعل التلاقي بين ثقافات مختلف الشعوب التي كانت في تواصل تحت إمرة الإمبراطورية الإسلامية ما بعد القرن 7م؛ فمع زيادة اختلاط المسلمين بحضارات وأديان وأعراق مختلفة، وبأشكال مدنية جديدة وعادات وأفكار وفلسفات وأنماط معيشية متنوعة وجديدة عليهم، وفي الوقت ذاته مع تشعب واشتباك الكثير من المواقف المتصلة بالوضع الساسي الذي تشكل بعد ما سمي بالفتنة زمن الخليفة عثمان وعلي؛ أي زمن الفرق الإسلامية؛ الزمن الذي شكل البوادر الأولى لعلم الكلام.

فعلم الكلام ارتبط بهدف الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية مقابل الأدلة النقلية؛ على الرغم من أن القياس وهو من أشكال المنطق، ظهر قبل التأثر بالمنطق الفلسفي اليوناني، لكن مع التوسع فيه واتخاذه أصلًا من أصول الأحكام ومصدرًا للتشريع، كان لا بد من دراسة المنطق اليوناني والتأثر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. والفقه بحد ذاته -وليس القياس فقط-هو علم نظري فكري بشري، وإن كان يستند على نص سماوي. لذا لا بد له من التفلسف، وبخاصة في المنطق الاستنباطي وليس فقط الاستقرائي، كانت تلك ممهدات لدخول الفلسفة اليونانية للفكر الإسلامي”.[19]

كان حضور الفلسفة في المجال التداولي الإسلامي باختيار وقناعة وليس بإكراه؛ والأكثر من ذلك أنه كان بفعل إرادة سياسية في عهد الخليفة العباسي المأمون؛ إذ استند على رؤية رآها في المنام، مفادها أن الخليفة المأمون رأى في المنام رجلاً أبيض اللون، مُشرّباً حُمْرةً، واسع الجبهة، جالساً على سريره. فشعر وكأنه قد مُلِئ هيبة بين يديه، فسأله: من أنت؟ فقال: أنا أرسطوطاليس. فسُرّ به، وقال: «أيها الحكيم، أسألُك؟» فقال: سَل. قال المأمون: «ما الحُسْن؟» فرد: «ما حَسُنَ في العقل»، فسأل المأمون: «ثم ماذا؟» فرد أرسطو: «ما حَسُنَ في الشّرع»، فسأل المأمون: «ثم ماذا؟» فرد أرسطو: «ما حَسُنَ عند الجمهور» فسأل المأمون: «ثم ماذا؟»، فقال أرسطو: «ثم لا»؛ أي لا يوجد شيء بعد ذلك.[20]

صحيح أن هذه الرواية الغرض منها موجه لإقناع العموم وطمأنتهم؛ ولكن إن نظرنا لها من الزاوية النفسية والاجتماعية وحتى الثقافية، فهي تؤرخ لعملية تدشين رسمية لورش استيراد وإدخال فكر غير معهود يتجسد في الفلسفة التي شاع أمرها في العالم الإسلامي بشكل أكبر عند إنشاء «بيت الحكمة» من لدن المأمون في بغداد سنة 217هـ؛ لتحافظ على اسمها اليوناني، وهو “فيلوزوفيا” الذي عرب إلى كلمة “فلسفة” التي اشتق منها اسم “فيلسوف”؛ وقد استعمل الفلاسفة إلى جانب كلمة فلسفة كلمة “حكمة”؛ وقد اشتق منها  اسم “حكيم” وعلوم الحكمة؛ وكلمة الحكمة هذه؛ نجد لها وجودا من داخل سور القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ قال تعالى:[يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)] (البقرة) ولعل استبدال كلمة الفلسفة بكلمة “الحكمة” كان بسبب الوعي بأهمية تبيئة أفكار وتصورات الفلسفة؛ تبيئة تنسجم مع خصوصيات العالم الإسلامي حينها، وهي تسمية لها أصل في مرجعية الإسلام؛ أي القرآن “ويكاد يتفق اللغويون على أن الحكمة تتكون من عنصري العلم والعمل؛ فإن الحكمة لغة اسم للعلم المتقن والعمل به. ألا ترى بأنه ضده السفه؛ وهو العمل على خلاف موجب العقل؛ وضد العقل الجهل؛ وقد استخدمت كلمة الحكمة وما أخذ منها بواسطة العرب قبل الإسلام؛ فكانت تدل على وجهة التفكير عند العرب كما تطلق على الحكام أي ذوي الأمر والحكم والفتوى؛ وعبر بها أيضا على أهل الطب”.[21]

ومن بين التعريفات الاصطلاحية التي عرف بها فلاسفة الإسلام الفلسفة؛ تعريف الفارابي؛ في كتابه: “الجمع بين رأيي الحكيمين” قوله: “الفلسفة حدها وما هيتها أنها العلم بالموجودات؛ بما هي موجودة؛ وكان هذان الحكيمان هما مبدعان للفلسفة ومنشئان لأوائلها وأصولها ومتممان لأواخرها وفروعها؛ وعليهما المعول في قليلهما وكثيرهما؛ وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها؛ وما يصدر عنهما في كل فن إنما هو الأصل المعتمد عليه لخلوه من الشوائب. بذلك نطقت الألسن وشهدت العقول؛ إن لم يكن من الكافة؛ فمن الأكثرين من ذوي الألباب الناصعة والعقول الصافية”.[22] يختزل لنا هذا النص طبيعة الحالة العقلية والنفسية التي عليها الفارابي من جهة، كما أنه يؤرخ لواقع أنثروبولوجي عربي حينها؛ لحظة انفتاحه على متون الفلسفة من جهة أخرى؛ فالنص يعبر عن حالة من الصدق لدى الفارابي وهو يصرح بالقول إنه ينبغي التعويل على الحكيمين في خوض غمار الفلسفة، وهو يقصد أفلاطون وأرسطو.

وعرف ابن سينا الفلسفة بقوله: “الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصوّر الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية”، وتبعه في هذا التعريف محمد بن إبراهيم الشيرازي[23]

تبعا للتعريفات السالفة الذكر، بقيت الفلسفة كقسم ومجال علمي جديد لا يقع ضمن نطاق العلوم الإسلامية أو ضمن علوم الدين؛ والواقع أن الفلسفة تعرضت لعملية أسلمة وأعني بذلك الاستحواذ على الفكر اليوناني الذي لم يترجم فقط، ولكن تم دمجه وصهره في بوثقه  الفكر الإسلامي؛[24] إلى درجة تم تقديم أرسطو بأنه رجل موحد؛  على حسب رؤيا المأمون في المنال؛ فأرسطو رجل يجمع ما بين العقل والشرع؛ ويجعل من العقل مسلكا وطريقا لفهم الشرع وتأويله؛ والعقل هنا تبعا لتصورات أرسطو لماهية العقل كما تتصوره الفلسفة وليس كما هو وارد في القرآن؛ وتبعا لهذه الرؤيا في نوم المأمون؛ فحضور الفلسفة في مجال التداول الإسلامي هو حضور مرتبط بهدف فهم أمر الشريعة؛ فرؤيا المأمون هذه، تستمد مشروعيتها من الشريعة، خاصة إذا استحضرنا رؤية يوسف الواردة في القرآن الكريم؛ وبهذا تكون الفلسفة أخذت مشروعية الحضور من خلال الشريعة وفي الوقت ذاته سيتقوى حضور الشريعة وفهمها تبعا للسياق والتحدي الحضاري حينها؛ فالعلاقة فيها استفادة بين طرفي كل من الشريعة والفلسفة؛ رؤيا المأمون الذي عاش ما بين (170 هـ/ 218 هـ ) تجسدت معرفيا من خلال كتاب ابن رشد (520 هـ /595 هـ) من خلال كتابه: “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” فعنوان قضية الكتاب تأكيد وبرهان على صواب مضمون رؤيا المأمون؛ وهذا يعكس بأن هناك صفّا آخر لا يرضى بهذه الطريق التي ينظر بها لعلاقة الشريعة بالفلسفة على طول الزمن الذي يفصل بين المأمون وابن رشد؛ وهذا يعني أن العالم الإسلامي قطع أشواطا طويلة في الجدل المعرفي والخصومة الفكرية، في طبيعة العلاقة المنهجية ما بين الشريعة والفلسفة، وهي مسألة في تقديرنا تعود إلى مسألة الأخلاق في علاقة موضوعات الأخلاق بنظرة الإنسان لذاته ولعالم الغيب ولعالم الشهادة/ الطبيعة.

لقد “عرف مفكرو الإسلام الفلسفة اليونانية في مراحلها المختلفة، وبينوا بأن هناك فلسفة قديمة وفلاسفة طبيعيين، أو بالدهريين أحيانا … ثم مزجوا بين سقراط وأفلاطون وشعروا بأن هناك خلافا كبيرا بين الفيلسوفين ومن سبقهم؛ وأن هناك الفلسفة التصورية أو العقلية، ثم عرفوا أن أرسطو المنطقي أحسن ما يكون واعتنوا بكتبه المنطقية، ووصلت ترجمات هذه الكتب؛ وأشهرها الدستور… أما نظريات أرسطو الطبيعية والميتافيزيقية، فقد شوهت تحت تأثير الأفلاطونية المحدثة. أما مدارس ما بعد أرسطو، فقد وصلت إلى المسلمين من خلال طرق متعددة وكانت لهم بها معرفة طيبة”.[25]

v 3- فلاسفة الإسلام ومفهوم الأخلاق

يعد علم الأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية عادة من العلوم المعيارية؛ أي لا تقتصر على دراسة ما هو كائن أو الأوضاع الراهنة، ولكن بما ينبغي أن تكون عليه. لذا، فإن مهمته هي وضع الشروط التي يجب توافرها في الإرادة الإنسانية وفي والأفعال الإنسانية، لكي تصبح موضوعا لأحكامنا الأخلاقية عليها؛ فأول مسألة تواجه الدارسين لموضوع الأخلاق هي معرفة الفرق بين الإرادة الخلقية والإرادة الطبيعية؛ فأفعال الإنسان وسلوكه منه ما هو صادر من دوافع غريزية شأنه في ذلك شأن الحيوان، ومنها ما يخضع للقواعد والمبادئ الإنسانية الصحيحة.[26]

وموضوع الأخلاق في الثقافة الإسلامية شمل ثلاثة مجالات:

  • مجال الفلسفة الإسلامية التي مثلها كل من الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم؛ وقد جمعوا بين الجانب النظري وجانب الطب متأثرين بالفلسفة اليونانية.
  • مجال علم الكلام، وهو مجال لا يتصف بمذاهب أخلاقية متكاملة؛ وقد عالج أهله موضوعات أخلاقية من قبيل الخير والشر والحسن والقبح والاختيار والجبر.
  • مجال التصوف ويعد أهم أعلامه بأنهم أعلام أخلاقيين بامتياز،[27] وهو مجال خضع هو الآخر للتأثير خارجية.

هناك اتجاه يرى بأن التفكير الفلسفي في دار الإسلام له أصول أصيلة وينابيع تتصل بالعرب قبل دخول الفلسفة اليونانية؛ وهذا ما قاتم به مصطفى عبد الرازق (1885-1947) فالقارئ لكتابه “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، سيدرك تلك النزعة البحثية في الحفر المعرفي أن آثار ووجود مكونات للفكر الفلسفي لدى العرب والمسلمين في مجال الرأي وأصول الفقه وعلم الكلام؛ والقارئ كذلك لمؤلفات علي سامي النشار (1917-1980)، سيجده يؤكد  أن التفكير الفلسفي في الإسلام في الجانب الميتافيزيقي منه يعرضه علم الكلام، وفي الجانب المنهجي والعملي منه يعرضه علم أصول الفقه قبل دخول الفلسفة اليونانية، وهي الفلسفة التي أثرت على الفلسفة الإسلامية من وجوه متعددة؛ وهذه مسألة أثارت الكثير من الأسئلة ما بين المختصين؛ وفي يومنا هذا هناك من يدعو إلى تأسيس علم الكلام الجديد على رأسهم العراقي عبد الجبار الرفاعي وقد أصدر كتابا سنة (2021م) في الموضوع تحت عنوان: علم الكلام الجديد.

الفلسفة الإسلامية الكندي

بدأ تاريخ الفلسفة الإسلامية بالكندي(175 – 252 هـ / 801 – 867 م)، فهو أول فيلسوف في الإسلام، كان عالما بالطب وبالفلسفة وغيرهما من علوم الأوائل؛ عهد إليه المأمون بترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، كما اهتم الكندي بدراسة فلسفة علماء الهند، وفسر نظرياتهم، وعلق عليها، وكتبها بأسلوب مفهوم لمعاصريه، حتى إن فلاسفة ذلك العصر أقبلوا على إنتاج الكندي إقبالاً مدهشاً، لحسن اختياره للكتب التي ترجمها، ووضع أسلوبه في القالب المقبول؛ ويعدّ الكندي من كبار المفكرين والفلاسفة العرب، وقد اشتغل في بغداد فلكياً، وطبيباً، وفيلسوفاً، ومات هناك . وكان يمارس نشاطه العلمي في عهد الخليفة المأمون الذي اهتم به وبمؤلفاته وشجعه على الإنتاج العلمي وبخاصة في الفلسفة.

“أما عن نزعته الفلسفية العامة، فإن رسائله في الطبيعة وما بعد الطبيعة تكشف بوضوح عن ميول أرسطية، غير أن رسائله في النفس تبتعد به عن أرسطو ابتعادا وتربطه بأفلاطون ربطا مباشرا؛ فهو يرى بأن أفلاطون شيخ الفلاسفة وعظيمها يرى أن في الإنسان ثلاث أنفس؛ يسمي إحداها النفس الناطقة والإلهية، والأخرى يسميها الغضبية والحيوانية، والأخرى يسميها النباتية والنامية والشهوانية”[28] مجال الأخذ هنا بين وظاهر، فما قال به أفلاطون حول النفس تبناه الكندي.

بالانتقال إلى ابن سينا (370 – 427 هـ / 980 – 1037 م) نجد نفس الحضور حضور تصورات كل من أرسطو وأفلاطون؛ فمن منظور ابن سينا فالبدن يرتبط بثلاثة أنواع من النفوس: “النفس الطبيعية المتصلة بالكبد؛ والنفس الحيوانية المتصلة بالقلب؛ والنفس الروحية الإنسانية الكائنة في العقل، فالنفسان الطبيعية والحيوانية تخدمان النفس الإنسانية، فهي المختصة بالإنسان وهي التي تميزه بالعقل والحكمة والمعرفة والإدراك عن غيره من الحيوان؛ وهذا التمييز ليس من جهة البنية الطبيعية التي تشترك فيها الأنفس البشرية جميعها، من جهة الغلبة التي تفرضها النفس الإنسانية العقلانية؛ وتوجه أجزاءه المختلفة نحو التوظيف الصحيح للكل برعاية العقل، وهي المسماة بالنفس المتعالية، وهي أعلى ملكة العقل الفعال الذي يغذيها بالحقائق المعقولة”.[29] فمهمة العقل أو النفس العاقلة هي قمع أو دفع أو صرف أو التخفيف حسب الأحوال من جنوح النفس الشهوانية.[30] ولم يكتفي فلاسفة الإسلام بالجانب النظري لموضوع النفس والأخلاق؛ بل اهتموا بجانب طب النفس؛ إلى جانب طب البدن؛ كما هو الأمر مع الرازي (-320هـ) و ابن سنان (-363هـ) هذا الأخير وجه نداء إلى الحكام و المحسنين؛ مفاده إنشاء بيمارستان خاص بطب الأخلاق؛ على غرار بيمارستان طب الأبدان.[31]

اشتهر الفارابي (260 – 339 هـ/ 874 – 950 م) بنشر المنطق في الثقافة الإسلامية، حتى لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو؛ وكان الوحيد الذي اهتم اهتماما بالغا بالسياسة والأخلاق في إطار الجمع بين أفلاطون وأرسطو والدمج بين الدين والفلسفة. وقد وظف في هذا الوضع نظرية الفيض التي ترجع إلى الأفلاطونية المحدثة.[32] لقد بدأ الفارابي؛ “بمناقشة الفضائل النظرية وبتلخيص عناصر نظرية أرسطو في المعرفة العلمية: غايتها القصوى؛ وتقسيمها إلى نظرية مكتسبة وتقسيم المعرفة المكتسبة إلى ما يتم اكتسابه بالفيض والاستنباط؛ والتعلم؛ والدراسة؛ والتمييز بين المقدمات والنتائج ووصف هذه الأخيرة بالاعتقاد الذي يمكن أن يكون إما الرأي أو العلم. أما الاهتمام بالأمم بالمدن وبالناس كمواطنين، فيضعه جانبا، ويتكلم عن المعرفة بالأشياء باعتبار أن الإنسان كفرد يمتلكها بشكل فطري، أو يسعى إليها أو يكتسبها”.[33]

حضور أثر الفلسفة اليونانية بارز في ما كتبه فلاسفة الإسلام، حتى من جهة عنونة كتبهم فالفارابي له رسالة بعنوان (آراء آهل المدينة الفاضلة ومضاداتها) على غرار كتاب المدينة الفاضلة لأفلاطون؛ ونحن هنا لسنا بصدد البحث حول كيف كان ذلك الحضور، ولكن الذي يهمنا هو التنبيه إلى حضور المتن اليوناني الفلسفي داخل المتن الفلسفي الإسلامي، وهي مسألة بديهية من جهة استفادة نص لا حق بنص سبقه، ولكن الذي ينبغي أن يقرر فيه الباحثون والدارسون؛ هل تلك الاستفاضة من لدن فلاسفة الإسلام كانت على وعي بتجريد الفلسفة والنصوص اليونانية من خلفياتها الأيديولوجية ومما ارتبطت به من سياقات تتصل بالمحيط والزمن الذي تشكلت فيه، أم إن تلك النصوص حضرت بحمولاتها وكل ما اتصل بمجال الثقافة اليونانية.

كل ما اشتغلت به الفلسفة الإسلامية هو اشتغال يدور حول العمل على تقديم تفسيرات جوهرية للدين؛ ففيما يتعلق مثلا برحلة النفس البشرية نحو الحقيقة التي بالإمكان أن تقرأ في ضوء أفكار كل من أفلاطون وأرسطو، وهذا أمر حاضر لدى مختلف فلاسفة الإسلام؛ بتبنيهم لتقسيمات وتصورات الفلسفة اليونانية لموضوع النفس؛ وماهيتها وكيف بالإمكان إصلاحها وتقويمها، وكيف يكون العقل ضابطا وموجها للنفس. وكما سبق، فالحديث عن النفس في حد ذاته هو حديث عن الإنسان وعن الأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان، ومن بين الإشكالات الناتجة عن تبني الاعتماد على العقل كجوهر في هداية النفس؛ هي هل العقل يمكن الاعتماد عليه لوحده، ونحن نلامس في زماننا الكثير من الأحداث باسم العقل، وهي من اللامعقول في مجال الأخلاق؟ من قبيل الإقبال على صناعة وتطوير أسلحة الدمار الشامل؛ ومن قبيل الاستغلال المفرط للطبيعة؛ والتلوث البيئي؛ ومن قبيل تشيئ الإنسان واختزاله في بعده الجسماني والبيولوجي فقط؛ والإعراض عن بعده الروحي.

يرى طه عبد الرحمن بأن العقل ليس جوهراً قائماً بذاته في الإنسان، ومكتفياً ومستغنياً عن غيره، ويستخدم لتحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة واليقين. فالعقل يدخل في باقي الأفعال الإنسانية، فمثلاً، المبصر يبصر، وهو يعقل في بصره، والسامع يسمع وهو يعقل في سمعه، والعامل يعمل وهو يعقل في عمله. وما دام العقل فعل من الأفعال، فلابد له من ذات حاملة لهذا الفعل، هذه الذات يحددها طه عبد الرحمن في القلب، فيكون القلب هو الذي يختص بالفعل العقلي، فالعقل والعقلانية متعددة عكس ما يرى الكثير من الدارسين، إذ العقلانية في نظر طه عبد الرحمن على قسمين كبيرين، فهناك العقلانية المجردة من الأخلاقية، وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسددة الأخلاقية التي يختص بها دون سواه، وخطأ المحدثين أنهم حملوا العقلانية على المعنى الأول، وخصوا بها الإنسان.[34]

موضوع النفس حاضر بقوة في سياق التصور القرآني، ولكن حضوره ذو بعد ليس بالضرورة هو نفس البعد والفلسفة التي تقول بها الفلسفة اليونانية لموضوعات النفس والأخلاق؛ السؤال هنا هل فلاسفة الإسلام في بسطهم لموضوعات النفس والأخلاق كان منطلقهم المعرفي من القرآن أم من متون الفلسفة اليونانية؟ وعندما نتحدث هنا عن القرآن ليس بوصفه نصا دينيا فحسب؛ ولكن بكونه نصا مفتوحا على العالم والإنسان؛ فمجمل نصوصه تتحدث عن الطبيعة والكائنات والموجودات… وكل ذلك يأتي تبعا لرابط وناظم وتصور أخلاقي؛ صحيح بأنه لا يهتم بالجزيئيات لكونه ليس كتاب علم، ولا يهتم بأسئلة الفلسفة؛ لأنه كتاب ليس للفلسفة، ولكن يكتنز بين طياته آفاقا واسعة وطاقة خلاقة للتأمل في الوجود بقيمة أخلاقية والقيمة الأخلاقية هنا بالنسبة إليه تأتي في دائرة المعقولات. ففي جداله مع الذي يتنكرون له، نجد أن “الكون ونظامه والقرآن وبيانه هما العنصران الرئيسيان في الإطار المرجعي الذي يستند إليه العقل في القرآن في صراعه مع اللاعقل، أي مع المشركين وغيرهم. بمعنى كون القرآن الكريم يستند على الكون ونظامه في مفهوم العقل والدعوة إلى إعمال العقل”.[35]

الوعي بهذه الإشكالية المعرفية كان حاضرا في جوف الثقافة الإسلامية، وهي تتلقى الرافد اليوناني برضا منها كما أشرنا من قبل، وليس بغزو وإكراه. وهذا الوعي اتجه نحو الخصومة المعرفية، ليس حول الفلسفة كصفة إنسانية، إن صح القول، ولكن حول طبيعة ومنهج ورؤى استحضارها والتعاطي معها وحول إرجاع الفلسفة إلى أصلها المعرفي اليوناني المبني على تصورها للعقل كأعلى قيمة في الوجود، ولم تدرك أبدا أن هناك قوة أعلى من العقل “تستطيع أن تكشف للإنسان حقائق الكون وعالم الغيب، وأن تجعله يؤمن بكل هذه الحقائق، وأن يعيشها بنفسه. هل استطاعت الروح اليونانية أن تكشف فكرة الخالق، وأن تتصور الخلق من لا شيء”[36] وهذه حقيقة أخرى وسياق معرفي آخر يتصل برؤية القرآن للعالم والإنسان.

من حسنات الفلسفة بمعزل عن وجهها اليوناني أنها كانت محرضة على النظر والتفكير في الموجودات والكائنات، بما تجمع في طياتها من معرفة تتصل بالطبيعيات والرياضيات والمنطق… وهي من بين العوالم التي دفع القرآن القارئ للتفكير فيها؛ فالكون ونظامه كما أشرنا سالفا يعد مدخلا برهانيا واستدلاليا من داخل المنظومة القرآنية، والأكثر من ذلك أن القرآن يربط العقل والتفكير بعالم الكون. ولهذا فمن البديهي أن يجد علماء الإسلام وفلاسفته ضالتهم في الفلسفة اليونانية، وبالأخص معرفتها في كل ما اتصل بعالم الطبيعة. وقد نتج عن هذا التناغم والتحاور ظهور عباقرة كبار في عالم الطب والرياضيات والفلك، ولولاهم لتأخر الركب الحضاري للإنسانية كثيرا؛ ولا شك أن الشريعة؛ أي القرآن أعطاهم سندا أخلاقيا ليكون العلم والبحث في الطبيعة مدخلا للإصلاح والإعمار فيها بدل الفساد؛ ولكن لم نجد لهم تصورات فلسفية ونظم معرفية تعكس وعيهم بطبيعة التداخل لفلسفة الأخلاق كما هي في الوجود والطبيعة وكما هي في القرآن ذاته؛ فلا تعارض ما بين الكتابين كتاب الوجود وكتاب الوحي؛ ولم نجد لهم تصورات عن النفس والأخلاق تستند لرؤية القرآن؛ بل برعوا في تقريب ومقاربة تصورات الفلسفة اليونانية؛ وهذا أمر محمود؛ ولكن لا ينبغي الوقوف عنده.

يتبع

 

المصادر والمراجع:

[2]  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، مصر، 2012م، ص.18

[3]  محمود محمد نفيسة، أثر الفلسفة الإسلامية على علم الكلام الإسلامي، دار النوادر؛ ط.1، 2006؛ ص.18

[4]  أنظر: توفيق الطويل؛ الفلسفة الخلقية، دار المعارف، 1967م

[5]  تاريخ الفلسفة اليونانية؛ م. س. ص. 94

[6]  نفسه، ص.94

[7]  مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، دار الكتب العلمية، لبنان، ط.1، 2004م، ص. 43

[8]  نفسه، ص.42

[9]  محمد عابد الجابري، نقد العقل الأخلاقي العربي، مركز الوحدة العربية، لبنان، ط.5، 2012م، ص. 262-263

[10]  الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، م. س. ص. 45

[11]  نفسه، ص. 45

[12]  نقد العقل الأخلاقي العربي، م. س. ص. 270

[13]  الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام؛ م. س. ص.  45

 [14]نقد العقل الأخلاقي العربي، م. س. ص. 274

[15]  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج.1، دار المعارف، القاهرة، ط.9، ص.29

[16] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2010م (دون ذكر؛ ع.؛ ط.) ص. 117

[17]  سيرة ابن هشام، وطبقات الأمم؛ نقلا عن، مصطفى عبد الرازق؛ تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2010م (دون ذكر؛ ع.؛ ط.)  ص. 121-122

[18]  سليمان بشير ديان، دعوة إلى العقلانية، ترجمة؛ طلعت فاروق محمد؛ مراجعة، سعيد فارس حسن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان؛ ط.1؛ 2020م؛ ص. 31-32

[19] موقع مجلة الفيصل، عبد الرحمن الحبيب، أثر الفلسفة اليونانية في الفكر العربي في العصر الوسيط  https://www.alfaisalmag.com/?p=2740

[20]  الرواية أوردها؛ ابن النديم، في كتابه الفهرست؛ نقلا عن دعوة إلى العقلانية، م. س. ص.31

[21]  مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية؛ الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2010م (دون ذكر؛ ع.؛ ط.) ص. 121 (بتصرف)

[22]  نقلا عن؛ المرجع نفسه، ص. 64

[23]  نقلا عن، المرجع، نفسه، ص. 71

 [24]  دعوة إلى العقلانية، م. س. ص. 43

[25]  سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج.1، دار المعارف، القاهرة، ط.9،  ص.111 (بتصرف)

[26] الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، م. س. ص. 15(بتصرف)

[27]  نفسه، ص. 105

[28]  نقد العقل الأخلاقي العربي، م. س. ص. 296 (بتصرف)

[29] دعوة إلى العقلانية، م. س. ص. 49

[30] نقد العقل الأخلاقي العربي، م. س. ص. 297

[31] نفسه، ص. 313

[32] نفسه، ص. 345 (بتصرف)

[33] الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، محسن. س. مهدي، ترجمة وداد الحاج حسن، دار الفارابي؛ بيروت، لبنان؛ ط.1؛ 2009م؛ ص. 236

[34]  انظر: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان (الدار البيضاء، المغرب)، 2006م، ص. 63 (بتصرف)

[35]  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.11، 2011م، ص. 139

[36]  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج.1، دار المعارف، القاهرة، ط.9، ص. 115

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete