تكوين
[I] في طريق فهم الظلام العربيّ المعاصر
[I-I]
إبستيمولوجيَّاً، أي من جهة مصادر المعرفة التي تُحدِّد الأرضيَّة الموضوعيَّة لموضوع الظلام، ومن ناحية الإمكانات الفكريَّة والمجتمعيَّة المتوفَّرة التي تُسهم في عمليات بناء الفكر والمعرفة، نفهم الظَّلام العربيّ المعاصر اِنطلاقًا من نتائجه المجتمعيَّة، والسياسية، والفكرية. نقول ظلامًا عربيَّاً ولا نقول نورًا عربيَّة، أو أنوارًا عربيَّة، أو تنويرًا عربيَّاً. وذلك لأنَّ الأنوار الفلسفيَّة إنَّما هي نتيجة صيرورة مجتمعيَّة متكاملة، تتكاتف بِنى الثقافة والاِقتصاد والسياسة، المجتمعيَّة، في سبيل إنتاجها، من جهة، وهي من جهةٍ أخرى، ترتكز على ركائز حقوقية وقانونية تحددها في كل الأحايين القواعد المجتمعيَّة، والتقاليد والأعراف والقوانين الضابطة للفعل المجتمعيّ، التي نفهمها، بَعْدِيَّاً، في إطار القانون مأخوذًا كمؤسسة مجتمعيَّة. إذن متى قلنا الظلام العربيّ المعاصر، لا نقول أنَّه نتيجة لأعمال فكرية، وأبحاث ودراسات ومشاريع فكرية، فحسبُ؛ بل إنَّما هو نتيجة صريحة لواقع مجتمعي قائم بذاته، تسعى التيارات الفكريَّة، في العالَم العربيّ، والاِتجاهات والمدارس في ذا العالَم، التي تريد فهمه، أو تفسيره، أو تغييره، في إعادة إنتاجه. وكي نبدأ بفهم الظلام، علينا أن نتساءَل بالاِنطلاق من مفهوم النقد الحديث، وما بعد الحديث.
[I-II]
من منظار النقد، في المعنى الفلسفي الحديث الذي من شأنه، وشرطَ ألاَّ نفهم الحديث ههنا على أنَّه موقف آيديولوجي، بل اِنطلاقًا من كونه نتيجة لتجربة إنسانية عالَميَّة، وبواسطة مفهوم النقد بعامَّةٍ، والنقد السُّوسيولوجيّ كونه منهجَ فهمٍ بخاصَّةٍ، يمكننا أن نتساءل عن ماهيَّة الظلام العربيّ المعاصر، وبِنيته، وصيرورته. أو يمكن، في إبستيمولوجيا الظَّلام العربيّ المعاصر، أن نقوِّمَ تساؤلاً علميَّاً جديدًا يرتبط، لا بعقبات النهوض والنهضة فحسبُ، بل، هذه المَرَّة، يتناول الواقع العربيّ المعاصر كما هو؛ أي بوصفه نتيجة لأفكار وتصوُّرات واِفتراضات فكرية- آيديولوجية أنتجت ظلامًا عربيَّاً، أفترض أنَّه، لا يتطلَّب نقاشًا طويلاً في سبيل النَّظر إليه على أنَّه، قد أصبح، بداهة.
[I-III]
علينا، في هذه الطريق الحذر، كل الحذر، في التعامل مع التيارات الفكريَّة المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ في العالَم العربيّ. لجهة أن لكل تيار من هذه التيارات، مصلحته الخاصَّة في دحض مفهوم الظلام، وقد يجد فيه ضربًا من التشاؤم الفكري، أو الشعور بالخيبة، وحتى يمكن أن يدَّعي أنه يجد ضرورة في تجاهل مثل هذه المفاهيم التي تشير مباشرةً إلى واقع لم يُنظَرْ فيه، كفايةً وبإحكام، بعدُ قبليَّاً.
إقرأ أيضًا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي
وكي لا نفتح معركة حول جدارة الفكر العربيّ المعاصر، وضرورة التحديث فيه، وكيف ذلك، وكي لا نقع في نقاشات آيديولوجية لا أوَّل لها ولا آخر، ولا تُقدِّمُ غير تكرار المكرَّر؛ وكي نتجنَّبَ ذاك النوع من الأبحاث والمقالات والدراسات التي تعاني من وقوعها في ثُنائيَّة [وجود فكر عربي- وعدم وجود فكر عربي]، نقول على نحو جلي: أننا في الظلام العربيّ المعاصر. ولكن ما هي ماهيَّة الظلام العربيّ المعاصر؟ وما هي بنيته؟ وما هي صيرورته؟ وكيف، وبأيةِ معانٍ يمكن أن نتوقف عند التَّساؤل عنه، والتفكير فيه، وبالتالي فهمه؟ إنَّها تساؤلات مرتبطة بالنقد، وفهم النقد، والتفكير بالنقد، والتساؤل بتوسُّطِ النقد، والاِنطلاق من النقد. يمكننا أن ننطلق إذن من أننا لم نفهم النقد، في المعنى الحديث وما بعد الحديث الذي من شأنه، على نحو محكم، بعد.
[I-IV]
يمكن فهم الظلام العربيّ المعاصر من خلال ممارسة أشكال فكرية، وأنماط إقناع، وضروب تفكير، ومستويات فهم، هي، على أقل تقدير، الآتية:
- I- الأخذ بالمفاهيم القديمة الجاهزة، من خارج الزمان: من الماضي، أو من خارج المكان: من بلدان العلم في الغرب، وتوظيفها ضمن علميَّة فهم الواقعيَّات (ج. واقع) العربيَّة الجديدة.
- II- تسييس المعرفة بعامَّةٍ، والفلسفية والعلمية الحديثة وما بعد الحديثة، اِنطلاقًا من منظورات آيديولوجية- مصلحية تمثّل جماعات سياسية وأحزاب فاعلة في المجتمعات العربيَّة.
- III- تديين المعرفة العِلميَّة الحديثة، والرَّد على كل مفهوم علمي، ونظرية علميَّة، من منظار المعرفة الدينية، أو الكشف عن إمكانات المعرفة الدينية في مواجهة مفاهيم ناتجة عن وهم تقسيم العالَم إلى عوالم؛ أو المقارنة أو المقاربة أو كل ضروب اِتخاذ المواقف الآيديولوجية- المصلحية، بعد تحويل الدِّين إلى فهم مغلق ينتج جماعة، إزاءَها.
- IV- البداهات الفكريَّة التي لا تفتح إمكانًا للاِختلاف والتعدُّد والتنوع في تناولها، و / أو هي لا تسمح بالتعامل معها على أنها نتاج فكري إنساني يمكن في كل مرَّةٍ، بناؤُه وإعادة بنائه.
- V- فهم الموضوعات الفكريَّة، فلسفيَّاً وعلميَّاً على أنها أشياء جاهزة تنتظر البحث فيها، والقفز على بداهة أن الموضوع إنَّما هو يُبنى ضمن علاقة تغذية مباشرةً من الواقع المحسوس إلى الفكر الذي ينتج مفهومًا بشأنه، ومن الفكر إلى الواقع؛ وهكذا دواليك.
لكن، من أجل أن نفهم الظلام العربيّ المعاصر، علينا أن نتوقف طويلاً عند كيفيَّة تناول الفكر العربيّ الحديث والمعاصر لمفهوم النقد، وكيف ممارسته. إنَّه تساؤل عن ماهيَّة التَّساؤلات التي تنهض في كل مرةٍ في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، وتستمد أهميَّتها من جملة اِفتراضات قَبْليَّة وأفكار وتصوُّرات قد تُحدِّد ضروب تناول الموضوعات الفكريَّة، منذ أولها إلى آخرها؛ في بدئها وفي نهايتها.
[I-V]
لربما كان علينا أن نتساءَلَ كما لم نتساءَلْ من قبلُ، وكان علينا أن نفكِّرَ كما لو كان القَبْليُّ Priori مفتوحًا على إمكان التصيُّر بالبَعدِيِّ وبتوسُّطه. ربما كان علينا أن نفهم كما لو كانت الأفهام القَبليَّة في طَورٍ من الاِنتظار كي تُراجع. أن نراجع الفهم هو أن نَنْقُدَ الفهم. أن نراجع وأن ننقد معناهما أن ننفتح على إمكانات موضوعيَّة من شأن الواقع المجتمعيّ المعاصر، وموضوعاته، في ضروب تغيُّرها وتبدُّلها وتحوُّلها المستمرة.
في هذا السَّبيل، ثَمَّةَ أربعُ إشاراتٍ إبستيمولوجيَّة (فاهِمَة للمعرفة، ومتفلسفة في إمكانات بناء موضوعاتها، وكيف فهم موضوعاتها) قَبلَ أن نبدأَ بالتساؤل عن النقد:
- الإشارة الأولى: يتميز النقد عن الاِنتقاد بتمايز المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة وما بعد الحديثة عن المعرفة الآيديولوجية. بعبارة مباشرة: أن ننقد هو أن نُنتج معرفةً، وأن نَنْتَقِدَ هو أن ندحضَ المعرفة على نحو آيديولوجي- هُوَوِيٍّ (نسبةً إلى الهُويَّة). أن ننقد هو أن ننتج معرفة بديلة قادرة على أن تحل محل المعرفة الأصليَّة، أو هي متوفِّرةٌ على إمكان ذلك؛ وأن ننتقد هو أن نبرز مكامن الضعف، والهشاشة في المعرفة، وأن نتخذ موقفًا سلبيَّاً منها، لا أكثر.
- الإشارة الثَّانية: لا يمكن الاِنتقال من المعرفة القديمة إلى المعرفة الجديدة من خلال اِتخاذ موقف آيديولوجي من التُّراث؛ أو حذفه بجرَّةِ قلم؛ أو بواسطة موقف آيديولوجي من الحداثة، والقفز عليها بسهولة. أنْ تنتقلَ المعرفةُ هو أن تنصهرَ من جديد، وتتوحَّدَ، على نحو الإمكان، مع المعرفة التي تأتي، في كل الأحايين، من الماضي. وهكذا، يعني نقدُ القدماء التَّعرُّفَ إليهم على نحو ما يَليقُ بالشروط المجتمعيَّة والتاريخيَّة التي أنتجتْ معرفتَهم. إنَّ نقدَ القُدماءِ لا يعني شَطْبَهُم بجرَّةِ قلم. إنَّ شطبَ الآخرين إنَّما هو عنفٌ معرفيٌّ سائد؛ وشائع كثيرًا هذه الأيام. ولأنَّ الجهل بالقديم ينتج الجهل بالأسس لا محالة؛ فإنَّ الاِنتقال إنَّما هو اِنصهار، على هذا النحو أو ذاك.
[I-VI]
الإشارة الثَّالثة: إنَّ النقد يتضمَّنُ:
- I- معنى إدراك المعرفة المنتَقَلة إلينا من بلدان العلم على نحو التمييز بين ما هو عالميّ وإنساني مُشتَرَك، وما هو خاصّ ومحليٌّ خصوصي،
- II- معنى فهم المعرفة بمعنى تفكيك طبقات العالَميَّة في المعرفة، والتعرف إلى الوجه الآيديولوجي (الأصول المجتمعيَّة الداخلة في إنتاج المعرفة) فيها،
- III- معنى وعي المعرفة من خلال التهيُّؤِ للحُكم على الواقع المجتمعيّ وعلى المعرفة اِنطلاقًا من الفهم الحاكم- الضابط لهما. إنَّه، أي النقدُ الموضوعاني، هو وَحدة المفهوم والواقع بعد التوفُّر على التمايز بين المُكَوِّن العالمي- الكوزموبوليتاني في المعرفة، والمُكَوِّن الخاصّ والمحلي في المعرفة.
الإشارة الرَّابعة: إنَّ الاِصغاءَ من جديدٍ لنداءِ إيمانوئيل كانْت: “تجرَّأْ على اِستخدام فهمك الخاصّ” لا يعني التفلُّتَ في اِستخدام الأفهام العادية في الفهم، وتوظيفَها على نحو الخلطِ بين الفهم العادي والفهم العلميّ للعالَم. إنَّ التجرُّؤَ ضربٌ من تخصيص المعرفة وعَزْلُ العاديِّ فيها عن العلميِّ؛ والسائد والشائع والعمومي عن الفلسفي العلمي العميق المتخصص.
وهكذا، نتساءَلُ عن النقد من موقع الواقع الذي لنا. الواقع الذي يقع علينا، ويعيد بناء ذاتِ أنفسنا العميقة، على نحو الإمكان. فإذن: ما هو النقدُ وقد أصبحَ معرفةً قائمةً برأسها؟
[II] نقد الظلام في الفكر العربيّ المعاصر
[II-I]
في أوَّلِيَّة النقد وضرورته، علينا أن نتساءل عن النقد من جهة كونه معرفة قائمة بحد ذاتها؛ تتوفَّر على إمكان التميُّز والفرادة والاِختلاف على نحو جذري. وهكذا، متى فهمنا النقد بهذه الهيئة، يمكننا أن ننفتح على إمكان فهم الظلام العربيّ المعاصر.
إنَّ [نحن- في- الظلام] تفتح إمكان أننا نتوفر على إمكان آخر غير الظلام. نحن العرب، مسلمين ومسيحيين، وأقليات أخرى، في الظلام الآيديولوجي. إنَّنا في أفضل حال، نَبْذُلُ جهودًا، بهذا المعنى أو ذاك، في سبيل تخطيِّ الظَّلامِ الذي صنعته الهُويَّة؛ إنَّ تخطيَّ الظَّلامِ إنَّما هو تخطٍّ لعقبات الفكر والمعرفة بعامَّةٍ؛ وتفكيك تلك المعرفة التي حالت دون أن نكون مواطنين عالَمِيِّين. ومن جهة أن تفكيك المعرفة إنَّما هو تفكيك إمكاناتنا، بقَدْر ما هي فهم ووعي شروط إمكان العالَميَّة، فإنَّنا لا نفهم الظلام، ولا نؤسس للأنوار، ولا نبني الطريق من الظلام إلى الأنوار، من دون التوقف طويلاً عند العقبات المعرفيَّة، والمجتمعيَّة بعامَّةٍ، أي الثقافية والاِقتصادية والسياسية، التي حالت دون التكامل مع العالَميَّة. لأنَّنا إنْ أردنا أن نفهم العالَميَّة، علينا أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ أن نشرعَ بفتح الهُويَّة؛ هويتنا نحن.
إقرأ أيضًا: أسئلة حول الفكر العربي المعاصر: الجزء الأول سؤال التسمية
[II-II]
أن نفتح الهُويَّة هو أن ننقد الهُويَّة؛ من جهة كونها حدودًا قَبْليَّة. إنَّ النقدَ الذاتيَّ إنَّما هو أوَّلُ النَّقدِ على نحو أصليّ. ولا ثَمَّ نقدَ ذاتيَّاً من دون الولوج إلى الطبقات المختلفة التي تؤسس لها الهُويَّة في ذاتٍ واعية. إنَّ الذَّات واعية لأنها تتساءل، وتفكِّر، وتفهم. إنَّ نقد الذَّات المتسائلة إنَّما هو نقد التَّساؤلات الجاهزة، ونقد الذَّات المفكِّرة هو مفتوحٌ على نقد أسس الفكر، ونقد الذَّات الفاهِمَة لهو تفكيك الأفهام- التعريفات التي تُقدَّمُ على أنها قوالب ذهنية على هَدْيِها يُفهم العالَم ويكون. بَيْدَ أنَّ التَّكاملَ بالعالميَّة، أي بتوسُّطها في الهُويَّة، لهو ينهض على أساس أن الحقيقة تُؤخَذُ من جهة كونها حقيقةً في كلِّ مرَّةٍ، مما بعد القرن التاسع عشر، أو لا تكون. ولكن ما اِرتباط ذلك بالنقد، ومفهوم النقد، وممارسة النقد؟ ولماذا علينا أن نفهم النقد من جهة العالَميَّة؟
[II-III]
إنَّ النقد، والنقد المضاد، إنَّما هما اللَّحظة المَنْهَجيَّة الأخيرة في الفكر، في تلك التي يظهر الفكر نحو الخارج. إنَّ الظهور نحو الخارج يعني الدخول في ديالكتيك الفكر والفكر الآخر. إنَّ الفكر لا يكتمل من دون النقص. ولأنَّ الفرضيات قضايا قابلة للدحض، فإنَّ الفكر الذي يتقوقع في ضروب ديالكتيك مع ذاتِ نفسه فحسبُ إنَّما هو يُنسى، أو هو، في أفضل الأحوال، يكون خارج النقاش الكوني (الكوزموبوليتاني) عن العالَم، والوجود في العالَم. إنَّ الفكرَ من جديد هو الولوج من جديد في مفهوم النقد والنقد المضاد الجديدَيْن.
إنَّنا حينما نفكِّر ندفع التَّساؤل نحو أقصى إمكان من إمكاناته في أن يستشكل؛ إنَّ إشكاليَّة الفكر إنَّما هي إشكاليَّة النقد والنقد المضاد؛ والذهاب مباشرةً إلى مستطاع المعرفة في أن تدحض ذاتَ نفسها، من جديد. إنَّ الدحضَ إنَّما هو تفنيد الفكر في اِرتباطه المباشر مع الواقع، وقد صار اِستحالة. إنَّ الواقع، من جهة كونه، اِستحالة، إنَّما هو ممكنُ الفكرِ، ومستطاعه الأكثر جذرية. ومن جهة ذلك، نحن نفهم الواقع دائمًا من جهة الظلام. في الظلام تنفتح الدروب نحو التَّساؤل من جديد. لماذا؟ لأنَّه أوَّلَ الفهم. أوَّل الفهم هو فوضى، واِضطراب، ومجهولية. وهكذا، نسقط مباشرةً في غياهب الظلام. ما الحل؟ إنَّه شرطُ إمكانِ أن نكون ثانية ومن جديد، وعلى نحو جديد. هو ذا عالَميَّة الواقع، وعالمية الفكر. إنَّ ذلك يدفع المعرفة بِقُوَّةٍ نحو العالَميَّة وقد صارت ضمنَ ما يخصُّها. إنَّ العالَميَّة تخصُّنا بالقَدْر نفسِه الذي نحن نفهمُ ذاتَ أنفسِنا العميقة من جهةِ كونِنا نحنُ مقابلَ، هُم ضبابية هُلامية ملتبسة في أغلب الأحايين.
[II-IV]
وكي تَفهمَ المعرفة ذاتَها من جديد، فإنها تتطلَّب توقُّفًا عند مستوى النقد من جهة كونه معرفةً، لكن هذي المَرَّة ليست معرفة أخرى؛ بل المعرفة هي ذاتُ نفسها من جديد. إنَّ دحضَ المعرفة لذاتها، إنَّما هو أوَّل النقد. ولأنَّ ممارسة المعنى الإبستيمولوجي في النقد، أو ممارسته في أن لا ثَمَّةَ وَحدة تتضمَّنُ المعارف الناقدة في بوتقة واحدة، إلاَّ وهي، أي الوَحدة مُصطنعة، تتضمَّنُ معنى تجاوز المعرفة لذاتها. إنَّ في ضروب التجاوز هذه، تبزغ الإمكانات المعرفيَّة الجديدة، في بناء معرفة متكاملة مع الواقع المجتمعيّ العربيّ المحسوس، لا متجاوزة له. ولأنَّ لا ثَمَّةَ تعريفاتِ أستاذيَّةً جاهزةً يمكن أن تُقدَّمَ وتكون تعريفًا أوَّليَّاً يُنطلق منه، فإنَّ النقد، والحال هذي، يأخذ هيئة التَّساؤل. إنَّ النقد، من حيثُ إنَّه معرفة أصليَّة، هو البدء من المنتصف في تفحُّصِ الأسس- البداهات في كل مرّةٍ… إنَّ النقد إنَّما هو [المعرفة- من- جديد] وقد صارت بناءً وصُنعًا وخلقًا جديدًا.
إقرأ أيضًا: الواقع العربي والفكر النقدي: خروجٌ نحو الأبعد
[II-V]
وفي هذا السياق نحن نفهم النقد، نقد [المعرفة- بعامَّةٍ]، على نحو إبستيمولوجي، متى توفَّرنا على إمكان إيضاح المصادر القَبليَّة Priori، التي على أساسها يُصبح بناءُ النقدِ مُمكنًا. إنَّ التوفُّر على الكشف عن القَبْليِّ Priori في النقد، إنَّما هو التَّساؤل الإبستيمولوجي عن النقد؛ ولكن ضمن حقل ميتافيزيقا النقد. لأننا بقَدْر ما نتعرف على الأساسي في النقد، بقدر ما نقترب خطوةً إلى الأمام في سبيل الظفر بفهم النقد، وممارسه. ولكن، بأيَّةِ معانٍ علينا أن نتعرفَ إلى النقد من جهة كونه معرفةً في وجه معرفةٍ أخرى؟ بأنَّه ضربٌ من ضروب التَّعرُّف إلى [التعدُّد- في- الفهم] الذي من شأن منظورات الرؤيةِ المُتسائِلةِ، والنَّظر المفكِّرِ، والتفحُّص الإبستيمولوجي؟
إنَّنا يمكن أن نفهم ذلك، ونمارسه اِنطلاقًا من التواشج البنيوي الذي بين النقد وقد صار معرفةً، وبين التحول في المضمون النظريّ الذي يخصُّ مفهوم الحقيقة. لماذا مفهوم الحقيقة بالذات؟ لأنَّنا ننقُدُ على أساس معيار قَبْليٍِّ للحقيقة في كلِّ مرة. إنَّ العلاقة بين الحقيقة والنقد، في صيرورة تتضمَّنُ لحظاتٍ خمس على أقل تقدير. هي ذي:
- I- الحقيقة من جهة نظرية التطابق والمطابقة بين المفهوم والمحسوس؛ في ضروب التفكير الميتافيزيقية التي من شأنها؛ في العصر الإغريقي ما قَبلَ سقراط.
- II- الحقيقة من جهة كونها نتيجة تفكيك العقبات في وجه التطابق بين الفكرة والممارسة، في العصر الإغريقي بدءًا من سقراط.
- III- الحقيقة من حيثُ إنَّها إجابة قبلية يقدمها اللاهوت (الثيولوجيا) عن التَّساؤلات الأُنطولوجية والميتافيزيقية الأكثر جذرية في حياة الإنسان والمجتمع؛ في القرون الوسطى.
- IV- الحقيقة وَفقَ التجربة والاِختبار والحساب؛ التي تُحدَّدُ على نحو عقلانيّ، في عصر الحداثة.
- V- الحقيقة وقد صارت مشاركة بين الاِتجاهات والمدارس الفلسفيَّة التي تمارس، في ظهور المعرفة نحو الخارج، النقدَ والنقدَ المضاد، في كل الأحايين؛ في عصر ما بعد الحداثة.
- VI- ويمكن إضافة اللَّحظة السادسة التي تتضمَّنُ الحقيقةَ بما هي نسيانُ الحقيقة أو ما بعدَ الحقيقة في عصر السايبر والذكاء الاِصطناعي.
[II-VI]
ولكن ما هو أهم هو أن الاِنتقال من لحظة أنطولوجية- إبستيمولوجيَّة في مفهوم الحقيقة، إلى لحظة أخرى، لا يتمُّ عَبرَ ما نسميه القطع الإبستيمولوجي (المعرفيّ) Epistemological Rupture، على نحو ميكانيكي بسيط، كما فَهِمَ ذلك التقليد الفرنسي الشائع؛ بل هو يقوم على ديالكتيك الوصل والفصل، وَفقَ ما يُنتِجُه هذا الأخيرُ من مضامين جديدة. وهو من ذاك النوع الذي يفتحُ أفقَ المعرفة الجديدة، ولا يَغلُقُ إمكانات المعرفة القديمة في أن تنقِّحَ ذاتها. إنَّ المعرفةَ، على أساس الديالكتيك بين الاِتِّصال والاِنفصالِ هي- وَفقًا لأنَّ الفرضيَّة العِلميَّة إنَّما هي قضية قابلة للدَّحضِ، أو لا تكون- تدحض ذاتَها في كل الأحايين؛ وعلى ذا، هي عالَميَّة، أو لا تكون.
[III] إمكان تجاوز الظلام في الفكر العربيّ المعاصر
[III-I]
هكذا إذن علينا أن نفهم النقد خارج ثُنائيَّة [الاِتصال في الزمان المعرفيّ- والاِنفصال في الزمان المعرفيّ]. وأن نفتح إمكان التَّساؤل عن النقد في ممارسته في المعنى الخاصّ والأخص الذي من شأنه. إنَّ النقد في المعنى الخاصّ والأخص يشير إلى مستويَيْن من ممارسته: الأول مرتبط ببِنيَة النقد، والثاني يتعلَّق بصيرورة النقد. وبالتالي، علينا أن نفهم المعنى الخاصّ في النقد على أنَّه تساؤل جديد في سياق بناء المعرفة.
[III-II]
إنَّنا نفهم المعنى الخاصّ في النقد عَبرَ فهمه بوصفه معرفة جديدة، وفهم جديد، وتساؤلات جديدة. كما نفهم المعنى الأخص في النقد عَبرَ فهمه ضمن إطار التَّعرُّفِ إلى الموضوعات من جديد، من خلال ما لها من طبقات ومستويات وأصعدة متوفِّرة على إمكان ألاَّ تظهر إلاّ من حيثُ إنَّها حيثيَّات متعدِّدَة ومختلفة ومتنوعة، في كلِّ مرَّة. تتزامن هذه الحيثيات، على نحو سينكرونيكي، وتتعاقب في معنى دياكرونيكي. ومن جهة إنَّ العلم حيثيات موضوعيَّة- وجوديَّة، لأنْ يأتي الموضوع إلى زاوية النظر، فإنَّ المعنى الأخص للنقد يمكن فهمه عَبرَ التَّعرُّف إلى الموضوع من جديد. إنَّ الجِدَّةَ ههنا تعنى تغيير المنظور- المنظار- زاوية النظر.
[III-III]
إنَّ ماهيَّة النقد من جهة كونها معرفة تفتح إمكان التَّعرُّف إلى بِنيَة النقد من حيثُ إنَّها مُكَوِّنات معرفية؛ وهذه الأخيرة من حيثُ إنَّها تصير، تكون، توجد، أي تأتي إلى مستوى الفهم، على هيئة المعرفة، فهي متصيِّرة. إنَّ ماهيَّة النقد وبنيته تفتحان إمكان فهم صيرورة النقد. بهذه الثُلاثيَّة [الماهيَّة- والبنية- والصيرورة] التي تخصُّ النقد نحن نفهم النقد من حيثُ إنَّه جذرُ المعرفة الأصليَّة. بعبارة مباشرةٍ: إنَّ المعرفة هي ذاك الكل النَّظري الذي يقوم على الواقع المجتمعيّ المحسوس، ويتصيَّر به، ويتحدَّد بالاِنطلاق منه، والذي، أي هذا الكل، قابل للنَّقدِ؛ أو لا تكون المعرفة من جذرها.
[III-IV]
إنَّ قابلية التخطئة (أو التفنيد أو التكذيب) بَدءًا من كارل بوبر، تتضمَّنُ هذا المعنى. إنَّها تشتمل على مهمة الفكر النقدي الأسمى؛ أي بناءِ فرضيات تفسيريَّةٍ فاهِمَة دالَّة. إنَّ الفرضيَّةَ وقد صارت قضيةً منطقيَّةً قابلةً للدََّحْضِ، أو لا تكون، تفتح جملة الإمكانات عن التَّساؤل عن النقد ما بعد الحديث. ولكنها، تغلق إمكان التواصل مع الماضي؛ واِنصهر في بوتقة المعارف الجديدة. وهكذا، نسقط مرَّةً أخرى، في حكم آيديولوجي يهدِّدُ إمكان الحقيقة. إنَّ الشعور بالخطر هو ذاته فاتحٌ لإمكان أن تُنقِذَنا فكرةٌ جديدةٌ هادية إلى الطريق من جديد. إنَّها الحقيقة كمشاركة وتواصل وحوار؛ بوصفها تكاملاً بين النظريَّات والحقول والمناهج؛ ولكنها هي أيضًا الذَّاتُ وقد صارت علاقةً في التكامل مع الخارج، أو هي بذا [الذَّاتُ- نحو- الخارج]. إنَّ النقد، والحال هذي، إنَّما هو، اِنطلاقًا من بداهات ما بعد الحداثة، بين ذاتي Inter- Subjectivity، وبين حدود الميادين العِلميَّة المختلفة Inter-Disciplinary. بكلمات أخرى: يَنتُجُ النقدُ من وَحدةِ الذَّات والتاريخ، من جهة أولى، وهو يقوم على وُحدةِ الميادين العلميّة المختلفة، من جهة ثانية، وإنَّهُ يُمارسُ على ضربٍ من ضروب الديالكتيك بين الوَحدَةِ الأولى والوَحدَةِ الثَّانية (الذَّات والتاريخ، بالتكامل مع، الميادين والحقول والطبقات المختلفة للعلوم والمعارف الفلسفيَّة الحديثة وما بعد الحديثة)، من جهة ثالثة.
[III-V]
وبالتالي، أنْ نتساءَلَ عن بِنيَة النقد هو أن ننفتحَ على لحظاتٍ خمس، على أقل تقدير، في فهمه وممارسته. لأنَّ أنْ نمارس النقد هو ذاته السعيُ الشريف لأنْ نخرجَ من الظلام. في هذا السعي تكمن المهام الجديدة المُلقاة على عاتق الفكر الجذري. إنَّه فكرٌ ناقدٌ يقف عند المحطات الآتية، وقفاتٍ متمعِّنةً مفتوحةً نحو الواقع المجتمعيّ الكُلِّيّ. وهي، على أقل تقدير، اللحظات الآتية:
- – I اللَّحظة الأولى: يرتبط التمايز بين النقد الفلسفي والنقد السُّوسيولوجيّ بالتمييز المنفتح على الواقع المجتمعيّ من جهة إمكاناته. أعني التمييز بين الإمكانات الذاتيَّة التي تتوفَّر عليها المعرفة، والشروط الموضوعيَّة التي يؤسس الواقعُ المجتمعيُّ لها في كل الأحايين. وهكذا، متى فُهِمَ النقدُ على أنَّه سلبٌ فإنَّنا بذا نشير إلى الكشف عن أخطاء الأفهام الذاتيَّة، ونقص المعرفة العادية، وبالتالي ثغرات المعرفة اليوميَّة في التعامل مع الواقع المجتمعيّ الكُلِّيّ.
- – II اللَّحظة الثَّانية: لا يُقدِّمُ النقد الآيديولوجي الذي يتأسس على معرفة ناتجة عن الأصول المجتمعيَّة أيَّ شيء تقريبًا في طريقنا إلى فهم النقد وممارسته. إنَّ النقدَ الآيديولوجيَّ هُوَوِيٌّ يليق بالصراعات السياسيَّة في حَلَبَةِ الصراع على اِحتكار السلطة؛ لا الصراع من أجل تبيين حقيقة. بالتالي، حينما نفهم النقد كضربِ سلبٍ معرفيٍّ نحن نمارسه كي يُبعِدَ ضروبَ النقد الآيديولوجيَّة عن كل نقد جذريٍّ يريد التَّعرُّف من جديد على الأسس، ويُبرِزُ منها ما هو أصليٌّ محدِّدٌ لإمكانات المعرفة.
[III-VI]
- – III اللَّحظة الثَّالثة: خلافًا لما يُتصوَّر، فإنَّ الحركة في الكشف عن الأصليِّ- المرجعي في المعرفة، ليست نحو القَبْليِّ بقَدْرِ ما هي تساؤلٌ عن حضور القَبْليِّ Priori، وكيفيَّة تعيينِهِ لإمكانات المعرفة، في كلِّ مرَّة. إنَّ النقد ليس أصوليَّاً إلاَّ لأنه إنتاجٌ لوسائل إنتاج المعرفةِ؛ وهي ناقدةٌ لذاتها؛ وبذا، هو صناعةُ وسائلِ تساؤلٍ جديدة، يمكنها أن تتوفَّرَ على تجاوزِ التَّساؤلات القديمة، أو إعادةِ إنتاجها وفقَ وحدة [التَّساؤل- والتفكير- والفهم] القائمة بالأساس في وحدتها مع الواقع المجتمعيّ الكُلِّيّ.
- – IV اللَّحظة الرَّابعة: إنَّ ممارسة النقد تُضاف إلى المعرفة موضع النقد والتفكيك من جهة إيضاح حدود المعرفة، ومصادرها، وإمكاناتها، وبالتالي هي تكشف عن ذلك التشابك العميق بين المعرفة والمعرفة الناقدة لها. إنَّ النقد والحال هذي، معمار المعرفة الذي يضع دائماً قَبْلِيَّاً الرسم الأوَّليِّ للتساؤلات الجديدة؛ فاتحًا آفاق الفهم الجديدة.
- – V اللَّحظة الخامسة: يمكن اِستنهاض القوة الناقدة في المعرفة من خلال أساسًيْن إثنين: الأول مبادئ المعرفة، وأسُسُها، والثاني الوقائع والظواهر والأحداث. تُؤخَذُ مبادئ المعرفة من جهة كونها [النموذج- المثال Ideal-Type] للاِنطلاق، كما تتضمَّنُ الوقائع معنى ما يقع في الخارج الموضوعيِّ الذي يتطلَّب توقُّفًا عند مستوى فهمه من جهة كونه لم يُفهم كفايةً وبإحكام بعدُ. تُفهم الظواهر على أنها جملةُ الـ [ما- ظَهَرَ- الذي- يختفي] بظهوره؛ وتأتي الأحداث إلى مستوى التصوُّرات العِلميَّة- الفلسفيَّة الحديثة من جهة ما يحدث في الزمان.
[III-VII]
إنَّ النقد، بالتالي، ضرب من تاريخانية المعرفة؛ شرطَ أن تفهم هذه الأخيرة كحضورٍ واعٍ للتاريخ في المعرفة، لا كمدرسة أو أسسٍ قَبْلِيَّة شرطية. إنَّ تاريخانية المعرفة تعني الوعي بالتاريخ على نحو علم التأريخ، ضمن ضربين إثنين: دياكرونيك الحاضر، وسينكرونيك الحاضر: أي وحدة فهم الحاضر بالاِنطلاق من الماضي المجتمعيّ الذي يعتبره المجتمع مكوِّنًا من مكوِّنات هويته المجتمعيَّة، وفهم الماضي بالاِنطلاق من الحاضر، وبواسطته، الذي يعتبره المجتمع جزءًا من ذاته المجتمعيَّة. ولكن، هل خرجنا من الظلام بعدُ؟ إنَّنا في أوَّل الطريق نحو الإبانَةِ عن إمكانات الخروج وسبل الوعي به.