تكوين
من مدخل القراءة إلى عتبات النص
عبد الغفار مكاوي (1930-2013) مفكر من أبرز من أسهموا في صناعة خطاب الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة؛ وذلك بما أنجزه من أعمال متنوعة في عدد من مجالاتها؛ ولاسيما مجال ترجمة مجموعة من النصوص الفلسفية الأساسية في مسارات الفلسفة الأوربية قديمة كانت أم حديثة ومعاصرة، وفي مجال ترجمة مجموعة من النصوص الأدبية الممثلة لتوجهات متعددة في الشعر والمسرح على وجه التحديد، وفي مجال الكتابة ذات المنحى الأدبي عن أعلام الفلسفة وقضاياها، ثم في مجال الإبداع الأدبي في ميادين المسرح والقصة القصيرة بصفة خاصة، وقبلها الشعر أيضا.
تُعني هذه الدراسة بتقديم قراءة ثقافية لسيرته الذاتية التي حملت عنوان “النبع القديم: لوحات قصصية“(2006). وهي تمثل نمطا متميزا من أنماط كتابة الذات حيث تكتسب شعرية كتابتها من خصوصية تشكيلها الجمالي من ناحية، ومن ارتباط شعريتها تلك بسؤال الحقيقة من ناحية ثانية. وقد حفلت هذه السيرة بعدد من العتبات الأولية التي أسهمت بفاعليتها ذات الوجوه المتعددة في إكسابها خصوصيتها؛ ومن ذلك أن عتبة العنوان “النبع القديم” دال يثير توقع القارئ إلى أن خطاب تلك السيرة سيتأسس على فعل العودة إلى “المصادر” التي شكلت هوية الكاتب والراوي والمروي عنه؛ وهو توقعٌ حققته نصوص هذه السيرة؛ إذ دار قدرٌ ملحوظ من فصولها حول وقائع وقعت للكاتب في حياته الفعلية فأخذ يعمل على استعادتها بإيجاز تاركًا لذاته الفنية والفكرية فعلَ تأمُّلها والكشف عن تأثيراتها في تشكيل هويته الخاصة.
ولعل دالا من دوال تلك العتبة يتجلى في كونها تحيل أيضا إلى نصِّ “البئر الأولى“(1993) لجبرا إبراهيم جبرا (1919-1994) حيث يتأسس بناء أحداثه على العودة إلى الحوادث أو اللحظات التي شكلت المنابع الأساسية المؤثرة في حياته وهويته. وجاءت العتبة الثانية ماثلةً في العنوان الفرعي، وهو “لوحات قصصية“؛ وهي عتبة تمثل موجِّهًا قرائيًا أوليا يدفع القارئ إلى ملاحظة علامات دالة في بناء تلك السيرة، وهي:
- كون فصولها المختلفة لا تعرض حياةَ الكاتب عرضًا يقوم على متابعة مراحلها الزمنية من الطفولة والنشأة إلى التكوين ثم الشباب وما بعده؛ وإنما هي فصولٌ يقوم معظمُها على استعادة لحظة ما من ماضي الكاتب والوقوف أمامها بالتحليل والكشف عن عناصرها من ناحية، وبيان تأثيراتها على صورة شخصية الكاتب كما تتراءى له في لحظة الكتابة من ناحية أخرى.
ومن هنا تكتسب تلك “اللحظات” أهميتَها في مسيرة هذه الشخصية. وهي لوحاتٌ تكتسب ترابطها من كون الشخصية الرئيسية والصوت الرئيسي في كل منها هو الكاتب وهو الراوي وهو المَروِيُّ عنه أيضًا، وهو يقدم نفسه من البداية للقارئ بهذه الوضعية التي هي مقومٌ جذري من مقومات الكتابة السير ذاتية.
كما تتسم هذه اللوحات بالتنوع في خطابها الفني؛ فمعظمُها لوحاتٌ قصصيةٌ مرنةٌ في أبنيتها، وبعضُها يندرج في إطار صيغة المقال أو صيغة الشهادة، وبعضُها الآخر ينضوي في إطار المحاورة المتخيلة على ذلك النحو الذي يتجلَّى في فصل “الخروج من الكهف”؛ حيث يُعنى الكاتب بوضع محاورة افتراضية مُتخيَّلة تدور بينه وبين أفلاطون؛ وذلك ليعرض مفهوم “الكهف” في نص أفلاطون الرئيسي “الجمهورية” ليحلل هذا المفهوم من ناحية، وليتخذ منه من ناحية ثانية وسيلةً لتصوير ذلك الشعور بالحاجة إلى تنمية فكرة مسئولية الكاتب والفنان عن أداء رسالته الاجتماعية مما يؤكد رؤية مكاوي الضمنية لفعالية الفن والأدب في ترسيخ فكرة تغيير الواقع؛ إذ يقول النصُّ:
(قال الشيخ “وهو يقصد به أفلاطون” قبل أن يتلاشى ويذوب تحت أشعة الشمس: ومع ذلك لا تتوقَّفوا عن محاولة الإنقاذ. لهذا عشتُ ولهذا أدعوكَ أنتَ وكلَّ من يحمل قلما في يده أو ريشة أو أزميلا .. تذكروا أن الفكرَ إنقاذٌ والشعرَ إنقاذٌ والفنَّ إنقاذ. ولا تنسَ يا صديقي أنه لن ينقذكَ سواكَ، ولن يغيرَ العالمَ إلاك أنتَ وأمثالُك)(1).
ولا ريب أن مثل هذا الحوار الفني، الذي يعبر فيه صوتُ أفلاطون عن صوت الكاتب والراوي، تمثيلٌ لمعاناة الذات لتشكُّكها أحيانًا في جدوى ما يقوم به الكاتب في واقعه الفعلي من دعوة للعالم إلى الإيمان بقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان في الاختلاف مع الآخرين من أبناء مجتمعه في ظل الالتزام بما تواضع عليه مجتمعُه من قيم أخلاقية وسلوكية حاكمة وموجِّهة لتلك الأنماط من الاختلافات.
وتتألف هذه السيرة من مجموعتين من اللوحات:
- تحمل أولاهما عنوان “من نبع الشعر”
- على حين تحمل ثانيتهما عنوان “من وحي العمر”
وتتماثل الوحدتان؛ إذ تتشكل كلُّ واحدةٍ منهما من اثنين وعشرين نصا لكل واحدٍ منها عنوانٌ خاص به. ويبدو لنا أن عنوان المجموعة الأولى “من وحي الشعر” عتبة دالة على أن المصدر الرئيس لتشكيل كل فصل من فصول ذلك الجزء هو تأثرُ الكاتب بعمل فني دفعه إلى صياغة لوحة قصصية بعينها. وقد كان الكاتب حريصًا على أن يُبرز في مجموعة من الهوامش، التي وضعها في نهاية كتابه، النصوصَ الشعرية أو الفنية التي استلهمها في فصول ذلك الجزء. ولقد كشف هذا المسلك عن أن سبعة عشر نصا من هذه النصوص قد اعتمد الكاتب فيها على قصائد لشعراء أوربيين، على حين اعتمد نص وحيد على إحالة إلى قصة (2).
وإذا كانت تلك العلامة دالة بوضوحٍ على الغلبة الجلية للتفاعل بين نصوص الكاتب ونصوص شعرية فإن لها شأنًا آخر بما تقدمه من إحالاتٍ صريحة إلى النصوص الأولى التي تحمل حينئذٍ دلالتين بالغتي الأهمية من حيث كشفهما عن مؤشرات تؤكد إمكانيةَ قراءة هذه اللوحات على أنها “عناصر” ذات صلة وثيقة بالسيرة الذاتية؛ إذ نراها تفسيرا دالا يقدمه الكاتبُ لِمَا يشعر به القارئ بقوةٍ وهو يتابع تلك الفصول، وهو إحساسه أن الكاتب كان يمارس (الحياة للشعر وبالشعر)(3)، ومن ثمَّ فكلُّ نصٍّ من تلك النصوص يحمل دلالات متعددة على علاقات الكاتب بوصفها النصوص الأولى أو النصوص المصادر، ويجعل من تلك العلاقات “تمثيلات” شعرية لقراءات الكاتب العميقة لتلك النصوص المصادر التي تحولت إلى مكونات فاعلة في نسيج وجوده الفني والشعوري المندرج في سياق هويته الذاتية، كما أنها إضاءاتٌ لعديدٍ من عناصر تكوينه الفني بوصفه إنسانا يحيى بالشعر وله في آن.
وذلك ملمحٌ نظنُّ بقوةٍ أنه علامة بالغة الأهمية في مجمل كتابات عبد الغفار مكاوي وترجماته المتنوعة؛ إذ يشعر قارئها بقوةٍ أن ثمة منحى شعريا جليا يغمر تلك الكتابات مما يجعل من معالجة الكاتب لتلك النصوص الأولى دوال على ما اندمج في أنسجة تكوينه أو هويته الفنية والفكرية.
ولعل القارئ لمجمل كتابات عبد الغفار مكاوي الفكرية والأدبية بمكنته أن يجد في تلك القصائد المصادر، وفيما تنتجه استلهامات مكاوي لها، ما يتيح له تمثُّلَ عددٍ من “سمات” مكاوي الإنسان التي تمثُّلُها كتاباته. ولعل ما يؤكد للقارئ اندراجَ تلك النصوص الثانية عشرة في إطار السيرة الذاتية أن بعضها يحمل عناصر مأخوذة من مواقف حقيقية مرَّ بها الكاتب في حياته؛ فتوقَّف عندها في متن “النبع القديم” عدةَ مرات في سياقات مختلفة؛ ففي نصّ “رسائل حب” وهو نصٌّ غنائي يتوجَّه به الكاتب إلى حبيبته نجد الكاتبَ يكشف داخله عن أن سبب إنشائه ذلك النص هو لقاؤه بأحد أصدقائه في مستشفى حيث كان يعيش اللحظات الأخيرة من حياته نتيجة مرضٍ شديد أصابه؛ فيصوِّر مشاعرَ الألم والحزن التي سيطرت عليه في تلك اللحظات. ويشير في الهامش الذي يؤدي دورا تفسيريا ومكمِّلا للوقائع المشار إليها في متن “النبع القديم” إلى أنه يتناول فيه بعضَ الوقائع المرتبطة في ذاكرته بلحظات اقتراب صديقه فاروق خورشيد (1928-2005) من الوفاة.
وفي الجزء الثاني من “النبع القديم” يقدم نصّ “عدم.. عدم” الذي يسرد فيه وقائع متعددة من لقائه الأخير بفاروق خورشيد في مرض وفاته بالمستشفى(4). وبذلك يتكامل النصان؛ إذ ينطويان في الأصل على وقائع “حقيقية” حدثت بالفعل في حياة الكاتب الذي اختار معالجتَها بمنحيين مختلفين؛
- أولهما منحى غنائي خالص جعل من خطابه خطابًا شعريًا يجسد أحاسيسه المهيمنة عليه تجاه ثنائية الموت والحياة. ولعل غلبة هذا المنحى على نص “رسائل حب” قد جعلت سرد الوقائع في منزلة ثانوية إذ تشكل السياقَ الذي غمرت فيه نفْسَ الكاتب تلك المشاعرُ المتناقضة بين شعور الحزن والاكتئاب من معايشة لحظة اقتراب الصديق من الموت من ناحية، وشعوري “الحب” للحبيبة بما يمثله من أمل في غدٍ باسمٍ من ناحية أخرى(5).
- وثانيهما منحى سردي يغلب على صوته في نص “عدم.. عدم” حيث يروي مجموعة الوقائع التي حدثت في لقائه الأخير بصديقه فاروق خورشيد، ويعدُّ تكرار تعبير “عدم.. عدم” على لسان خورشيد دالا مزدوج الدلالة؛ فلعله تعبيرٌ عن موقف خورشيد في تلك اللحظات، كما أنه أيضا تعبيرٌ عن شعور كان ينتاب مكاوي في السنوات الأخيرة من حياته، وهو ما أكدته إشاراتٌ متعددة في سياقات مختلفة في عدد من فصول تلك السيرة.
وجاء ثاني القسمين يحمل عنوان “من نبع العمر” حيث يدور السرد في كل فصل حول إحدى الوقائع التي وقعت للكاتب في مرحلة ما من حياته وأثَّرت بقوة في تشكيل شخصيته أو هويته، وفي معظم فصول ذلك الجزء تبدو الصلة المباشرة بين الحادثة التي يسردها الكاتب وواقعة “حقيقية” في حياته مما يؤكد الطابعَ السير ذاتي لما يحكيه ويحقق من ثَمَّ شرطًا من شروط وصف نص ما بأنه من نصوص السيرة الذاتية؛ وهو إعلان الكاتب أن ما يسرده أو ما يحكي عنه هو حدث وقع له بالفعل في لحظة ما من مسيرته الحياتية.
إقرأ أيضًا: منهجية طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى الجزء الأول
ويستند تأويلنا لنص مكاوي “النبع القديم” إلى ملاحظة تبدت لنا خلال قراءتنا لها عدة مراتٍ قوامُها أن السؤال عن “الحقيقة” إشكالٌ كامنٌ في طبقاته العميقة، وأن ثمة إمكانية لتأويل خطابه على أن شعريته تنبع من تغلغل عناصر البحث عن “الحقيقة” في مختلف نصوصه. ويندرج في إطار تلك “الحقيقة” كلُّ ما يمثل الجوهرَ الحقيقي لما كان من وقائع وأحداث ومواقف ولحظات وضعها الكاتب موضعَ استعادة وتساؤل لحظةَ إبداعه نصوصه؛ مما جعل من خطاب الهوية الذي ينتجه “النبع القديم” خطاب سيرة ذاتية متجلية من جدل البحث عن “الحقيقة” وعناصر التشكيل والصياغة الجمالية.
ومن ثم ستعمل قراءتنا على استكشاف توجهات الكتابة في “النبع القديم” عبر تجلية ظواهر الجدل بين التيمات المتعددة فيه وعناصر تحقيق شعريتها في وعي القارئ. ولعل هذا المنحى في القراءة يكشف لنا ابتداءً عن إمكانية التفريق بين منحيين في تلك الكتابة، وهما:
- منحى تجلية الهوية
- منحى تمثيل الهوية
وفي كل منها ينتج منحى الكتابة من جدل التيمة وعناصر تحويلها إلى مادة محقِّقةٍ لشعرية كتابة الذات؛ بما يُكسب خطاب “النبع القديم” خصوصيته في إطار خطابات السيرة الذاتية الفكرية المعاصرة، وهي خطابات تتطلب قراءات متعددة لتنوع تجلياتها في الثقافة العربية المعاصرة(6). وفي ضوء تلمُّسنا هذين المنحيين سنعملُ على إنجاز قراءة ثقافية تبتغي جلاءَ تجليات الجدل بين سؤال الحقيقة وشعرية هذه السيرة الذاتية الفكرية بما يُفضي إلى الكشف عن خصوصيتها الثقافية والجمالية.
الشعرية والمراوحة بين انجلاء الهوية وتجلية الهوية
تندرج مجموعة من المسالك الغالبة على خطاب مكاوي في “النبع القديم” في إطار ما نصفه بأنه “انجلاء الهوية” و “تجلية الهوية“، ونعني بها مجموعة خطوط أو تيمات رئيسية وفرعية تقوم على تأمل الذات ذاتَها عبر استعادة وقائع وقعت لها فتستعيدها وتسردها من منظورها، وتأخذ في تفسيرها أو تعمل على إبراز مُستخلصات منها تشكل أنماطا من الخبرات، كما تضم أيضا عددا من عناصر رؤية الكاتب لبعض مكونات هويته. وستعمل قراءتنا تلك على جلاء تلك الخبرات والعناصر وتجلية شعرية صياغتها لبيان خصوصيتها.
وفي القسم الثاني من قسمي “النبع القديم” نلحظ أن ثمة خطابا سرديا شبيها بالخطاب المتواتر في معظم صيغ كتابة السير الذاتية؛ إذ يغلب على نصوصه كونُها نصوصًا حكائية يستعيد الكاتب والراوي والمروي عنه في كلِّ نص منها واقعةً من الوقائع التي مرَّت به في مرحلة من مراحل حياته المتعددة من الطفولة والتكوين إلى ما بعدها من الشباب والرجولة ثم الكهولة، ليقوم بإضاءة تلك الواقعة. ويبدو هذا الخطاب السردي قرين عدد من التيمات الأساسية في “النبع القديم”، ومنها تيمة الطفولة، وتيمة البدايات، وتيمة اللحظات الفارقة، وتيمة الموت، وتيمة العلاقة العاطفية، وتيمة الأسرة.
-
(1/2) تيمة الطفولة ومرتكزات الهوية
إن تيمة الطفولة واحدةٌ من التيمات الأساسية في أبنية السيرة الذاتية بمختلف صيغها؛ لأن تلك التيمة تعدُّ العنصرَ الأساسي في مرحلة التكوين التي تضم مجموعةً من الخبرات التي تلازم صاحبَ السيرة طوال مسيرته الحياتية، كما أن كون تلك المرحلة أولى مراحل العمر يدفع كتَّاب السيرة الذاتية إلى تقديم كثير من عناصرها التي تفسر شخصياتهم (7).
وفي “النبع القديم” ارتبط جِلاء مكاوي لتلك المرحلة بالنصِّ الأول في قسم “من نبع الحياة”؛ إذ بدا متعلقا بتصوير لحظة مولد الطفل “عبد الغفار مكاوي”، وهو نص “التوائم الثلاثة”؛ حيث سرد الراوي أنه كان أحد توائم ثلاثة، وأنه كان آخرهم وصولا إلى هذا العالم. وقد قرن صورةَ ذلك الوليد بعدة عناصر أساسية أبرزُها
- كونه ذا جسم ضئيل وهزيل، ولعله ظلَّ، في مختلف نصوص ذلك القسم، يكرِّرُ وصفَه لذلك الطفل بأنه كان يتصف الهزال والضعف، وشدة النحول مثل (فأر صغير)، وهي أوصافٌ كثيرة الدوران في عدد من نصوص القسم الثاني.
- وثمة عنصرٌ آخر ماز ذلك الطفل، من البداية، وهو أنه استقبل العالم بصراخه (لا) الذي وصفته جدتُه بأنه كررها ثلاث مرات.
واتخذ الكاتب من تكرار تلك الصرخة التلقائية وسيلةً لتفسير ملمح عام يراه هو أصيلا في مسلكه طوال حياته؛ فإذا كان أخواه الآخران قد ماتا بعد شهرين أو ثلاثة من مولدهما فإنه ظلَّ الوحيدَ من أولئك التوائم الثلاثة حيًّا..(وقد مرَّت الأيامُ والأعوامُ وذهب الشقيقان ولم تنفعْهما قوتُهما وتورُّدُ وجهيهما بالصحة والعافية. ورحل الأبُ والأمُ والأخت الكبيرة والتُربي وبقي الصارخُ باللا حيًّا يعاني ويكابد، ويعلِّم ويقرأ ويكتب ولا يكفُّ عن ترديد صرخته ليلَ نهار. وبما تسللت اللا إلى كلماته وعباراته واختبأت في قصصه ومسرحياته وسائر كتاباته، لكنها ظلَّت على الدوام صرخةً هامسةً وحيدة عاجزةً، لهذا بقيتْ بغير صدى ولم تترك أيَّ أثر)(8).
ولا ريب أن تفسير الكاتب لعلاقة “لا” لحظة الولادة ب “لا” الكامنة في مشروعه الثقافي، ووصفه “لا” الثانية تلك بكونها “هامسة” و”وحيدة” و”عاجزة”، ووصفه “لا” المضمنَّة في كل فعلٍ مارسه يعدُّ منحى شعريًا ينتج من العلاقة بين تلك الأوصاف وصيغ الأفعال التي تحفل بها هذه الفقرة. وبقدر ما تمثل عبارة (بقيتْ بغيرِ صدى ولم تتركْ أيَّ أثر) في نهاية الفقرة تعبيرًا عن خيبة أمل دالة فإنها تحمل أيضًا نوعًا من العزاء للنفس؛ لاسيما حين يتذكر القارئ أن كاتب “النبع القديم” قد عبَّر في فقرات متعددة منها عن حيوية بقاء الأمل في فاعلية عمل الكاتب والمثقف حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
وإذا كان ذلك الطفل قد فقد شقيقيه التوأم فقد ظل يسعى أحيانًا إلى استعادتهما؛ فأخذ يبحث عنها وحدَه وبنفسه في المقابر بعد حصوله على الشهادة الابتدائية بقليل، مما جعله يألف القبورَ ويتقبَّل الموتَ بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر ثنائية الحياة والموت، كما يؤمن بأن الموتى يعيشون مع الأحياء، وأنهم قريبون منهم يحومون حولهم ويرفرفون بأجنحتهم فوقهم، ويطمئنون عليهم بالليل والنهار، وربما يهمسون لهم في الصحو أو المنام برغبةٍ أو حنين. وذلك ما أشعره بالسعادة (9).
وإذا كان “الموت” تيمة محورية في “النبع القديم” فهو يظلِّل كثيرًا من اللحظات التي عاشها مكاوي في سيرته تلك، كما أنه ظلَّ يمثل شبحا حاضرا في كثير من مواقفها. ولهذا فقد لجأ الكاتب إلى تشعير لحظة استحضار الميت في وجدانه؛ وذلك عبر الحلم الذي لا يعدُّ محضَ تقنية فنية لتجاوز قيود الواقع المعيش بل يعدُّ أيضًا وسيلةً من وسائل إشباع الرغبات التي يستحيل تحقيقُها أو إنجازُها في عالم الواقع؛ ليصير ذلك الحلم وسيلةً لإكمال نقص الواقع وتجاوز قيوده؛ فالراوي يسرد حلمًا رآه التقى فيه بأبيه في حديقة تحيل أوصافها الحسية التي قدمها نصُّ “تحت الخيمة” إلى أنها صورة الجنة في المتخيَّل الثقافي العربي(10) حيث يلتقي بأبيه الجالس تحت الخيمة في نفس المندرة التي كانت في بيتهم القديم، وعلى نفس الكنبة التي كان يتربع عليها الأبُ مُلتفًّا في عباءته، وفي حِجره مصحفٌ يقرأ آياتِه في خشوع.
ويدور الحديث في ذلك اللقاء من طرف واحد؛ فالابن يسأل لكن الأب لا يجيب، والابن يشير – في ثنايا حديثه- إلى عدد من الوقائع “الحقيقية” في حياته هو وأبيه – مثل: سفر الابن للدراسة بالخارج، ونطق أبيه (الفلفسة) بدلا من (الفلسفة)، وإرساله إلى أبيه قبل رحيله بأسابيع قليلة طردًا به غطاء للرأس من الفراء وقفازا من الجلد السميك وغطاء للأذنين وجوربًا من الصوف، لكن الطرد تعثر في “البريد الحكومي”- ومن ثمة ينتهي هذا اللقاء بحديث الابن الأخير إلى أبيه:
(مازلتَ يا أبي صامتا وبعيدا، كأنك صمَّمتَ ألا تجيبَ على أسئلتي أو تنطقَ بكلمة تدلُّ على أنك عرفتَني.. عيناكَ مُطرقتان ومُثبَّتتان على المصحف بين يديكَ.. شفتاكَ تتحرَّكان وتتمتمان بالآيات الكريمة دون توقُّف. وأنا واقفٌ أمامكَ كأني أصرخُ من داخل غيمةٍ أو سحابة كثيفة تطويني.. ومازلتُ يا أبي أصرخُ كما فعلتُ طولَ العمر وأهتفُ كشبحٍ عاجزٍ مخبولٍ.. كلِّمْني يا أبي ..ردَّ عليَّ.. متى بالله عليك تراني وتجيب سؤالي؟ متى؟.. متى يا أبي؟)(11).
وتنبع شعرية ذلك الخطاب من استحالة تحقيق التواصل بين المتكلم أي صوت الكاتب والمستمع أي الأب المستدعى في مخيلة ذلك المتكلم؛ فبين الصمت المُطبِق والثبات التام يظلُّ الأب في مقابل الأسئلة المتوالية المصحوبة بالصراخ من الابن؛ لتتجسد صورةُ الغربة القاسية التي يعانيها ذلك المتكلم الذي أفصحت سيرته “النبع القديم” عدةَ مرات عن شعورٍ جارف بغربةٍ شديدة كانت تفصله عن أبيه حيًّا؛ فإذا بها تصير غربة عاتية؛ فأنَّى الخلاص منها!
(2/2) تيمة الأسرة ومجالي الغربة
تبدو تجلية “النبع القديم” لعلاقة مكاوي بوالديه كاشفةً عن عدد من الأبعاد الخاصة بتجربته الحياتية التي تعكس عديدًا من أنماط القيم الاجتماعية الشائعة في مجتمعه الأول على الأقل؛ أي مجتمع النشأة الأولى وهو مجتمع شمال شرق الدلتا حيث وُلد مكاوي بإحدى قرى “بلقاس” التابعة لمحافظة الدقهلية في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، في مجتمع تغلب على معظم أفراد مهنةُ العمل بالزراعة وما يتصل بها. وقد تبدى من مواضع متعددة في سيرته “النبع القديم” أن أباه كان تاجرا للغلال يمارس نشاطَه التجاري في قريته تلك، كما بدا ذلك الأب نموذجًا، في مسلكه اليومي، لتحقيق القيم الأخلاقية المستمدة من المصدر الديني حيث يُعني بإزالة الأحجار من الطريق تحقيقا لقيمة إزالة الأذى عن الطريق (12)، كما يلتقط الأوراقَ التي تتضمَّن اسمَ الله أو آيات قرآنية فيقبلها (ويضعها على جبهته ثم يركنها بحرصٍ وحنانٍ بجوار سور أو جدار) (13). وهو أبٌ حريصٌ على توجيه أبنائه وتعليمهم، لكن ابنه الطفل والصبي ظل يشعر بغربةٍ تفصله عنه فإذا كان ذلك الأب يستمع إلى بعض ما يحكيه له طفلُه في لقائهما اليومي عند عودتهما إلى بيت الأسرة فإنه كان يبدو دائما لذلك الطفل غائبًا في قوقعته أو كما وصفه الطفل الذي يحكي عن رغبتَه في أن يقصَّ لأبيه الكثيرَ مما مرَّ به يومه الدراسي:
(لكنني أنظرُ إلى أبي فأجده قد التفَّ على نفسه وتحصَّن في حصنه وأصبح بعيدًا عنِّي بُعدَ الكواكب والنجوم)(14)
بما يعكس تلك الغربة التي كان يشعرها ذلك الطفل بقوةٍ تجاه أبيه، وظل ذلك الطفل، ثم الشاب والرجل أيضا، يتلهَّفُ كما يقول بصوته الخافت: (أتلهَّفُ على المستحيل الذي تمنيتُه، واكتفيتُ بأن أحلمَ به: بقبلةٍ من شفتيه أو ضمَّةٍ من صدره، أو نظرةِ حنان إلى الغراب الصغير آخر العنقود الذي جاء على غير انتظار، واستمرَّ في الحياة بعد موت شقيقيه التوأمين دون مبرِّر، وظل طولَ عمره يحاول أن يعبرَ مسافةَ البعد الهائلة بينه وبين أبيه الشيخ الطاعن في السنِّ وفي الصمت)(15). على حين عكس تصوير الكاتب لأمه صورةً لأم تتفاني في القيام بدورها الأسري والاجتماعي، وتعاني بعض المعاناة التي تعانيها النساء في الريف المصري من جراء إصرار الأسر على عدم منحهنَّ حقوقهن في الميراث(16).
(3/2) تيمة الأوليات والبدايات واللحظات الفارقة
من التيمات الرئيسية في أنماط السير الذاتية المختلفة تيمة سرد “الأوليات” و”البدايات” و “اللحظات الفارقة” التي يتوقف فيها أصحاب تلك السير وكتَّابها عن اللحظات التي تمثل بدءَ علاقاتهم بالأشياء أو بالعالم أو بالآخرين لأنها لحظات تقترن بإدراك جديد لذلك الآخر أو تنطوي على إثارة وعي جديد بشيء ما أو موقف ما او شخص ما مما يؤدي إلى التأثير في صاحب السيرة، ويظل ذلك التأثير فعالا في سلوكه ونظرته للآخرين وللحياة (17).
وفي “النبع القديم” تبدو تلك التيمة حاضرةً في عدد من نصوصها مثل “ستي ستيتية” و”القلم”، وكلاهما يصوران المرةَ الأولى التي ذهب فيها الطفل إلى المدرسة (18) فكانت تلك لحظةً فاصلة في حياته بما انعكس عنها في سلوكه وشخصيته، وبما صار “ثابتًا” في هويته. وتبدو “ستيتية” جارة ضحوكًا، مقبلةً على الحياة، مستمتعةً بما فيها، وساخرةً مما يلمُّ بها من أزمات، ومتعاليةً على تلك الصعاب التي تواجهُها. وقد تذكرها الكاتب لأن لحظة الاستعادة والكتابة كانت بداية العام الدراسي وقد أحيل على المعاش وتوقَّف عن التدريس وبدت عليه مظاهرُ التقدم في السنِّ، فكان أن تذكر يومه الأول في المدرسة حيث تأخَّر الحنطور الذي سينقله إلى المدرسة، وكان الجو شتويًا ماطرًا بغزارة إذ ملأت السيولُ الشوارعَ وصارت أكوام الوحل كالتلال الصغيرة، وأصبحت البِرَك تتسعُ في الشوارع والحواري التي لم يدخلْها الصرف الصحي.. وقد توقَّف الطفل بأدواته المدرسية أمام منزله ينتظر الحنطور الذي لم يأت، وأصرت “ستيتية” على توصيل الطفل إلى مدرسته، وأخذت خلال تلك الرحلة تعلِّمُه دروسا في محبة الحياة والإقبال عليها بالأمل والتفاؤل في الغد، وتكرِّر الإشارةَ إلى قيمة الضحك بوصفه وسيلةً لتقبل الحياة وبثّ الشعور بالأمل(19). ولعل ذلك الشعور بالأمل قد ظلَّ كائنًا في هوية مكاوي على نحو ما كشفت عنه عدة نصوص في “النبع القديم”. ولكن المفارقة الكامنة كانت في نهاية حياة “ستيتية” إذ ماتت من الضحك!(20).
إقرأ أيضًا: هل كان الدّين بمعزل عن الشعر؟ الجزء الأول
وقد استعاد السارد يومَه الأول بالمدرسة حيث وصف أجواءَ تلك المدرسة والتعليمات التي قدمتها إدارة المدرسة والمدرسون، ولاسيما مدرس اللغة العربية الذي دعا تلاميذه إلى الكتابة والسرَحان بخيالهم في كل ما حولهم والنظر إلى كل ما يحيطُ بهم والإفادة من كل ما حولهم فيما يكتبون. وحين استجاب الطفل لتلك “الدعوة” فسرَح بخياله يحلِّق بعينيه في السقف ويتطلَّع بهما من النافذة المجاورة لمكتب المعلم إلى السماء التي تغطيها الغيومُ فما كان من المعلم إلا أن لطمه بالقلم على صدغه لطمةً لسعتْه كالسوط وزلزلت، فيما يقول، دماغَه وكبست الطربوشَ على عينيه فغطى وجهَه، ثم أمره المعلم بغسل وجهه.
وتبدو أهمية استعادة تلك اللحظة في حياة مكاوي وشخصيته من كونها دافعة إلى معاودة تأمل الذات؛ إذ يقول:
(مازلتُ أتذكر ذلك القلمَ الجبار وتلك الصيحةَ المباغتة، وكلَّما خطرا على بالي تحسستُ وجهي وهززتُ رأسي لكي أفيقَ وأمعنَ في التركيز الذي علَّمتني الأيامُ أنه أبُ الفضائل جميعا. لكن هل استطعتُ منذ ذلك اليوم الأول حتى بلوغي سنّ المعاش ودخولي في الشيخوخة – أن أفيقَ تماما من السرحان والتوهان والسقوط في الغيبوبة مع كل عملٍ أُقدِمُ عليه أو كل كتابةٍ أشرعُ فيها؟ لا أظنُّ ذلك. ربَّما عزَّيْتُ نفسي أحيانا بأن معظمَ أعمالي هي أبناء وبنات الصمت والسرحان والتوهان، وأن غيبوبة الكاتب في ملكوته لا يُخرجه منها أن يغسلَ وجهَه وعينيه بمياه كلِّ البحار)(21).
وبذا تقترن شعرية الاستعادة تلك بتجلية مفارقة أن يظل أثر ألم اللطمة حيًّا في وجدان مكاوي، وأن يتبدى له – في لحظة الاستعادة تلك التي ليست إلا محضَ لحظة من آلاف اللحظات التي يحتفظ بها في وعيه وتبدو فاعلة في ذلك الآن- أنه قد أدرك أن (التركيز أبُ الفضائل جميعا) بينما معظم أعماله (أبناء وبنات الصمت والسرحان والتوهان) مما يعني مفارقة الظاهر والباطن المصاحب له!
وتبدو تيمة سرد “البدايات” أو “اللحظات الفارقة” تلك فاعلة في “النبع القديم” وذلك لميل مكاوي إلى أن يتخذ من عديدٍ من تجلياتها وسيلةً لإضاءة أو تفسير عناصر يراها جوهرية أو أساسية أو راسخة في هويته كما يتمثلها هو بوصفه ذاتا تتأمل موضوعا هو نفسُه إياها. كما يتخذ منها وسيلةً لتفسير ما يرى أو يظن أنه سمة، في شخصه أو مسلكه، يراها الآخرون.
ومن ذلك ما يكشف عنه نصُّ “أحمس” الذي يحكي فيه مكاوي عن تجربة ممارسته التمثيل في المدرسة الابتدائية في مسرحية أعدَّها مدرسُ اللغة العربية عن رواية “أحمس بطل الاستقلال”(1943) لعبد الحميد جودة السحار(1913-1974). وأشار مكاوي إلى أنه رُشِّح في البداية لأداء دور “أحمس”؛ حيث تدرَّب على دور البطل “أحمس” الأمير الذي يضع تاجَ الوجهين القبلي والبحري على رأسه، ويحملُ الدرعَ والحربة في يديه، ويقود جنوده أمام حصن العدو.. ولكن المعلم الذي كان يشرف على هذه التجربة حرمه من أداء هذا الدور وأسند إليه دورًا في إطار الكومبارس ونصحه:
(لا تتطلعْ أبدًا إلى ما يخالفُ طبيعتَك.. تأكَّدْ أنكَ خُلقتَ للدور الذي وصفتُه لك وحاولْ أن تتقنَه) (22).
ثم يعلق مكاوي: (وعلَّمتني الأيامُ صدقَ كلمات المعلم بالرغم من قسوتها، وعشتُ منذ ذلك اللقاء وتلك التجربة الصغيرة عيشةَ الكومبارس بين المهمشين ومجاميع البسطاء والفقراء والمجهولين، واستطعتُ مع الأيام أن أقتلَ في نفسي أيَّ نزوعٍ إلى البطولة أو الزعامة أو القيادة أو السلطة أو التسلُّط على اختلاف أشكالها وألوانها) (23). ولعل استعادة تلك الحادثة قد أفضت إلى خطاب اعترافي يجمع بين تفسير الكاتب لبعض ما يرى أنه غلب على سلوكه طوال حياته من ناحية، والتعبير عن تعزية النفس من ناحية أخرى، وهي تعزية أسهمت بقيةُ هذه الفقرة في ترسيخها في وجدان القارئ (24).
ولعل الوقائع المتصلة بتيمة “البدايات” أو “اللحظات الفارقة” لا تستمدُّ أهميتَها من سبقها التاريخي لغيرها من الحوادث التي تلتها، بل من قوة تأثيراتها في نفس من مرَّت به وفي شدِّة آثارها التي ظلت معه طوال مسيرته الحياتية، ولعل هذا ما تتضح أهميتُه حين يتأمل القارئ سرد مكاوي ما يتعلق بعديد من تلك اللحظات الأولى أو “البدايات”؛ ومن ذلك سردُه لما يتعلق بتجربة المرة الأولى التي شاهد فيها فيما في دار السينما بطنطا؛ حيث استعاد عديدًا من وقائعها، وعلى الرغم من أنه لم يذكر، أو بالأحرى لم يتذكر، عنوان ذلك الفيلم كما أنه لم يتذكر كثيرًا من أحداثه فإن ما علِق بذاكرته إنما هو أداء شارلي شابلن (1889-1977) لشخصية “الفرهرر المهوس” في إشارة جلية إلى “هتلر”(25).
وهو يتذكر تلك الواقعةَ لأنها كانت بداية تعلقه بأفلام شابلن سواءٌ الصامتة أو الناطقة من ناحية، كما كان الفيلم منبِّهًا له إلى مختلف صور الطغيان وصوره المختلفة من ناحية ثانية، فصار ذلك الموضوع شغلا شاغلا في بعض دراساته الفلسفية ومقالاته الأدبية، بل إن (صورة الطاغية المرعب قد تسرَّبت مع مرِّ السنين إلى لا وعيي، وعملت مؤثراتٌ أخرى عديدة على أن تصبح قضية الحرية هي قضيتي الوحيدة في الحياة، وأن تدور معظم أعمالي المسرحية والقصصية القليلة والمتواضعة حول موضوع الطغيان والطغاة الكبار والصغار)(26). وبذلك تؤدي لحظة الاستعادة إلى منح الكاتب إمكانية أن يصير صوتُه في لحظة الكتابة مفسِّرًا لعنصر من العناصر الأساسية في مسلكه؛ وبذلك تكتسب تلك اللحظة المستعادة أهميتَها من منظور الكاتب الراوي والمروي عنه معًأ.
(4/2) تيمة تجربة العلاقة العاطفية وتجلية ثنائية الأمنية والتحقق
نالت تيمة “العلاقة العاطفية” بالمرأة مساحة محدودة في “النبع القديم”؛ فباستثناء إشارات محدودة في بعض المواضع تجلت هذه التيمة في نصين وهما “النبوءة” و”القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية”، وأولهما لا يقدم واحدةً من التجارب العاطفية التي عاشها مكاوي بل يتضمن وصفًا موجزًا لموقف رحيل أول محبوبة تعلق بها في طفولته، إذ رحلت في حريق حلَّ ببيت أسرتها، وكان الطفل قد رأى في منامه، من قبلُ، رؤيا حريق، وحين وقع الحريقُ أخذ يتابع آثارَه كما مضى يتابع الجنازةَ ويتعقَّب وقائعها. وهو يستعيد ساردًا:
(وتبعتُ الموكبَ من بعيدٍ كأني حيوانٌ منبوذٌ وطريد، تطفرُ الدموعُ من عينيه وهو مذهولٌ، وتنغرز سكينُ الموت المحتوم لأول مرةٍ في قلبه، فيطلق اللعناتِ على القدر القاسي الذي قضى على حبِّه وأمله الوحيد عندما قضى على المحبوبة المُدَّدة في نعشها الصغير. وبقيتُ واقفًا على بُعدٍ من الجامع، مستندا إلى جدارٍ ووجهي بين يديَّ أخفيه عن الأعين كما يخفي الذئبُ خطيئتَه ويحاول أن يداري جريمتَه)(27).
ولعل صورتَيْ (كأنَّي حيوانٌ منبوذٌ وطريد) وإخفاء الراوي وجهه بين يديه(كما يخفي الذئبُ خطيئتَه ويحاول أن يداري جريمته) تكتسبان دلالتهما من كونهما منتجتين لشعرية لحظة الفقد لدى طفلٍ تعلَّق بحبِّه الأول تعلُّقًا صامتًا وجوانيًا؛ حيث تعكسان الغربة الشديدة التي كان يشعر بها في علاقاته بمن حوله، قدرَ تآلفهما معًا لجلاء إيحاء دال بكون السياق الاجتماعي للواقعة سياقا يرفضُ بقوة إمكانية وقوع تلك العلاقة العاطفية فتظلُّ سرّاً مكنونا في نفس صاحبها لا يستطيع البوح به إلا في سياق خطاب اعترافي وقد صار كهلا!
وإذا كان ذلك الراوي قد استعاد لحظات طوافه، بعد الجنازة، التي لا يتبين له منها سوى أن حركته كانت (على غير هدى)، وأنه بدا لنفسه كأنه (في حلم كاذب) يعاقبُ نفسَه لرؤياه التي تحققت (28) فإن تصويره بقية جوانب لحظة وقوع الفقد أو الفقدان قد اكتسب دلالته من كونه مجسدا لمرارة الشعور بالفقد الأبدي:
(كانت المصابيح تتلألأ في الصوان الكبير، وتلاوة القرآن تملأُ الأرجاءَ بالرهبة والحزن والخشوع والصبر الصامت الكظيم. رفعتُ رأسي إلى السماء، فوجدتُ نجمًا يرتعشُ بضوءٍ أحمر يترجرج كبقعةٍ من الدم. تطلعتُ إليه وقلبي يهتفُ به: أنتَ يا كوكبَ النحسِ المتربِّص بي. يكفيكَ ما فعلتَ بها وبي. أستحلُفكَ بالله وملائكته أن لا تطاردْني على طريقي. أستحلُفْكَ أن تبتعد عن رأسي ورؤوس أحبابي وأهلي وبلادي)(29).
وإذا كان هذا النص يندرج في إطار تجلية محورية تيمة الموت “النبع القديم” وفي وجدان مكاوي فإن دال على تحول السؤال عن حقيقة الموت إلى لحظة يتوقَّدُ فيها شعور السارد بفداحة الآثار النفسية المترتبة عليه مما يجعله مولِّدا لمنحى غنائي دال محورُه أمنيةٌ مستحيلة: أن يفارق الموت حياته وحيوات كل من يحيطون به؛ ولكن منذ متى كان ذلك اليقين قابلا لتلك الأمنية المستحيلة! ولعل هذا هو مكمنُ تولد شعرية تصوير ذلك الموقف.
إقرأ أيضًا: أين تكمن أزمة المثقف العربي؟
وتعد تجربة مكاوي الدارس الجامعي بألمانيا مع “إيفا” زميلته في تلك الدراسة هي التجربة العاطفية الوحيدة التي نالت قدرًا ملحوظًا من اهتمامه في “النبع القديم”، وهو ما قدمه في نص “القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية”. ويكشف عنوان النص في علاقته بمحتواه عن علاقة بين عنصريه الأساسيين “القارئة الحجرية” و”المومياء الجرمانية”؛ إذ يشير العنصر الأول “القارئة الحجرية” إلى تمثال يحمل هذا الاسمَ بمدينة “فرايبورج” التي درس مكاوي في جامعتها وحصل منها على درجة الدكتوراه، على حين يشير العنصر الثاني “المومياء الجرمانية” إلى وصف أطلقه بعضُ أصدقائه في مصر على زميلته تلك حيث التقوها معه بالقاهرة في لحظة من لحظات اقترابه من الشيخوخة.
ولقد وصف مكاوي تمثال “القارئة الحجرية” وصفا تفصيليا، كاشفًا عن الآثار الشعورية التي ولَّدها إتقانُ إبراز العناصر المختلفة المكوِّنة له، والقدرة على توليد الإحساس لدى المشاهد بما تثيره وضعيةُ القارئة المُصوَّرة من محبة الحياة والسعي للتحرر من أسر الحجر على الرغم من التصاقها به واندماجها فيه، كما وصف “المقبرة القديمة” أو “ساحة السلام” التي يوجد بها هذا التمثال وصفا تفصيليا أيضًا(30) بما يجعل القارئَ قادرا على تمثل الموقف بأبعاده المتعددة.
ولقد وصف السارد “إيفا”، التي يرجِّح القارئُ أن هذا الاسم تمثيلٌ لتلك الفتاة، بأنها زميلة دراسته العزيزة وراعيته خلال إقامته في “فرايبورج” حيث كانت ضمن جمعية صغيرة من الطلاب الألمان الذين يساعدون الطلاب الأجانب. ورغم ما أبدته “إيفا” من اهتمامٍ به ومن إشاراتٍ إلى شعورها العاطفي نحوه لكنه ظل أبيًّا على الاستجابة لمشاعرها تلك.. وظل يرى أنها (ملاك وقديسة)، إنها، كما وصفها هو لم تنقطع يومًا عن العطاء له، وأغرقته بحنانها وهداياها وقدمت له مساعدات جمَّة(31). وهو يصرح:
(كنتُ على وعي تام بأنها تختُّصني بقدرٍ كبيرٍ من التعاطف الذي ينمُّ عن الحبِّ الحقيقي. وربما ساعدت أماراتُ الاكتئاب والانكسار المرسومةُ على وجهي- التي طالما حاولتُ دون فائدة تغطيتَها بالمرح والضحك والثرثرة الثقافية – ربما ساعدت على زيادة اهتمامها بي ورعايتها الدائمة لي)(32).
ولا ريبَ أن عديدًا من الأوصاف والصور التي قدمها مكاوي للعلاقة بينه وبين “إيفا” تعكس جوانب من ظلال العلاقة بين المثقف العربي الشاب الذي يدرس بأوروبا وفتاة أوربية على ذلك النحو الذي تجلى في روايات تمثيل العلاقات بين الشرق والغرب بدءًا من “عصفور من الشرق“(1938) لتوفيق الحكيم، ومرورا برواية “قنديل أم هاشم” (1942) ليحي حقي (1905-1987)، وليس انتهاء برواية “موسم الهجرة إلى الشمال“(1966) للطيب صالح (1929-2009) وغيرها.
إن سارد “النبع القديم” يبدو تمثيلا لذلك المثقف المعني بالنهل من منتجات الثقافة الأوربية الفنية والفكرية أكثر من عنايته بأن يتيح لنفسه إمكانية ممارسة تجربة عاطفية؛ إنه معنيٌّ بأنه يمضي في عالمه الداخلي بعيدا عن إبداء أية بادرة كاشفة عن استجابته لمن تحبه؛ وهو يشير إلى أنه في عودته من رحلة مشاهدة تمثال “القارئة الحجرية” ظلت “إيفا” تحدثه لكنه ظل كما وصف نفسَه:
(لم أرد عليها بكلمةٍ واحدةٍ طوالَ الطريق إلى البيت الذي أسكنُه. استغرقني حلمُ القارئة الحالمة ودخلتُ أنا أيضا في شرنقتي أو قوقعتي الحجرية التي ألوذ بها عادةً من ضجيج العالم والناس. ولازمني الشعورُ بالذنب وأنا أفكر في حالي مع الحبيبة المستحيلة التي تمشي إلى جواري، وأرى على وجهها علامات الألم والأسى الممتزج بالمرارة وخيبة الأمل)(33).
وإذا كنت “إيفا” تمثل صورة مكررة لنموذج الفتاة الأوربية في سلسلة روايات العلاقة بين الشرق والغرب في سياقات الثقافة العربية الحديثة فإن سارد “النبع القديم” قد ظلَّ وفيا لنفسه، أو لهويته الخاصة! إنه يصرُّ على أن يبدو سلبيا إزاءها لا يستجيب لنداءاتها العاطفية الضمنية التي يكشف عنها سلوكها إزاءه: (وعندما وصلنا إلى البيت الذي أسكنُه وقبل أن أمدَّ يدي لتوديعها، فوجئتُ بصدرها على صدري وشفتيها على شفتي وذراعيها تضمَّاني إليها بشدةٍ. أحسستُ بجسدها الضئيل النحيل وهو يرتعشُ وينتفضُ كجسد طائرٍ يحتضر. ربتُّ على ظهرها وأنا في غاية الارتباك، وقلتُ وأنا أتكلَّفُ الابتسام: أنتِ بنفسِكِ عقدتِ زواجي على القارئة الحجَرية. لا تنسيَ بعد الآن أنني حجرٌ. نظرتْ إليَّ صامتةً، ثم هزَّت رأسها وهمستْ: أراك غدًا في الجامعة) (34).
ويعمل الكاتب، بوصفه راويا ومرويا عنه أيضًا، على تبرير مسلكَه إزاءها تبريرا يستند فيه إلى ما ترسَّب في وعيه من خبراتٍ لعلها برزت بقوةٍ لحظة استعادته تلك التجربة في شيخوخته؛ فهو يتساءل: (وماذا كان بوسعي أن أفعل وقد منعتني طبيعتي الشرقيةُ الموروثةُ من أن أشعرَ نحوها بما يشعرُ به الرجلُ نحو الأنثى. وكيف كان من الممكن أن يتطرقَ إليَّ هذا الشعورُ بعد أن ترسَّخَ في قلبي الإيمانُ الصادق العميق بقداستها وملائكيتها التي تسمو بها فوق المرأة أو الأنثى، كما نطقت كلُّ تصرفاتي نحوها بأنها أختٌ عزيزةٌ ولا يمكن أن تكون إلا أختًا) (35). ورغم هذا فقد ظلت “إيفا” فيما يبدو مصرَّة على تحيا دورَها بوصفها شابةً محبِّة تتطلع إلى إكمال علاقتها العاطفية بمن تحب، لكنه ظل “وفيا” لنفسه أو لهويته الأصلية التي ابت عليها الاستجابة لها: (كنتُ أحسُّ على الدوام أنها أمِّي الصغيرة، كما كنتُ من الفظاظة وقلة الذوق بحيث أصارحها باستمرار بأنها أختٌ وملاكٌ وقديسة. كانت تثورُ على هذه الأوصاف وتغضبُ وتنفجرُ في بعض الأحيان باكيةً. ولكن يبدو أنها اقتنعت أخيرًا بعجزي عن ان أحبَّها كما يحبُّ الرجلُ المرأة)(36). وهذا ما يفسر كونه “الحجر” الهائم حبَّا في القارئة الحجرية!
وقد التقى مكاوي ب”إيفا” بعد سنوات بالقاهرة حين أتت زائرةً ضمن فوج سياحي، فاستقبلها بكل ما يملك من حفاوة وترحاب، وطاف معها على كثير من الأماكن التي لم تكن مدرجةً ضمن برنامج ذلك الفوج، ودعاها إلى سهرة مع أصدقائه المقربين فوصفها صديقه الشاعر الكبير بأنها (مومياء جرمانية).وقد صوَّر مكاوي لحظةَ الوداع: (انتهت الرحلةُ ورحتُ أودِّعُها في المطار، شكرتني من كل قلبها ثم ارتمت على صدري وبكت ورأسُها على كتفي. وأردتُ أن أذكِّرَها بوداعنا بعد زياتنا للقارئة الحجرية وأقول لها سامحِيني، فسبقتني قائلةً وهي تمسحُ دموعَها وتحاولُ أن تضحكَ بصوتٍ عالٍ: أتمنى لك كلَّ خيرٍ- ليتني أنا أيضًا أصبح حجرًا كما قال شاعرُكم القديم)(37).
(5/2) تشعير المادي وتشعير اللحظة واستكشاف هوية الذات
ثمة منحى سردي آخر في كتابة مكاوي سيرته الذاتية في “النبع القديم” قوامُه إدارةُ النص حول شخص ما أو موضوع ما أو لحظة ما، ثم يأخذ في رفد التيمة بمجموعة من العناصر التي ترتبط بلحظة أو لحظات أخرى في مسار حياته، لكنه تتصل بتلك التيمة. أي أن حركة السارد تصبح حينئذٍ أقربَ إلى أن تكون حركة حرة في الانتقال بين الوقائع؛ إذ لا يحكمها حينئذ إلا كون تلك الوقائع والعناصر تدور حول موضوع واحد. وحينئذ يتخذ المنحى الشعري في الكتابة صيغا مختلفة. وقد لجأ الكاتب إلى هذا المنحى في عدد محدود من النصوص، منها: نص “محرقة الشعر”، ونص “الجسور”.
ولعل نصَّ “الجسور” يضيف إلى منحى تجميع مجموعة وقائع من أزمنة مختلفة في حياة الكاتب حول محور واحد منحى آخرُ هو تعريضُ الموضوع لتأمل ذي منحى فلسفيُ يُفضي بالكاتب إلى تحويل العنصر الأساسي في التيمة إلى عنصر حامل لدلالة جديدة يقتنصها الكاتب من تأمله العميق لتلك الوقائع بجزئياتها القليلة. ومن هنا يكتسب ذلك العنصر دلالةً جديدة ذات منحى تمثيلي دال. وعلى هذا فقد تحوَّل عنصر “الجسر” في نصّ “الجسور” إلى تمثيل لحياة الإنسان لاسيما من يعملون لتعليم الآخرين وبثِّ الوعي فيهم؛ وبما أن “الجسر” يمثل في دلالته العامة معنى المعبر الناقل بين ناحيتين أو الواصل بينهما على الحقيقة، فإن الكاتب يصف أعمال الكتَّاب والمفكرين بأنها جسور، ويتساءل عن مدى فاعلية تلك الجسور لمن عبروا عليها، ومن ثمَّ يتساءل هل قدم هو وجيله لهؤلاء الذين أتوا بعدهم جسورًا تُعينهم على بلوغ شاطئ الأمان أو تغرس فيهم ثقافةً حيةً وفاعلةً وتشجعهم على الاقتحام والتجاوز والإبداع والابتكار)(38).إنه يجعل من تلك الدلالة الجديدة للجسر وسيلة لتبيان حقيقة ما قدمه هو والآخرون من أجيال المثقفين إلى من تلوهم زمنيا وعن تأثيرهم في تلك الأجيال. ومن ثم يؤكد تلك الدلالةَ الجديدة بما يبرز المغزى الأخلاقيَّ العميقَ لها في صورة ذات تأثير شعوري غامر:
(لعل العابرَ يتذكَّر يومًا الجسورَ التي انهارت، وإذا وجد نفسَه يمشي على جسورٍ أقوى منها لا ينسى الذين مدُّوها. وإذا اتهم خبرتَهم القاصرةَ، فلا يجحدْ إخلاصَهم وصدقَهم حتى لا تجحده أجيالٌ آتية ستمدُّ جسورًا غيرَ جسوره)(39).
وهو يعتمد منحى أخلاقيًا وإنسانيًا يبدو مغمورا بنفحات خطاب هامس غايتُه تجليةُ الحسِّ الإنساني في وجدان الآتين بعده ممن سينظرون إليه بوصفه جسرًا من جسور: (لستُ أقول هذا ولا يقوله جيلي. إنما تقوله الجسورُ التي حاولوا أن يمدَوها: انتم يا من تعبرون فوقنا، إن هدمتمونا يومًا وشيَّدتُم غيرَنا؛ فاذكروُنا وسامحُونا)(40). وفي ضوء مفهومه للجسر أوَّل فكرة “الإنسان الأعلى” في فلسفة نتيشه؛ فرغم وصفِه إياها بأنها (فكرة غامضة ومحيرة) فإنه رأى أنها (تُوحي للإنسان بأنه جسرٌ، وأنه على الدوام أملٌ لم يتحقق وواقعٌ لم يكتملْ بعدُ)(41). وبذلك أكسب مكاوي “الجسر” دلالة جديدة تضاف إلى تلك الدلالة الشعرية التي صنعها له في نص “هل ضحك الجسر” ففيه تحول “الجسر” إلى تيمة شعرية ناطقة بمجالي الحياة وكاشفة عن الأبعاد الإنسانية العديدة التي خلعها عليه الكاتب، كما صارت تلك التيمة دالةً على الحسِّ الإنساني الرفيع الذي يتبدى به مكاوي الكاتب(42).
وأمَّا نصُّ “محرقة الشعر” فيقوم على تقديم أربع حكايات قصيرة من واقع حياة عبد الغفار مكاوي، وهي حكايات تتصل بصباه وشبابه، وتتعلق تلك الحكايات بمحور علاقة مكاوي بممارسة إبداع الشعر أو نظمه، لكن علاقتها بالمحور الأساسي في النص هي علاقة إضاءة؛ لأن الكاتب يسعى في هذا النص إلى بيان مفارقة أنه ليس شاعرا، ومع هذا فعلاقة كتاباته بالشعر علاقةٌ بالغة الظهور والوضوح والتجلي. وإذا كان عنوان النص يحمل إشارةً إلى واقعة، ذكرها مكاوي في أكثر من موضع، وهي اكتشافه بعد أدائه امتحان “التوجيهية” (الثانوية العامة) حرق أمه كتاباته الشعرية التي كان يخبأها في خزانة خشبية قديمة، فإن الواقعة الثانية تتمثل في رسوبه في مادة اللغة العربية في امتحان “التوجيهية” مما جعله يعيد النظر في قدرته بوصفه شاعرا أو فيما وصفه بأنه “شاعريته المستعارة” من الشعراء الآخرين. ثم يسرد كيف تغيرت علاقته بالشعر وتعمقت بسبب دراسته للفلسفة في الجامعة وميله إلى الفلاسفة الشعراء من أمثال أفلاطون ونيتشه وهيدجر والشعراء المتفلسفين من أمثال جوته وبودلير وفاليري ورلكه. وإحساسه أن “شعره الذهني” يخلو من (حظ من الموهبة أو الأصالة). ليصل إلى لحظة مكاشفة الذات: (وفي لحظة صدقٍ مع النفس، وعبر أزمةٍ روحية بلغت حدَّ المحنة قررتُ التخلي النهائي عن قول الشعر أو بالأحرى قرَّر الشعرُ نفسُه التخلي عنِّي إلى الأبد)(43). ولكن المفارقة التي تنجلي عن تلك الحكايات أن الشعر لم يتخل عنه بل ظلَّ يتسرَّبُ في كل ما كتبه من دراسات ومقالات وقصص ومسرحيات، كما تسرَّب على نحو أقوى وأشدّ فاعلية في ترجماته الأشعار الكثيرة التي قدمها. ومن ثم ينتهي نصُّ “محرقة الشعر” بالتعبير عن أمنية السارد أن يكون هذا كله عزاءً عن كونه ليس شاعرًا، لكنه يصف ذلك العزاء بأنه (عزاءٌ هشٌّ ومخادعٌ كالسراب الخُلّب الغدّار)()(النبع القديم، ص 211). وربما كانت أمنية العزاء تلك كامنةً وراء سعي مكاوي إلى تجلية علاقاته المتنوعة وذات التشابكات الممتدة والخفية بأشعار كثير من الشعراء؛ وذلك في القسم الأول من “النبع القديم؛ أي قسم “من نبع الشعر”.
(3) سؤال الحقيقة وتمثيل الهوية
إن لحظة كتابة السيرة الذاتية هي لحظة استعادة وتذكر وتأمل لما كان، بكل ما تنطوي عليه تلك الأفعال من أبعاد معرفية تستند إلى جدل الذات والموضوع؛ فكاتب السيرة يستعيد وقائع من حياته، ويعمل على تحليلها للمتلقين؛ فهو الذات وهو الموضوع أيضا مما يجعل من تلك الأفعال وسائل لتعرية “الذات” ومكاشفتها. ومن ثم تصبح تلك اللحظة وقفة لاستكشاف الحقيقة؛ وذلك لأنها تنطوي على سؤال ضمني فحواه: ما الذي كان؟ وكيف كان؟ وهل هو حقيقة أم أنه محض تخيل أو افتراض؟ ولعل تلك الأسئلة وما يرتبط بها كانت حاضرة بقوة في خطاب عبد الغفار مكاوي في “النبع القديم”، وهو حضورٌ اتخذ صيغًا متعددة، كما تولدت منه خيوطٌ متنوعةٌ صنعت بتآلفها وجدلها أيضا تمثيلا لهوية مكاوي الوجودية. إنها الهوية التي تنبع من البحث عن الحقيقة، ومحاولة العثور عليها عبر استكشافها فيما كان وفيما كان يجب أن يكون؛ مما يجعل من كتابتها تعريةً لمكوناتها ومساءلة لها بقدر ما هي، في الآن نفسه، علامة على وجودها في العالم من ناحية، وعلامة على محاولتها تحقيق حلم البقاء من ناحية ثانية، وهو الحلم الذي يُتوقَّع تحققُه بتجلي رسالة الخطاب السير ذاتي في دوائر التلقي الممكنة التي تتخلق بكل فعل قراءة يمارسه قراءُ ذلك الخطاب.
إن الهوية التي يمثلها خطاب السيرة الذاتية هي ما يتبدى للذات التي تصبح لحظة الكتابة ذاتًا وموضوعًا في آن؛ فالذات تعيد تأمل ما مضىى من مسيرة صاحبها، فتستعيد بعضَ لحظاتها وتلوِّنُه بما يغلب عليها في لحظة الاستعادة تلك(45). ولعل من الضروري الإشارةَ إلى أن فعل الاستعادة ذاك ليس محض إحياء لوقائع بل هو أيضا إحياءٌ لأحلام ومتخيَّلات مما مضى واستحضارٌ لها بوصفها عناصر جوهرية في تحقيق وجود الهوية. وإذا كانت كتابة السيرة الذاتية شعريًا تنهض على صياغة إشارية للوقائع الحقيقية، كما تحاول، في الوقت ذاته، تجاوزَها بما يجعلها تمنح لأحلام المستقبل المرجو مساحاتٍ واسعةً في عناصر بنيتها فإن هناك نمطًا من السيرة الذاتية النثرية لا تحتل استعادة الوقائع “الحقيقية” إلا مساحات ضئيلة مما يقرِّب كتابتها إلى نمط من الكتابة الشعرية؛ وذلك بما فيها (من مساحات شاسعة للدفقات الشعورية والمجازات والتأملات والاستنطاق الجمالي للمواقف والأحداث والتعرية الشعورية للحظات المعيشة التي كانت، والبحث المتواتر عن عناصر امتداد الذات في كينونات الأشياء واللحظات والمواقف بالقدر نفسه الذي تتجاوبُ فيه الأشياءُ مع الذات في ترابطٍ يشي بامتزاجهما معًا تحقيقًا لجوهر “الشعرية”، أي شعرية كتابة السيرة الذاتية النثرية)(46).
ويغلب على نصوص القسم الأول من “النبع القديم” التي تحمل عنوان “من نبع الشعر” منحى تمثيل هوية الكاتب بطرائق غير مباشرة؛ فمعظمُ هذه النصوص تتشكل وفق آلية التناص مع نص شعري يشير إليه الكاتب في الهوامش الملحقة بنهاية النصوص. ولكن القراءة المتأنية للنصين تكشف للقارئ عن أن نصوص مكاوي تلك تتضمن بعض عناصر صريحة ومباشرة من سيرته الذاتية، كما أن معظمها يقدم تيمة من التيمات المتصلة بعنصر من عناصر رؤيته، ولذلك يتحول النصُّ الأصلي المُستلَهم إلى محض مثير للكتابة ومادة خام قابلة لإعادة تشكيلها، على حين تبدو الكتابة ذاتها فعلا يهدف إلى تمثيل الهوية عبر التصوير غير المباشر لبعض عناصرها الجوهرية المتصلة برؤاها لذاتها أو للآخرين أو لقضايا أو قيم كبرى أو ذات فاعلية أو ذات أهمية في رؤية عبد الغفار مكاوي الكاتب والمفكر.
ومن الضروري الإشارةُ إلى أن هناك عددا من نصوص “من نبع الشعر” تخرج من دائرة العلاقة بسيرة عبد الغفار مكاوي؛ مما يجعلها خطابا منبتَّ الصلة بتمثيل هوية مكاوي أو بتجلية بعض عناصر تلك الهوية. ولعل هذا ما تدلل عليه مراجعةُ نصوص “البالونة” و”الغسل” و”نيشت فيرشتاندن” و”أغنية النسًّاجة في الليل” و”أمثولة الخواتم”(47) ولكلِّ نصّ منها خصوصيةٌ ما؛ فنص “نيشت فيرشتاندن” يغلب على الظن أنه صياغة لوقائع حقيقية حُكيت لمكاوي أو حدثت لواحد من أصدقائه، وإن كانت تيمة “الغربة” التي يجسدها ذلك النص ليست منقطعة الصلة بتركيز عدد من نصوص مكاوي على تجلية “الغربة” وتمثيلها سواءٌ في نصوص “من نبع الشعر” أو نصوص “من نبع الحياة”. وأمَّا نص “أغنية النسَّاجة في الليل” الذي يعد صياغة لقصيدة للشاعر الرومانسي “كليمنس برناتانو” (1778-1842)(48) فهو واحدٌ من النصوص الغنائية الدالة.
وأمَّا نصُّ “الغُسل” الذي يعالج لحظة غُسل جثمان الميت فقد أشار مكاوي إلى استيحائه قصيدة “الغُسل” للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875-1929) فمن مقارنة النصين يتضح للقارئ أن مكاوي رغم محافظته على معظم العناصر التي تشكل موقف الغسل في قصيدة ريلكه فإنه في نص “النبع القديم” قد أضاف إليه بعض عناصر الثقافة العربية الإسلامية مما يوحي للقارئ بأنه مكاوي قد عمِل على تعريب الموقف ثقافيا مدفوعًا في هذه بوجود عناصر متشابهة في الممارسات المرتبطة بالغسل في الثقافتين العربية والألمانية (49).
وأمَّا نصُّ “البالونة” فقد أشار الكاتب، في أحد الهوامش، إلى أنه مأخوذ عن قصيدة “منتصف نهار في الشتاء” للشاعر الإيطالي أمبرتو سابا (18882- 1957). ومن مقارنة النصين(50) لا يجد القارئ إلا عنصرا واحدا متكررا وهو “البالونة”. وفي نص مكاوي “البالونة” نجد أننا إزاء حكاية عن طفل صحا من نومه فجأة وأرتدى ملابسه، ومضى مع أبيه إلى محطة القطار للسفر دون أن يعرف ما الداعي لهذا السفر. وفي لحظات انتظاره أبيه الذي ذهب لشراء تذاكر السفر تعلق ذلك الطفل بالبالونات التي يرضها بائع البالونات وأصر على أن يشتري له أبوه واحدة منها. فاشتراها الأب ولها بها الطفلُ لكنها ما لبثت أن طارت! ومن هنا تسرب في نفس ذلك الطفل الإحساس بالفقد والضياع… وأغلبُ الظن أن العناصر المشكِّلة لهذه الحكاية مستمدةٌ من واقعة “حقيقية” حدثت للكاتب صغيرا.
كانت وسائل تخليق شعرية تمثيل الهوية في نصوص “من نبع الحياة” متعددة؛ ومنها صنع محاورة متخيلة، واستدعاء الآخر وتضمين رؤاه في صيغة حوارية دالة، وشعرنة الآخر، وكانت كل وسيلة منها قرينة منحى مكاوي في تمثيل الهوية.
(2/3) المحاورة المتخيلة وشعرية تمثيل الهوية
كانت صناعة المحاورة المتخيلة وسيلة من وسائل تمثيل الهوية، وقد تجلَّت في عدد من نصوص “من نبع الحياة”؛ ففي نصِّ لوحة “الصبي الذي كان اسمي” الذي يقوم على استلهام قصيدة “زيارة” للشاعر أوسكار لورته (1884-1941) يدور حوار متخيل بين شخصين أحدهما يمثل الكاتب والراوي والمروي عنه في شبابه الذي كان، وثانيهما يمثل الكاتب والراوي والمروي عنه نفسَه في شيخوخته. ومدارُ هذا الحوار مساءلةٌ وتجليةٌ لفكرة غياب ذلك الكاتب عن نفسه أو نبعه الذي يوحي النص أنه الهوية الأصلية لذلك الكاتب الذي شغلته أمورُ الحياة عنها فصار بعيدًا عنها، أي صار مغتربًا عن ذاته.
وذلك دال على أن “النبع القديم” ذاك هو “الهوية الأصلية” التي يستند إليها وجود الكاتب بوصفه إنسانا، وترد في ثنايا ذلك النص المتخيل إشارات دالة إلى وقائع من سيرة الكاتب التاريخية أو الحقيقية – ومنها واقعة إحراق أمه – وهو صبي- كتاباته الأدبية الأولى من قصص ومسرحيات في الفرن حتى لا تعطله – تلك الكتابات عن المذاكرة (51) ويتضمن هذا النص إشارات جلية إلى بعض “وقائع” حياة الكاتب تكشفها عبارات من قبيل (شدَّتني الحكمةُ) و(كنتُ في تلك اللحظات السرابية). ويبدو شعور ذلك الشيخ الذي هدَّه (المرض والغدرُ والتجاهل وخيبة الأمل) بالخسارة فادحًا ليتوجَّه إلى القارئ هاتفًا بصوتٍ مرتفع: (الحياةُ وقتٌ.. ولكل وقتٍ قلب، أي مركز ومنتصف.. من أراد الحقيقةَ وصمَّم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركزَ ولم ينحرفْ عنه. “…” الحياة سنةٌ ومركزُها وقلبُها هو أجملُ شهورها. لكنك ضيَّعتَ على نفسك هذا الشهر.
والحياةُ يومٌ له مركُزه وقلبُه ومنتصفُه. لكنك ضيَّعتَ اليومَ وأنتَ تحلمُ مفتوحَ العينين. والحياةُ آنٌ أو لحظةٌ لها مركزُها وقلبُها ومنتصفُها. لكنَّك فوَّتَ على نفسك الفرصةَ فلم تعشْها ولم تتذوقها ولم تغترفْ كما ينبغي من نبعها- لكن انسَ هذا الآن. انسَه وامنعْ أسنانَك أن تعضَّ لحمَك. فها هي الحياةُ مازالت تقدمُ لك قلبَها ومركزَها ونبعَها المتدفقَ من أعماقها. قُمْ ولا تضيِّعْ هذه اللحظةَ كما ضيَّعتَ غيرَها)(52). وإذا كان ذلك الصوت المباشر يركز على عنصر “الزمن” جاعلا من تكرار عدد من مفرداته الأساسية مثل “الوقت” و”الشهر” و”اليوم” و”السنة” مجالا دلاليا محوريا ومركزا تنبع منه الدلالةُ الرئيسية التي تمثل رسالته إلى المتلقي فمن ثم تبدو “صورة الحياة” دائرة ذات عناصر زمنية متنوعة، مما يحمل دعوة صريحة لذلك المتلقي إلى اقتناص تلك اللحظات لتحقيق ما يطمح إليه من غايات تفيد الآخرين.
إقرأ أيضًا: الشيخ حسن العطار: ملامح من السيرة الجزء الأول
وليست كتابة السيرة الذاتية أو كتابة الذات محض تدوين للحظات مختارة من حياة صاحب السيرة؛ فذلك مما يشكل البعدَ الظاهري في خطاب السيرة الذاتية؛ إذ ثمة أبعاد أخرى ينطوي عليه هذا النمط من الكتابة تجعل من المنحى الشعري غالبا على خطابها السير ذاتي، وهذا المنحى تنتجه تقنياتٌ متعددة منها في “النبع القديم” تقنية صناعة موقف متخيل يتخذ صيغةَ المحاورة المُتخيَّلة بين الكاتب والراوي والمروي عنه من جانب وطرف آخر هو “الغربان” في نص “الغراب” حيث يتشكل الخطاب بوصفه محاورة بينهما تتحول فيها (السحابة السوداء) إلى (أسراب غربانٍ كثيفةٍ لم تلبث أن حطَّت على الأرض وانتظمت بصورةٍ عجيبة في مستطيل، اكتشفتُ أنني أشغل ضلَعه الرابع بينما تشغل الغربانُ السوداء أضلاعه الباقية) ليدور الحوار بينهما ويعرف القارئ من ثناياه أن الكاتب قد وصل إلى سنِّ السبعين، وأنه قد اجتاز أزمة صحية من فترة قصيرة وأنه قد أُجريت له عمليتان جراحيتان، وأنه لذلك على استعداد للرحيل مع هؤلاء الغربان السود الذين هم تمثيل لملَك الموت.
ويطلب الكاتب منهم أن يمهلوه الفرصة ليكمل عددًا من أعماله من قصص ومسرحيات ومقالات، ورغم شعوره الغالب على نفسه باليأس لأن ما كتبه طوال عمره لم يلقَ التقدير الذي كان يتوقعه ويحلم به؛ فهو يلحُّ في طلب البقاء حتى يكتب سيرة حياته التي يصفها بأنها تقدم (لقطات من خيبته فوق الأرض، من حكمته أو حمقه، من تجاربه مع الحب والزمن والحياة، الحياة التي قست عليه، ويتمنى أن يسردَ لوحاتٍ منها حتى لا تقسوَ على غيره)(53). وإزاء إلحاح الكاتب في طلب إمهاله حتى يستكمل كتابة سيرة حياته يأخذ الغربان في التشاور معا: (انطلق الغرابُ إلى زملائه، وأخذ يمرُّ عليهم واحدًا واحدًا من اليمين إلى اليسار ومن الغرب إلى الشرق، كلُّهم كانوا يهزُّون رؤوسهم ويتمايلون قليلا ويصوِّرون في بعض الأحيان نعيقًا قصيرًا كأنه صوتُ النفس الأخير من صدر محتضِر. وجاء الغرابُ أخيرًا وهو يحجلُ وينطُّ ويقفزُ كأنه يحملُ لي القرارَ الأخير: بعد استشارة المسئولين والاتصال بهم بطرقٍ لا تعرفُها، نبلغُكَ بأننا وافقنا على المهلة، لكن عليكَ أن تعملَ وأن تعلم..)(54).
ومن ثم تعطيه تلك “الغربان السود” مهلةً لاستكمال كتابة سيرته. ولأن العالم المتخيل الذي دارت فيه الواقعةُ التي صوَّرها ذلك النص “الغراب” هو عالم الحلم بما يكتنزُ فيه من علاماتٍ دالة على مشاعر ذلك الحالم من مخاوف وآمال ورغبات يتصل معظمُها بتحقيق الذات في العالم الواقعي أو الحقيقي عالم الحياة تأكيدًا لوجود تلك الذات في العالم وسعيها إلى تحقيق رسالتها من نشر للوعي بالحياة والإنسان ومن تشريح للعالم ومآله ومن رسم طرقٍ لتجاوز مآزقه المختلفة اجتماعية كانت أم إنسانية أم وجودية؛ فلهذا كله جاءت نهاية ذلك الحلم: (وقبلَ ان أفتحَ عينيَّ، كانت سحابةُ الأسراب السوداء قد مرَّت فوق رأسي في موكبٍ جنائزي مهيبٍ. حاولتُ بعدها أن أنام، لكنها كانت قد أطارت النومَ تمامًا من عيني وتركتني أنظر من النافذة إلى الحديقة المجاورة التي كانت السُّحُب المتلبدة تنقشع بالتدريج عن سمائها التي حلَّق فيها غرابٌ وحيد)(55). وبذلك يتمُّ تمثيل صاحب الهوية بوصفه ذاتا تتعلق بحلم الفاعلية في العالم؛ سواءٌ عاينت بنفسها آثارَ تلك الفاعلية أم اكتفت بتقديم ما يدلل على سعيها للفعالية تاركةً تقدير حدود تلك الفاعلية وآثارها للمعاصرين أو للآتين فيما بعدُ؛ ويعد ذلك رهانًا على المستقبل.
(3/3) استدعاء الآخر وتمثيل حلم الهوية بالتغيير
لعل مما يستوقف قارئ “النبع القديم” ما يلحظه من حضور بعض نصوص لا تتصل اتصالا مباشرا بسيرة الكاتب لكنها تتضمن بعض العناصر التي تخدم أبنية أو توجهات كتابية في هذه السيرة، أو تتصل اتصالا غير مباشر بمنحى تمثيل الهوية، وهذا ما يشكل واحدة من الظواهر المتكررة في بعض نصوص المجموعة الأولى “من نبع الشعر”، ومنها نص “غناء الشحرور”(56) حيث يشير الكاتب إلى أن تلك اللوحة تستعيد اللحظات الأخيرة من حياة الشاعر والكاتب المسرحي الألماني برتولد بريشت (1898-1956). وهو يجعل من النص حكايةً مروية بضمير المتكلم مما يعني أنه يسند الخطاب إلى صوت بريشت الذي يستعيد بعضَ وقائع محدودة جدا من حياته، لكنه يُعني بتكرار الحديث عن الهدف الأساسي الكامن وراء مختلف كتابات بريشت ومحور حياته أيضًا. إنه يكرر بصوت بريشت أن (فكرة التغيير هي البؤرة التي التفتْ حولها حياتي كلُّها وشعري ومسرحي وكفاحي كلُّه. غيِّرْ العالمَ فهو يحتاجُ إلى التغيير)(57).
كما يؤكد أن مختلف الأشكال الفنية التي قدمها من شعر ومسرح وقصة ورواية كلها تنطوي على رسالة مفادها (أن العالم يحتاجُ للتغيير، وأن التغيير ممكنٌ حتى والإنسانُ يلفظُ أنفاسَه الأخيرة)(58). كما يؤكد أنه لم يتوقف حتى لحظاته الأخيرة (عن العمل من أجل المجتمع الإنساني العادل والعاقل والحر)(59). ولعل قارئ سيرة عبد الغفار مكاوي بمكنته أن يرى في استدعاء مكاوي لبريشت وفي تكرار صوت بريشت المستدعَى هنا في سياقات نص “النبع القديم” إنما هي محاولة لبيان أن مكاوي أيضا بمشروعاته الثقافية المختلفة من تقديم قراءاته لنصوص فلسفية ومن إنتاج رؤاه لمشاريع فلسفية أو فكرية أنجزها فلاسفة أو مفكرون، ومن ترجمات متنوعة بين الفلسفة والأدب في عدد من انواعه لاسيما الشعر والمسرح، ومن إبداع أدبي يمضي في عدة أنواع كالشعر والقصة القصيرة والمسرح إنما كان يسعى، في هذا كله، إلى تحقيق الهدف ذاته، ولكن بمنحى مختلف عن منحى بريشت؛ إنه منحى هادئ وبعيد عن “الصخب” الذي عُرف به بريشت في حديثه عن المهام الاجتماعية التي تؤديها الثقافة والأدب والفن في حياة المجتمع. ولعل قارئ إنتاج مكاوي في الترجمة سيلحظ انه واحد من أبرز مترجمي مسرحيات بريشت في إطار المسرح الملحمي الذي يعد نموذجا من أكثر النماذج المسرحية التي استندت إلى فهم للمهام الاجتماعية للمسرح بوصفه أداة لتغيير العالم، لكنه أيضا واحدٌ من قلّة من المترجمين الذين عُنوا بترجمة أشعار بريشت التي تكشف عن منحى مختلف لفهم فكرة تغيير العالم التي ألحَّ عليها بريشت في مسرحه الملحمي.
(4/3) الحياة بالشعر وله وتمثيل الهوية
تكشف نصوص “النبع القديم” عن ذاتٍ تحيا بالشعر في مختلف لحظاتها، وهي ذاتٌ ترى كلَّ لحظة من لحظات حياتها بوصفها نابعةً من الشعر وعائدةً إليه؛ فهو مصدر الإحساس بالحياة ورؤيتها ومصدر القدرة على مجادلتها والتفاعل معها؛ فمنه المبتدأ إليها، ومنها الرجوع إليها، وذلك في حركة دائرية دائمة ودالة على نُسغٍ خاصٍّ مسبوكٍ من الحياة والشعر. وذلك ما يجعل من لحظات إضاءة الذات في كثير من نصوص “النبع القديم” لحظات تجلية لهوية يغلب عليها القلق والحيرة والترقب لكنها لا تتوانى مطلقًا عن الحلم بالرغبة في تحقيق ذاتها أو وجودها مما يتجلَّى فيما تطمحُ إليه من أفعال تنجزها هي ويتعدى تأثيرها إلى الآخرين سواء أكانوا حاضرين أم آتين.
وهناك نصوص متعددة في “النبع القديم” تكشف عن غلبة هذا المنحى، ولعل من ابرزها نص “انتظر فسوف تستريح”(60) الذي يكشف عن انمحاء المسافة بين الشعر وحياة مكاوي، وحضور ذلك المزيج العميق منهما. ففي هذا النص يقدم الكاتب قصيدة قصيرة لجوتة(1749-1832)، وهي: (فوق كل القمم/ هدوء/ في أعالي الشجر/ لا تكاد تحس/ نفَسًا واحدا/ الطيورُ الغيرة/ أخلدتْ للسكينة/ وكسا الغابةَ صمت/ انتظرْ أنتَ أيضا/ فقريبا تستريح). وهو يشرح القصيدةَ شرحا “عذبًا” و”رائقًا” كاشفًا عن أعماق دلاتها وإيحاءاتها الثرية على الرغم من بساطة تركيبها إذ تخلو فيما يرى من التشبيه أو الاستعارة أو الرمز، لكنها ببساطتها تعبر عن (حنين الشاعر إلى الراحة والهدوء في عالمٍ تلفُّه السكينةُ والسلام. إنه لم يصل بعدُ إلى هذا الهدوء، ولكنه ينتظره في ثقةٍ واطمئنان)(61). ويصف مكاوي القصيدة بأنها في رأي مؤرخي الأدب ونقاده (معجزة من معجزات الشعر الحقيقي) ولعل تعبير “الشعر الحقيقي” دالٌّ مبينٌ عن رفعة هذه القصيدة لدى مكاوي، كما أنه كاشفٌ عن شدة حبِّه لهذه القصيدة وتعلقه بها منذ أن قرأها ودرسها في لغتها الأصلية منذ أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين إلى لحظة كتابته سيرته “النبع القديم”. ويقول (وظلت القصيدة في عيني ووجداني أشبهَ بكوكب دريٍّ متألقٍ وبعيدٍ، يرسل إليَّ شعاعَ عزائه في الأزمات والمُلَّمات)(62).
لقد تحولت القصيدة في عالمه الوجداني إلى مصدرٍ من مصادر النبع القديم الذي يؤوب دائما إليه ليشعرَ بالراحة والاطمئنان، كما يجد فيه ما يعينه على تحمُّل المشقات التي يواجهها، كما يجد فيها المرفأ والسلوى والنجوى؛ ولهذا وصف هذه القصيدة بأنها لازمتْه في كل الأزمات والمحن التي تعرَّض لها(في كلِّ مرةٍ كنتُ أقول لنفسي: – والحسرةُ والذهولُ والعدَمية تضيِّق الخناقَ على عقلي وقلبي- انتظرْ فسوف تستريح. لم يكن ذلك عن تفاؤلٍ أو تشجيعٍ للذات المكسورة أو حتى عن رضا أو تسليمٍ بالمقدور، بل كان استجابةً لصوتٍ آتٍ من بئرٍ باطني عميقٍ، وكانه حبلُ النجاةِ الممدود للسادر في نفق الهلاك: تذكَّرْ أنك تقفُ حتمًا في نفس الطابور المؤدِّي حتمًا إلى الهاوية! حاولْ ان تواصلَ السيرَ وأن تحافظَ على شمعتِك فتشعلها وترعاها كلَّما أطفأتها الريح!)(63).
ومن النص الشعري الذي تحوَّل إلى مثيرٍ فعَّالٍ يستدعي مكاوي في إشاراتٍ موجزة بعضَ ما مرَّ به من أزماتٍ ومِحَنٍ من قبيل رحيل أبويه، ورحيل أربعة من أشقائه وشقيقاته، ورحيل أصدقائه المقربين من الأدباء والشعراء والكتاب والنقاد من أمثال صلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمي وشكري محمد عياد وآخرين. ويذكر محنتين مرَّتا به في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، وهما فشل تجربتي اقتران عاطفي كانتا ستكتملان بالزواج لكن صاحبتيها لم تقتنعا لأنه فيما وصف نفسَه هو ذلك (الخجول التائه في متاهات القراءة والكتابة). ثم أشار إلى ما وصفها بأنها “محنة قاسية” أثناء عمله الجامعي (عندما وقعتُ في كمين وطعنتني سكاكينُ الغدر وخناجر التزوير بأيدي بعض زملائي وتلاميذي، فقدمت استقالتي – بعد صدور الحكم بالبراءة- وذهبتُ إلى بلد خليجي للعمل بجامعته)(64). ثم يتوقف عند ما عانته نفسُه في السنوات الأخيرة من صراع بين الرغبة في التفرغ للكتابة الحرة من ناحية، واضطرار إلى مواصلة العمل في السلك الأكاديمي من ناحية أخرى، وهو صراعٌ زاد من حدَّته في نفسه زحفُ الأمراض وزحفُ الشيخوخة – لاسيما أمراض آلام الظهر وضعف البصر ومفاجآت القولون العصبي مع (مشكلات الأسرة والأولاد في مجتمعٍ وزمنٍ مُبتلَى بالانحطاط والفساد وكلِّ أنواع التلوث. كلُّ هذا يجعلني أقولُ مع كلِّ المحن السابقة: انتظرْ فسوف تستريح.. وهو يدفعُني دفعًا لأن أصرخَ بنداءٍ يخرج من أعماق الضمير: لا! لا! لا تنتظر ولا تُضعْ البقيةَ الباقيةَ من أيامك في الانتظار! أمسك القلم وحاولْ ألا تضيعَ لحظةً متاحةً من اللحظات القادمة التي تقربُكَ مع كل خطوةٍ من القبر. ربَّما صح ما يقال من أن الراحة الكاملة لن تكونَ إلا في القبر)(65). وهو حديث كاشف عن معاناته الصراع الدائم بين إمكانية قبول الواقع برداءته وعناصر السلب الضاغطة فيه من ناحية، وإمكانية اغتنام اللحظات المتاحة لأداء رسالته في نشر الوعي والتنوير من ناحية أخرى.
(5/3) شعرنة الحلم وتمثيل الهوية
اتخذ مكاوي من بعض نصوص “النبع القديم” وسيلة لتقديم بعض رؤاه من ناحية، وتحويل موضوع النص إلى تيمة شعرية من ناحية أخرى، ولعل ذلك “التشعير” يعود إلى أن العلاقة التي تربط مكاوي بموضوع النص هي واحدة من العلاقات التي يتولد منها الشعر بوصفه منحى غنائيا في التعبير عن علاقة إنسان أو فرد ما بشيء ما داخله أو في العالم الخارجي؛ فالشعرُ يتخلق، في هذه الوضعية، من إحساس الكاتب بعلاقته بموضوع النص، ومن سعيه إلى أن تكون “صياغته” ذات منحى غنائي.
وهذا ما يتجلى بوضوح في نص “قرطبة وحيدة وبعيدة” (66)؛ إذ يقوم هذا النص على استلهام مكاوي لنص “أغنية فارس” للشاعر الإسباني فريدريكو جارسيا لوركا (1898-1923)، ويمزج مكاوي بعضَ وقائع حياته الشخصية بموضوع النص؛ فقد تعلق بقرطبة بعد أن سمع وقرأ عنها من صباه، وعرف كثيرًا من صفاتها وما تضمُّه من منشآت، كما اطَّلع على قدر من تاريخها المُفعَم بالبطولات، وحلم بأن يكون فارسًا يرتدي ملابس الفرسان ويعتلي صهوةَ فرس أسود صغير ليسأل كلَّ من يلقاه عن “قرطبة الوحيدة البعيدة”. وحين تعرَّف بقوةٍ في قراءاته الفلسفية والأدبية الموسَّعة على مفهوم “المدينة الفاضلة” تحوَّلت قرطبة في وجدانه لتكون رمزا لتلك المدينة الفاضلة المثالية، وظلَّ ذلك الحلم قابعًا في نفسه ووجدانه:(وأبلغُ صحراءَ الكهولة ثم أوغلُ في متاهة الشيخوخة والحلمُ بقرطبتي الوحيدة والبعيدة لا يزالُ يلحُّ عليَّ، كأنه الملاكُ الذي ينقذني في المِحن الكثيرة وينتشلُني من مُستنقع البلادة والملل والخسَّة والغدر والظلم والتجاهل والمرارة الذي طالما أوشكتُ أن أغرقَ فيه)(67).
ومن ثم تصبح قرطبة في وجدانه هي “قرطبتي الحبيبة الغامضة” مما يؤكد علاقةَ الامتلاك التي تنطوي عليها صلةُ مكاوي بقرطبة الحلم والأمل والمُبتغَى، ومن ثم تتخايل أمامه، ليصير كما صوَّر نفسَه: (أتجولُ بين ناسها الطيبين السعداء.. أبتهجُ بالمشي في حدائقها الغنَّاء والتطلعِ لأبراجها الشمَّاء، أفرحُ بالجمال والنظافة والانسجام والوئام الذي تكادُ تنطقُ به الأجحار الصمَّاء.. وكم يبهرُني ويدهشُني أن تطلَّ شمسُها الربيعية الدافئة في النهار، وقمرُها الخضر كالكرمة المتوهِّجة في الليل على شوارع وميادين وقصور وبيوتٍ تغمرُها السعادةُ والسكينة والسلام، ويعمرُها العدلُ والتراحمُ والحنان)(68). وهي كلُّها ملامح من سمات المدينة الفاضلة التي تعلقت بها نفسُ عبد الغفار مكاوي الكاتب.
ومن اللافت انتباه قارئ “النبع القديم” أن العلاقة بين نص “قرطبتي وحيدة وبعيدة” ونص قصيدة لوركا “أغنية فارس” يكاد ينحصر في تكرار عنصرين وردا في القصيدة، وهما: وصف الفارس بأنه يعتلي (صهوة فرس صغير أسود) ووصف أو تعبير (الموت يحدِّقُ فيَّ من أبراج قرطبة(69) وباستثناء هذين العنصرين أبدع مكاوي نصّا سرديا غنائيا مزج فيه الشعريَّ الغالبَ عليه بعناصر من سيرته الذاتية الحقيقية؛ كي يجعل منه خطابًا موحيًا بحلمه بالمدينة الفاضلة في إشارة ذات دلالة إلى أن خطاب الهوية الذي تصنع كتابةُ السيرة الذاتية تمثيلاتٍ دالة له لا يقتصر، بحال من الأحوال، على استعادة ما كان، بل يتضمَّن أيضا الحلمَ بما يجب أن يكون؛ وذلك ما يدلل على بعض جوانب الفاعلية التي تنطوي عليها الأبعاد التمثيلية في خطاب الهوية في سيرة عبد الغفار مكاوي الذاتية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) عبد الغفار مكاوي: النبع القديم: لوحات قصصية، كتاب الهلال، العدد 670، دار الهلال، أكتوبر 2006، ، ص 204.
(2) انظر: النبع القديم، نص “نيشت فيرشتاندن”، ص – ص 26-37، وفي ص 265 يذكر مكاوي أن النص مأخوذ (بتصرف عن قصة للكاتب الألماني يوهان بيتر هيبيل “1760-1828”).
(3) النبع القديم، ص 79.
(4) انظر: النبع القديم، ص – ص 73-77، ثم ص – ص 225-229.
(5) انظر: النبع القديم، ص 74 – 75.
(6) نلحظ أن خطابات السير الذاتية الفكرية تشهد قدرًا ملحوظًا من الرواج النسبي في الثقافة العربية المعاصرة في النصف قرن الأخير على وجه الخصوص، ولكنها لم تلق بعدُ العنايةَ اللائقة بها من قِبل نقاد الأدب العربي المعاصر؛ فثمة محاولات قليلة تمت في هذا المضمار لعل أبرزها كتاب شكري المبخوت: أحفاد سارق النار: في السيرة الذاتية الفكرية، دار مسكلياني، تونس، 2016.
(7) للتعرف على أهمية مرحلة الطفولة في نصوص السيرة الذاتية وطرائق تأثيرها ودلالاته، انظر: بيتر روكي: في طفولتي: دراسة في السيرة الذاتية العربية، ترجمة طلعت الشايب، الطبعة الثانية، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
(8) النبع القديم، ص 126.
(9) انظر: نص “عندما بحثتُ عنهم”، النبع القديم، ص – ص 127-133.
(10) انظر: النبع القديم، ص 134-135.
(11) النبع القديم، ص 137.
(12) انظر: النبع القديم، ص 159.
(13) النبع القديم، ص 160.
(14) النبع القديم، ص 161.
(15) النبع القديم، ص 162.
(16) انظر: النبع القديم، نص “مع أمي”، ص – ص 168- 172.
(17) عن سرد اللحظات الفارقة ولحظة البدايات في السيرة الذاتية، انظر: سامي سليمان أحمد: السيرة الذاتية المختزلة، المكونات السردية والمهام الثقافية، ألف، العدد 37، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2017، ص 33.
(18) انظر: النبع القديم، ص – ص 148-157.
(19) انظر: النبع القديم، ص 151 حيث يصف مكاوي مسلك “ستيتية” في هذا الموقف؛ فيقول: (راحتْ تخوضُ في الوحل والمطرُ يتساقطُ على رأسيْنا بلا انقطاعٍ. ربَّما أحسّتْ بحزني وخوفي، فظلت طولَ الطريق تشجعُني وتدفعُ الابتسامَ إلى وجهي برغم الجو الممطر والسماء المكفهرة والبرد الذي يرجفُ البدن: إيه يعني شوية برد وشوية مطر. بكرة تصفو السما وتطلع الشمس وترجع العصافير للشجر. اضحك يا رجل.. اضحك للدنيا ولا يهمك من المطر والبرد والوحل، حتى المصائب قابلْها بالضحك تخف عنك. اضحك وأنت تلعب، واضحك وأنت تذاكر دروسك، اضحك في المدرسة والبيت والشارع والجامع.”…” اضحك يا حبيبي دائما من ساعة ما تصحى من النوم لغاية ما ترجع تنام بالليل. خد الضحكة معاك وأحلامك تكون كلها فرح وهنا”.
(20) انظر: النبع القديم، ص 152.
(21) النبع القديم، ص 157.
(22) النبع القديم، ص 183.
(23) النبع القديم، ص 184.
(24) يقول مكاوي في بقية الفقرة: (والذي أذهلني وفاجأني في ذلك اليوم البعيد الذي عُرضت فيه المسرحية – أن الجمهور صفق طويلا لمجاميع الكومبارس، وربما صفق لي أنا أيضا، وعبَّر عن إعجابه الشديد بالعاملين الصامتين)، “النبع القديم”، ص 184.
(25) انظر: نص “أول فيلم”، النبع القديم، ص – ص 185-189.
(26) النبع القديم، ص 186.
(27) النبع القديم، ص 176.
(28) يصور مكاوي مسلكه بعد الجنازة، فيقول: (رحتُ أطوفُ بالسكك البعيدة على غير هدى، أمرُّ على الناس والبيوت والأشجار والحيوانات الراجعة من الحقول كأني في حلمٍ كاذبٍ. أفكرُ طولَ الطريق في معاقبة نفسي على ذنبٍ لا حيلةَ لي فيهن ورؤيا مشئومةٌ كأنها تهمةٌ موجَّهة إليَّ. وداهمني الليلُ وأنا أتقلَّبُ في جحيم السؤال والندم والذهول والاحتجاج والبكاء الأخرس. وعندما رجعتُ إلى البيت تركت جسدي يسقط متهالكًا على العتبة). النبع القديم، ص – ص 176-177.
(29) النبع القديم، ص 177.
(30) انظر: النبع القديم ص – ص 212-213، حيث يرد وصفه التمثال، وص – ص 214-215 حيث يصف الساحة وصفًا تفصيليًا.
(31) انظر: النبع القديم، ص 222 حيث يصف تلك المساعدات.
(32) النبع القديم، ص 221.
(33) النبع القديم، ص 219.
(34) النبع القديم، ص 219.
(35) النبع القديم، ص 222.
(36) النبع القديم، ص 222.
(37) النبع القديم، ص 224.
(38) النبع القديم، ص 244.
(39) النبع القديم، ص 245.
(40) النبع القديم، ص245.
(41) النبع القديم، ص 243.
(42) انظر: نص “هل ضحك الجسر”، ص – ص 11-14، حيث تتولد شعريته من “أنسنة” الجسر من بداية النص إلى نهايته؛ فالجسر يشكو ويئنُّ بالبكاء، ويحكي عن أحزانه ومعاناته وآلامه ممن يمرون فوقه ويقسون عليه ولا يبالون به. وهو يضحك أيضا ويبادل الموجودات الصامتة حوله ضحكًا بضحك وغناءً بغناء. وفي مختلف اللحظات ثمة حوارات دائمة بينه وبين الراوي، وثمة تبادل للشكاوى والتعبير عن الهموم والأحزان. وهذه كلها صورة موحية بتحوله إلى تيمة شعرية دالة.
(43) النبع القديم، ص 209.
(44) النبع القديم، ص 211.
(45) انظر: عبد الله إبراهيم: السرد والاعتراف والهوية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2011 ، ص 174.
(46) سامي سليمان أحمد: الشعر والسرد: تأصيل نظري ومداخل تأويلية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2024، ص 328.
(47) انظر: النبع القديم، ص – ص 26-37، 38-39، 40-45، 67-72، 84-88.
(48) انظر: النبع القديم، ص – ص 38-39، و ص 265 حيث ترد الإحالة في هامش رقم 6.
(49) انظر: النبع القديم، ص – ص 84-88، ص 267. وانظر: عبد الغفار مكاوي: ثورة الشعر الحديث، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2010، ص – ص 521-522 حيث يرد نص “الغسل” لريلكه. ومن مقارنة النصين نلحظ احتفاظ مكاوي بالمغسلتين اللتين تُغسِّل جسد ميت كما في قصيدة ريلكه، لكن مكاوي جعل المغسلتين أختين، كما جعل أولاهما تقرأ سورة يس، وثانيتهما تقرأ بعض قصار السور، وأخذتا تدعوان (بالرحمة والمغفرة للغريب الغارق في غربته وغيابه).
(50) انظر: النبع القديم، ص – ص 67-72، وثورة الشعر الحديث، ص – ص 417-418.
(51) انظر: النبع القديم، ص 21، وانظر أيضا ص – ص 204-205 حيث ترد تلك الواقعة في إطار لوحات “من نبع العمر”.
(52) النبع القديم، ص – ص24-25.
(53) النبع القديم، ص 104.
(54) النبع القديم، ص 105.
(55) النبع القديم، ص 106.
(56) انظر: النبع القديم، ص – ص 94-99.
(57) النبع القديم، ص 95.
(58) النبع القديم، ص 96.
(59) النبع القديم، ص 98.
(60) انظر: النبع القديم، ص – ص 107-113.
(61) النبع القديم، ص 108، وانظر ص – ص 108-109 حيث يقدم مكاوي شرحه للقصيدة.
(62) النبع القديم، ص 107.
(63) النبع القديم، ص 110.
(64) النبع القديم، ص111.
(65) النبع القديم، ص 113.
(66) النبع القديم، ص – ص 64-66.
(67) النبع القديم، ص 65.
(68) النبع القديم، ص 65.
(69) انظر: ثورة الشعر الحديث، ص – ص 349-350.