تكوين
يبدو الاشتباك مع آليات عمل المتخيل الديني، أشبه بمغامرة معرفية، حيث تعمل بنية المتخيل في حقل الدلالة الاجتماعية، باستمرار، وفق مستويين أساسيين: الأول؛ أفقي يتمدد على الدوام؛ عبر آلية التضخيم والإضافة للخبر الواحد، بحيث تتراكم التفاصيل؛ لتملأ كل الفراغات المتاحة والممكنة؛ الأمر الذي يصل بالمبالغة إلى أقصى حدود اللامعقول. والثاني؛ رأسي يتجه نحو الحفر (عموديًا) في طبقات التراث الثقافي الإنساني، لاكتشاف المزيد من الحكايا والأساطير؛ بهدف إعادة موضعتها ضمن شروط المتخيل، ووفق معطياته الجديدة.
المهدي المنتظر
في ضوء هذا التمشي، يمكن إجراء مقاربة بين فكرة المخلص، كاصطلاح تخييلي قديم، ومفهوم المسيح العائد أو المهدي المنتظر في التراث الإسلامي، كفكرة جاءت من خارج النص، لكنها تنتمي لهذا النوع من التلاقح الثقافي بين الأمم والحضارات.
ولم يقتصر الأمر في التراث الإسلامي على المسيح العائد والمهدي المنتظر، ذلك أنّ العقلية الشعبية ربما لا تطيق الانتظار حتى آخر الزمان، وبالتالي كان لابد من ظهور أبطال ثانويين، يهيئون المسرح باستمرار للمشهدية الخلاصية النهائية في آخر الزمان.
ويمثل الصلحاء أو الأولياء ذلك النوع من الشخصيات المقدسة، والتي ظهرت مع ضعف وتدهور دولة الخلافة، وهؤلاء يصنفهم عبد اللطيف الهرماسي إلى فئتين: الأولى تضم الماسكين، الصلحاء الشعبيين، وهم بسطاء قادرون على إتيان أشياء خارقة، وتتصل القوة التي يتمتعون بها بالله الواحد. والثانية تضم الأولياء، وهم أشخاص يجمعون بين العقل والمعرفة بالدين[1].
وربما يشترك التاريخ الرسمي مع التاريخ الموازي، في الإقرار بمركزية البطل المنتظر، في لحظات الانكسار والهزيمة، بحيث يتجلى ظهور البطل كحتميّة تاريخيّة، يفرزها الاحتياج الملح لتغيير مسار الجماعة وأقدارها، فتتهيأ الشروط الموضوعيّة لاستقباله، وهي شروط تتشكل وفق معطيات لحظة الذروة التي تخلق تحديّا للجماعة، بحيث يصبح بقاؤها – أي الجماعة- مرتهنًا بزخم الحضور المكثف، لبطلها الأسطوري في ساحة التاريخ، وهنا يعاود المتخيل عمله الدؤوب، تمهيدًا للحدث العظيم، والذي يبدأ منذ لحظة الميلاد، مرورًا بالمحنة، ووصولًا إلى الانتصار، والعبور بالجماعة إلى بر الأمان، وفق طور من أطوار التكيف البنائي، بين حدث مركزي، وقائد استثنائي تحفه الأساطير، فيتشكل نموذج لهذا التفاعل البنائي المدهش، قبل أن ينفجر في لحظة تاريخية مدوية.
تجليات شتى لأصل واحد
بحسب محمد عابد الجابري، يُعد مفهوم اللاشعور السياسي، أحد أبرز المعطيات التي تؤثر على السلوكيات؛ بوصف اللاشعور هو ذلك المحفز للأفعال التي لا تخضع لمراقبة الأنا، ويضم المفهوم بحسب توصيف يونغ “بقايا نزوعات وعواطف جمعية، تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق، وهو عبارة عن رواسب دفينة في النفس البشرية، ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني، يمتد بعضها إلى الماضي السحيق[2]“. ولعل فكرة البطل المنتظر، هي أقدم الأفكار وأكثرها إلهامًا للمجموعات البشرية، كواحدة من أبرز المدركات الوظيفيّة، التي تؤدي دورًا حيويًا فعالًا؛ من أجل تحفير الحراك الجمعي، في لحظة تاريخية مركزية، لا تتم في الغالب دون وجود المخلص.
وتتجلى ثقافة البطل المنتظر في شتى الثقافات، ففي الهندوسية، يأتي كالكي، بوصفه التجسد العاشر والآخير لفيشنو الحافظ؛ لإنهاء عصور الظلام، وإبطال عمل الشيطان (كالي) أو الدابة الناطقة، فيخلص البشر من الظلم والفساد؛ بعد معارك طويلة مع قوى الشر؛ فيملأ الأرض عدلاً، ويحل السلام [3]. ويبدو التعالق شديد الوضوح بين الأسطورة الهندوسية، وما ورد في مرويات الفتن، حيث تخرج الدابة الناطقة في آخر الزمان، عند فساد الدنيا والدين، فتكلم الناس وتفتنهم، قبيل ظهور المهدي المنتظر[4]. في تناص يعكس وحدة الأصل وحركة استيطان الأسطورة في التاريخ.
إقرأ أيضاً: الإسلام في المتخيل المسيحي في العصر الوسيط؛ محاولةٌ لفهم تشكُّل صورة نمطية.
ولعل عقيدة المهدي المنتظر، تمتد بجذور ضاربة في أعماق الفكر الديني البشري، ففي الزرادشتية يخرج المخلص من بيت زرادشت كل ألف عام، وهو يقابل بوذا الخامس في البوذية، وويشنو عند الصينيين القدماء، والذي تصاحبه أشراط الساعة كما ورد في مرويات الفتن، حيث كسوف الشمس وخسوف القمر، وغير ذلك من الخوارق.
ولا يعني حضور المتخيل، وتكرار التعالق النصي، بأي حال، أنّ القصص الديني منتحل، بقدر ما يؤكد ذلك على عمق الاتصال بين الثقافات البشرية، ذلك أنّ التلاقح الحكائي أنتج مزيجًا مدهشًا من القصص الأسطوري، احتلّت فيه فكرة البطل المخلص صدارة المشهد، فتناسخ روح بوذا-جوتاما في الصين، وعودته مرة اخري ليقود المؤمنين من أجل الخلاص، هو ذاته الذي فعله كريشنا في الهند، وهو نفسه ما فعله ثور بن أودين عند الفايكنج، وغير ذلك من التشكيلات الحكائية المتداخلة، عند الرومان والإغريق والفراعنة والأشوريين وغيرهم.
وفي اليهودية، يؤسس المسيح المنتظر الذي يأتي من نسل النبي داود، مملكة الرب، إيذانًا بخلاص الشعب اليهودي؛ وهو الحدث الذي انقسم في الإسلام إلى مهدي منتظر، ومسيح عائد، وكل هذا يأتي ضمن أشراط الساعة في آخر الزمان، وهي فكرة ذات مضامين سياسيّة، ربما ظهرت إبان الصراع السني الشيعي؛ كبشارة وأمل في تحقق الخلاص.
عودة المسيح وجدل المعجزة
كان افتراض عودة أخرى للمسيح يحل إشكالين رئيسيين، الأول: تفسير معنى الوفاة الواردة في آيات القرآن، والثاني حسم مسألة رفع المسيح حيًا باعتبارها مسألة مؤقتة، فهو مثل غيره من الأنبياء، ومنهم النبي محمد، سوف يموت ويبعث يوم القيامة، فالنزوع إلى تمجيد النبي محمد وتعظيم مكانته بين الأنبياء؛ يقتضي عدم تمييز المسيح وحده دون سائر البشر بعدم الموت، وبالتالي كان الاتفاق على عودته أمرًا لا جدال فيه؛ تمهيدًا لموته.
وبحسب باسم المكي، في دراسته المعنونة بــ “المعجزة في المتخيل الإسلامي”، فإنّ الأناجيل رسمت هيكلا عامًا لنهاية المسيح، تتفق كلها على إقرار حدث الصلب، وفق مسار واقعي ينتهي بالموت، ووفق جملة من التأويلات التي تجمعت فيها المقولات الكبرى في المسيحية (الموت، الفداء، القيامة)، حيث انطلقت قيامة المسيح من بنية أسطورية خارقة[5].
وفي القرآن اقترنت وفاة المسيح بالرفع، “إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون” (آل عمران: 55). والنص كما هو واضح، يغيب فيه تأكيد الموت، ويقتصر على حصول الرفع، مع نفي الصلب عن المسيح؛ “وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ” (النساء” 157).
ويلخص ابن كثير الاتفاق بين الفقهاء على أنّ عودة المسيح شرطًا من أشراط الساعة، فيقول في تفسيره للآية: “وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا” (النساء: 159)، فقد اختلف أهل العلم في مرجع الضمير في قوله “موته” على قولين: القول الأول: أنّ الضمير يعود إلى عيسى بن مريم عليه السلام، وعلى هذا يكون معنى الآية، أنّه ما من أحد من أهل الكتاب إلاّ سيؤمن بعيسى عليه السلام، وذلك قبل موته، أي عيسى، فإنّه إذًا نزل من السماء، وقتل الدجال، فإنّه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، فلا يقبل إلاّ الإسلام، وحينها يؤمن أهل الكتاب به، قبل موته، عليه السلام، ويعلمون أنه حقّ، وأنّه لم يمت من قبل. فالكلام في الآية عن علامة من علامات الساعة، وشرط من أشراط يوم القيامة، سيكون بعد نزول المسيح، وأنّه قبل أن يموت في ذلك الزمان سيؤمن به أهل الكتاب. وقد ورد ما يؤيّد هذا القول من قول أبي هريرة بعد روايته للحديث الدال على نزول المسيح في آخر الزمان، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَد حَتَّى تَكُونَ السَّجْدةُ الْوَاحِدةُ خَيْرًا مِنْ الدنْيَا وَمَا فِيهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: “وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا” (النساء 159) [6].
وبالتالي فإنّ عودة المسيح هنا، هي عودة وظيفية، تسوقها جملة من المفاهيم الإجرائية، ترتكز كلها حول الانتصار النهائي للإسلام، وهي لحظة يتزامن معها ظهور المهدي المنتظر، وكلها ظهورات مفارقة تأتي في آخر الزمان.
صناعة البطل المنتظر
تنطوي فكرة المهدي المنتظر على بنى رومانسية تحتل مركز الصدارة داخل العقل الشعبي، أو كما يقول الجابري فإنّها تعبر عن “أيديولوجيا المساكين” الذين ينتظرون الخلاص على يد بطل منتظر يبعثه الله، ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا[7]. وبالتالي فإنّ عملية صناعة البطل، تجري وفق مراحل لا يمكن حرقها؛ تبدأ بالبشارة، وتنهي بالإعلان عن ظهور المخلص.
في كتابه: “جدل التاريخ والمتخيل؛ سيرة فاطمة”، يسلط بسام الجمل الضوء على مصطلح التبئير، بوصفه “مبدأ تنسّق بمقتضاه عناصر العالم المتخيل”[8]. ويجري ذلك عن طريق تسليط الضوء على البطل، دون غيره، بحيث يبقى الآخرون في الظل وخارج دائرة الضوء.
بعد التبئير، يأتي دور المفهوم الثاني؛ وهو التحويل، ويعني الانتقال بالبطل من وضع مادي ونفسي معين، إلى آخر مغاير، وذلك عن طريق القلب والتضخيم؛ ويعني الانتقال من حال إلى آخر مغاير، كالانتقال من الهامش إلى المركز؛ فتتحول شخصية مهمشة إلى شخصية مركزية، من خلال تضخيم حدث معين، عبر “رصف طبقات من الأحداث المتخيلة عليه”، وإلحاقه بجملة من الخوارق؛ تأتي في المركز منها الولادة العجائبية[9].
وأخيرًا، تأتي عملية الإنتاج، باستخدام المعطيات السابقة، وتوظيفها “في ابتداع أخبار عديدة”، تشد البطل إلى عوالم العجيب والغريب والمعجزات، وهو ما يتجلى في مضامين الروايات التي تنتجها أجيال متعاقبة[10].
ولا يمكن الحديث عن هيمنة بطل واحد على مجريات التاريخ، لكن سياقات البطولة الجماعية لم تنف وجود البطل المركزي، حيث كان حضوره حتميًا؛ بوصفه ملهم الجماعة الذي تحفه الأساطير، وصاحب الريادة، الذي يمتلك قدرات خاصّة، وفي نفس الوقت يحتفظ بقيم الفروسية النبيلة، وعليه كان ظهور هذا البطل الاستثنائي محل إعداد وتجهيز، بدءً من النبوءات التي ئسبق مولده الإعجازي، والإرهاصات التي جاءت بالبشارة، مرورًا بمحنة يتبعها خلاص فردي، وهو ما يؤهله لقيادة الجماعة نحو تحقيق الخلاص الجماعي.
ولعل معجزات الولادة، تعود إلى عصور ما قبل الديانات الإبراهيمية، فعلى سبيل المثال، تصور السومريون عملية إخصاب الأرض كي تنبت الزروع، كعملية إخصاب الأرحام، فنرى الإله إنكي يضاجع نينتو، أم البلاد، فتضع نينسار الفاتنة، فيضاجعها إنكي؛ فتضع نينكورا سيدة النباتات؛ والتي يضاجعها أيضًا؛ فتضع أوتو إلهة النسيج[11]. وهكذا تبدو الأسطورة وكأنّها نقطة الانطلاق في صناعة المتخيل، الذي يحف أحداث الميلاد الخارق، والذي كان في البدء سببًا للحياة.
ويسرد باسم المكي، جملة من الأحداث الأسطورية، للدلالة على مدى احتفاء مدونة قصص الأنبياء بمعجزات الولادة، فما من نبي إلّا وخصته بمعجزة تتعلق بولادته، ذلك أنّ “ولادة النبي تمثل في جوهرها تجديدًا دوريًا للعالم”[12]. وتجديدًا للعهد بين الله والبشر، عن طريق تحقيق انتصار مدوي للمخلص، في مواجهة الشر.
رمزية الشر في مواجهة المخلص
في مقابل البطل المخلص، والنبي الملهم، هناك رمز الشر، الأمر الذي يعكس اهتمام الإنسان بالصراع الأبدي بين الخير والشر، حيث جسّد ذلك على شكل ثنائيات متضادة، يصبح الصراع بينها موضوعًا في مواجهة العالم، قبل أن ينتهي بانتصار الخير، في نهاية المطاف.
في المتخيل الإسلامي، تجلّت الرؤى الميثولوجية حول زعيم الشر الخارق، الذي يأتي في آخر الزمان، ويعيث في الأرض فسادًا، في شخص المسيح الدجال، الذي استدعاه المتخيل الديني من الثقافات القديمة، الفرعونية والبابلية والإغريقية، وأعاد موضعته من جديد، ضمن المفاهيم الإسلامية، في سياق ما يعرف بأشراط الساعة.
استلهم الفقه الإسلامي أسطورة هانبي من الموروث البابلي، وهو إله الشر وسيد كل القوى الشريرة[13]. وأعاد تشكيلها في إطار تشخيصي جديد، تبعاً لنزوع المتخيل الإسلامي تجاه التجسيد، وخصّ الوجه بجل اهتمامه، باعتباره صانع الانطباع الأول لدى من يرونه، فجعل فيه كل ما يبعث على الخوف والتقزز في الوقت نفسه، فهو بحسب ابن حبان، رأسه كأنه أصلة، وهي نوع من الحيات، عظيم الرأس، كلتا عينيه معيبة، فاليمنى عوراء كأنها عنبة طافية، واليسرى عليها جلدة، وهو ذو شعر جعد كثيف، أبيض البشرة، مكتوب بين عينيه كافر.
وهذا الوصف الفيزيولوجي، يتفق مع نمط المتخيل الإسلامي حول كائنات الجحيم، كما رصدته الباحثة التونسية، لطيفة كرعاوي، في كتابها الفردوس والجحيم في المتخيل الإسلامي[14]. فهو وصف نجده في أمثلة كثيرة على غرار وصف الزبانية، فثمّة حرص على وصف الوجه باعتباره العضو الأشد تعبيرًا، وهو أمر اختص به المسيح الدجال إلى حد بعيد.
هذا الإمعان الشديد في وصف الوجه، يؤدي بدوره وظيفة شديدة الأهمية، فالدجال الذي يدعي الألوهية، ويقوم بالخوارق، لابد أن تميزه علامة، يتضح من خلالها كذبه. وهو ما توضحه رواية أبي داود عن عبادة بن الصامت، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ “.
هذا الوصف الأسطوري، يتشابه إلى حد كبير من مع الميثولوجيا البابلية، فالمسيح أشبه بـــ أريشكيجال سيدة الجحيم التي تتجلى في صورة ساحرة خارقة[15]. حيث يعمل هنا المتخيل وفق النسق ذاته الذي اشتغلت به الأساطير القديمة، بشكل يتجاوز معطيات الثقافة الإسلامية وحدودها المعرفية.
ختام
يرتبط المتخيل ارتباطاً وثيقاً بحقل التمثل الذهني، وهو بحسب جيلبير دوران، جملة من الصور المرتبطة فيما بينها بعلاقات، تكون عن طريق التراكم رأس المال المُفكَّر فيه عند الإنسان، وبالتالي تلعب الصورة دوراً مركزياً باعتبارها وحدة قياس هذا المتخيل.
وينتمي المتخيل إلى حقل الثقافة الشعبوية، ضمن جملة من الخرافات والأساطير والقصص العجائبي، لكنّ ذلك لا يعني تهميشه، لاتصاله بالأنثروبولوجيا، ودلالات الرمز في البنى السوسيو-ثقافية للمجتمعات. وبعبارة أوضح فإنّ المتخيل يعكس احتياجات الجماعة البشرية، خاصّة في لحظات الضعف، أو أوقات التحولات التاريخية الحادة، وهو بذلك يلعب دورًا وظيفياً، عميق الدلالة، في تحقيق تماسك الجماعة، وعدم تفككها في اللحظات الحرجة، ويغذي قدرتها على البقاء واستيعاب الصدمات.
ولم تقتصر فكرة المخلص على بطل معاصر أو منتظر، بل نجد الفكرة وقد تشكلت في الفكر الشيعي حول علي بن أبي طالب، بعد وفاته، ففي أعقاب الانتصار الأموي النهائي، أصبح علي بن أبي طالب بطلا تحفه الأساطير، وباتت شخصيته حاضنة أنتجت مفهوم الإمام المعصوم، مثلما أنتجت شخصية الحسين بن علي مفهوم المظلومية المقدسة.
والمتخيل في حقل الدلالات الخلاصية، دائم الحضور على مدار التاريخ، ففي العصر الحديث، وفي أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) 1967، كان ظهور العذراء في مصر، حيلة دفاعية، حاول من خلالها البسطاء تجاوز آثار النكسة، فلجأ مجتمع روعته الهزيمة إلى السماء، واندفع المسيحيون والمسلمون، يلتمسون بشارات أم النور، ويستمدون منها قدرة جديدة على البقاء.
المراجع:
[1] عبد اللطيف الهرماسي: في الموروث الديني الإسلامي، قراءة سوسيولوجية تاريخية، التنوير للطباعة والنشر، بيروت 2012، ص 88.
[2] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 1991، ص 10.
[3] Paul Thomas: Epics, Myths and Legends of India, D.B. Taraporevala, 1995, 141.
[4] وفي مرزوقي عمار: مرويات الفتن في الكتب والسنة، ما وقع منها وما لم يقع، جمع وتخريج ودراسة، كلية العلوم الإسلامية، المدينة المنورة، 2016، ص433.
[5] باسم المكي: المعجزة في المتخيل الإسلامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2013، ص ص 364-366.
[6] محمد لطفي الدرعمي: قصة المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، مهذبة من تاريخ ابن كثير البداية والنهاية، شبكة الألوكة، د.ت. ص ص 17-18.
[7] محمد عابد الجابري: المرجع المذكور، ص 287.
[8] بسام الجمل، التاريخ والمتخيل؛ سيرة فاطمة، ط1، مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2016، ص 45.
[9][9] نفسه: ص ص 49-51.
[10] نفسه: ص51.
[11] قاسم الشواف: ديوان الأساطير، سومر وأكاد وآشور، الكتاب الأول، دار الساقي، بيروت، 1996، ص ص 28-31.
[12] باسم المكي: المرجع المذكور، ص ص 85-86.
[13] Michael Pickering: Space Born Legacies: The Star-born-e Chronicles I, London,2023, P.223.
[14] لطيفة كرعاوي: الفردوس والجحيم في المتخيل الإسلامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014. ص115.
[15] المرجع السابق نفسه: ص49.