تكوين
- سائرون في طريق النمو…إلى متى؟
دومًا نعيش في أوطاننا ذلك الحنين إلى التقدم والتطور، فكلما بحثنا عن تصنيفنا الأممي إلا وجدنا أنفسنا دولًا سائرة في طريق النمو، أي دولا ترنو إلى مراتب متقدمة في التصنيف الأممي دون أن تدركها، ويبقى السؤال مطروحا: هل النمو والتنمية والتطور نتائج طبيعية للعمل والاجتهاد والإنتاجية؟ أم التخلف والانحطاط هو حتمية وقدر تغرق فيه مجتمعاتنا دون أن تعرف السبيل إلى الخروج منه؟ لعلها أسئلة تضعنا أمام المحك الحقيقي لنراجع خياراتنا وأولوياتنا وواقعنا، على ضوء ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم ساحق في جميع المجالات، وما حققته بعض المجتمعات كانت بالأمس القريب تقبع أيضًا في غياهب وبراثن التخلف والانحطاط.
لكن لكي نجيب عن سؤال التخلف والسقوط والتراجع الدراماتيكي للمجتمعات العربية والإسلامية، يلزمنا أن نكون أكثر شجاعة في مواجهة المصير، وأن ندرك كذلك بأن التنمية ليست فقط موارد اقتصادية ومادية وتجارية وأرقاما في أسواق المال والبورصات العالمية، بل هي أيضًا واقع اجتماعي وثقافي وفكري وديني يستطيع أن يمهد لكل الأرقام الاقتصادية أن تعلو وتنمو. وما دامت مجتمعاتنا محصنة بحصون التخلف والانحدار والتراجع، فإن الشروط الفعلية لأي عملية تنمية تبقى خارج الحسابات، ونحن نرى كيف أن الطائفية والمذهبية الدينية والنزعات العرقية والنزاعات المسلحة وغياب التداول السلمي على السلطة تقض مضجع الجميع، وتجعل كثيرًا من دولنا دولًا فاشلة وفق تعبير نعوم تشومسكي[1]، أي تلك الدول التي لا تستطيع حماية مواطنيها من العنف وربما من الدمار نفسه، كما ترى نفسها دولًا فوق القانون، ومن ثمَّ ترتكب ما يحلو لها دون حسيب أو رقيب، ناهيك عن افتقارها إلى الحس أو السلوك الديمقراطي في كل مساراتها الداخلية والخارجية.
من هذا المنطلق فمقاربة مسألة التنمية من منظور أحادي واختزالي يقرؤها بوصفها أرقامًا على لوحات اقتصادية هنا وهناك، لم تعد مقاربة فعالة ومنتجة في وسط يغرق في أتون الطائفية والنزاعات السياسية الأبدية، بل علينا أن نقارب سؤال التنمية من طريق رؤية منفتحة على العالم الذي سبقنا لطرح السؤال، وربما قد سبقنا أيضًا إلى اجتراح الحلول الممكنة لهذا الداء الثقافي المستعصي على الفهم والنظر. هنا يمكننا أن نلتقي مع إحدى المقاربات التنموية ذات الصيت العالي، والوجاهة الفاعلة في عالم اليوم، والإنتاجية المعتمدة أيضًا على عديدٍ من الدراسات والأبحاث التي تشبه شبهًا كبيرًا مكونات ثقافتنا وتركيبة مجتمعاتنا. إنها أطروحة أمارتيا صن التنموية. لذا يحق لنا أن نتساءل:
ما الحاجة إلى أمارتيا صن؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بد من أن نتعرف بداية عن جزء من سيرته وحياته أو لنقل، نُبذة عن أهم فترات مساره الفكري والسياسي.
من هو أمارتيا صن؟
وُلد عام 1933 في شانتينيكيتان، ولاية البنغال الغربية. وبعد أن تلقّى تعليمه في الهند وبريطانيا بدأ مسيرة مهنية مرموقة، واشتهر بأبحاثه في نظرية الاختيار الاجتماعي والفلسفة السياسية واقتصاد التنمية. كما شغل مناصب أستاذية في جامعة جادافبور ودلهي وكلية لندن للاقتصاد وجامعة أكسفورد وجامعة هارفارد.
حصل أمارتيا صن على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 تقديرًا لإسهاماته في اقتصاد الرفاه. لقد أضفى روحًا جديدة على مجال اقتصاد التنمية من طريق دراساته عن الفقر الجوع والمجاعات وعدم المساواة بين الجنسين. كما تميزت أفكاره بالإبداع وطابعَ التحدي. وكان لعمله في هذا المجال أيضًا تأثيرًا بالغًا.
خضع أمارتيا صن كما يبدو لتحول أيديولوجي مهم. فعلى الأقل حتى سن الخامسة والعشرين –وهو العام الذي حصل فيه على الدكتوراه من كلية ترينيتي في جامعة كامبريدج– كان يؤمن بأن على الهند أن تفرض اقتصادًا بوسائل إنتاج اجتماعية وغيابًا لدخل الملكية، عبر التخطيط الحكومي. أما اليوم فيبدو أن صن يعتنق رؤية اشتراكية ديمقراطية تقليدية، وغالبًا ما يُظهر موقفًا إيجابيًا لا لبس فيه تجاه الأسواق. فبين عامي 1951 و1953، التحق صن بـكلية بريزيدنسي في كالكوتا. وفي سيرته الذاتية الرسمية لجائزة نوبل، كتب:
“بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى كالكوتا للدراسة في كلية بريزيدنسي، كانت لدي رؤية شبه مكتملة عن الهُوية الثقافية (بما في ذلك فهمًا لتعدديتها التي لا مفر منها، وضرورة استيعابها دون إنكار طائفي). لكني كنت ما أزال أواجه صراعات الولاء بين التوجهات السياسية المختلفة: مثلًا، التضارب الممكن بين العدالة الجوهرية من جهة، والتسامح العالمي من جهة أخرى، وهما أمران كانا يجذبانني في الوقت ذاته. كان مجتمع الطلبة في الكلية نشطًا سياسيًا بدرجة كبيرة. وعلى الرغم من أنني لم أكن متحمسًا بما فيه الكفاية للانضمام إلى أي حزب سياسي، إلا أن رُوح التعاطف والالتزام بالمساواة التي اتسم بها “اليسار” كانت تجذبني كثيرًا، كما كانت تجذب أغلب زملائي في تلك الكلية الأرستقراطية بطريقة غريبة[2].
هذه النظرة الموجزة عن أمارتيا صن تعود بنا لنسأل من جديد: لماذا نحتاج إلى هذه المقاربة؟ ولماذا يراها صِن أمرا مُلِحّا لإعادة تقييم التنمية داخل مجتمعاتنا؟
تنبع أهمية الجواب عن هذه الأسئلة من الانقلاب الذي أحدثه منظور أمارتيا صن لمفهوم التنمية، فهو لم يكتفِ بالتعريفات السابقة لها، بل أضاف إليها مجموعة من القيم والمفاهيم والمؤشرات التي لم تهتم بها باقي التعريفات. وقبل أن نتناول بالتحليل منظور أمارتيا صن قيد الدراسة، يلزمنا أن نضع بين يدي القارئ لمحة تاريخية عن هذا المفهوم جمعها جون رونالد لوكوتي Jean Ronald Legouté، موضحا التطور المنهجي والتاريخي للمفهوم.[3]
التطور التاريخي لمفهوم التنمية
يقول جون رونالد بأن مفهوم التنمية يخضع لمنظورات متعددة، وكل منظور ينطوي على وجهة نظر تختلف تبعًا للمُسلّمة الضمنية، التي تُعدّ بمنزلة نقطة الانطلاق للتفكير الذي يحمله. وهكذا، تبرز نزعتان في طريقة فهم نشأة التنمية:
- الاتجاه الأول، يشير إلى فكرة التقدّم والتطوّر التاريخي، ويرى أن التنمية ظاهرة قديمة قِدَم المجتمعات البشرية، إذ يرى أن هناك دائمًا دولًا متقدمة وأخرى متخلفة، دولًا مزدهرة وأخرى تعاني البؤس. الكتّاب الذين يتبنّون هذا التوجه يُرجعون أصل التنمية إلى الثورة النيوليتية[4] (الثورة الزراعية). ويؤكدون أن التنمية كانت دائمًا موجودة، لكن لم يكن هناك لفظ يعبّر عنها.
- أما الاتجاه الثاني، فيسعى في تقديم قراءة دقيقة لتاريخ الظاهرة انطلاقًا من ظهور مفهوم التنمية ذاته. ويستند إلى رؤية ثنائية ترى التنمية ضرورة علاجية، فرضت نفسها منذ لحظة الوعي بظاهرة التخلّف. وإذا كان من المقبول الإقرار بأن الظاهرة، عند النظر إليها من داخل منظور التغيّر الاجتماعي، كانت دائمًا موجودة، فيجب في المقابل الاعتراف بأن مفهوم التنمية، بالمعنى الدقيق للكلمة، يظل بناءً حديثًا جدًا.
في الواقع لم يبدأ مصطلح “التنمية ” في الظهور إلا في أواخر الخمسينيات، حين ورد في بعض الأعمال القليلة المتفرقة. وقد ارتبط تصوّره ونشره ارتباطًا مباشرًا وصريحًا بظاهرة التخلف .ففي اللغة الفرنسية، لم يكن مصطلح “développement” بالمعنى الاقتصادي موجودًا إطلاقًا في “قاموس العلوم الاقتصادية” الذي نُشر عامي 1956 و1958 تحت إشراف جان روموف، في الوقت الذي استُعمل فيه المصطلح استعمالًا متقطعًا في مقال بعنوان: “نظرية عامة للتقدم الاقتصادي“، الذي يمكن عده -في نهاية المطاف- “محاولة في موضوع التنمية” نشر في دفاتر المعهد العالي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية – العدد 47 – عام 1956.
يُعدّ فرانسوا بيرو أحد الأوائل الذين لم يقتصروا على استخدام المصطلح، بل عملوا لتوضيح دلالاته، حين استعمله في كتابه “التعايش السلمي” (1958)، كما عنون الفصل الثالث من كتابه الآخر “اقتصاد القرن العشرين (1961) بعنوان “مفهوم التنمية”. وفي الحقيقة لم ينتشر مصطلح “التنمية” انتشارًا واسعًا إلا مع نهاية السبعينيات. فقد ظهر في:
- قاموس العلوم الاقتصادية لالان كوتا (1968)
- المعجم الصغير للاقتصاد لروزمون بوجول (1968)
- معجم مصطلحات الاقتصاد لغيلبير ماثيو (1970)
وفي المقابل، كان غائبًا عن:
- المعجم الاقتصادي والمالي لييف برنار، وج. س. كولي، ود. ليفاندوفسكي (1975)
لم يدخل المصطلح إلى المعاجم اللغوية إلا في وقت متأخر، وما يزال ارتباطه بالتخلف واضحًا فيها، فمثلًا: معجم روبير لا يذكر إلا العبارة التالية: بلدان أو مناطق في طور التنمية أو قيد التنمية: أي أن اقتصادها لم يصل بعد إلى مستوى أميركا الشمالية أو أوروبا الغربية، وهي الصيغة التي تتبنّاها الأمم المتحدة. ومع ذلك فإن حداثة مفهوم “التنمية” لا تنفي وجود حالات استخدام مبكر ومعزول له. ففي الترجمة الفرنسية لعام 1908 من الكتاب الكلاسيكي لـ غوستاف شمولر (مبادئ الاقتصاد السياسي)، نجد أن الفصل الختامي من المجلد الخامس يحمل عنوان:
“نظريات التنمية الاقتصادية“. لكن على العموم فإن مصطلح “التنمية” ظهر في وقت أبكر بكثير في العالم الأنجلوساكسوني بمعناه الاقتصادي. وقد اعتمد عديدٌ من الباحثين هذا المسار التاريخي في تتبّع تطوّر مفهوم التنمية.
لا يظهر مصطلح “التنمية” إلا ظهورًا متقطعًا في ثلاثينيات القرن العشرين، خصوصًا عام 1934 بفضل كتاب جوزيف شومبيتر الذي حمل العنوان الإنجليزي The Theory of Economic Development، وهو ترجمة حرفية للعنوان الألماني الذي نُشر عام 1911.
وجدير بالذكر أن الترجمة الفرنسية التي صدرت عام 1935 استخدمت عبارة “التطور الاقتصادي“ بدلًا من “التنمية”.. كما يجدر بنا الإشارة إلى أن استخدام مصطلح “التنمية” يرجع إلى عام 1909، حين أنشأ البرلمان البريطاني “لجنة التنمية” (Development Commission) بهدف “تعزيز التنمية الاقتصادية للمملكة المتحدة”..
إقرأ أيضًا: المستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو قارئا للقرآن الكريم
غير أن المدرسة الماركسية هي التي يعود إليها الفضل -في نهاية المطاف- في تطبيق هذا المصطلح على الاقتصاد البريطاني. فقد استخدمت أول ترجمة إنجليزية لكتاب “رأس المال”، التي نُشرت عام 1887، هذا المصطلح في سياق الإشارة إلى “المراحل التاريخية لأنماط الإنتاج”.. من جهة أخرى استعمل بعض مؤرخي الإمبراطورية البريطانية أيضًا مصطلح “التنمية” منذ عشرينيات القرن الماضي، لكن بمضمون مختلف. فقد تبنّوا تقليدًا كان قائمًا في بعض كتابات دومينيونات الإمبراطورية منذ أربعينيات القرن التاسع عشر التي كانت تستعمل الكلمة بمعناها الضيّق، أي: استغلال الموارد الطبيعية.
مع أن مصطلح “التنمية” ظهر مبكرًا نسبيًا في العالم الأنجلوساكسوني، إلا أن تعميمه لم يحدث إلا في وقت متأخر. فعلى سبيل المثال:
- لم يظهر مصطلح “التنمية الاقتصادية” (economic development) في فهرس موسوعة بريتانيكا إلا عام 1959، ضمن مقال عن بنك الإعمار والتنمية.
- ولم يُخصَّص له مقال مستقل في الموسوعة نفسها إلا في طبعة
- كما أن المصطلح لم يكن واردًا في طبعة 1965 من قاموس الاقتصاد لكل الناس (Everyman’s Dictionary of Economics).
- وكان غائبًا أيضًا عن قاموس الاقتصاد الجديد (A New Dictionary of Economics) من تأليف فيليبس وآ. س. تايلور (1966)
- وكذلك عن الطبعة الثانية من قاموس ماكغرو-هيل للاقتصاد الحديث (1973).
ويُلاحظ الباحث سيرج لاتوش (1988) أن إدخال مصطلح “التنمية” إلى الأدبيات الاقتصادية وتحوله إلى مفهوم تمَّ بصمت دون إثارة الانتباه. فقد انتُقل تدريجيًا من استعماله ليكون توصيفًا مجازيًا فحسب إلى عَدِّهِ مفهومًا علميًا، وهو ما اقتضى إضافة النعت “الاقتصادي” إلى المصطلح حتى ستينيات القرن العشرين. ومع أن السيدة شوميي-جاندرُو قد أحصت ثلاث استخدامات لكلمة “التنمية” في النقاط الأربع عشرة للرئيس الأمريكي ويلسون، إلا أن هذا لم يمنح المصطلح بُعدًا مفاهيميًا متماسكًا في ذلك الوقت[5].
إذا عرفنا بأن مفهوم التنمية تطور عبر التاريخ ليصل إلى محطته الأخيرة في العالم المعاصر، فإن ذلك سيمنحنا فهمًا أعمق للاختلافات الجوهرية لكل ما قيل سابقًا، وبين ما سنتطرق إليه مع أمارتيا صن، لنرى كيف أن هذا المسار المتدرج لمفهوم التنمية اكتسب عديدًا من الإضافات والإسهامات في كل فترة من فترات تكونه التاريخي. ولذا سنعود للإشارة من جديد إلى منظور أمارتيا صن حتى يبدو لنا جليًا هل نحن بإزاء المفهوم نفسه؟ أم نحن أمام انزياح وتطور أكسب المفهوم بعدًا آخر تحتاجه مجتمعاتنا أكثر من أي وقت مضى؟
-
أمارتيا صن ومفهوم التنمية
بالنسبة لـ أمارتيا صن فإن التنمية ليست نموًا اقتصاديًا أو زيادة في الناتج القومي والدخل الفردي لمكونات المجتمع فحسب، وإنما هي عملية توسيع الحريات الحقيقية[6] التي يتمتع بها الإنسان. هذه الحريات تشمل الحقوق السياسية، فرص التعليم والرعاية الصحية، المشاركة الاجتماعية، إضافة إلى ضمان الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة. وكي تكتمل عملية التنمية كما يراها صن يلزمنا العمل لإزالة العوائق الأساسية التي تحرم الأفراد الحرية، مثل: الفقر، القمع، غياب الفرص الاقتصادية، وحرمانهم الخدمات العامة. فحتى مع ازدياد الثروات، ما تزال غالبية البشر محرومين من أبسط حقوقهم الأساسية، مثل: الغذاء، الصحة، التعليم، المشاركة السياسية.
يبدو أن التنمية وفق هذا المنظور تأخذ أبعادًا مختلفة، فعلى الأقل قد خرجت من ذلك المنظور الأحادي والاختزالي الذي يتجلى في البعد الاقتصادي تحديدًا، ومن ثمَّ فإننا بذلك أمام مفهوم يرتكز على بعدين أساسيين:
- القيمة الذاتية للحرية، إذ تُمثل غاية في ذاتها ومعيارًا لقياس التقدّم.
- الفعالية العملية للحرية، فحرية الناس تُسهم في إنجاز التنمية من طريق المشاركة والمبادرة واتخاذ القرار.
هذا ما يعني أن الحريات مترابطة وفق صن، ودور الحرية في التنمية ليس دورًا ثانويًا، بل دورًا فاعلًا وفعالًا. لأن الحريات تدعم بعضها البعض، فلا يمكن فصل الحرية الاقتصادية عن الحرية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية داخل مجتمع ما. فمثلًا لا تُعد الحرية السياسية محض وسيلة لدفع النمو، وإنما جزءًا لا يتجزأ من مفهوم التنمية نفسه. هذا الترابط هو ما كان مفتقدًا وفق أمارتيا صن في المنظورات السابقة. ولنفهم الأمر فهمًا أوضحَ نورد أمثلة عن التناقضات بين النمو والدخل من جهة، والحرية من جهة أخرى. فبعض الدول ذات الدخل المرتفع تفتقر إلى مؤشرات تنموية حقيقية، مثل: الصحة والتعليم والمساواة. كما أن حرمان فئات الوصول إلى سوق العمل أو الإنتاج يُعد شكلًا من أشكال العبودية الحديثة.
إقرأ أيضًا: الحرية من المنظور المقاصدي: من يضع الحدود؟
هذا هو النقد الموجه إلى الرؤية الأحادية والاختزالية لعملية التنمية، التي تقيّم الأسواق فقط من زاوية كفاءتها الاقتصادية، وهو نقد لاذع وصريح، ولكنه مفيد لأنه يؤكد نقطة غيبتها كل المقاربات السابقة. أي تلك المقاربات التي اختزلت التنمية في مفاهيم ضيّقة مثل نمو الناتج القومي أو التوسع في التصنيع والتقنيات الحديثة، وهمشت بوصفها وسيلة وعملية توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الإنسان.
الحرية: غاية ووسيلة[7]
حينما نتمعن في منظور أمارتيا صن نجده يؤكد أن الحرية ليست نتيجة عرضية للتنمية أو مكافأة تُمنح بعد تحقيق النمو الاقتصادي فحسب، وإنما هي غاية في ذاتها. فالتمتع بالحرية في التعبير وحرية الضمير والمشاركة السياسية ووجود خدمات التعليم والصحة، كلها عناصر تمثل مؤشرات مباشرة على وجود التنمية. وعليه فإن حرمان الأفراد هذه الحريات، حتى في وجود مؤشرات اقتصادية إيجابية، هو حرمانهم التنمية الحقيقية. لكن المهم في هذا المنظور الجديد هو أن الحرية ليست فقط هدفًا، وإنما أداة فعالة تُسهِم في تسريع عجلة التنمية. وهذا يتبين بصورة جلية من طريق الأنظمة والدول التي تسمح بالتعددية السياسية وحرية الصحافة والشفافية والحق في المحاسبة. فغالبًا ما تكون أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات، وتحقيق النمو المتوازن، وتفادي الكوارث الكبرى، مثل: المجاعات. إذ تتيح الحريات الأداتية إمكان التقييم والنقد والمشاركة الاجتماعية. وهي كلها عوامل ضرورية لترشيد العمل السياسي المؤسساتي.
وقد حدد أمارتيا صن خمس حريات أداتية، ورآها أدواتًا مركزية في دعم عملية التنمية، وهي:
- الحرية السياسية، تشمل الحقوق المدنية والسياسية التي يُعبر ويشارك من طريقها الأفراد في الحياة السياسية.
- التسهيلات الاقتصادية، المقصود بها كل ما يجعل من الوصول إلى الموارد الاقتصادية أمرًا ممكنًا.
- الفرص الاجتماعية، تتركز أساسا في خدمات الصحة والتعليم والرعاية، التي تؤهل الأفراد للاندماج الفاعل في المجتمع.
- ضمانات الشفافية، أي ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأشكال الرقابة ومقاومة الفساد والغش والمعاملات الخفية.
- الأمن الوقائي، يشمل شبكات الأمان الاجتماعي، مثل: مساعدات الدولة للمحتاجين، أو تدخلها في أثناء الكوارث.
إنها حريات متكاملة ومترابطة، ولا تعمل بطريقة معزولة ومنفصلة من منظور أمارتيا صن. بل على العكس من ذلك هناك نوع من التناغم والانسجام بين كل مكوناتها. التعليم الجيد (فرصة اجتماعية) يُمكن أن يؤدي إلى مشاركة سياسية أوسع، والمشاركة السياسية بدورها قد تحصن السياسات الصحية والاقتصادية. فنحن أمام فعل تحرري، وليس فقط عملية تنموية تعمل بطريقة منفصلة عن الحرية، كما تجلت في الرؤية التقليدية للتنمية بوصفها مشروعًا اقتصاديًا صرفًا، يعتمد على رفع الناتج الداخلي الخام، أو التحكم في مؤشرات الاقتصاد الكلي. فمهما حققت الرؤية الاختزالية من مؤشرات نمو اقتصادية، إلا أنها قد تُخفي خلفها مجتمعات محكومة بالاستبداد، ويعاني أفرادها القمع والفقر والجهل.
لهذا نجد أن المقاربة التحريرية في التنمية، أي تحرر الفعل الإنساني، ومنح الكائن الإنساني القدرة على الفعل والإبداع، هو المعيار الحقيقي للتنمية، والمؤشر الفعال للخروج من حالة الاستلاب التي تعانيها مجتمعاتنا. وعليه فإن التنمية من هذا طريق هذا التصور المبدع تصبح مشروعًا تحرريًا من القيود المفروضة على الإنسان، سواء كانت ناتجة عن: الفقر أو المرض أو الأمية أو الطغيان أو الإقصاء الاجتماعي. وكل ذلك بفعل النظرة المتكاملة للتنمية التي اقترحها أمارتيا صن، أي تلك الرؤية التي لا تفصل بين النمو الاقتصادي والحرية السياسية، ولا ترى الحقوق والحريات ترفًا يمكن تأجيله، بل تضع الحريات بكل أبعادها في قلب العملية التنموية، كما تؤكد أنها ليست فقط غايات إنسانية نبيلة، وإنما أدواتًا عملية لبناء مجتمعات أكثر عدالة وازدهارًا.
فقر القدرة؛ نحو فهم أعمق للعدالة الاجتماعية[8]
ما يُدهشك في طرح أمارتيا صن هو هذه الصياغة المفاهيمية الانقلابية بالمعنى الإيجابي، أي أنه ينظر إلى المفاهيم المتداولة وفق رؤية تجديدية وشاملة ومتكاملة. فالفقر هنا ليس تدنيًا مباشرا لمستويات النمو العادية أو انتشار البطالة أو الافتقار إلى الموارد المادية، بل العكس هو الصحيح حين يصبح معنى الفقر الحرمان من فرص الحياة الكريمة، ومن الإمكانات الحقيقية التي تخوّل الإنسان أن يختار بحرية شكل الحياة التي يريد أن يعيشها. ولهذا السبب يقترح علينا أمارتيا صن مفهوم “فقر القدرة” ليكون إطار بديلًا لفهم الفقر، إطارًا ينقلنا من حساب الموارد إلى تمكين الإنسان.
فماذا يعني صن بفقر القدرة في هذا السياق؟
لا يقيس فقر القدرة فقط ما يمتلكه الإنسان، وإنما ما يستطيع أن يكونه ويفعله. إنه ينظر إلى الإنسان كونه فاعلًا حرًا، يسعى في تحقيق أهداف يعدُّها ذات قيمة. ومن هنا فإن الفقر في هذا السياق يعني عجزًا في القدرات الجوهرية: كأن يعجز الإنسان عن الحصول على تعليم أساسي أو عن العناية بصحته أو عن التعبير عن رأيه أو عن المشاركة في الشأن العام أو عن الشعور بالأمان في بيئته. وقد يمتلك الفرد دخلًا معقولًا، لكنه يظل فقيرًا إذا حُرم هذه الإمكانات. وإذا أردنا أن نعبر عن معنى دقيق للفقر وفق رؤية صن، فإننا لا نُقصي دور الموارد المادية، والإمكانات المالية في تحديد فقر الإنسان، ولكن الموارد هنا هي وسائل فقط وليست غايات. وكي تتحول هذه الموارد إلى قدرات فعلية، فإن ذلك رهين بعدة عوامل أساسية أهمها الحالة الصحية للفرد، والبيئة الاجتماعية، ومستوى التعليم والجنس والعمر والموقع الجغرافي. ولتوضيح مفهوم الفقر من منظور صن بشكل جلي فلنأتِ على الأمثلة التالية: فتاة في قرية نائية، حتى إن حصلت على دخلٍ لا بأس به، فقد تكون قد حُرمت الذهاب إلى المدرسة لأسباب ثقافية أو أمنية. كذلك مريض مزمن قد يستهلك معظم دخله في العلاج، فلا يتبقى له ما يُمكّنه من تحقيق حياة كريمة. هنا يظهر أن الدخل وحده لا يكفي، وإنما يجب أن ننظر فيما إذا كان يُمكّن الإنسان من أن يحيا حياة يجد فيها قيمة وكرامة.
يضعنا هذا التحديد المفاهيمي المبتكر والمهم جدًا -خاصة في مجتمعاتنا- أمام إشكالية مستعصية بالفعل. أي أن المؤشرات الاقتصادية التقليدية، مثل: الحد الأدنى من الدخل، هي مؤشرات خادعة ومموهة وتضليلية، لأنها تخدعنا في كثير من الأحيان. فقد تُظهر المؤشرات الاقتصادية انخفاضًا في معدلات الفقر، بينما تستمر معاناة الناس على أرض الواقع. والسبب هو أن الاعتماد على مثل هذه المقاييس لا يجعلنا نقيس مدى حرمان الإمكانات الفعلية، ولا نأخذ في الحسبان أن الموارد قد تُوزع داخل الأسرة أو المجتمع بطريقة غير عادلة. فالأطفال والنساء وكبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة، قد يُهملون رغم وجود دخل كافٍ على الورق.
في السياق نفسه يُلاحظ أن الفقر في المجتمعات الغنية يبدو مختلفًا اختلافًا جذريًا، وفي بعض الأحيان يبدو غير منطقي. لكنه فقر حقيقي إذا ما نُظرَ إليه من زاوية القدرة. فأن تُحرم أدوات المشاركة في الحياة العامة، أو إمكان التمتع بشروط الحياة نفسها التي يحياها أقرانك، يُعد شكلًا من أشكال التهميش الاجتماعي، الذي لا يقل وطأة عن الفقر المدقع في الدول الفقيرة. هنا يتحول الفقر من مسألة مالية إلى مسألة حرمان بنيوي من الإمكانات التي تجعل الإنسان فاعلًا اجتماعيًا.
إقرأ أيضًا: التنمية حرية: كيف نؤسس مجتمعا يقبل الاختلاف؟
لقد أظهرت التجارب الواقعية في مختلف أنحاء العالم أن تحسين القدرات أكثر فعالية واستدامة من رفع الدخل فحسب. ففي ولاية كيرالا الهندية، حيث لم يكن النمو الاقتصادي سريعًا مقارنة ببعض الولايات الأخرى، نجحت الدولة في تحسين مؤشرات الصحة والتعليم، وتقليص الفقر بدرجة ملحوظة بفضل الاستثمار في قدرات الإنسان. بينما فشلت ولايات أخرى غنية بالموارد في تحقيق العدالة الاجتماعية، بسبب غياب توزيع عادل للفرص، وتجاهل لأهمية بناء القدرات الفردية والجماعية. فما نحتاجه اليوم هو انتقال جذري في السياسات التنموية من نموذج الكفاءة الاقتصادية إلى نموذج التمكين البشري. فبدلًا من التركيز على مضاعفة الناتج المحلي، ينبغي أن نسأل: هل تحسنت إمكانات الناس في التعلم والعلاج والتعبير والمشاركة؟ هل صار بمقدورهم أن يحيوا حياة ذات مغزى؟ وهل أصبحوا أقل هشاشة أمام الصدمات، سواء كانت صحية أو بيئية أو سياسية؟
هكذا من طريق تبنّي مفهوم فقر القدرة الذي جاء به أمارتيا صن، نكون قد أدركنا أن الفقر لا يعني فقط إعادة النظر في كيفية قياس الفقر، بل يعني أيضًا إعادة تعريف للنجاح التنموي نفسه. فالعدالة الاجتماعية لا تتحقق عندما يزداد الدخل فقط، وإنما حين تزداد الحرية. الحرية الحقيقية التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يختار ويشارك ويغير ويعيش حياة يراها جديرة بالاحترام. فبهذا المعنى فقط يصبح الحديث عن تحسين مؤشرات الفقر دون ربطها بالعدالة والكرامة والمساواة أمرًا لا معنى له في عالم اليوم. فالناس لا تحتاج فقط أن تمنحها المال والموارد الاقتصادية، وإنما يجب أن تمنحهم الوسائل التي تمكّنهم من صنع مصائرهم. وحينها فقط يُمكن أن نقول إننا نجحنا في محاربة الفقر، ليس بوصفه مشكلة تقنية أو اقتصادية، بل بوصفه مأساة إنسانية تمس جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم قول المسيح عليه السلام:” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان “[9].
- فكرة العدالة لدى أمارتيا صن؛ تحرير مستمر وليس يوتوبيا نهائية
يُعد كتاب “فكرة العدالة” لـ أمارتيا صن من أبرز الأعمال الفكرية التي جاد بها مطلع القرن الحادي والعشرين. وهو في الأصل مشروع نقدي للمنظور التقليدي في الفلسفة السياسية، الذي ساد منذ جون راولز، ويقوم على تصور عدالة “مثالية” تتجسد في مبادئ أولية صارمة تُطبّق على مجتمع افتراضي متخيل. لهذا نجد أمارتيا يرفض هذا النموذج التجريدي، ويقدم بديلًا واقعيًّا تطبيقيًّا يُعيد القيمة إلى الحياة اليومية بوصفها ميدانًا لتجربة العدالة.
ولنفهم الأمر فهمًا أوضحَ نضرب مثالًا على ذلك بتمييز مفاهيمي قام به أمارتيا صن[10]، وهو مستمد من الفلسفة الهندية الكلاسيكية. قد ميز بين مفهومين للعدالة:
- نيتي (Niti): يُشير إلى النماذج المؤسساتية المثالية للعدالة، وهي غالبًا ما تكون تجريدية ومتعالية.
- نايا (Naya): يُمثل العدالة بوصفها واقعًا ملموسًا معاشًا، يتصل بكيفية تأثير الترتيبات الاجتماعية في حياة الناس.
يرى صن أن التركيز على “نيتي” وحدها لا يكفي، وإنما يجب الانتقال إلى “نايا”، أي إلى تقييم العدالة من طريق ظروف الناس الحقيقية، وهو ما يتطلب الانخراط في مقارنات ومفاضلات ملموسة بين أوضاع قابلة للتحسن. معنى ذلك أن صن يوجه سهام النقد إلى النظريات “المؤسسية” في العدالة، مثل: نظرية جون رولز التي تسعى في بناء نظام عدالة مثالي مكتمل من طريق ما يُسمى “الوضع الأصلي” و”ستار الجهل”. فهذا النوع من المقاربات وفق صن يعتمد على أسس طوباوية لا علاقة لها بالواقع المعيش، خاصة أنها تغفل أو تغيب قدرة البشر على التقييم العملي للأوضاع الظالمة، حتى دون وجود اتفاق كامل على المبادئ المجردة.
لكن كي نفهم فهمًا جيدًا النقد اللاذع الذي وجهه أمارتيا صن إلى أطروحة راولز يلزمنا التعرف بداية على فكره، خاصة فكرة العدالة كإنصاف.
فماذا يعني راولز بالعدالة؟[11]
تُعد العدالة من منظور راولز الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، تمامًا كما أن الحقيقة هي الفضيلة الأولى لأنظمة الفكر. فالنظرية مهما كانت أنيقة يجب رفضها أو تعديلها إذا كانت غير صحيحة، وكذلك القوانين والمؤسسات مهما كانت فاعلة أو مُحكمة التنظيم، ينبغي إصلاحها أو إلغاؤها إذا كانت غير عادلة. لذلك لكل شخص مكانة لا يجوز انتهاكها، وهذه المكانة والقيمة مؤسسة على العدالة، ولا يُمكن حتى لمصلحة المجتمع ككل أن نتجاوزها. لهذا السبب ترفض العدالة أن يُبرَّر سلب الحرية عن البعض بُمبرر تحقيق منفعة أكبر للآخرين. كما لا تقبل بأن تُعوَّض التضحيات المفروضة على القلة بمجموع الفوائد التي يجنيها الكثيرون.
لقد كانت هذه النظرية محاولة فلسفية جريئة لإعادة تأسيس مفهوم العدالة في المجتمعات الحديثة على أسس عقلانية وإنسانية. لقد أراد راولز أن يضع بديلًا للنظريات النفعية التي هيمنت طويلًا على الفكر السياسي التي تُبرر في الغالب التضحية بحقوق الأقليات مقابل تحقيق أكبر قدر من المنفعة العامة. في مقابل هذا التصور دعا راولز إلى فهم جديد للعدالة يقوم على الإنصاف، ويضع في جوهره كرامة الإنسان وحرية الفرد كونهما غير قابلين للمساومة، حتى وإن تعلق الأمر بمصلحة المجتمع ككل.
ينطلق راولز من تصور تعاقدي جديد يتخيل فيه أن الأفراد العقلاء، المتساوين في الكرامة، يلتقون في وضعية افتراضية أطلق عليها اسم “الوضع الأصلي”. في هذا الوضع لا يعرف أي شخص موقعه الحقيقي في المجتمع: لا يعرف أن كان غنيًا أو فقيرًا، منتميًا إلى أغلبية أو أقلية، قويًا أو ضعيفًا، بل يُطلب منه أن يختار المبادئ التي ستحكم المجتمع وهو خلف “حجاب من الجهل”. هذا الحجاب يمنعهم معرفة تفاصيلهم الشخصية، حتى يضمن أن تكون اختياراتهم عادلة ومحايدة، لا تخدم فقط فئة معينة، وإنما تراعي مصالح الجميع، بمن فيهم من قد يكون في أضعف المواقع.
من طريق هذه التجربة الفكرية، يؤسس راولز لفهم أخلاقي عميق للعدالة، إذ يجعلها مشروطة بقبولها من طرف جميع الأفراد، على أساس أنهم لا يعرفون مسبقًا ما إذا كانوا سيكونون ضمن المستفيدين أو المتضررين من أي ترتيب اجتماعي. فالعقل العمومي، في ظل هذا الجهل المتعمد، سيقود الأفراد إلى تبني مبادئ تحفظ لهم الحد الأدنى من الكرامة والحقوق، بصرف النظر عن ظروفهم الواقعية. وهكذا تصبح العدالة ليست فقط مسألة توزيع عادل للثروات، وإنما إطارًا أخلاقيًا يضبط أسس التعاون الاجتماعي بين أفراد متساوين في القيمة، رغم اختلاف قدراتهم ومواقعهم.
ما يُميز تصور راولز هو أنه لا يكتفي برسم مبادئ نظرية، بل يربطها بشرط الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالمجتمع العادل -وفق رأيه- هو ذلك الذي يُبنى على إجماع عقلاني بشأن مبادئ تُعد عادلة من طرف الجميع، ويُطبّقها النظام السياسي تطبيقًا شفافًا ومنصفًا. بهذا المعنى تتحول العدالة إلى عقد رمزي يربط المواطنين ببعضهم البعض، ويُؤسس لعلاقات يسودها الاحترام المتبادل والثقة، بدلًا من الخوف والتفاوت الفاحش. وحتى التفاوتات الاقتصادية -إن وُجدت- يجب أن تكون خاضعة لشرط إنساني أساسي: أن تُفيد أولئك الأقل حظًا. هكذا يقدم راولز العدالة كإنصاف بوصفها رؤية أخلاقية وسياسية متكاملة، تدمج بين الحرية والمساواة في إطار عقلاني مشترك. إنها ليست فقط تنظيرًا مجردًا، وإنما مشروعًا يعيد للعدالة معناها الإنساني في عالم يتأرجح بين منطق الربح وتفاوت المصالح.
إقرأ أيضًا: أسئلة تداهم الوعي المأزوم
وإذا عرفنا فكرة العدالة كإنصاف عند راولز نعود من جديد لـ أمارتيا صن الذي يرى بأن النقاش هنا يدور بشأن وضع متعالٍ ومجتمع افتراضي، بدل أن يدور بخصوص مفاضلة بين اختيارات واقعية، تتفاوت في درجات عدالتها. هذا الانتقال من تصور “متعالٍ” إلى تصور “مقارنٍ” يُعدّ جوهر أطروحة أمارتيا صن. فمثلًا: حين نرى ظلمًا بيّنًا مثل: المجاعة أو التمييز العنصري أو حرمان التعليم والرعاية الصحية، لسنا في حاجة إلى نموذج عدالة كامل لنُدرك الظلم ونعمل لإزالته. فهو هنا يُعيد القيمة إلى القدرة الإنسانية على “التفكير الأخلاقي العملي”، ويُركّز على الإنسان بوصفه فاعلًا عقلانيًّا يقيّم الواقع، ويتفاعل مع غيره من طريق الحوار والمشاركة، لا من طريق أوامر خارجية. بهذا يقترب من تقاليد آدم سميث أكثر من تقاليد هوبز أو لوك أو كانط، ويُفضّل أن يُنظر إلى العدالة بوصفها نابعة من تفاعل اجتماعي حيّ، لا من نظرية مفروضة.
وبالعودة إلى كتابه الأساسي التنمية[12] حرية نجده أشار إلى ذلك بوضوح، ففي نظرية راولز، يأتي مفهوم “أولوية الحرية” الذي يُشير إلى أن الحرية الشخصية والسياسية الأساسية يجب أن تحظى بأسبقية إجرائية على المزايا الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، مثل الدخل أو الرفاهية. صياغة راولز لهذه الأولوية تتسم بالاعتدال، فقد ميز بين الحقوق المدنية والسياسية الأساسية التي لا يجوز التضحية بها، والأهداف الاجتماعية التي يسعى المجتمع لتحقيقها، مع التشديد على أن هذه الحقوق لا يُمكن مقايضتها حتى في ظل ضغوط اقتصادية شديدة. هذه الأولوية تعني أن حرية الفرد لا يمكن انتهاكها لمجرد تحقيق مكاسب اجتماعية، وهو موقف يعزز حماية الحقوق الأساسية لتكون أساسًا لأي نظام عادل.
مع ذلك لا تخلو هذه الفكرة من جدل ونقد، إذ تثار تساؤلات مهمة بشأن مدى استيعاب أولوية الحرية للواقع الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في البلدان التي تعاني فقرًا مدقعًا وضغوطًا حياتية تهدد حياة الأفراد. هنا يتجلى النقد الذي قدمه الفيلسوف الاقتصادي أمارتيا صن الذي يشير إلى أن التركيز المفرط على الحرية بوصفها القيمة العليا قد يُغفل الأبعاد الحقيقية للعدالة الاجتماعية، ولا يأخذ في الاعتبار التفاوتات الاقتصادية التي تقيد قدرة الأفراد على التمتع بتلك الحرية عمليًا. إذ يرى صن أن العدالة يجب أن تُقاس أيضًا بمدى تحقيق المساواة في الفرص والقدرة الحقيقية على ممارسة الحقوق، وليس فقط بوجودها شكليًا.
وفقًا لصن فإن نظرية راولز تركز كثيرًا في الحقوق والحرية بوصفها قيمًا أساسية، لكنها لا تقدم آلية كافية لمعالجة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي تحد من قابلية الأفراد للاستفادة من تلك الحقوق. في هذا الإطار يدعو صن إلى ضرورة توسيع مفهوم العدالة ليشمل الأبعاد الاقتصادية، معتبرًا أن الحرية لا يمكن أن تكون حقيقية إذا كانت مصحوبة بعدم المساواة في الفرص والموارد.
من هنا تتضح أهمية الموازنة بين حماية الحقوق والحرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، إذ لا يُمكن رؤية العدالة متحققة فعلًا إذا اقتصرت على ضمان حرية شكلية دون ضمان قدرة الأفراد على ممارستها ممارسةً فعليةً ومتساويةً. هكذا يقدم منظور صن النقدي رؤية تكاملية للعدالة تتجاوز أولوية الحرية المطلقة، إلى فهم أوسع يشمل تحقيق المساواة والتمكين الاقتصادي. وفي النهاية يعكس هذا النقاش تعقيد مفهوم العدالة في الفكر السياسي الحديث، ويبرز كيف أن نظرية راولز رغم أهميتها وتأثيرها الكبير، تبقى في حاجة إلى تطوير وتكامل مع رؤى أخرى مثل تلك التي قدمها أمارتيا صن، من أجل بناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية.
-
الديمقراطية والحوار العام
تحتل الديمقراطية مكانة عالية في أطروحة أمارتيا صن، فهو يربط بين العدالة والحرية السياسية، إذ يرى أن النقاش العام والمشاركة السياسية وحرية التعبير. عناصر جوهرية في الكشف عن الظلم وتحقيق العدالة. ومن ثم فالديمقراطية لدى صن ليست صناديق اقتراع أو وسيلة للتداول السلمي للسلطة واختيار ممثلين عن المجتمع، بل هي أسلوبًا لتداول الأفكار وللتحقق الجماعي من الصحة الأخلاقية للقرارات. كما يشدد على أهمية الشفافية والمساءلة وحرية الصحافة، وكل ما من شأنه أن يُمكّن الناس من انتقاد السلطة ومراقبة القرارات التي تمس حياتهم.
ينسجم هذا الطرح الفكري مع ما سبق وقرره صن بشأن التنمية في كتابه الشهير “التنمية حرية “.[13] إذ لا يمكن الحديث عن العدالة دون ضمان الحد الأدنى من الصحة والتعليم والدخل والمأوى. ومن ثمَّ فإن العدالة ليست مسألة قانونية أو مؤسساتية فقط، وإنما هي مشروع لتحرير الإنسان من كل أشكال الحرمان. فالديمقراطية تمثل أحد المفاهيم الأكثر تداولًا في النقاشات السياسية والفلسفية المعاصرة، إلا أن هذا التداول لا يعني وضوحًا في المضمون. هذا ما يكشف عنه أمارتيا صن فهو يرى أن فصل الاهتمام بين الاحتياجات الاقتصادية والحقوق السياسية هو نهج خاطئ، إذ إن الحريات السياسية ليست قضية رفاهية يُمكن تأجيلها في البلدان الفقيرة فحسب، وإنما هي عنصر جوهري مرتبط بتحقيق التنمية الاقتصادية ذاتها. معنى ذلك أن الحريات السياسية والحقوق المدنية تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز الحوار والمناقشة العامة، مما يتيح فهمًا أفضل للاحتياجات الاقتصادية وتوجيه الحلول المناسبة لها.
كما يُشير إلى أن الحرية السياسية ليست فقط قيمة إنسانية في ذاتها، وإنما أيضًا أداة ضرورية لتحفيز المشاركة الاجتماعية، وتعزيز الشفافية داخل المجتمع، والمساءلة والمحاسبة في محاربة أشكال الفساد. وكلما ازداد هذا الترابط البنيوي بين الحرية الاقتصادية والسياسية، أصبح من المستحيل الفصل بينهما أو تفضيل أحدهما على حساب الآخر، خاصة في سياق البلدان النامية التي تواجه تحديات الفقر والتنمية. ومن ثمَّ فإن تعزيز الحقوق السياسية والحريات المدنية لا يعوق التنمية الاقتصادية، بل يدعمها، ويجب أن تُعتبر أولوية متكاملة مع الجهود المبذولة لتلبية الاحتياجات الاقتصادية الأساسية، لا بديل أو تراجع عنها.
في هذا السياق تحلل إيمانويل بنيكورت في مقالها “الديمقراطية وفق صن“[14] تصور هذا الأخير لنظام الحكم الديمقراطي، موضحة كيف يقيّم صن الديمقراطية من طريق ثلاث قيم رئيسة: الأهمية الجوهرية، الوظيفة البنائية، والأهمية الأداتية. دون أن يغفل النقاشات النقدية المرتبطة بتطبيق الديمقراطية في الواقع.
- غياب تعريف تقليدي للديمقراطية، يؤكد صن في أكثر من موضع أن الديمقراطية ليست حكمَ الأغلبية فقط. فهو يرفض أن تُختزل في آلية الانتخابات -رغم أهميتها- مشددًا على أن الديمقراطية تتضمن أيضًا احترام الحريات والحقوق، مثل: حرية الصحافة، النقاش العام، تداول المعلومات دون رقابة. هذا التصور يجعل من الديمقراطية منظومة قيمية ومؤسساتية تضمن للناس التعبير عن آرائهم، والمشاركة في صناعة القرار، وليس عملية اقتراع. وهنا لا يتعلق الأمر بتعداد آليات الديمقراطية بقدر ما هو تأكيد مناخ الحرية الذي يفترض أن ترافقه.
- الأهمية الجوهرية للديمقراطية، يرى صن أن الديمقراطية تكتسب قيمتها أولًا من كونها خيرًا في ذاتها. أي أنها لا تحتاج إلى تبرير من طريق ما تحققه من نتائج اقتصادية أو اجتماعية. فحتى إن توفرت الاحتياجات المادية للفرد في غياب الحريات، تظل هناك معاناة من القمع والحرمان من القدرة على المشاركة في تقرير المصير. ومن ثمَّ تُعد الديمقراطية عنصرًا مكونًا للحرية الإنسانية. كما تصبح الحقوق السياسية والمدنية ضرورية، ليس لأنها وسيلة لتحقيق أهداف أخرى، بل لأنها تعبر عن كرامة الإنسان وقدرته على أن يكون فاعلًا في حياته العامة.
مع ذلك يطرح هذا الموقف إشكالية كبيرة يُمكن أن تصاغ في الشكل التالي: هل يمكن اعتبار الديمقراطية قيمة كونية فعليًا؟ هنا يُجيب صن بأن القبول العام ليس شرطًا لتعريف القيمة بأنها كونية، بل يكفي أن تكون لها أسباب وجيهة تجعلها محل تقدير عند مختلف الشعوب لو فُهمت بطريقة ملائمة. لكن هذا الموقف يظل نظريًا وغير محسوم، خاصة أنه لا يحدد بشكل دقيق ما هي الأسباب التي تمنح الديمقراطية هذه الصفة العالمية.
- الوظيفة البنائية للديمقراطية، يرى صن أن للديمقراطية دورًا بنائيًا في تكون القيم والتفضيلات الاجتماعية. فالحوار العام والجدل السياسي وتعدد الأصوات، كلها عوامل تؤثر في فهم المجتمع لاحتياجاته وأولوياته. هكذا لا ينبغي التعامل مع القيم الاجتماعية بوصفها معطى سابقًا للنقاش الديمقراطي، بل على العكس: الديمقراطية نفسها هي ما يسمح بتكوين هذه القيم. إذ تتيح للناس إعادة النظر في معتقداتهم وتفضيلاتهم من طريق تبادل الأفكار والمعلومات. غير أن هذا التصور يواجه مشكلة عند التطبيق، خاصة عندما نطرح السؤال: كيف نصل إلى توافق جماعي بشأن أولويات معينة؟ فوفق بنيكورت، يظل صن غامضًا في توضيح كيفية تحقيق “الوفاق” المطلوب، ويتجنب الدخول في التفاصيل المتعلقة بآليات الحوار أو معايير الحسم في القضايا الخلافية، مما يترك تصوراته في مستوى عام ومجرد.
- الأهمية الأداتية للديمقراطية، يرى صن أن للديمقراطية دورًا مهمًا في تحقيق نتائج ملموسة في مستوى السياسات العامة. ويُستشهد دائمًا بتحليله الشهير: “لم تقع مجاعة في بلد ديمقراطي يتوفر على صحافة حرة وانتخابات”. فوفقًا له وجود آليات للمحاسبة السياسية مثل: الانتخابات، الأحزاب، النقد الإعلامي، يفرض على الحكومات التحرك لتفادي الكوارث. هنا تصبح الديمقراطية مثل الكابح أو المنبه أو بتعبير أدق، مصدر ضغط مستمر على صناع القرار للاستجابة لحاجيات المواطنين. وهذا ما يُسميه صن القيمة الأداتية للديمقراطية. لكن كما تلاحظ بنيكورت، فإن فعالية الديمقراطية في هذا الصدد مرهونة بممارستها. فوجود انتخابات لا يكفي لوجود نظام ديمقراطي أو سلوكيات ديمقراطية، ما لم يستتبع ذلك وعي شعبي وتعبئة جماعية وممارسة فعلية للحقوق السياسية.
- حين تفشل الديمقراطيات، يعترف صن بأن الديمقراطية ليست عصا سحرية. فحتى في الدول الديمقراطية المتقدمة، يُمكن أن تستمر معاناة الفئات الهشة. حيث يرجع أمارتيا صن هذه الاختلالات إلى سوء استخدام الفرص الديمقراطية التي تتيح، من غير أن تفرض. فالناس يحصلون على ما يطالبون به، ولا يحصلون على ما لا يطالبون به. وهذا يفترض أن المسؤولية تقع أيضًا على عاتق المواطن، وليس فقط على الدولة. إلا أن بنيكورت ترى أن هذا التفسير يتجاهل طبيعة العلاقات الاجتماعية غير المتكافئة، ودور الإعلام والمال والطبقات في توجيه النقاش العام. إذ الحديث عن “الفرص المتاحة” يبقى دون جدوى في غياب صريح لتحليل واقعي يرصد إمكان الولوج إليها من الفئات الأضعف.
إن ما تُشير إليه بنيكورت في مقالها لا يقلل من وجاهة أطروحات أمارتيا صن، بل يكشف عن جوانب الغموض، أو ما لا يريد صن قوله. فهو يتفادى وفق كلامها الخوض في الجوانب الصراعية للديمقراطية. إذ لا نجد لديه تحليلات عن دور الطبقات الاجتماعية، أو عن آليات النفوذ والإقصاء أو عن احتكار وسائل الإعلام من طرف النخب. كما لا يتطرق إلى تفاصيل مثل إلزامية التصويت أو تمثيلية الأقليات أو تمويل الأحزاب، وكلها جوانب حاسمة في فعالية الديمقراطية. وحتى عندما يشير إلى “الإرادة السياسية”، فإنه يظل غامضًا في تحديد كيف تتكون هذه الإرادة، ومن يملك أدوات صنعها. وكأن الديمقراطية -في نظره- فضاء افتراضي مثالي، لا تحده القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة.
-
العقلانية والحرية؛ علاقة تبادلية لا انفصام فيها
في مقدمة كتابه “العقلانية والحرية[15]” يسلّط أمارتيا صن الضوء على العلاقة العميقة والمتبادلة بين مفهومي الحرية والعقلانية، مفترضًا أنه لا يُمكن فهم أحدهما دون استحضار الآخر. فليست الحرية إطارًا خارجيًا تتحرك فيه العقلانية فقط، وليست العقلانية أداةً لفهم الحرية فحسب، وإنما كلًّا منهما يغذي الآخر ويستمد معناه منه. هذا يدل على أن الحرية أصل من أصول الحقوق الإنسانية، أو لنقل هي الشرط الأساسي للفعل الإنساني. فالعقلانية بهذا المعنى، وهذا المنظور ليست ملكَة نظرية فقط، وإنما هي فعل يعتمد على القدرة على الاختيار، على النقاش، على تقديم الأسباب. وهذه القدرات لا تتفتح إلا في سياق حر، يتمتع فيه الفرد بفضاء يسمح له بالتفكير بحرية، وطرح الأسئلة وتغيير آرائه.
وإذا أردنا أن نعرف القيمة الفعلية للحرية، فيمكننا أن نفترض فضاءً أو مجتمعًا تغيب فيه هذه القيمة. حينذاك تحصر “العقلانية” ضمن حدود ضيقة تفرضها القيود السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، مما يؤدي إلى تحجيم طاقة الإنسان النقدية والتقييمية. أي إننا بإزاء تصور يقدم لنا العقلانية بوصفها وسيلة مهمة من أجل توسيع نطاق الحرية. فباستخدام العقل، يستطيع الإنسان أن يُقيّم الخيارات المتاحة له، ويُدرك أوجه الظلم أو النقص أو القصور الذي يعترض حريته الشخصية داخل بيئته الاجتماعية، فيطالب بتوسيعها.
إقرأ أيضًا: الاتكاء على التاريخ وأمجاده الغابرة في مواجهة حاضر مأزوم
من هذا المنطلق فالعقل ليس فقط أداةً للفهم، بل هو الأداة المصيرية للفعل التحرري الإنساني. كأن أمارتيا صن في هذا السياق الاقتصادي المنفتح يرفض النظرة الاختزالية التي تقرأ العقلانية من منظور حسابات المنفعة الذاتية، كما تفعل بعض النماذج الاقتصادية التقليدية. فهذا الاختزال من وجهة نظره يُقصي الحرية من معادلة القرار، ويجعل الفعل العقلي محض استجابة ميكانيكية للرغبات. في حين لا بد من توسيع مفهوم العقلانية ليصير فضاء يدمج القيم الأخلاقية والتضامن والمبادئ، كونها مكونات أساسية للحرية بمفهومها الصائب. لذا فالعلاقة بين العقلانية والحرية لا تُمارس فقط في المستوى الفردي، وإنما في المستوى الجماعي. فـالمجتمعات الحرة هي تلك التي تسمح بنقاش عمومي عقلاني بشأن الخيارات الكبرى، وبخصوص السياسات، العدالة، الحقوق. ومن دون هذا النقاش، تصبح الحرية شكلية، وتفقد العقلانية قدرتها على التأثير في الواقع.
الحرية بوصفها فرصة وسيرورة[16]
عندما يتحدث صن عن الحرية بوصفها فرصة، فإنه يقصد إمكانات الفرد في أن يحقق أهدافه التي يراها أنها ذات قيمة لديه، أي ما يتاح له فعليًا من خيارات. هذه الحرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يسميه القدرات الجوهرية (Capabilities). هل يستطيع الفرد أن يعيش حياة صحية؟ أن يتعلم؟ أن يشارك في الحياة العامة؟ أن يختار عملًا يُرضيه؟ بمعنى آخر، ليست الحرية هنا حرية قانونية أو شكلية فقط، وإنما حرية فعلية تمكّن الإنسان من إنجاز ما يراه مهمًا لحياته. ومن ثمَّ فإن العدالة الاجتماعية تُقاس بما تتيحه من إمكانات فعلية، لا بما تدّعيه من مساواة نظرية.
أما الحرية بوصفها سيرورةً، فهي تُعنى بالطريقة التي تُتخذ بها القرارات التي تمس حياة الأفراد: هل شاركوا فيها؟ هل تمت بطريقة شفافة؟ هل احتُرمت آرائهم وكرامتهم في أثناء اتخاذ تلك القرارات؟ فمن هذا المنظور، لا تكمن الحرية فقط في النتائج، وإنما في الكيفية التي تُبنى بها الخيارات. وهذا البعد الإجرائي للحرية يعني أن المجتمعات لا تُقاس عدالتها فقط بما توفره من موارد، بل أيضًا بمدى احترامها لصوت الفرد وإرادته في العملية السياسية والاجتماعية.
إن محاولة الفصل بين هذين البعدين للحرية يُعد خطًا مفاهيميًا وأخلاقيًا لدى صن. فتوفر الفرص من دون احترام السيرورات يؤدي إلى استبداد مقنّع، تُفرض فيه “خيارات جيدة” دون استشارة أصحابها. وفي المقابل فإن احترام الإجراءات الديمقراطية من دون توفير إمكانات فعلية للفعل يؤدي إلى حرية شكلية لا مضمون لها. لذلك فإن الحرية الحقيقية تتطلب التكامل بين الفرص والسيرورات، أي أن تتوفر للناس قدرة فعلية على اختيار شكل حياتهم التي يريدون، وأن تُحترم إرادتهم في صياغة الشروط التي تحكم هذا الاختيار. ومن طريق تفريقه بين الفرصة والسيرورة، يقدّم أمارتيا صن فهمًا مركّبًا للحرية يتجاوز المفاهيم الليبرالية التقليدية. إنها ليست فقط “عدم الإكراه”، وليست فقط “وفرة الخيارات”، وإنما هي التقاء بين القدرة على الفعل وشرعية القرار. بهذا تتحول الحرية من شعار سياسي إلى معيار أخلاقي وفلسفي يُقاس به مستوى إنسانية المجتمعات.
الرفاه، الإنجاز، والحرية؛ هندسة إنسانية في فكر أمارتيا صن[17]
يُعيد أمارتيا صن في مقدمة كتابه “العقلانية والحرية“، رسم حدود المفاهيم التقليدية للرفاه الإنساني، كاشفًا عن علاقة عميقة تربط بين الرفا (well-being) والإنجاز (achievement) والحرية (freedom) وهو لا ينظر إلى هذه المفاهيم بوصفها عناصر منفصلة، بل بوصفها شبكة متداخلة تكون الأساس لفهم العدالة والكرامة الإنسانية:
- الرفاه ليس ما تملك، بل ما تستطيع أن تكون، يرفض صن اختزال الرفاه فيما هو مادي أو مرتبط بإشباع الرغبات واللذات، بل الرفاه هو حالة مركبة تتعلق بـقدرة الفرد على أن يعيش الحياة التي يراها ذات مغزى وقيمة. من هذا المنظور لا يكفي أن يمتلك الإنسان موارد فقط، وإنما يجب أن تكون لديه القدرة الحقيقية على استخدام هذه الموارد لتحقيق أهداف ذات معنى. من هنا، يتجه صن إلى مقاربة القدر (capabilities)، كونها تتجلى فيما يستطيع الإنسان فعله أو يكونه. فرفاه الفرد يتحدد بمدى توفر الإمكانات الفعلية أمامه، دون النظر إلى مستوى دخله أو بما يشعر به من رضا مؤقت.
- الإنجاز ثمرة الإمكان، لا يعني الإنجاز في هذا السياق فقط مفهوم النجاح بالمفهوم الاختزالي، بل يشير إلى ما يُحققه الإنسان فعليًا من إمكاناته المتاحة. فإذا كانت “القدرات” تمثل المجال الممكن، فإن “الإنجاز” هو التجلي الفعلي لهذا الممكن في حياة الإنسان اليومية. ومع ذلك يحذر صن من جعل الإنجاز مقياسًا وحيدًا للرفاه، لأن الإنجاز في ذاته لا يعني بالضرورة وجود حرية. فقد يُنجز الإنسان أشياء عظيمة تحت الإكراه أو بدافع الضرورة، لا عن قناعة واختيار.
- الحرية معيار القيمة الأخلاقية للرفاه، لا يُمكن أن تكون هناك قيمة فعلية لإنجاز لا ينبع من اختيار حرّ بين بدائل حقيقية. إذ أن الحرية ليست وسيلةً للوصول إلى الرفاه فحسب، وإنما جزءًا لا يتجزأ من تعريفه. مثال ذلك إنسان يمتلك القدرة على التعلم، ويختار بحرية أن يتعلم، هو في وضع أرقى من إنسان يتعلم تحت الضغط، حتى لو كانت النتيجة واحدة ظاهريًا. لهذا يقترح صن التمييز بين نوعين من الرفاه:
- الرفاه القسري، أي ما يتحقق دون حرية فعلية في الاختيار.
- الرفاه الحر، وهو ما ينبع من خيار واعٍ ومسؤول، ويعكس شخصية الفرد وقيمه.
ومن ثمَّ فالحرية من منظور أمارتيا صن كما هو معهود فيه تُعد الشرط الأخلاقي الذي يمنح الرفاه والإنجاز معناهما الكامل. ومن دونها، تصبح الإنجازات أدوات للسيطرة، لا دلائل على الكرامة. وبهذا التصور المهم يضعنا أمارتيا صن أمام تصور جديد للعدالة كما سبق وأن رأينا. إذ الدمج بين الرفاه والإنجاز والحرية، يؤكد من جديد أن العدالة الحقيقية لا تكمن فقط في النتائج (ما يُنجز)، ولا فقط في الوسائل (ما يُتاح من إمكانات)، وإنما في مدى قدرة الناس على أن يعيشوا حياتهم بكرامة، من طريق خيارات حرة نابعة من إمكانات حقيقية. وبهذا يتجاوز أمارتيا صن الرؤية الاقتصادية الاختزالية، ويقترح تصورًا إنسانيًا للرفاه يُقاس فيه ما إذا كان الإنسان قد عاش الحياة التي يختارها بحرية، لا الحياة التي فُرضت عليه أو انقاد إليها دون وعي. وهو تصور يفضي بالضرورة إلى إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم المتوارثة من النظريات الاقتصادية الكلاسيكية. أي أن الإنسان داخل هذه التعاريف والتحديدات التي جاء بها صن لم يعد مستهلكًا أو منفّذًا أو متلقٍ للسياسات فقط، وإنما فاعلًا حرًّا يُقرر أسلوب حياته ويصوغ معناه.
العقلانية والاتساق الداخلي للاختيار
يقدم أمارتيا صن[18] تصوّرًا مغايرًا للعقلانية يختلف عن تلك التصورات التقليدية التي ربطت العقلانية بمفاهيم ضيقة، مثل: المنفعة الاقتصادية أو التفضيلات الفردية الثابتة. لقد سعى بالفعل في فهم أوسع وأعمق للعقلانية مُكسرًا كل القيود الاقتصادية والتقنية التي ضيقت العقلانية، مُدخِلا بذلك البُعد الأخلاقي والاجتماعي للقرارات الإنسانية. وكي نفهم الأمر بطريقة واضحة لا بد من الإشارة إلى أن في الفهم التقليدي، غالبًا ما يُنظر إلى العقلانية على أنها القدرة على اتخاذ قرارات عقلية من أجل الوصول إلى أهداف محددة، دون الأخذ في الحسبان التعقيدات الأخلاقية والاجتماعية التي تتخلل عملية اتخاذ القرار. لهذا فالعقلانية حسب تصور صن لا تقتصر على الوسائل والأدوات المستخدمة لتحقيق الأهداف، وإنما تشمل أيضًا معايير اتخاذ تلك الأهداف وملاءمتها مع القيم الإنسانية الأساسية. إذ تصبح العقلانية هنا عبارة عن عملية ديناميكية، تتجاوز محض تحديد الوسائل التي تُستخدم لتحقيق الأهداف. أي أنها تتعلق بقدرة الإنسان على التفكير في خياراته بطريقة تتسم بالشفافية والتساؤل النقدي عن تلك الأهداف نفسها.
يشير الاتساق الداخلي وفق صن، إلى ضرورة وجود اختيارات متسقة داخليًا مع قيم الأفراد الأساسية ومعتقداتهم. بمعنى أن الاتساق الداخلي هنا ليس تطابقًا آليًّا أو منطقيًّا بين الوسائل والغايات، بل يتعلق بمستوى الانسجام بين الفعل والنية. فإذا كان الفرد يتخذ قرارات بطريقة غير متسقة داخليًا مع معتقداته وأهدافه الحقيقية، فقد يعني ذلك تناقضًا في حياته الشخصية، مما يؤدي إلى التمزق النفسي، والاستلاب الداخلي. كأن صن هنا يربط بين العقلانية أيضًا والمساءلة الاجتماعية، إذ يرى أن الإنسان العاقل ليس من يمتلك أدوات أو استراتيجيات لتحقيق أهدافه فقط، بل هو من يمتلك القدرة على مراجعة خياراته في سياق اجتماعي أوسع. فالعقلانية لا تقتصر على اختيار ما يفضله الفرد أو ما يلائمهُ فقط، وإنما تمتد إلى القدرة على موازنة قراراته مع المعايير الاجتماعية والأخلاقية.
وإذا كان الاتساق الداخلي هو الميزة للأفراد فإن الرهان حينذاك سوف يصير، كيف تتحول هذه العقلانية من فردية إلى جماعية. فبما أن العقلانية لا تتوقف عند الأفراد. فإن الاتساق الداخلي لا يقتصر فقط على الشخص الفرد، إنما يمتد إلى توافق جماعي في المجتمعات على معايير وطرق اتخاذ القرارات. ومن ثمة فالعقلانية الجماعية تتطلب توافقًا واسعًا على ما هو معقول ومقبول اجتماعيًا. لذلك يرى صن أن المجتمع العادل هو الذي يحترم العقلانية في أبعاده الفردية والجماعية، ويضمن أن تكون الاختيارات الشخصية متسقة مع القيم العامة التي تُؤمن بها تلك المجتمعات.
- الهُوية؛ ما وراء التصنيف الأحادي
في بداية تناوله لمفهوم “عنف الوهم“[19]، يوضح صن أن الهُوية لا يجب أن تُفهم فهمًا أحاديًا أو مقيدًا. فالفهم التقليدي للهُوية غالبًا ما يعتمد على تحديدات ضيقة، مثل: العرق، الدين، الجنسية، أو الطائفة التي تُعَدُّ مكونات أساسية لا يمكن تغييرها أو التفاوض بشأنها. هذه النظرة الاختزالية تُسهم في تصنيف الأفراد داخل قوالب ثابتة، مما يُحجم من تنوعاتهم الشخصية ومن قدرتهم على التنقل بين الهُوية الفردية والجماعية. فما يُطلق عليه “عنف الوهم” يبدأ عندما تتحول الهُوية إلى سلاح من داخل تصورات مغلوطة، تُستخدم للتفريق بين الأشخاص أو الجماعات. فبدلًا من أن تكون الهُوية أداة للتفاهم والتواصل، تصير الهُوية مصدرًا للصراع، إذ يُفرض على الأفراد أن يتماهوا مع هُوية معينة بطريقة قاسيةٍ، مما يؤدي إلى القضاء على الفروق الفردية أو إلغاء حرية الاختيار. وفي هذا السياق يرى صن أن العنف الناتج عن هذا الوهم هو العنف الفكري، إذ تُفرض تعريفات أحادية للهُوية على أفراد المجتمع، مما يؤدي إلى نفي التنوع. هذا التصور الضيق قد يكون مُسيسًا أو أيديولوجيًا، ويستخدم للهيمنة السياسية أو الدينية، من طريق إقناع الناس بأن هُويتهم محكومة بمحددات ثابتة، ويجب عليهم الانتماء إلى مجموعة معينة، مما يُعزز الاستبعاد الاجتماعي.
إن الآثار السلبية لـما يُسميه أمارتيا صن بـ “عنف الوهم” تتجلى في تفكك المجتمعات وتعزيز الحواجز النفسية والاجتماعية بين مكوناتها وأفرادها. هذا التصور المغلوط للهُوية يُمكن أن يؤدي إلى العداء المتبادل والتوترات العرقية أو الدينية، ونشوء صراعات عنيفة يدفع ثمنها الأفراد والمجتمعات على حد سواء. ونظرة إلى الواقع الذي تستشري فيه هذه الهُويات القاتلة، تبين أنه مصدر للعنف، ووسيلة لخلق الأعداء الوهميين الذين يُصوروا على أنهم التهديد الأكبر لوجود الجماعة.
من هنا كان لزامًا على المجتمعات أن تقاوم “عنف الوهم“، من طريق تفكيك الهُويات الأحادية والعمل على توسيع تعريفاتها لتشمل التعددية والتنوع داخل الأفراد والجماعات. فالهُوية من منظور صن ليست أمرًا ثابتًا، بل هي عملية حية وديناميكية. ومن طريق قبول التعددية والاختلاف داخل المجتمع، يُمكن للناس أن يتحرروا من القيود التي فرضها عليهم “عنف الوهم“، ومن ثمَّ فإنهم قادرون على بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وشمولية. فلا يوجد حل سحري لما تعيشه مجتمعاتنا من أشكال الانغلاق الهُوياتي القاتل سوى الوعي النقدي، والقدرة على تفكيك الخطاب المنغلق، والتشكيك في التصورات المؤدلجة للهُوية، والبحث عن إمكانات لتوسيعها، لتتسع لجميع أبعاد الفرد. وعليه فإن التعامل مع الهُوية يجب أن يكون مرنًا، مفتوحًا على التأثيرات الخارجية، وليس مغلقًا كما هو الحال في التصورات المتعصبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:
[1] – نعوم تشومسكي. الدول الفاشلة إساءة استعمال القوة والتعدي على الديمقراطية. ترجمة سامي الكعكي. دار الكتب العربي، ط1،2007. ص: 8.
[2] Amartya Sen [Ideological Profiles of the Economics Laureates] Jason Briggeman Econ Journal Watch 10(3), September 2013: 604-616
[3] Jean Ronald Legouté DÉFINIR LE DÉVELOPPEMENT: HISTORIQUE ET DIMENSIONS D’UN CONCEPT PLURIVOQUE. économie politique internationale.Cahier de recherche Vol. 1, no 1 Février 2001. P : 8
[4] – تعني كلمة Néolithique العصر الحجري الحديث ، وهو العصر الذي يمتد بين الميزوليث وعصور المعادن؛ ويشير إلى العصر الذي تم فيه استعمال الإنسان للحجر المصقول، بعد أن كان يستعمل الحجر المنحوت. ويُقصد بهذه التسمية اليوم، العصر الذي انتقل فيه الإنسان من الصيد إلى الإنتاج الزراعي والرعوي، وقد ظهرت أولى بوادر هذا التحول في الشرق الأدنى. لكن هذا التعريف لم يعد كافيًا لاستيعاب هذه المرحلة، ولا زال أمرا متنازعا فيه بقوة، لأن الصقل ليس اختراعا نيوليتيا حيث استعمله الإنسان في عمل العظام في المرحلة الباليوليتية. غير أن ما استجد فعليا خلال هذه الحقبة الزمنية هو أن الصقل أصبح يستعمل على صخور صلبة.
انظر. خزعل الماجدي. بخور الآلهة في الطب والسحر والأسطورة والدين. الأهلية للنشر والتوزيع، ط1،1998. ص: 115.
[5]– Jean Ronald Legouté DÉFINIR LE DÉVELOPPEMENT: HISTORIQUE ET DIMENSIONS D’UN CONCEPT PLURIVOQUE. économie politique internationale.Cahier de recherche Vol. 1, no 1 Février 2001. P : 8
[6] – أمارتيا، صن. التنمية حرية مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر. ترجمة شوقي جلال. مؤسسة هنداوي، ط1، 2024 . ص: 17.
[7][7] – التنمية حرية. ص: 57.
[8] – التنمية حرية. ص: 123
[9] – إنجيل متى الإصحاح الرابع العدد 4.
[10] – أمارتيا، صن. فكرة العدالة. ترجمة ماجد جندلي. الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1،2010, ص: 59.
[11] – جون، راولز. العدالة كإنصاف. ترجمة حيدر حاج إسماعيل. المنظمة العربية للترجمة، ط1،2009. ص: 91 وما بعدها.
[12] – التنمية حرية. ص: 90.
[13] – التنمية حرية. ص: 199.
[14] Emmanuelle Bénicourt est ATER à L’Université du Littoral – Côte d’Opale. Elle prépare actuellement une thèse de doctorat qui a pour sujet : Les analyses du PNUD (Programme des Nations unies pour le développement) et de la Banque mondiale sur la pauvreté et le développement : la place d’Amartya Kumar Sen, en sciences économiques à l’École des hautes études en sciences sociales (E.H.E.S.S.) et est attachée au Centre de recherches sur les mondes américains (CERMA). Elle a notamment écrit un article : « Sen : du texte à ses interprétations », pour la revue L’Économie Politique, n° 27, juillet 2005.
[15]– أمارتيا، صن. العقلانية والحرية. ترجمة شهرت العالم. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2017. ص: 53.
[16] – أمارتيا، صن. العقلانية والحرية. ص: 61.
[17] – المرجع السابق. ص: 16.
[18] – المرجع السابق. ص: 73.
[19] – أمارتيا، صن. الهُوية والعنف وهم المصير الحتمي. ترجمة سحر توفيق. عالم المعرفة،352 ، يونيو 2008. ص: 17.