تكوين
الدولة الوطنية ومستقبلها في العالم العربي مسألة مطروحة منذ مرحلة الاستقلال ، لكنها بعد الثمانينيات من القرن الماضي بدأت تأخذ أبعاداً إشكالية لتتحوّل إلى تحد من أكبر التحديات التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة ، طارحة عليهم أسئلة وجودية حاسمة تطاول القومية العربية والمواطنية القطرية وصولاً إلى مدى شرعية وواقعية الإنتماء العربي الواحد مع تنامي النزعات والاتجاهات ما قبل القومية وما قبل الوطنية ، وطغيان العصبويات الطائفية والمذهبية والإثنية من جديد على التوجه الوطني والقومي الذي ميّز أواسط القرن العشرين.
ما معنى التنوع الايديولوجي؟
في هذا السياق قد تكون إشكالية الدولة وأسئلتها من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي العربي المعاصر . فهل الدولة ترادف القومية وهل ثمة تلازم بينهما ؟ هل يفترض وجود القومية وجود الدولة أو أن وجود الدولة بحد ذاته يستلزم وجود القومية ؟ هل الأمة العربية واقع تاريخي ثابت ومحقّق جرت تجزئته بالقوة إلى دول قطرية أم أن هذه الدول هي الواقع الذي يجب أن تتأسس عليه أمة عربية ليست سوى طوبى لم تتح لها فرصة التحقق الفعلي ؟ هل ثمة ديموقراطية في دولة لم تصل مكوّناتها وعصبوياتها القبلية والعشائرية والطائفية إلى حالة الاندماج الوطني الناجز أم أن الديموقراطية هي السبيل إلى هذا الاندماج؟وهل يمكن أن يكون هناك دولة من دون ” أدلوجة دولوية تقوم على قدر معين من الاجماع العاطفي الوجداني و الفكري بين المواطنين ” على حد تعبير عبد الله العروي ، يجب أن يسبق وجود الدولة أم أن وجود الدولة هو الذي يؤسس لقيام هذا الاجماع ؟ هل الدولة هي مرحلة ضرورية في الطريق إلى الوحدة القومية العربية ، باكتمالها واستقرارها يمكن أن يتم الانتقال إلى دولة الوحدة أم أن ” هذه الدولة هي لعنة في حياة الأمة ” بتعبير بعض القومويين ، ويجب بالتالي حلها وتجاوزها من دون تردد للافساح في المجال أمام دولة الوحدة القومية المرتجاة ؟هل الدولة هي” اداة استغلال طبقي في يد الطبقة المسيطرة ” كما يذهب بعض الما ركسويين أم أنها مرحلة أساسية في تطورالمجتمعات الانسانية ، تتجاوز مصالح الافراد والطبقات وتتعدّى التفسيرات الطبقية ، الاحادية والتبسيطية .
هذه الأسئلة الإشكالية تربك الفكر الايديولوجي العربي المعاصر منذ اواسط القرن الماضي ، وقد ترافقت مع تطور الدول العربية من الاستعمار الى الاستقلال وصولاً الى النموذج التسلطي الراهن وهيمنته شبه التامة على الواقع السياسي في العالم العربي ، حيث يخيّل للمتأمل في هذا الواقع ان الدولة العربية المعاصرة تكتسح بأجهزتها كل المساحات وانها تكاد تطبق بالكامل على الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، كما الاهلي والثقافي ، حتى ليبدو وكأن كل القوى والعوامل الفاعلة في المجتمعات العربية ليست سوى وجوه أو امتدادات لوجود الدولة في كل اتجاه ، فالكل مرتبط بها معبّر عنها محكوم بقبضتها . إلا أن هذه الدولة بالذات هي في الآن ذاته غريبة عن المجتمع ، واهنة ، واهية ، مهددة على الدوام ، وما سلوكها القمعي التسلطي الاستبدادي إلا موقف دفاعي تتوسله لمقاومة انحلالها واندثارها . وهي تدرك جيداً أن لا ركائز لها متينة وثابتة بين جماهير شعبها التي تدّعي النطق باسمها والتعبير عن وجدانها ، كما أنها تدرك كذلك أن لا سند تاريخياً لها في العقل السياسي العربي،لاجذور تتكأ عليها ، لا إيديولوجيا تبررها وتمدها بقوة الاستمرار .
إقرأ أيضاً: السياسة والاجتماع في الفكر العربي لدى المفكر عبد الإله بلقزيز
إزاء هذا الإشكال الإيديولوجي بنى الفكر العربي اطروحاته على نفي الدولة، بينما هي تعاني اصلاً من ذلك الخلل التاريخي كله . فالاشتراكية والوحدة القومية العربية والديموقراطية والنظام الاسلامي ومواجهة الصهيونية ، وسوى ذلك من احلام وامنيات رومانسية معلّقة ومؤجلة من زمن النهضة العربية، لا تمر إلا على جثة الدولة وعبر نفيها وإلغائها . وبذلك ، تتحدّد المهمة الرئيسية للحركة الثوريةعند الإشتراكيين ، في تحطيم الدولة البورجوازية لاقامة اشتراكية دكتاتورية البروليتاريا ، وعند القوميين في تحطيم دولة التجزئة القطرية لانجاز مشروع الوحدة العربية ، وعند الاسلاميين في اسقاط الدولة الكافرة لصالح الخلافة الاسلامية المحقّقة لمبادىء الاسلام وتعاليمه ، وفقاً لتصوّراتهم للاسلام ، وعند الديموقراطيين في القضاء على ” الدولة التسلطية ” من أجل مجتمع مدني اساسه المواطنية وحقوق الانسان ، وعند الذين يتطلعون إلى مواجهة الخطر الصهيوني ، في إنهاء ” الدولة المهزومة ” لبناء “مجتمع مقاوم” يتصدى للصهيونية ومشاريعها .
على اساس هذه المنظورات ذهبت الايديولوجيات المتفقة في العداء ل “الدولة” ، المختلفة في الاهداف من تحطيمها وإلغائها ، بعيداً في الصراع مع الدولة القائمة ، متوسلة مختلف الاشكال المقوّضة للبنيان الاجتماعي والتركيبة المؤسسة للدولة بعصبياتها واثنياتها وطوائفهاوعشائرها ومذاهبها ، مع ما في ذلك من تفكيك للكيان الدولوي وتذرّره من جديد الى عصبوياته ما قبل الوطنية وما قبل المدنية .
على الضد من هكذا منظورات ،وفق عبد الاله بلقزيز، لاتنشأالمجتمعات التاريخية إلا في كنف الدول ، ولا سبيل إلى أن يعيش مجتمع من دون دولة ، فالدولة ليست مضافاً في تاريخ المجتمع ، بل هي ماهيته التي من دونها لا يكون مجتمعاً ، بل فضاءاً لجماعات منفصلة عن بعضها . من هنا ان الدولة ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيساً جديداً لمعناه ولوجوده التاريخي ، بل هي تتمتع بوجود قبلي سابق لوجود الافراد والجماعات ، ولكنها ايضاً من صنع الانسان وليست كياناً منزلاً من السماء . وهكذا ان قهريتها ، أي سلطتها الالزامية ليست منفصلة عن ارادة المجتمع ، بل هي تمارس باسمه وتمثل ارادته . إلا أنه ينبغي التمييز بين الدولة والسلطة . فالدولة هي نصاب تمثيلي مجرد محايد ، وهي تطابق الامة وتعبر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية ، فيما السلطة محط منافسة سياسية بين الفئات والاحزاب وهي قابلة للتداول والتغيير .
ولئن كانت الأنظمة التسلطية هي البادئة بالإجهاز على الدولة بمصادرتها المجتمع المدني واستباحته في كل الاتجاهات ،بما ألغى موقعها ودورها كهيئة ناظمة لحقوق الجماعات والأفراد،راعية لمصالحهم ، حافظة لمؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والاعلامية،مؤتمنة على نمائهم وتطورهم ومستقبل أبنائهم، فإن المشاريع الإيديولوجية العربية هي الأخرى لم تأبه كلها لهذه المهام وصولاً إلى الحركات الاسلاموية الراهنة التي اتخذت من مقاومة الاستبداد ذريعة لمشاريع اصولية لم تنجب إلا نتائج كارثية على وحدة الأمة وتاريخها . وهكذا ، عادت الدول العربية طوائف ومذاهب وعشائر وإثنيات ، مسلمين ومسيحيين وأكراداً وأزيديين ودروزاً وأقباطاً بعد أن كانوا مصريين أو عراقيين أو سوريين أو ليبيين .
إن الدرس الذي لم تتعلمه الحركات الإيديولوجية العربية حتى الآن ، هو أن التغيير بأشكاله كافة ، الليبرالية أو الاشتراكية أو القومية أو الاسلامية، يجب أن يتم ولا يمكن أن يتم إلا في بوتقة الدولة، ومن داخلها ، فهي وحدها مقدّمة التغيير وحاضنته . أما العبث ببناها ومكوناتهاالتاريخية بإثارة الجموع وتجييش الحشود، أياً كانت توجهاتها ،فلعبة خطرة كلفت العرب ملايين الضحايا وجحافل اللاجئين والمشرّدين، وخسائر إقتصادية قد لا تعوّض في المدى المنظور, إن قتل الدولة لن يفضي إلى أي غرض إيديولوجي، بل هو جريمة جماعية بحق الأمة والأوطان والشعوب ، أياً تكن المقدمات والذرائع .