سوسيولوجيا الفلسفة الإسلامية.. الجزء الأول علم الكلام والمجتمع في تاريخ المسلمين

تكوين

مقدمة

يُمثل التاريخ الصخرة التي تتحطم عليها كثير من المُطْلقات المزعومة، فالعقائد التي يظن كثير من معتنقيها أنها نهائية ومفارقة، هي في الجانب الأكبر منها انعكاس لعوامل اجتماعية تاريخية، ونفسية وسياسية، تكونت في التاريخ، وتسري عليها قوانين الاجتماع من تطور وتغير([1]). والفكر لا ينشأ محلقًا في فراغ بما في ذلك الفكر الديني، بل في مناخ سوسيوسياسي مُعين، فهو مشروط بشروطه المكانية والزمانية، يتأثر بها ويؤثر فيها في علاقة جدلية تفاعلية.

والفكر الفلسفي في مجتمعات المسلمين عبر عن ذاته من طريق قنوات متنوعة، كان أولها علم الكلام، وكان منها الفلسفة المحضة مثل: التيار المشائي، كما كان التصوف الفلسفي أحد أنماط هذا التفكير، والمدارس المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة، وكل هذه التنويعات تُمثل الفلسفة بمعناها الواسع، الذي هو نشاط عقلي وتأملي يفكر في موضوعات الوجود، وفي هذه الورقة سنسلط الضوء على أول مظاهر التفكير الفلسفي الكلامي، في سياقه التاريخي الاجتماعي، وهو علم الكلام.

ويُعد علم الكلام من أهم العلوم الدينية التي تكونت في تاريخ المسلمين، إن لم يكن أهمها على الإطلاق([2])، فهو علم أصول الدين، وهو أساس العلوم الإسلامية الشرعية الأخرى، وقد اشتغل به العلماء المسلمون وطوروه وعنوا به عناية عظيمة، ودارت معارك فكرية وسياسية بسبب بعض مسائله، وكان حقلًا لإشهار سلاح التكفير والتبديع، بل والمحن والفتن، والصراعات السياسية الاجتماعية. وهو وإن كان علمًا عقليًا يعتمد على الأدلة العقلية والنقلية في الدفاع عن العقائد([3])، إلا أنه لم يكن بمعزل عن المؤثرات الاجتماعية، بل هناك قضايا هي في الأصل سياسية تمت “أكلمتها” بتعبير محمد أركون([4])، أي صارت من صميم مباحث علم الكلام.

يحاول هذا المقال تسليط الضوء على بعض أهم القضايا الكلامية في سياقها الاجتماعي التاريخي، مهتمًا بالعوامل الأساسية التي أسهمت في تكوين علم الكلام وتطوره، مركزًا على الجدل بين الفكر الواقع، وبين الفرق وبعضها الآخر، فقد كانت الشبكات الاجتماعية والصراعات السياسية والمؤسسات المجتمعية ودعم السلطة أو قمعها والتلاقح الثقافي بين الأمم عبر الفتوحات والترجمة، عوامل أثَرت في تكون علم الكلام عند المسلمين، مما سيكشف المقال عن بعض جوانبه.

وتنطلق الورقة من تأكيد ضرورة تجنب المنظور الأيديولوجي في دراسة الفكر الديني، والاهتمام بدلًا من ذلك، بالمناهج السوسيولوجية والتاريخية في فهم الأفكار وتحليلها في مجال الإسلاميات وغيرها، والانعتاق من تكرار الجدل العقدي المتبادل إلى رُوح العلم بمعناه الاجتماعي، الذي يبحث في الظاهرة مُفسرًا لا حَكمًا بالضرورة، ولا متحيزا لفرقة أو مذهب، بل منتصرا فقط للمنهج العلمي، الذي يُقارب الماضي كي يصل إلى أقرب تصور ممكن له كما كان بالفعل، لا كما نتخيله ونعيد إنتاجه.

المنهجية بين التاريخ والاجتماع

تقدم هذه الورقة مقاربة سوسيولوجية للفكر الكلامي في مجتمعات المسلمين المبكرة والكلاسيكية، وعلى الرغم من أن المتبادر إلى الذهن أن علم الاجتماع يدرس الحاضر المعاصر، وأن التاريخ يدرس الماضي، إلا أن علم الاجتماع التاريخي تخصص يتوسل أدوات علم الاجتماع ومناهجه في دراسة التاريخ([5])، فلا يكتفي بالوصف والتأريخ، بل بتحليل العلاقات والتفاعلات بين مؤسسات المجتمع وبعضها، وبينها وبين الأفراد، وبينها وبين الأفكار التي تكونت في المناخ الثقافي وتأثرت به وأثرت بدورها في التغير الاجتماعي في علاقة جدلية تفاعلية.

وقد احتدم الجدل بين المؤرخين وعلماء الاجتماع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد ذهب إميل دوركايم إلى أن وظيفة التاريخ تنحصر في جمع المعلومات لصالح علم الاجتماع([6])، فقد رأى أن عالم الاجتماع هو الذي يجعل من الرحيق الذي يجمعه المؤرخ عسلًا([7]).

إقرأ أيضا: فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون

لكننا ننطلق من التداخل بين علم الاجتماع والتاريخ، فقد تقاربت العلوم الإنسانية وتداخلت، وأصبحت الحقول البينية والعابرة للتخصصات ذات أهمية، فمنهجنا مستمد من علم الاجتماع التاريخي، والتاريخ الاجتماعي بالدرجة نفسها، لذا من المفيد تسليط الضوء على شيء من تطور علم التأريخ.

لم يتبلور التاريخ بوصفه علمًا حقيقيًا إلا في القرن التاسع عشر في الغرب، حيث أثرت نجاحات العلوم الطبيعية في مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، وظهر الاتجاه الوضعي الذي حاول الإفادة من هذه العلوم الطبيعية، في حقل التاريخ والاجتماع، ورأى الوضعيون أن التاريخ قادر على استعادة الصورة الفعلية لأحداث الماضي، وتطورت المدارس وظهرت التاريخانية والمادية التاريخية والبنيوية وغيرها من المدارس([8]). وظل التاريخ في الغرب ينطلق من المركزية الأوروبية، حتى تعرضت هذه المركزية إلى نقد في الغرب ذاته، على أيدي علماء أمثال ليفي ستراوس الذي نقد فكرة التقدم، وفتح الباب أمام تساؤلات بشأن نسبية مفهوم التقدم، ونقد التمييز بين التاريخ الساكن والتاريخ التراكمي، وذهب إلى أن ليس هناك ثقافة أو حقبة ساكنة تمامًا، بل كل شعب يتطور ويتحسن من طريق تقنيات معقدة، تساعده في السيطرة على بيئته وإلا يندثر([9]). أي صار من الممكن دراسة كل ثقافة خارج الغرب في سياقها الخاص، ومعرفة مفهومها عن التقدم والفكر.

ومن ثَمَ بدأ النقد يُولي تاريخ جميع المجتمعات أهميتها بما فيها مجتمعات الشرق، ونُقدت مناهج التأريخ ذاتها، لصالح الاهتمام بالجوانب الاجتماعية، فيذكر “فرانسوا دوس” حركة النقد لما أُطلق عليه “أصنام المؤرخين” وهو نقد للتأريخ من منظور سوسيولوجي، وهذه الأصنام هي: الصنم الكورنولوجي أي تتابع الأحداث، وهو شغف المؤرخين بتتبع سرد الأحداث من الأقدم إلى الأحدث. والصنم السياسي، أي تركيز المؤرخين على التاريخ السياسي وإهمال الاجتماعي. والصنم الشخصي، أي التركيز على الأعلام المؤثرة([10])، وما يهمنا من ذكر هذا النقد أنه لصالح السوسيولوجيا، فقد انفتح التاريخ على ضرورة الإفادة من علم الاجتماع، واكتشاف العلاقات السببية والفهم والتحليل واستنباط القوانين والاهتمام بالتأريخ من أسفل، أي من طريق فهم المؤسسات الاجتماعية الكبرى والصغرى والشبكات الاجتماعية ودور الأفراد والكاريزما ودور المهمشين والحياة اليومية.

فالمقاربة السوسيولوجية التي سنفيد منها في هذه المقالات التي تقارب الفكر في تاريخ المسلمين، تدرس التفاعل بين الاجتماع والفكر الذي تكون فيه، وقد مرت هذه المقاربة بتطورات منذ السوسيولوجيا الكلاسيكية حتى المعاصرة، ولن نتقيد بنظرية واحدة ولا منهج واحد مثل: المادية التاريخية التي انطلق منها الدكتور محمود إسماعيل في موسوعته سوسيولوجيا الفكر الإسلامي([11])، لكن سنفيد من شتى النظريات الكلاسيكية مثل: المادية التاريخية وتأكيدها العامل المادي والاقتصادي، والدوركايمية ومفهوم الكاريزما عند فيبر ونمطه في دراسة الدين، وتأكيده دور العقيدة في تغير المجتمعات، ونقد جورج زيميل لمفهوم المجتمع الذي استبدل به مفهوم الاجتماع الذي يقصد به التفاعل بين الأفراد، وصولًا إلى النظريات المعاصرة التي وظفت المفهوم التأويلي الذي يقترب من فهم دور الفرد في علاقته بالاجتماع، ومفهوم بيير بورديو بخصوص العلاقة بين المادي والرمزي، أي ما بين هو مادي وما هو ثقافي وفكري([12]).

ويُعد مفهوم الشبكات الاجتماعية من المفاهيم المركزية التي ستساعدنا في فهم نشوء الأفكار وتطورها في عالم المسلمين، والتي ركز عليها “راندال كولينز” ويمكن أن تسهم في فهم انتشار الفرق وتطور أفكارها، كذلك ما أطلق عليه “طقوس التفاعل” مثل: المناظرات العقدية ومجالس العلم، وقد أكد “كولينز” أن الجانب الاجتماعي ليس فقط يتعلق بمفاهيم الصراع الطبقي، بل يدخل فيه العرق والدين والإيديولوجيا([13]).

فالخلاصة أن قراءة الفكر في مجتمعات المسلمين سوسيولوجيًا، تتم عبر فهم التفاعل بين الفكر والاجتماع، وهذا الاجتماع يُفهَم في مستوياته الكبروية والصغروية، أي بتحليل المؤسسات الكبرى السياسية والصغرى أيضًا، مثل: مجالس العلم والطرق الصوفية، بل وحتى الفردية، مثل: الأعلام الكبار، بالإضافة إلى التفاعلات بين الشخصيات والمذاهب، وأثر المكان في انتشار الفرق أو اندثارها.

كيف نقرأ تاريخ المسلمين؟

في ضوء ما سبق ذكره عن المدارس التاريخية، ينبغي أن نقرأ التاريخ بوصفه تاريخَ مجتمعات تكونت فيها الأفكار، وتفاعلت بطريقة جدلية، فالتاريخ الإسلامي، مثله مثل أي تاريخ، هو تاريخ المسلمين بأفكارهم ومذاهبهم، وقد تنوعت الاتجاهات التي تعاملت مع المصادر التاريخية، ومن أهم هذه الاتجاهات([14]):

  1. المقاربة الوصفية: وهي تتسم بقبول المصادر الإسلامية الكبرى فيما يخص الروايات بشأن الإسلام وتاريخه مثل: القرآن الكريم، والحوليات المشهورة مثل: تاريخ الطبري، مع استبعاد الحديث النبوي بوصفه مصدرًا تاريخيًا، وقد يكون ذلك لتأخر تدوينه، لكن يُعاب على هذه المدرسة عدم التعامل النقدي مع المصادر.
  2. المقاربة النقدية للمصادر: وتقوم على بعض الفرضيات مثل: أن هناك تداخلًا في الروايات الإسلامية بين ما هو موثوق منه، وما هو منحول وموضوع لاحقًا، وسلطت هذه المقاربة الضوء على المصادر الخارجية (غير الإسلامية) التي تناولت تاريخ المسلمين، مثل: المصادر اليونانية والسريانية، واستبعدت أيضا الحديث النبوي من دائرة اهتمام المؤرخ، ومن أشهر أعلامها “يوليوس فلهاوزن“.
  3. مقاربة نقد الرواية: وقد اعتمدت على مصادر أوسع مثل: كتب الأدب، وحتى المصادر الحديثية، لكن بشرط نقد المصادر والروايات، فهي تتعامل مع الروايات بشرط نقدها، لكن ما يعيبها أن الحدس لعب دورًا في هذا النقد.
  4. المدرسة التشكيكية: وقد شككت في جميع المصادر الإسلامية، وأعطت الأولوية إلى المصادر الخارجية، ومن أهم أعلامها جون وانسبرو، باتريشا كرون، مايكل كوك.

والحقيقة أن مقاربتنا السوسيولوجية للتاريخ، لا يهمها بدرجة كبيرة مسألة التأكد من كل حدث بتفاصيله، بل يهمنا تأكيد أن الأحداث بمجملها تؤثر في الفكر، فبعيدًا عن بعض التفاصيل التي هي محل شك، هناك أحداث يكاد يكون متفق عليها، هي التي أثرت في تكون الفكر مثل: الفتوحات والفتنة والمحنة كما سيأتي ذكره.

علم الكلام: تأريخ نقدي للمصطلح

تزخر المصادر التراثية بأقوال بشأن سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم، فيسوق الإيجي آراء منها: أنه سُمي كلامًا لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، وواضح التشابه بين لفظي كلام من التكلم، ومنطق من النطق، أو لأن عناوين أبوابه كانت أول الأمر تبدأ بالكلام في كذا مثل الكلام في القدر، أو لأن مسألة كلام الله تعالى أشهر موضوعاته، وكثر فيها النزاع، فغلب اسم الكلام عليه، أو لأنه يورث القدرة على الكلام في العلوم الشرعية ومواجهة الخصوم([15]). وهناك أسباب أخرى مثل أن المتكلمين يرون حججه يقينية فأصبح هو الكلام، كما يقال عن الأمر القوي هذا هو الكلام، أو أنه من الكلم أي الجرح، لأنه يترك أثرًا عميقًا مثل الجرح([16]).

ويذهب مصطفى عبد الرازق، إلى أن المصطلح يدل على ما هو ضد السكوت، أي على الذين يتكلمون فيما سَكت عنه السلف في المسائل الاعتقادية، وذكر في ذلك ذم أبي حنيفة للتكلم في هذه المسائل وذم الإمام مالك لها أيضا، أو أن الكلام في مقابل الفعل، أي أن المتكلمين يتكلمون فيما ليس تحته عمل بعكس الفقه([17]

لكن إن أردنا أن نحفر أعمق من ذلك، علينا أن نفترض أن المصطلح تطور تاريخيًا، وأنه كانت له دلالة أبسط حين ظهر أول مرة في التاريخ المبكر، ويمكن الاسترشاد بالجدل الإسلامي مع المسيحية والثنوية والملل الأخرى، فقد سُميت مقالاتهم كلامًا أيضًا، ونجد أن مصطلح الكلام يوافق مصطلح ‘Mamella” السرياني، وأنه قد تكون أنماط وأساليب الكلام الحجاجي قد انتقلت من الجدل بخصوص طبيعة المسيح إلى السريانية، ثم عن طريق القبائل المسيحية العربية إلى الترسانة الجدلية العربية الإسلامية، وهذا المصطلح يعني الخطاب أو المحادثة والمناظرة، وفي السياق الإسلامي كان العلماء المسلمون يجمعون بين ممارستهم اللاهوت واشتغالهم بالجدل والمناظرة، فأصبح مصطلح “كلام” يدل على الاشتغال بالعقيدة والجدل في الآن نفسه([18]).

إقرأ أيضا: في الهرمنيوطيقا الإسلامية: الجزء الأول التفسير والتأويل والتفكيك

والذي يميل إليه الرأي أن مصطلح الكلام نشأ بسيطًا مع بداية الجدل بين المسلمين والملل الأخرى، والمسلمين وبعضهم البعض، وكان يُطلق على من يمارس التكلم في مسائل مثل: القدر أو الصفات أو الإمامة، أن فلانًا يتكلم في كذا، أي في هذه المباحث، خاصة وقت المناظرات والجدل، حتى تطور المصطلح وصار عَلَمًا على العقائد المدعومة بالأدلة العقلية والنقلية.

الإطار الاجتماعي التاريخي لنشوء الفكر الفلسفي والكلامي وتطورهما

لنشوء علم الكلام والفكر الفلسفي وتطورهما في مجتمعات المسلمين عوامل كثيرة، منها الداخلي ومنها الخارجي، فمن الداخلي أن أي ديانة لديها نزوع طبيعي -بلغة المستشار عبد الجواد ياسين– إلى عقلنة الاعتقاد مع مرور الوقت. والنص نفسه كان مثيرًا أوليًا، وإن كان قد استعمل أسلوبًا أقل تعقيدًا مما آل إليه الآمر لاحقًا في كتب المتكلمين. كذلك من العوامل الداخلية الصراعات السياسية التي كانت من أهم ما كون كبرى قضايا الكلام عند المسلمين، والتلاقح الفكري بين الفرق الإسلامية وبعضها الآخر فنجد مثلا: أن الأشاعرة الذين اتخذوا موقفًا هجوميًا تجاه المعتزلة أول الأمر، تطوروا لاحقًا إلى تخفيف حدة هذه الهجوم، والتركيز في نقد الفلاسفة، ثم تقاربوا من الفلسفة ذاتها على يد الفخر الرازي وغيره. أما العوامل الخارجية فمن أهمها التلاقح الثقافي مع الشعوب الأخرى وتراثها، خاصة الجدل الإسلامي المسيحي، والتفاعل مع علوم اليونان.

ويمكن اختصار أهم العوامل التاريخية والاجتماعية التي أثرت في نشوء الفكر الإسلامي وتطوره في: الفتوحات الإسلامية، الفتنة والحروب الأهلية، والصراعات السياسية، الترجمة، محنة خلق القرآن، دعم السلطة والأسر الحاكمة وذات النفوذ أو محاربتها لبعض المذاهب، والجدل والصراع بين الفرق وبعضها البعض.

نأتي إلى العامل الأول وهو الفتوح الإسلامية أو التوسع الإمبراطوري، ففي غضون سنوات قليلة كان العرب المسلمون قد اجتاحوا مساحات شاسعة من الشرق الأوسط، وخلقوا مساحة ملائمة لبناء حضارة جديدة، لم تقتصر على هامش الجزيرة العربية، بل توسعت نحو المناطق المركزية للحضارة الشرق أوسطية المتطورة أساسًا منذ القدم، قد عمل هذا الغزو أو الفتح لإذابة الإمبراطورية الساسانية من جهة، وللأجزاء الشرقية من الإمبراطورية البيزنطية من جهة أخرى، في بوتقة إمبراطورية إسلامية ناشئة. ومع التفاعل مع اليهود والمسيحيين والزرادشتيين، ودخول بعضهم إلى الإسلام، ومع تمخض الغزو في مراحله الأولى عن تكون نظام جديد، وهجرة كثير من أبناء شبه الجزيرة العربية إلى المدن المفتوحة، واستيطانهم فيها، نتج عن ذلك توسع في التحضر والعمران والتنمية الاقتصادية([19]).

بمعنى آخر أدى الفتح والاستيطان العربي إلى دفع عجلة التغيير الاجتماعي، والاندماج التدريجي والجزئي للسكان العرب وغير العرب في كيان كوزموبوليتاني، وهذا كله أفرز إمكانات جديدة للإمبراطورية، وظهرت نخب جديدة وصيغ جديدة لثقافة المسلمين، ومن هنا فإن الحضارة الإسلامية في رأي لابيدوس، هي التعبير الثقافي عن قوى التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الفتوحات([20]).

وسبب توسع الفتوحات السريع أن الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، قد انهمكتا في صراع وحروب بينهما، بل كان كثير من الكتل السكانية القبطية في مصر، والنسطورية في العراق، واليعقوبية في سوريا، لهم علاقات مضطربة مع الحكام، فالتحق بعضهم بركاب الغزاة الفاتحين، وقد أثر توحيد الأراضي الفارسية والبيزنطية في دمج مختلف الثقافات والأفكار، وفي ازدهار التجارة التي أسهمت في انتشار الأفكار وتلاقحها([21]).

أسهمت الفتوحات المبكرة أيضًا في عهد الأمويين، في تكون المناخ الاجتماعي، فلم تكن هناك مصلحة في تغيير الوضع الديني بالقوة، ولم تكن هناك رغبة في إحداث أي خلل في النظام الإداري والمجتمعي، فقد حُصل الخراج والجزية ومراقبة توزيع الموارد، وقاد العرب الحروب والصلوات، لكن فيما عدا ذلك، تُركت المؤسسات المحلية بأيدي السكان المحليين، ودخلت النخب الثقافية القديمة في النظام الجديد للإمبراطورية، فصار هناك كتبة ومحاسبون أقباط وفارسيون وآراميون ويونانيون. حتى مُلاك الأراضي القدامى والرؤساء ظلت مرجعيتهم يُعتدُ بها، وساعدوا في تحصيل الخراج والجزية([22]). فهذا التنوع الذي كان بسبب استقرار الحال على ما كان عليه تقريبًا، لا شك أثر في الحوار الفكري، واختلطت الأفكار وتفاعلت.

العامل الثاني المهم في نشأة الفكر الكلامي والفلسفية هو الفتنة الأولى فقد تسبب مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في انقسام الصحابة والمسلمين فيما بينهم، فبعدما بُويع علي بن أبي طالب بالخلافة، رفض معاوية بن أبي سفيان مبايعته، مُتعللا بالرغبة في الثأر للخليفة المقتول عثمان كونه ولي الدم، وخرج على الخليفة علي بن أبي طالب أيضًا كلٌ من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والسيدة عائشة، وقد وقعت معارك بين هذه الأطراف مشهورة، مثل: صفين والجمل، ثم كانت مسألة طلب تحكيم القرآن من معسكر معاوية، التي أُجبر علي بن أبي طالب على قبولها، وبعدما فشل التحكيم، خرج المُحكِمة الأوائل على الإمام علي، وهم الخوارج، ورفعوا شعار “لا حُكم إلا لله” وقاتلهم علي بن أبي طالب، واستمر الصراع حتى اغتيل علي يد أحد الخوارج، حتى تنازل الحسن بن علي  لمعاوية عن الخلافة، واستقر حكم معاوية وبدأ العصر الأموي([23]).

بزغت مقولات كلامية عديدة عن أحداث الفتنة الأولى، وتبلورت أقدم فرق المسلمين، وهناك اختلاف بين الباحثين حول أسبقية بعض الفرق على الأخرى، فهناك من يرى أن أول فرقة هم الخوارج، وهناك من يبدأ تأريخه بالشيعة مثل الشيخ محمد أبي زهرة([24]).

الذي يميل إليه الرأي في ضوء دراسات ويلفرد ماديلنوغ، أن أصل التشيع أقدم قبل ظهور الخوارج، وصحيح أنه لم يكن مُستقرًا كما تبلور لاحقًا على يد الإمامية، إلا أن التحيز السياسي الديني لعلي بن أبي طالب لقرابته من النبي ولفضله في الدين، وأن الخلافة من حقه، كان موجودًا قبل أحداث الفتنة الأولى، بل ربما كان عليٌّ نفسه واعيًا بهذا الحق، حتى وإن بايع الخلفاء الأوائل وساندهم([25]). تدل على ذلك الروايات التي تخبرنا بتأخر بيعته للخليفة أبي بكر، وقوله للعباس بن عبد المطلب عمه، ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟([26])

من هنا يتضح أن الخلافات المبكرة بخصوص الإمامة كانت المحرك الأساسي لبزوغ مقالات الفرق؛ فبدأ يقوى التشيع الذي لا يمكن التسليم إلى الرأي القائل إنه بسبب رجل واحد على وجوده خلاف أصلًا، هو “عبد الله بن سبأ” وحتى إن وُجد فالغالب أن أثره ضعيف وفي فرقة هامشية([27]). وظهرت الخوارج المحكمة الذين كفروا فاعل الكبيرة، وهي مقولة لاهوتية كلامية ذات بُعد سياسي، بررت لهم قتال الخلفاء والخروج عليهم.

واعتزل فريق الفتنة ولم يقاتلوا مع أي طرف، ولم يحكموا عليهم وأخروا الحكم إلى الله تعالى، أي تركوه له، ويعتقد الباحثون أن هؤلاء هم المرجئة([28])، بل هناك من يعد بعض معتزلي الفتنة سلفًا لفرقة المعتزلة المشهورة([29]). حتى جماعة أهل السنة الذين ظهروا لاحقًا، هم ممن رضي بحكم معاوية، ونظروا إلى عدم الخروج على السلطان، وتبلورت آراؤهم في مسألة الفتنة أن الكل قد اجتهد، فمنهم مصيب ومخطئ ويجب تولي الجميع([30]).

ثم بعدما استتب الحكم للأمويين، حكموا الناس بالجبر ونشروا مقالاته، وأن إرادة الله هي التي أتت بهم إلى السلطة، وتسبب ذلك في رد فعل قدري، يُثبت حرية الإرادة، ويناهض القول بالجبر، ويؤكد أن الإنسان مسئول عن أفعاله، ومن ثَم فالخليفة مسئول عن ظلمه إن ظلم، فلا الظلم ولا القبح من عند الله تعالى عندهم([31]).

وقد كانت الفتنة الأخرى التي تسببت في مقتل الحسين بن علي الدافع الأقوى لتبلور الفكر الشيعي المبكر، ووعيه بذاته، وكانت فارقة في تاريخ المذهب الشيعي، حتى جاء دور الإمامين الباقر والصادق في التنظير إلى التشيع،  فيُنسب إلى الباقر مسألة القول بالتفسير الباطني، وأن لكل ظاهر باطنًا، وعلى عكس أخيه زيد بن علي ذي النزعة الثورية، ذهب الباقر إلى أن إمام الزمان لا بُد أن يتم النص عليه من سلفه، وقد كان الشيعة أول الأمر بعد مقتل الحسين يميلون إلى الثورة، ثم تحت ضغط القمع، بدأ الشيعة يستمعون إلى آراء جعفر الصادق بن الباقر السلمية، ويقولون بالتقية في المناخ السياسي الخطير([32]).

وتُعد الفتنة الثالثة وثورة العباسيين على الأمويين حدثًا رئيسًا في تاريخ المسلمين، فقد نشر العباسيون أولُا دعوتهم تحت شعار “الرضا من آل محمد” وجذبوا الموالي الذين كانوا في درجة متدنية أيام الأمويين، ووظفوا الفُرس في صورتهم، لكنهم سرعان ما اضطهدوا العلويين واستبدوا بالحكم، وتسببت مظاهر البذخ عندهم في ردة فعل تقول بالزهد، وقد أدوا دورًا إيجابيًا في نقل العلوم، وفي مجالس الخلفاء، وأدى الموالي دورًا مهمًا في الحياة الفكرية والثقافية وفي المناظرات والتدوين([33]).

ومن أهم الأحداث الثقافية حركة الترجمة، فقد نُقلت العلوم والفلسفات والمنطق إلى العربية، ويذكر جورج صليبا أن هناك نظريات لتفسير انتقال العلوم إلى الحضارة العربية منها([34]):

  1. نظرية الاحتكاك الحضاري: أي تفاعل العلماء من أصحاب الثقافات المغايرة مع العرب نتيجة التوسعات والفتوحات لبلدان هؤلاء العلماء كما سبق ذكره.
  2. نظرية البؤر العلمية: فقد استمرت الحضارة الهيلينية في مناطق وصل إليها المسلمون بعينها، على شكل جيوب حضرية، مثل: جنديسابور وحران ونصيبين، وقد كانت هذه الجيوب حلقة وصل بين الفكر القديم المتأخر والإسلام.

لكن يذهب “صليبا” إلى أن نقل العلوم يُفسَر بحركة ترجمة غير مسبوقة، تمت بإرادة سياسية، لدواع سياسية وإدارية واقتصادية، ثم توسعت لاحقًا مع تطور البحث العلمي، والواقع أن الترجمة بدأت أقدم من أن تكون بإرادة سياسية منظمة، فقد حاول الأمير “خالد بن يزيد بن معاوية” مدفوعًا بشغفه أن يُترجم علوم الأوائل، فيمكن القول إن كل العوامل السابقة مؤثرة في نقل الأفكار([35]).

ومن العوامل الفارقة في تكون علم الكلام وتطوره الحديث المعروف باسم “المحنة”، فقد أعادت مسألة خلق القرآن التي أثارها الخليفة العباسي المأمون ترتيب العلاقة بين الديني والسياسي، وقد وصفها فهمي جدعان بأنها وجه للجدلية المتجذرة في الحياة الاجتماعية للإسلام، يعني جدلية الديني والسياسي([36]). وكانت المحنة تعبيرًا عن الصراع بين المتكلمين وأهل الحديث، وهي إحدى مظاهر رد الفعل تجاه الإرهاب المُمارس سابقًا ضد المتكلمين قبل المحنة([37]).

واتُهم المعتزلة بأنهم السبب في إثارة المحنة، لكن يبدو أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فالمأمون كان أكثر ميلًا إلى الجهمية ومذهب الجبر، ويبدوا أنه تأثر بالفكر الشيعي بخصوص ضرورة أن تفرض الدولة سلطتها العقدية، وأن دور الإمام أساسي في تثبيت العقيدة القويمة، أو حاول فرض سلطته مواجهًا نفوذ أهل الحديث، وعلى كل فالوضع الفكري والمذهبي بعد المحنة لم يكن كما كان قبلها([38]).

ومن أهم العوامل الاجتماعية والسياسية التي أثرت في انتشار بعض المذاهب الكلامية وازدهارها أو اندثارها الدعم السياسي من الحكام أو القمع لبعض الفرق، كذلك دور بعض الأُسر النافذة؛ في عصر الدويلات المستقلة بخاصة تنافس الحكام على استقطاب المفكرين والعلماء، وعلى دعم بعض المذاهب التي يرونها قادرة على تثبيت حكمهم، ففي عهد البويهيين ازدهر التشيع، وجُهر ببعض طقوس الشيعة الإمامية وممارساتهم([39])، وتم دعوة علماء إلى البلاط مثل الباقلاني وغيره([40]).

وفي عهد السلطان سبكتكين الغزنوي دعم الكرامية، ثم خفت مذهب الكرامية بعدما تخلت الدولة عنه. وفي عهد السلطان طغرل بك ووزيره عميد الدين الكندري الذي كان معتزليًا، اضطُهد الشيعة، بل والأشاعرة فلُعن الأشعري على المنابر وقوي الاعتزال، إلى أن جاء الوزير السلجوقي المشهور نظام الملك ومال إلى الأشاعرة، فأنشأ المدارس النظامية ودعم الفقه الحنفي والشافعي، ورفع المحنة عن الأشاعرة، حتى ازدهرت الأشعرية([41]). كما كان هناك دور مهم لأسر ذات نفوذ مثل دور عائلة الصعلوكي في انتشار الأشعرية بخراسان، ودور بني نوبخت في بلورة الفكر الشيعي خاصة مفهوم الغيبة([42]).

ومن ثَم يظهر أن العوامل السوسيوسياسية هي الأساس الأهم لظهور الفكر الكلامي وتبلوره، وأن صحة الفكر أو المذهب ليس هو العامل الأهم، وأن التأمل العقلي، وإن كان يؤدي دورًا مهمًا، إلا أنه ليس بمنأى عن خليفته الاجتماعية والسياسية.

أهم مقالات علم الكلام في إطارها السوسيولوجي

الإمامة

يخبرنا الشهرستاني أن “أعظم خلاف بين الأمة هو خلاف الإمامة، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان”([43]). وهذا واضح أنه أشد خلاف مختلط بالسياسي الاجتماعي، وإن كان لا ينفك عن الديني، إذ إن براديغم العصور ما قبل الحديثة لا يفرق بين الديني والسياسي.

وتعود أصول الخلاف بخصوص الإمامة إلى الجدل بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي محمد، حيث بايع الأنصار “سعد بن عبادة” لكن تداركهم أبو بكر الصديق ومعه عمر بن الخطاب، وقالوا إن العرب لا تدين إلا لقريش، وتمت بيعة أبي بكر أول خليفة للمسلمين([44]).

وتسببت أحداث الفتنة الأولى، كما سبق ذكره في نشوء مقالات الفرق بخصوص الإمامة وتطورها من شيعة وخوارج ومرجئة، ثم بعد فترة ظهرت المعتزلة ثم الأشاعرة، ونضجت أقول الفرق في ضوء الجدل بينهم، وفي ضوء الصراع السياسي مع الخلفاء الأمويين والعباسيين.

تُعد الشيعة أشهر الفرق التي تمثل الإمامة مقولة عقدية جوهرية لهم، حتى أُطلق على أشهر فرقها “الإمامية” وعلى الرغم من الانقسامات الفرعية داخل المذهب الشيعي، إلا أن القول بإمامة علي بن أبي طالب وأحقيته بالخلافة هو أساس مذهبهم، فمنهم من قال بإمامته بالنص عليه صراحة، ومنهم من ذهب مثل البترية من الزيدية إلى أنه أحق بالخلافة والإمامة لفضله وأسبقيته في الإسلام([45]).

حتى تطورت العقائد بخصوص الإمامة ونضجت لدى الشيعة تحت ضغط العوامل الاجتماعية السياسية، خصوصًا بعد فاجعة مقتل الحسين بن علي في كربلاء، إلى أن وصلت إلى نضجها على يد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق، فقد ابتكر الباقر مفهوم “الإمامة الشاملة“، ثم تعمق حضور هذا المفهوم بفعل نشاط جعفر الصادق التنظيمي والتنظيري في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ليصبح الإمام وريثًا للنبوة وصلاحياتها من عصمة ووحي وعلم إلهي([46]).

وفي ظل القمع السياسي للتشيع، وبعد فشل نزعات ثورية مثل النزعة الزيدية، كان تيار الباقر والصادق أكثر وعيًا بموازين القوى السياسية، فظهر مفهوم الإمامة الرُوحية والدينية والقول بالتقية، وتبلورت مفاهيم نظرية أسهمت في ظهور نص جديد يُضاف إلى القرآن وأقوال النبي، هو أقوال الأئمة وآل البيت وأخبارهم، وأصبحت الإمامة ركنًا من أركان الدين ومنصبًا يجاور منصب النبوة، ويمكن قراءة هذا التحول بوصفه رد فعل على عدم إمكان المعارضة السياسية المسلحة، فظهرت معارضة دينية لاهوتية، كما يذهب عبد الجواد ياسين([47]). وهكذا تطورت عقائد الشيعة بخصوص الإمامة وتأثرت بواقعها السياسي الاجتماعي، وتوسع النص حتى عصر الغيبة الكبرى.

أما الخوارج، وهم من أوائل الفرق الإسلامية الذين لهم آراء بخصوص الإمامة، فظهورهم كان نتيجة لأحداث الفتنة الأولى أيضًا، فقد تشعبت فرقهم إلى أعداد كثيرة، لكن يجمعهم القول بجواز الإمامة في غير قريش لكل من خرج عادلًا، وجواز الخروج على الحاكم الجائر وعزله، بل جوز بعضهم ألا يكون في العالم إمام أصلا، وقد أقلقوا مضاجع الدولة الأموية واختلفوا فيما بينهم، وخرجوا على الحكام والأمراء، وجوزوا أن يتولى الإمامة حر أو عبد([48]).

ويمكن قراءة موقف الخوارج تجاه الدولة والخروج عليها والتساهل في جعل الإمامة في غير قريش، بل وفي الموالي سوسيولوجيًا، بالنظر في خلفية المنتسبين إليهم القبلية الاجتماعية، فقد ضمت الحركة بداءة عناصر من قبائل مختلفة، مع تفوق كبير في عدد التيميين والطائيين، وهذه القبائل أدت دورًا مهمًا في الفتوحات المبكرة، لكن الأغلبية العظمى من هذه العناصر لم تكن تتمتع بالمكانة المرموقة، أي أنهم كانوا من المهمشين، وحتى القلة المرموقة منهم، كانت مكانتهم محدودة داخل العشيرة مثل “حرقوص بن زهير” فيمكن أن يكون افتقاد هذه العناصر للشرف القبَلي رغم جهودهم في الفتوحات من أهم أسباب معارضتهم للدولة، وإعطاء مساحة للمهمشين وغير القرشيين في تولي الإمامة([49]).

وللمعتزلة آراء بخصوص مسألة الإمامة، فوافقوا بعض الفرق مثل: الشيعة وأكثر المرجئة والزيدية في أن الإمامة فرض من الله واجبة على المسلمين، كي تقام الحدود وتغزو الجيوش وتُقسم الغنائم. وقالت المعتزلة أن من يستحق الإمامة هو الأفضل ويجوز إمامة المفضول لعلة ما، إن كان ذلك هو الأصلح، وأنها في قريش إن وُجد فيها من يصلح لها، ولكن قال بعض المعتزلة بجواز أن تكون في غير قريش([50]).

وتكاد تُجمع المعتزلة باستثناء رأي منسوب إلى النظام، على أن الإمامة تكون بالشورى والاختيار وليس بالنص والتعيين ودليلهم إجماع الصحابة([51])، ويرفض المعتزلة فكرة النص على الإمامة، وقد ردوا على الإمامية والبكرية (الذين يقولون إن النبي نص على أبي بكر) وغيرهم، وهاجموا ونقدوا الشيعة في ذلك، وأما الرأي المنسوب إلى النظام المعتزلي بأن الإمامة بالنص والتعيين، فمشكوك في نسبته إليه، وقد قال خلاف ذلك النوبختي، ولم يُشر إليه القدماء من مؤرخي الفرق مثل الملطي والأشعري والبغدادي([52]).

ورفضت المعتزلة أيَضًا فكرة الخروج على الإمام بالسيف ليطالب بالإمامة، وقالوا إن طريق الإمامة الوحيد هو الاختيار، وأهم شروط الإمام عندهم العدالة والقدر اللازم للعلم، واختلفوا في شرط القرشية، وعلى الرغم من ذلك فقد اشترك فريق من المعتزلة في أحداث سياسية وثورات([53]).

وإن سلمنا للنوبختي ومن تبعه من الباحثين والمستشرقين، فإن الموقف المعتدل للمعتزلة بخصوص شروط الإمام ومسألة الخروج ومسألة الاختيار يمكن قراءته في ضوء القول بأن أسلاف المعتزلة هم الذين اعتزلوا الفتنة الأولى، وانشغلوا بالجانب الفكري أكثر، وإن كانت بعض الفرق الثورية تبنت أقوال المعتزلة. ويمكن لأصل المنزلة بين المنزلتين المعتزلي أن يُفهم في ضوء عدم القول بالخروج على الحكام مرتكبي الكبيرة أيضًا، لكن مع الاحتفاظ بالموقف الوعيدي تجاههم، إن خالفوا العدل، أي بتهديدهم بالخلود في النار، فليسوا كفارًا يُخرج عليهم، ولا هم من أهل النجاة.

واتجاه الأشاعرة هو الاتجاه السائد المُمثل لأهل السنة بجانب أهل الحديث، وهم يعتقدون أن الإمامة ليست بالنص، لكن رضوا بالأمر الواقع وطاعة المُتغلب، أي المنتصر، وعدم الخروج على السلطان الظالم، ما لم يأتِ بكفر بواح، لذا أُضفيت مشروعية على الخلفاء حين تحولوا إلى ملوك، وإن جاروا، ويرى السنة أن أبا بكر هو الأحق بالخلافة بعد النبي، وأنه أفضل الصحابة، وأن ترتيب الخلفاء التاريخي هو ترتيبهم في الفضل، واستدلوا بالسنة والإجماع وأقوال الصحابة([54]).

الكلام في القدر والعدل

يُعد مبحث القدر على الرغم من صلته المباشرة بقدرة الله وعدله، من المباحث التي ظهرت وتطورت في سياق الجدل السياسي الديني بخصوص أفعال الإنسان ودرجة مسئوليته عنها، ومن الطريف أن مصطلح القدرية رُمي به كلًا ممن أنكر القدر ومن أثبته، لذلك من الباحثين –التزامًا بالحياد- من قيد المصطلح، فقال “القدرية النُفاة” يُقصد من قال بحرية الإرادة وخلق الإنسان لأفعاله، والقدرية المُثبتة، أي الذين يقولون بخلق الله لأفعال العباد ويُثبتون القدر([55]).

وظهر القدرية/النُفاة الأوائل يعود إلى رد فعل تجاه مقولات الجبر التي قال بها بعض الأمويين أو أسهموا في نشرها، وزعم الحكام أن أفعالهم إنما هي بتقدير الله تعالى. وفي هذا السياق أدت الشبكات الاجتماعية دورًا مهمًا في انتشار القول بنفي القدر، أي بخلق الإنسان لأفعاله، ومسئوليته عنها. وأدت شخصية كاريزمية دورًا فعالًا في ذلك، أقصد شخصية الحسن البصري في حلقته التي خرج منها أعلام المعتزلة، مال الحسن البصري إلى الإقرار بمسئولية الإنسان، وإلى معتقد القدرية/النفاة، وربما يكون قد وجه النقد إلى بني أمية، وتستنتج كارين أرمسترونج سبب عدم معاقبة الخليفة عبد الملك بن مروان له لمكانته الدينية المرموقة([56])، لكن الذي يميل إليه الرأي أن السبب، إن ثبت توجيهه لبعض النقد للخليفة، أنه لم يدعُ إلى خروج أو ثورة مسلحة، وأنه لم يكن متطرفًا في المسألة القدرية.

ومنسوب إلى الحسن البصري رسالة في القدر، رجح صحتها أول الأمر جوزيف فان إس، ثم تعرض للنقد، ومع تقدم الدراسات شُكك في هذه الرسالة، لذا يعتقد الباحثون أن المعلومات نادرة وغير كافية لتكوين تصور تام عن القدرية الأوائل([57]).

كذلك من الافتراضات تأثر مذهب القدرية بالمسيحية، لكن هذا الكلام ليس دقيقًا، يعني لم يكن نفي القدر أو التكلم فيه ترديدًا للآراء المسيحية بشأنه، بل لا بُد أن يُفهم في سياق أوسع بوصفه إرثًا من الجدل بين المسيحيين والثنويين (خاصة المانويين أتباع ماني) في العصر القديم المتأخر([58]).

الذي يهمنا أنه كانت هناك علاقة وطيدة جدلية وصراع بين القدرية النفاة وبين السلطة، على الرغم من اضطراب موقف بعض الأمويين تجاه نفاة القدر، بين شيء من التسامح تارة أو القمع تارة أخرى بسبب تهديد سلطانهم، وقد شارك بعض القدرية النفاة في الفتنة الثالثة (126 – 130 هـ) وكانت لهم صلة وثيقة بفريق سياسي يقوده يزيد بن الوليد (ت 126هـ), وبسبب ارتباط القول بنفي القدر بنزعة ثورية قُتل أمثال معبد الجهني، خاصة وأن هناك روايات تقول باشتراكه في ثورة ابن الأشعث، كما قُتل غيلان الدمشقي، بسبب نزعته القدرية نفسها ومعارضته السياسية([59]).

وورثت المعتزلة مذهب القدرية النفاة، وقالوا بخلق الإنسان لأفعاله، وأنه حر الإرادة مسئول عما يفعل، وأن الله لا يفعل القبيح ولا يصدر منه ظلم، وأن الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل، ومن هنا أعطى المعتزلة مساحة كبيرة للعقل والفعل الإنسانيين، لكن بنزعة وعيدية، أي من منطلق تحميل الإنسان مسئولية أفعاله وقدرته على الوصول إلى الحق، ووجوب ذلك عليه، للتشديد عليه وتنزيه الله عن الشرور، وتشددوا في ذلك حتى أشبه تصورهم عن الله تعالى كأنه آلة عدالة كونية محضة، وأنه سوف يُحاسب الناس طبقًا لقوانين صارمة، ويترتب على ذلك أمور منها أن الإنسان لو لم تصله الدعوة فسوف يُحاسَب على ما يحسنه العقل أو يقبحه، وأنه لو لم يكن الإنسان خالقًا لأفعاله طعن ذلك في العدل الإلهي([60]).

أما الجبرية المحضة فيذهبون إلى أن الإنسان لا قُدرة له على الفعل أصلًا، وأنه كالريشة في مهب الرياح، وأن الله خالق أفعال العباد ومريدها بخيرها وشرها، والجبرية المتوسطة تثبت للإنسان قدرة غير مؤثرة أصلًا، ومن أصناف الجبرية: الجهمية والضرارية والنجارية، ويتهم المعتزلة خصومهم الأشاعرة أنهم جبرية أيَضًا([61]).

وقد ربط باحثون بين القول بالجبر والاستبداد السياسي فالجبر دين الملوك، ولا يخفى أنه لو كان الخليفة أو السلطان غير مسئول عن أفعاله، فمن الصعب لومه، وإن كانت سلطته مخولة من الله تعالى، فالأفضل التسليم لها وعدم الخروج عليه([62]).

أما الأشاعرة فحاولوا التوسط بين القول بالإرادة الحرة ونفي القدر وخلق الإنسان لأفعاله من جهة، والجبر الخالص من جهة أخرى، فقالوا بمسألة الكسب وجعلوا الأفعال مخلوقة لله تعالى وكل شيء مقدر، لكن للإنسان الكسب، وهي فكرة غامضة، حتى ذهب نقادهم وخصومهم إلى أنهم أيضًا جبرية، وأنه إما أن يكون الإنسان عدليًا أو جبريًا، أي يقول بحرية الإرادة أو ضدها ولا توسط، وتأثر المذهب الأشعري بابن كُلَاب من قبله وغيره، وحاولوا دومًا التوسط بين أهل الحديث والمعتزلة([63]).

وما يهمنا الإشارة إليه أن الأشاعرة في المستوى السياسي نظروا إلى طاعة الحاكم المتغلب وتولي جميع المتقاتلين في الفتنة والرضا بالواقع السياسي، ورفض الخروج على الحكام الجائرين، وتقليل دور الفعل الإنساني، ومحاولة التوسط بين الجبر ونفي القدر.

ويمكن قراءة الأثر الاجتماعي السياسي لمسألة القدر والعدل بأن القول بمسئولية الإنسان عن أفعاله وحريته، ينتج عنه وقوع إقامة العدل على عاتق الإنسان، وكذلك وجوب محاربة الظلم والطغيان، فلا عجب أن قال المعتزلة أيضًا بأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي مقولة لاهوتية لها أساس اجتماعي سياسي وأثر اجتماعي سياسي.

التوحيد

على الرغم من أن الكلام في التوحيد يُعد أمرًا بدهيًا عند أي ديانة توحيدية كبرى، وأنه شأن ثيولوجي صرف -أو هكذا يبدو- إلا أن له عديد من الأبعاد الاجتماعية التاريخية، سواء فيما يخص أسباب تكون مقالاته، أو فيما يخص تطور المقولات وتنوعها نحو التجريد أو التجسيم أو وَحْدَة الوجود.

فقد كان النص الديني مُتمثلًا في القرآن الكريم، والإرث الثقافي من العصر القديم المتأخر، والجدل مع المسيحيين، والتفاعل مع الفكر اليوناني والأفلاطوني المحدث، والجدل بين الفرق الإسلامية نفسها، من أهم العوامل التي كونت مقالات علم الكلام ومفاهيمه بخصوص التوحيد.

وتداخلت الطبيعيات (أي العلوم الطبيعية القديمة) مع علم الكلام، وبُحثت مباحث تحت مسمى “دقيق الكلام” بما فيها من أثر لعلوم اليونان الأولى، وهذا التأثر بدأ منذ الفتوحات المبكرة قبل الترجمة كما سبق وذكرنا، خصوصا عبر الجيوب الحضارية مثل: مدرسة الإسكندرية والرها ونصيبين وجنديسابور، وتأثرت المعتزلة بالأرسطية، والإسماعيلية بالأفلاطونية المحدثة، والإمامية بالرواقية، كما تأثر غلاة الشيعة بالعقائد الثنوية([64]).

وانقسم المتكلمون في صفات الله تعالى إلى صفاتية أي مثبتة للصفات الزائدة عن الذات الإلهية، ونفاة لهذه الصفات أو من يقول بأن الصفة عين الذات، فتأثر الأشاعرة بالكلابية كما ذكرنا، ومقولة إن الصفة الإلهية لا هي الله  ولا هي غيره، أي ليست عين الذات ولا غيرها، وأن هناك صفات نفسية كالوجود وصفات سلبية أي تسلب النقص عن الله تعالى وصفات المعاني وصفات معنوية ثابتة لله، وحاولوا إقامة الأدلة العقلية والنقلية على إثبات هذه الصفات، أما المعتزلة فذهبوا إلى أن إثبات صفات زائدة على الذات القديمة يؤدي إلى تعدد في القدماء، أي القول بشيء قديم لا بداية له غير الله تعالى([65]). وقد نفهم موقف المعتزلة الحذر هذا في سياق جدلهم مع المسيحيين وإشكالية الأقانيم وطبيعة السيد المسيح؛ فأرادوا أن يثبتوا وحدانية مطلقة لله ووجود واحد قديم لذاته تعالى.

وعلى الرغم من حرص المعتزلة على التنزيه وإثبات الوحدانية المطلقة، فإن موقف الشيعة الإسماعيلية مثلًا كان أكثر ميلًا نحو تجريد أعمق وأكثر راديكالية، فقد ذهب بعض أعلامهم إلى أن المعتزلة على الرغم من موافقة الحق بأفواههم، إلا أنهم وافقوا المُشبهة، ذلك أن الإسماعيلية وصفوا الله بالسلب فحسب، لذا ذهب باحثون إلى أنه على الرغم من شيوع وصف الأشاعرة بالوسطية، إلا أن المعتزلة أيضًا توسطوا بين الصفاتية والإسماعيلية، أي بين من يصف الله ويثبت له الصفة ومن ينفي فقط عنه ويسلب عنه النقص فحسب([66]).

والدراسة المقارنة لمسألة التنزيه والتجريد عند مفكري الديانات وتأُثرهم بالفلسفة، والتلاقح الثقافي بين الأعلام مما يستحق الدراسة المعمقة، فنجد مثلًا أن اليهودية التي وصفها الشهرستاني بالنزوع إلى التجسيم، تطورت من القراءة الظاهرية للتوراة إلى التأويل المُفضي إلى التنزيه كما لدى فيلون السكندري ثم موسى بن ميمون، وفي المسيحية نجد أفكارًا مشابهة لدى كلمينت السكندري، وفي الإسلام عند المعتزلة والإسماعيلية والفلاسفة، والتشابه ليس بسبب التأثر بالمناخ الثقافي الهلينستي وغيره، بل لأن العقل الفلسفي يتشابه في النتائج، إلى حد كبير إذا كانت منطلقاته متشابهة.

الكلام الإلهي وخلق القرآن

سبق ذكر أن محنة خلق القرآن كانت من أهم الأحداث التي غيرت ملامح الحياة الفكرية والسياسية أيضا في عالم المسلمين الكلاسيكي، وأن من الآراء التي فسرت سبب تسمية “علم الكلام” بهذا الاسم أن مسألة الكلام الإلهي أشهر مباحثه، لكن يهمنا في هذا المبحث الإشارة إلى الأبعاد السوسيولوجية لمسألة الكلام الإلهي، سواء من ناحية تأثرها أو تأثيرها.

وعلى الرغم من أن مبحث الكلام الإلهي يتعلق بالتوحيد والصفات، إلا أنه لخصوصيته أفردنا له مبحثًا مختصرًا مُستقلًا، قد تسبب الجدل بشأن الكلام الإلهي والقرآن الكريم بنزاعات وتكفير بين الفرق وتداخل الديني بالسياسي وقت المحنة.

وقد انقسم المتكلمون والنصيون المسلمون في صفة الكلام؛ فذهب المعتزلة إلى أن الكلام صفة فعل وأنه حادث أي مخلوق وأنه من لفظ وحرف وصوت وأن القرآن لا يمكن أن يكون قديمًا؛ لأنه بذلك سوف يشارك الله في القدم، وقدموا على ذلك أدلة عقلية ونقلية، منها أن القرآن فيه نهي وأمر وخبر وكل هذا لا يكون إلا من حادث، وأن الله يقول “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا” وتأولوا الجعل بمعنى الخلق([67]).

أما الحنابلة والأثريون فذهبوا إلى أن القرآن قديم، وأن كان ما يمكن تحقيق نسبته إلى الإمام أحمد بن حنبل وقت المحنة أنه كان يقول كلام الله ولا يزيد، ثم تطور الأمر بالحنابلة أو ببعضهم إلى ردِ فعل على المحنة إلى القول بأن القرآن كله قديم حتى المصحف، بل بدعوا وكفروا من قال بخلقه أو من قال إن اللفظ به مخلوق، وحتى حذروا ممن توقف في الأمر([68]).

وحاول الأشاعرة كعادتهم التوسط في الأمر، ففرقوا بين الكلام القديم، وأطلقوا عليه الكلام النفسي، وأثبتوه لله تعالى، لأن الكلام كمالٌ، وبين الكلام الحادث الذي في المصحف بين أيدينا([69]).

ويمكن فهم هذا الجدل في سياق أعمق، في ضوء الجدل مع المسيحيين والثنويين، فالمسيحيون يقولون بأزلية الكلمة LOGOS وتجسدها، ويمكن أن يكون بداءة القول بخلق القرآن متأثرة برد تجاه هذا القول المسيحي ودفاعًا عنه، فذهب المعتزلة إلى أن كل ما دون ذات الله حادث، وسبقهم في القول بخلق القرآن أعلام مثل الجعد بن درهم وغيره، فالجدل الإسلامي المسيحي المبكر يمكن أن يُلتمس فيه بعض التطورات الإسلامية الكلامية، مثل الجدل مع يوحنا الدمشقي وغيره([70]).

وأثرت المحنة ومحاولة فرض القول بخلق القرآن في المناخ الثقافي السياسي، على الرغم من أنها غالبًا كانت محاولة من المأمون لفرض سلطته في مقابل نفوذ أهل الحديث، فأصبحت هذه المسألة فاصلًا بين المتكلمين وغيرهم، حتى توسطت الأشاعرة بدرجة ما فيها، وخفوت هذه المسألة بعدما نشبت بسببها صراعات، أكبر دليل على أن بعض المقولات تكتسب أهميتها بفعل الاجتماع السياسي لا أكثر.

خاتمة

ناقشت هذه الورقة بصورة بانورامية كيفية قراءة تاريخ الفكر الفلسفي والكلامي في مجتمعات المسلمين قراءة اجتماعية تاريخية، وسلطت الضوء على أهم العوامل الاجتماعية السياسية في التاريخ الإسلامي، التي تكونت في سياقها المقولات اللاهوتية، وناقشت بعض أهم المقولات في سياقها الثقافي الاجتماعي مثل: الإمامة والقدر والعدل والتوحيد والكلام الإلهي، وخلصت إلى نتائج منها: أن الفكر الفلسفي والكلامي لا ينشأ إلا متأثرًا بالاجتماع والتاريخ، وأن كثيرًا من الأفكار المجردة إذا رُدت إلى أصلها الاجتماعي، فُطن إلى أنها أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا ترتدي ثوب المطلق والإلهي.

كذلك وضحنا أن علم الكلام كان أول محاولات التفكير الفلسفي في مجتمعات المسلمين، وخرج من رحم الجدل السياسي والجدل الفكري بين الفِرق والملل، وأن فهمه اجتماعيًا -كفهم كل فكر- ضرورة لموضعته في موضعه الشَرْطي الصحيح، وأيضا ضرورة لفهم المقولات فهمًا أقرب إلى العلمية والصواب.

الهوامش

([1])  للمزيد عن الاجتماع وقوانينه والفرق بين المطلق والاجتماعي يُراجع ياسين، عبد الجواد، الدين والتدين التشريع والنص والاجتماع، المركز الثقافي العربي، ومؤمنون بلا حدود، المغرب، الطبعة الثانية، 2014، ص5-11.

([2])  للمزيد عن أهمية علم الكلام يراجع: عون، فيصل بدر، علم الكلام ومدارسه، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ت، ص62-66.

-([3])  يراجع في تعريف علم الكلام: ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، الجزء الثالث، 2019، ص966.

([4])  تُراجع مقدمة عمرو بسيوني لكتاب: وينتر، تيم، دليل كامبريدج إلى علم الكلام الإسلامي، ابن النديم للنشر والتوزيع، ودار الروافد الثقافية، بيروت، والإمارات العربية المتحدة، 2024، ص 9؛ وكتب أركون مثل الفكر الإسلامي قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1987.

([5])  للمزيد عن علم الاجتماع التاريخي يراجع: أحجيج، حسن، مدخل إلى علم الاجتماع، نظرياته- مناهجه- قضاياه المعاصرة، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2020، ص 41.

([6])  ينظر: التيمومي، الهادي، المدارس التاريخية الحديثة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 2013، ص85.

([7])  انظر: دوس، فرانسوا، التاريخ المفتت، ترجمة محمد طاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2009، ص45.

([8])  لتفصيل أكثر عن المذاهب التاريخية انظر: المدارس التاريخية الحديثة، مرجع سابق، الصفحات، 88، 109، 110، 157.

([9])  كوثراني، وجيه، تاريخ التأريخ، اتجاهات -مدارس – مناهج، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الثانية, 2013، ص223-ص224.

([10])  دوس، فرانسوا، التاريخ المفتت، مرجع سابق، ص 49.

([11])  ينظر: إسماعيل، محمود، موسوعة سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، طور التكوين، سينا للنشر ودار الانتشار العربي، الجزء الأول، الطبعة الرابعة، 2000، ص37.

([12])  لتفصيل عن هذه النظريات، انظر: أحجيج، مدخل إلى علم الاجتماع، مرجع سابق، الصفحات 69، 92، 114، 119، 145، 229، 263.

([13])  كولينز، راندال، علم اجتماع الفلسفات التأثير الاجتماعي والسياسي في نشأة الفلسفات والأفكار، مراجعة خليفة الميساوي، جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2019، ص 32ـ ص50.

([14])  دونر، فريد، الروايات السردية عن الأصول الإسلامية بدايات الكتابة التاريخية الإسلامية، ترجمة وتقديم وتعليق عبد الجبار ناجي، المركز الأكاديمي للأبحاث، بيروت، 2019، ص 51-70.

([15])  الإيجي، عضد الله والدين القاضي عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت، د.ت ص 8-ص9.

([16])  يراجع التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، باكستان، الطبعة الأولى، 1981، ص5، ص6.

([17])  يراجع، عبد الرازق، مصطفى، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017، ص244-246.

([18])  انظر: شميتكه، زابينه، (محررة) المرجع في تاريخ علم الكلام، ترجمة أسامة شفيع السيد، نماء للبحوث والدراسات، الجزء الأول، بيروت، 2018، ص 95-ص96.

([19])  لابيدس، إيرا، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة فاضل جكتر، دار الكتاب العربي، بيروت، 2011، ص97.

([20])  المرجع نفسه، ص 97-98.

([21])  المرجع نفسه، ص 102، وللتوسع في دراسة الفتوحات انظر: كينيدي، هيو،

([22])  لابيدس، المرجع نفسه، ص 105.

([23])  لمعلومات أكثر تفصيلية حول الفتنة انظر: حسين، طه الفتنة الكبرى، عثمان، وعلي وبنوه، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2023؛ وجعيط، هشام، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 2000.

([24])  ينظر: أبو زهرة، محمد تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996، ص 32-35.

([25])  للمزيد انظر: مادليونغ، والفرد، الشيعة في عصر الخلفاء الراشدين، ترجمة عبد الكريم الوظاف، مؤمنون بلا حدود، 5 يوليو، 2024، ص 11، ومواضع أخرى،

([26])  انظر” المجلسي، بحار الأنوار، ج28، ص286؛ وحسين، طه، الفتنة الكبرى، مرجع سابق، ص 29.

([27])  يراجع حسين، طه، مرجع سابق، ص 69، والنوبختي، فرق الشيعة، منشورات الرضا، بيروت، 2012، ص57.

([28])  للمزيد عن المرجئة انظر: الزامل، مجيد ماجد، وعبد الرحيم، منعم، المرجئة نشأتها ومعتقداتها، جامعة البصرة، كلية الآداب، العدد 14.

([29])  النوبختي، فرق الشيعة، مرجع سابق، ص 34.

([30]) أ ي مرجع عن أهل السنة

([31])  للمزيد عن الأمويين انظر: بن حسين، بثينة، الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، د.ت.

([32])  عن الفتنة الثانية، انظر” بن حسين، بثينة، الفتنة الثانية، وعن دور الباقر والصادق انظر: ياسين، عبد الجواد، اللاهوت، أنثروبولوجيا التوحيد الكتابي، مؤمنون بلا حدود، الرباط وبيروت، 2019، ص 396.

([33])  للمزيد انظر: فوزي، فاروق عمر، الثورة العباسية، هيئة كتابة التاريخ، 1988، ص 11-20.

([34])  صليبا، جورج، العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية، ترجمة محمود حماد، مراجعة مركز التعريب والترجمة، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011، ص 19-35.

([35])  للمزيد عن الترجمة أنظر: Greek thought Arabic culture, Gutas, Dimitri, Routledge, London, 1999.

([36])  جدعان، فهمي، المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2014، ص

([37])  المرجع في تاريخ علم الكلام، مرجع سابق، ص1080، ص 1085.

([38])  للمزيد عن المتخيل في المحنة انظر: السمهوري، رائد، السلف المتخيل مقاربة تاريخية تحليلية في سلف المحنة، أحمد بن حنبل وأحمد بن حنبل المتحيل، وحول المأمون ودور معتزلة بغداد في المحنة انظر: الفيومي، محمد إبراهيم، المعتزلة تكوين العقل العربي، الكتاب الرابع، دار الفكر العربي، القاهرة، 2010، ص455.

([39])  ياووز، عبد الله عمر، الجغرافيا والمذهب، التطور التاريخي للأشعرية في خراسان، ترجمة ماشتة أونالمش، نماء للبحوث والدراسات، القاهرة/ بيروت، 2023، ص153-154.

([40])  المرجع في تاريخ علم الكلام، مرجع سابق، ص419-420.

([41])  للمزيد انظر الجغرافيا والمذهب، المرجع نفسه، الصفحات: 186، 190، 193، 210.

([42])  يراجع تاريخ المجتمعات الإسلامية، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 197، وعلم اجتماع الفلسفات، مرجع سابق، ص 677.

([43])  الشهرستاني، الملل والنحل، ص 30.

([44])  الملل والنحل، المرجع السابق، ص 31.

([45])  انظر: النوبختي، فرق الشيعة، مرجع سابق، ص54-55.

([46])  يراجع: ياسين، عبد الجوادـ اللاهوت أنثروبولوجيا التوحيد الكتابي، مؤمنون بلا حدود، ص 395-ص396.

([47])  للمزيد، انظر ياسين، عبد الجواد، المرجع السابق، ص 398.

([48])  الشهرستاني، الملل والنحل، مرجع سابق، ص 135.

([49])  يراجع: بكاي، لطيفة، حركة الخوارج، نشأتها وتطورها إلى نهاية العصر الأموي (37-132هـ) دار الطليعة، بيروت، 2001، ص76-ص77.

([50])  البلخي، أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود، كتاب المقالات ومعه عيون المسائل والجوابات، تحقيق حسين خانصو وآخرون، دار الفتح، 2018، ص426، ص429,

([51])  انظر: شرح الأصول الخمسة، ص 754، وسالم، عبد الرحمن، التاريخ السياسي للمعتزلة، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018، ص 88.

([52])  التاريخ السياسي للمعتزلة، المرجع نفسه، ص 92، ص99.

([53])  المرجع نفسه، ص100-ص104.

([54])  انظر: كردي، أحمد راجح عبد الحميد ومهدي محمد حسن، قضية الإمامة عند الفرق الإسلامية عرض ونقد، رسالة دكتوراه، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، عمان، 2010، ص106، ص109.

([55])  الغزي عبد الله، مقدمة المشرف من كتاب: العمري، رشا، الكلام عند أبي القاسم البلخي الكعبي (ت318ه، 931م)، ابن النديم للنشر والتوزيع، ودار الروافد الثقافية 2024، الهامش، ص 8.

([56])  أرمسترونج، كارين، موجز تاريخ الإسلام، ترجمة أسامة شفيع السيد، منتدى العلاقات العربية والدولية، قطر، 2021، ص 65.

([57])  المرجع في تاريخ علم الكلام، مرجع سابق، ص 89.

([58])  المرجع نفسه، ص 100 – 105.

([59])  المرجع نفسه، ص 115- 122.

([60])  يراجع: سالم، أحمد هاشم، الأفعال الإنسانية في المدارس الكلامية المعتزلة أنموذجًا، مجلة كلية العلوم الإنسانية، العدد السابع، والفيومي، مرجع سابق.

([61])  الشهرستاني، الملل والنحل، مرجع سابق، ص 100.

([62])  الفيومي، المعتزلة تكوين العقل العربي، مرجع سابق، ص 63.

([63])  للمزيد عن الأشاعرة يراجع الشهرستاني، مرجع سابق ص109، وللمزيد عن ابن كُلاب انظر: فان إس، جوزيف، ابن كلاب والمحنة، ترجمة أحمد فتحي، نماء.

([64])   للتوسع انظر: عياد، الحبيب، الكلام في التوحيد، جذور المسألة وروافدها وتطور الجدل فيها بين أهم الفرق الإسلامية إلى القرن الخامس الهجري، دار المدار الإسلامي، 2009، الصفحات: 99، 102، 103، 121، 127، 137.

([65])  للمزيد عن مذهب الأشاعرة والمعتزلة بشأن الصفات والتوحيد انظر: حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد المسمى تحفة المريد عل جوهرة التوحيد، مكتبة الإيمان، القاهرة، 2015، ص79-123.

([66])  العياد، الحبيب، الكلام في التوحيد، مرجع سابق، ص 175.

([67])  للمزيد انظر: خلوات، حليمة، ونابي بو علي، الأبعاد المعرفية والسياسية لمٍسألة خلق القرآن عند المعتزلة، مجلة مقاربات فلسفية، مج4، ع1، 2017، ص 152-166.

([68])  للمزيد عن موقف بن حنبل في المحنة يراجع: السمهوري، رائد، السلف المتخيل مقاربة تاريخية تحليلية في سلف المحنة أحمد بن حنبل وأحمد بن حنبل المتخيل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ولمعلومات عن المحنة يراجع: جدعان، فهمي، المحنة، مرجع سابق.

([69])  للمزيد عن عقيدة الأشاعرة في الكلام، يراجع جوهرة التوحيد، مرجع سابق، ص 104.

([70]) يراجع: اليامي، سحر ناصر، الحوار الإسلامي المسيحي وتطور علم اللاهوت يوحنا الدمشقي نموذجا، مجلة العلوم الإسلامية الدولية مج8، ع3، 2024، ص 251-279؛ وجدعان، فهمي، المحنة، مرجع سابق، ص 28.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete