تكوين
مقدمة:
مُتعددةٌ هي الصور التي يتقدَّم بها سعيد بنسعيد العلوي إلى مشهد الفكر العربي المعاصر؛ فهو ذلك الباحثُ المبرَّز في تاريخ الفكر الإسلامي، الذي أغْنى المَكتبة العربيَّة بدراساتٍ وازنةٍ عن الأشعرية ونظامها العقائدي والفكري؛ وهو، أيضاً، ذلك الباحثُ المحقِّق في الفكر الإصلاحي العربي والمغربي، الذي أعادَ تسليط الضوء على نصوصٍ وأدبياتٍ محورية في الخطاب الإصلاحي كادَتْ أن تسقط في طيّ النسيان؛ وهو، كذلك، هذا الباحث في الفكر السياسي الإسلامي الذي لم يتوقف عن تفكيك مقولات السياسة في العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، وبمساءلة مفاهيمها الأساسية من قبيل مفهوم الإصلاح، والديمقراطية، والإسلام السياسي..الخ؛ بل ونجدُ في متنه نصوصاً أفرَدها للإسلام السياسي نبَّه في أعقابها على خُطورة رؤيته إلى العالم والآخر؛ وإلى ذلك كلِّه، بات العلوي أحدَ أهم الروائيين المغاربة بعد أنْ قرَّر، في لحظة من لحظات مساره الفكري، أنْ يؤلِّف رواياتٍ عبَّرتْ عن حِسٍ مُرهفٍ وشعور قلقٍ بالعالم والزمن والذات، لكنَّها كشفت عن الوجه الآخر لأسلوب هذا الباحث المفكر؛ أسلوبُ الإنسان الراغب في فهم شرط وجوده التاريخي، كمثقف مغربي مسكون بهاجس التأخُّر وهمّ الإصلاح. بيدَ أنَّ تعدُّد مستويات متن العلوي واختلافها لا ينفي التداخل القائم بينها على مُستوى المنظورِ والإشكالية والمنهج.
تبدوا أعمالُ العلوي النقدية وكأنَّها جهدٌ متواصل لتفكيك سؤال التأخُّر في مختلف أبعاده وتجلياته؛ في بُعده التراثي
- أولاً، حيثُ يبقى العلوي صاحبَ سهْمٍ كبيرٍ في تفكيك التراث السياسي والأخلاقي الإسلامي العربي والكشف عن محدِّدات العقل المحايث له
- وفي بُعده الحديث ثانياً، عندما وقَف بالدراسة والتحقيق على مُعضلات التلقي العربي الحديث للحداثة مع كبار زعماء الإصلاح؛
- وفيما يتعلق بتجلياته المجتمعية والسياسية الراهنة ثالثاً، حيث كان العلوي أحَد أبرز الذين انصرفوا إلى تفكيكِ مقلات الإسلام السياسي ومفهومه عن ‘‘الدولة الإسلامية’’ في ذروة تصاعُد المدّ الإسلامي المعاصر غبَّ أحداث الحراك العربي (منذ نهاية 2010)[1]. غير أنّ العلوي أنجز ذلك كلَّه من منظور الباحث في الفلسفة وتاريخ أفكارها، مُقدِّماً بذلكَ نموذجاً في ممارسة الفلسفة مختلفاً عمّا جرت عليه عادةُ المتخصِّصِينَ العرب في هذا الباب؛ فهو لم يرَ في عَرْض نظريات الحداثة السياسية والتعريف بها مدخلاً كافياً إلى ترسيخ هذه الحداثة في الوعي السياسي العربي.
وأدرك، في مقابل ذلك، مدى سطوة التراث السياسي على هذا الوعي، فاختار المضي في تفكيك بُنى العقل السياسي العربي الإسلامي باعتباره خير مدخل إلى فهم رؤيتنا إلى السياسة، ومن ثمة، فهم طبيعة تلقي وعينا للحداثة السياسية ومفاهيمها ومقولاتها الكبرى. لذلك اتخذت الفلسفة، في متن العلوي، صورة بحث نقدي منفتح على التاريخ والواقع والمجتمع، أكثر مما كانت مجرد انتظام داخل تاريخ الفكر الفلسفي، الأمر الذي جعله في تقاطع دائم مع المشاريع النقدية الكبرى المؤثثة لمشهد الفكر العربي المعاصر، والتي تغيّت بدورها التفكير في سؤال التراث والحداثة انطلاقاً من رؤية فلسفية نقدية.
إقرأ أيضا: التنمية حرية: كيف نؤسس مجتمعا يقبل الاختلاف؟
ليس الغرضُ، في هذه الدراسة، تقديم صورةٍ شاملة عن مَتن سعيد بنسعيد العلوي، وإنما نسعى إلى الوقوف على ما امتازَ به خطابُه الفلسفي ونظره في العقل السياسي الإسلامي العربي قياساً إلى أضرابه من المشتغلين في الحقل الفلسفي المغربي والعربي. إذ يبدو أنَّ أهم ما اختصَّ به أسلوبُ هذا المفكر هو الانفتاحُ على القول الفقهيِّ السياسي واستثمارُ مكتسباته، حيث شَكلَّت كتاباتُه نموذجاً لإمكانية تأسيسِ فلسفةٍ سياسية في السياق العربي انطلاقاً من مُحاورة نصوص الفقه السياسي الإسلامي. هذا ما نُلفيه، أولاً، في دراستَيْه المرجعيتيْن عن الماوردي والخطاب الأشعري؛ وهو عينُه ما نجده في اهتمامه بالخطاب الإصلاحي مع الحجوي ونصوصه الفقهية الكبرى. لذلك تشكل كتاباته اختباراً لمدى قدرة الفكر الفلسفي العربي على استثمار المرجعيات الفقهية في السياسة والإصلاح، بل وتحفزنا على التساؤل عن مدى مشروعية الانتهال من هذه المرجعيات التشريعية والقانونية في بناء فلسفة في السياسة والقانون تترجم هواجس العالم العربي وتفكِّرُ في أسئلته من داخل دوائر مجتمعاته، لتنتقل بذلك من مستوى تلخيص النظريات الحديثة والمعاصرة في السياسة والقانون إلى مستوى التأصيل الفلسفي للنظر الفلسفي في القانون والسياسية داخل دوائر التراث الفكري السياسي والتشريعي الإسلامي. من هنا حقّ لنا أنْ نتسَاءَل؛ كيفَ أدى الانفتاح على الخطاب الفقهي السياسي إلى إعادة ترتيب فهمنا للخطاب الفلسفي في سياق الفلسفة السياسية العربية المعاصرة؟ وبأي معنى يكون الانفتاح ذاك مدخلاً إلى بناء رؤية فلسفيةٍ نقدية إلى التراث والإصلاح؟
أولاً؛ العقل العربي الإسلامي والقول الفلسفي؛ نحو منظور مغايرٍ.
تتجذَّرُ كتاباتُ العلوي، رغم اختلاف مستوياتها وموضوعاتها، في إشكالية الإصلاح التي هيمنتْ على الفكر العربي الحديث والمعاصر، وتلُقي بظلالها على تصوُّرِه للتفكير الفلسفي الذي لم يحصُرْه في مجرد الانتظام في تاريخ الفلسفة بما هو تاريخُ أفكار يمكن للمرء الاجتهاد في تلخيصها، وشرحها وتفسيرها، وإنما صار، عنده، تفكيراً نقدياً قادراً على الإسهام في بناء فهم معقول للمجتمع وأسئلته. بذلك يمكن تاطير رؤية العلوي إلى الفلسفة ضمن المنعطف الاجتماعي والسياسي الذي عرفه القول الفلسفي المعاصر، والذي حمل بعض الفلاسفة المعاصرين على الدعوة إلى إصلاح الخطاب الفلسفي وجعله أكثر اتصالا بالمجتمع أسئلته[2].
- أ– حمل الوعيُ بمسألة التأخر التاريخي العلوي على فهم الفلسفة، وفعل التفلسف بالتالي، على نحوٍ مغاير لما جرَتْ عليه عادة الباحثين المتخصصين في تاريخ الفلسفة. فباتت الكتابةُ الفلسفية عنده مشدودةً إلى أسئلة النهضة والإصلاح، واتخذت منها منظوراً تصدُر عنه في رؤيتها إلى مختلف قضايها. فلم تأتِ كتاباتُه في شكل تلخيصٍ لمدونة الفكر الفلسفي الغربي أو تأويلٍ لنصوصه الكُبرى، وإنما اتسَّم تعامُله معَ تلك المدونة بمحاولة الانتهال منها واستثمار مُكتسباتها النظرية والمفاهيمية والمنهجية في بناءِ فهم أدَّق وأعْمَق لمسألة التأخر التاريخي. وهو بهذه الخطوة، يصدُر عن منظورٍ نقدي إلى الفكر الفلسفي ينأى به عن فعل الشرح والجمع والتلخيص، ويزجُّ به في مَدارات الأسئلة المقلقة التي ما انفكت تؤرق المفكرين العرب منذ أولى لحظات الصدام مع الغرب الحديث[3]. يقولُ العَلوي في هذا المعرض؛ ‘‘ليسَ التفكيرُ الفلسفي، بالنسبة إلينا، نمطاً من الممارسة النظرية التي تقتصرُ على فريق واحد من المفكرين، ذلك الذي ندعوه في المعتاد بالفلاسفة، أي أولئك الذين يتعودون على استخدام لغة محددة قوامها المصطلحات التقنية والمفاهيم المجردة فيبلغ الفكرُ عندهم درجةً عاليةً من التجريد وتدخله اللغة الفلسفية المتخصصة في عالم متعالٍ (..) نفهم من عبارة التفكير الفلسفي التوجيه العام الذي يسير عليه العقلُ في مرحلة محددة نستطيع أن نربطها بالتاريخ وبالوجود المجتمعي للبشر’’[4]. نستشفُّ من هذا القوْلِ أنَّنا أمامَ نمطٍ من التفكيرِ الفلسفي ينأى بنفسه عن كلّ نزعة نصية، ويأبى إلاَّ أن ينتظم في إشكاليات التاريخ والاجتماع السياسي العربي الإسلامي من خلال الاعتداد بالنظر الفلسفي ورؤيته النقدية إلى الإنسان والعالم. يتعلَّق الأمر بفهم نقديٍ للفلسفة لا يختلفُ، كثيراً، عن ذاك الذي صدَر عنه كبارُ المفكرين العرب الذين انبروا إلى استشكال التأخُّر التاريخي واتخذوا منه محور اهتمامهم، كالعروي، وأركون، والجابري، وأومليل؛ حيثُ يحضرُ توظيف المرجعية الفلسفية على نحو نقدي ومنهجيٍ في سبيل بناءِ فهم معقول لتلك الإشكالية ولسبل الانعتاق من أرباقها. لذلك يشدِّد العلَوي على أنَّ معيار صلاحية الفكر الفلسفي يَكمنُ في ‘‘مدى الاستجابة أو عدم الاستجابة لإشكالية تطرحها طبيعة الوجود المجتمعي في فترة تاريخية’’[5]. متى فهمنا الفكر الفلسفي على هذا النحو، صار بمقدورِنا إدراك أنَّ الأمر يتعلق بفكر نقدي، لا يحتكره هذا التيَّار الفلسفي أو ذاك، ولا هذا الخطابُ أو ذاك، وإنما هو متاح لكلّ من يُقدم على إخضاع واقعه وإشكالياته للمساءلة النقدية، لتستقيم علاقته بالراهن على مقتضى هذا الوعي القلق والنبيه بالحقيقة وعملية سياستها كما يقول فوكو[6].
كانَ على العلوي أنْ يحدِّدَ رؤيته إلى الفكر الفلسفي منذُ كتاباته المبكرة، أي منْذ رسالته عن الماوردي، حتى يتسنى له تسويغَ مشروعية التناول الفلسفي لموضوعٍ فقهيٍّ، وعيا منه بما يثيره ذلك من مقاومةٍ واعتراض. فقد واجهَ، أولاً، رفض القراءات التراثية لمثل هذا الاختيار؛ وهي القراءاتُ التي تأبى إلاَّ أن تَقرأ الفقهَ بالفقه، فلا ترى فيه غير مُدوَّنَةٍ ينبَغي شرحُها واستيعابها، وربما حِفظها أيضاً. لذلكَ نلفيها ترفضُ كلَّ أشكالِ الإفادَة من الفكر الفلسفيِّ الحديث والمعاصر ومُكتسباته المفاهيمية والمنهجية، لتوصدَ الباب، جملة وتفصيلاً، أمام كل محاولة ترمي إلى قراءة المدونة الفقهية السياسية على نحو ‘‘مغاير’’ أو ‘‘جديد’’. علاوة على ذلك، وجد العلوي نفسه مطالباً، من جهة ثانية، بمواجهة القراءة الحداثية الراديكالية (العدمية) للتراث عامَّةً، التي لا ترى في الفقه إلاَّ عنواناً لفكرٍ ‘‘ميِّتٍ ومميتٍ’’[7] ينبغي القطع معه وطيُّ صفحته، وتُعَوّل على شرْح المرجعيات الحديثة في السياسة والتعريف بها باعتبار ذلكَ خير مدخل إلى توطين الحداثة السياسية في فكرنا العربي الإسلامي. من هذا المنطلق، بدا تسويغُ العلوي لاختياره الماوردي موضوعاً لدراسته في مجال الفكر السياسي الإسلامي محاولة لتنكُّب القراءتين معاً؛ فهو، بمقدار ما يدرك مركزية القول الفقهي في التراث الإسلامي ويعي الحاجة الماسَّة إلى مساءلته وتفكيكيه، فإنه لا ينجرُّ وراء جاذبية القراءة التراثية له، فلم تأت دراسته لهذا الفقيه في صورة شرحٍ لما عقده من مصنفات في السياسة والأخلاق، بقدر ما اتخذت شكل مُساءلة فلسفيةٍ لرؤيته بُغية إظهار قيمتها النظرية كما يمكن أبرازها في إطار سياقها التاريخي. في مقابل ذلك، لم يقُد الوعيُ بالحاجة إلى مفاهيم الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة العلوي إلى ترحيل رؤيتها إلى التراث الإسلامي، وإنما سعى إلى الإفادة منها في فهم الخطاب الفقهي السياسي، لذلك ظلّ مشدوداً إلى إطاره التاريخي الذي في ظله قرأ مدونة الفقه السياسي[8]. يعني هذا الأمر أننا أمام نموذجٍ فريدٍ في المواءمة بين أفق التراث، الذي يتحرَّكُ فيه العلوي على المستوى الموضوعاتي، وأفق الحداثة الفلسفية، الذي يتَّخذُ منه مرجعاً فكرياً يقارب في إطار استراتيجياته ومفاهيمه أسئلة التراث السياسي العربي.
- ب– لا يحصر العلوي مفهوم ‘‘الفكر الفلسفي’’ في التقليد النصيّ المتعلّق بخطاب مدرسيٍ مجرَّد ينبني على مفاهيم متعالية عن التاريخ والواقع، فيتبرَّم بذلك ممَّا جرَتْ عليه عادةُ مُعظَم دارسي الفلسفة بالجامعة المغربية، الذين حصروا الكتابة الفلسفية في مختلف أشكال التعليق والاختصار والشرح لنصوص الفكر الفلسفي؛ الغربي منه كما الإسلامي العربي على حدّ سواء. باتت الرؤية الفلسفية مُطالبة، عنده، بالإسهام في فهم الواقع والإجابة عن أسئلته، وهذا ما صيّرها رؤية أوسع من المعنى الأكاديمي المحض لمفهوم النظر الفلسفي. نفهم، إذن، سببَ انفتاح الرجل على منظوماتٍ أخرى من القول غير القول الفلسفي في السياسة، كالخطاب الكلامي والفقهي الذي شغلَ الحيِّز الأكبر من دراساته التراثية. ليس شرطاً، في مثل هذه الحالة، أن نحصرَ القول الفلسفي في ما ألَّفه الفلاسفة المتخصصون دون غيرهم، بل بوسع الباحث أن يبحث عن معالم الفكر الفلسفي في خطابات أخرى طغى عليها، هي الأخرى، النفس العقلاني النقدي والطابع الاستشكالي للواقع وبديهيات الحسّ المشترك. لذلك يتجاورُ في متن العلوي، خطاب المعتزلة والأشاعرة مع خطاب ابن رشد والغزالي[9]، طالما أن الغَرض من ذلك ليسَ التعريف بمتن هذا المفكر أو ذاك، ولا الخوْص مع الفلاسفة في ما قالوه في هذه الموضوعة أو تلك، وإنما فهم لعبة تدبير هذه الخطابات جميعها لحقيقة القضايا التي شغلت بالَ المفكرين في المسلمين. على أنَّ ذلك كله ينبغي أنْ يتمَّ في إطارِ الأُفق التاريخي المحدِّد للعبة إنتاج الحقيقة بالنسبة إلى التراث الإسلامي، أي على ضوء ‘‘الإبستيمي’’ الخاص بالإسلام الكلاسيكي.
- ج- لا شكّ في أنّ هذا الطرح يعيدُ إلى الأذهانَ تصوُّر مصطفى عبد الرازق ومدرسته لمفهوم ‘‘القول الفلسفي’’ في الإسلام، وهو التصوُّرُ عينُه الذي رسّخه علي سامي النشار، وكان له كبيرُ الوقع على جمهرةٍ من الباحثين العرب- والمغاربة خاصةً- الذين طفقوا ينقبون في التراث العربي الإسلامي عن جراثيم العقل والعقلانية غير تلك التي اختصَّ القول الفلسفي بالتأسيس لها والدفاع عنها. متى أخذنا بعين الاعتبار هذا المعطى، أدركنا سبب إلحاح العلوي على ضرورة أنْ ‘‘نبحثَ عن نقط الالتقاءِ بين القضايا التي يصوِّغها الفلاسفةُ بنظرياتهم الفلسفية، وبين الآراء التي يعرضها مختلف المفكرين المتواجدين معهم، كل في دائرة اختصاصه وبلغة العلم أو الفن الذي يأخذ به’’[10]. يستشف من هذا القول أنَّ الخِطابَ الفلسفيَّ يمثل دائرة من بيْن أخرى تنتظِمُ التراث الإسلامي والعقل الحاكِم له، وسيكونُ علينا أنْ ‘‘نعْبُرَ’’ الحدودَ التي ما انفكت الرؤية التقليدية تقيمُها بين تلك المجالات النظرية، وما فتئ التقليدُ الإسلامي نفسه، منذ ابن خلدون، يعتبرها فواصلَ وفجوات غير قابلة للجَسْر بيْن نظامِ قولٍ وآخر مختلف عنه جذرياً داخل جغرافيا الفكر الإسلامي[11]. كانت هذه النظرة التجْزِيئية إلى التراث الإسلامي، التي وقعَ ضحيَّتها حتى بعض الباحثين العرب والمستشرقين المبرَّزين، عائقاً كبيراً أمامَ فهم دينامية هذا التراث ووَحْدَة العقل المنتظم له. ويبدو أنَّ تشديدَ العلوي على الحاجة إلى الانزياحِ عن مركزية القوْلِ الفلسفي في التراث الإسلامي- لاسيما في مجال العقل العملي كما تجلى في الخطاب السياسي والأخلاقي والقانوني التشريعي- يبقى علامةً على وعيِه بهذه الصعوبة. وعندما يتَّخذُ من الماوردي موضوعاً لدراسته للفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي، ومن الخطابِ الأشعري مدارَ بحثه في موضوع العقل الإسلامي، فإنه يقْدِمُ بذلكَ على جرِّ التراث الإسلامي العربي إلى دائرة الرؤية الفلسفية النقدية وإخضاعه لمفعولها في المساءلة والبناء. ليس المهم، هنا، أن ننتقي القول الفلسفي ونعتبره النموذج الأرفع والأمثل في العقلانية السياسية، بل الأهم من ذلك أن نعثر على خطاب في السياسة يحتازُ القدر اللازم من المعقولية التي تجعل من تحليله مدخلا إلى فهم الأسئلة السياسية في التراث الإسلامي. يمثل الخطاب الفقهي، بتشريعاته القانونية، نموذجا لهذه المعقولية السياسية، وهو ما يضفي المشروعية على دراسته من داخل دوائر المقاربة الفلسفية ومنظورها النقدي ومناهجها التحليلية.
قد تبدو هذه الخطوَة مَدْعاةً للاستغراب بالنسبة إلى الباحثين الذينَ اعتادوا على التعامل مع التراث الإسلامي- بمختلف جوانبه ومستوياته وخطاباته- على نحوٍ تقليدي، أولئك الذين يصدرونَ عن الرؤية التراثية نفسها الحاكمة لهذا التراث. فالعلوي سليلُ تقليدٍ فكري رسَّخَ الرؤية النقدية إلى التراث الإسلامي، وهو تقليدٌ يَنهلُ من مرجعيات الفكر الحديث والمُعاصر ويضخُّ مفاهيمه واستراتيجياته في ثنايا التراث، سعياً منه إلى تجديد القول فيه انطلاقاً من رؤية مُغايرة إليه. كانت تلك حال الكتاباتِ الماركسية في التراث مع جيل حسين مروة وطيب تيزيني، وهي عينها حالُ أصحاب المشاريع النقدية التي اتكأت على إعادة قراءة التراث على نحوٍ مُغاير للقراءة التقليدية، كمشروع أركون والجابري[12]. ويبدو من اختيارات العلوي، الفكرية كما المنهجية، أنه ينتظم داخل هذا التقليد النقدي في تصوره للحداثة وعلاقتنا بالتراث. لذلكَ يحقُّ للمرء أن يتساءلَ عن علاقته بتلك المشاريع الفكرية التي أعادت ترتيب فهمنا للتراث والحداثة، وشكَّلت لحظة انتقالٍ- حتى لا نقول لحظة قطيعة- مع ماضي الوعي العربي بالتراث الإسلامي. لم يكن من الممكن، في اللحظة التي ألَّفَ فيها العلوي كتابيْه عن الماوردي والخطاب الأشعري، للباحث في التراث أن يذهل عن مفعول تلك المشاريع، عن سطوتها على الباحثين في حقل الفلسفة والفكر الإسلامي والدراسات التراثية بصفة عامة. صحيح أن هذا المفكر لم يعلن عن نيته كتابةَ ‘‘مشروع فكري’’ يضارع، من حيث الأفق الطابع النسقي، مشروعَ مُفكرٍ كالجابري أو أركون أو العروي؛ وصحيح، أيضاً، أنه فضَّل التقدم إلى مشهد الفكر المعاصر في صورة الباحث المحقق المهجوس بسؤال المعرفة والبحث، والمتبرم من دور المثقف-الداعية، وآثر أن يعبّر عن مواقفه من أكثر الأسئلة حساسيةً من خلال دراسات أكاديمية رصينة حاور من خلالها كبار المفكرين العرب والمسلمين، التراثيين كما الحديثين والمعاصرين له. فاستطاع بذلك تنَكُّبَ النَفَس الشمولي لفكرة المشروع الفكري، وأبقى على حرية كبيرة في التنقل بين المواضيع والرؤى. غير أن ذلك كله لا ينفي مشروعية التساؤل عن صلة متنه النقدي بتلك المشاريع.
من مُبرِّرات هذا التساؤل أنَّ العلوي اختارَ لنفسه الانتظامَ في الإشكالية المحورية المنتظمة للمشاريع النقدية الكبرى؛ إشكاليةُ الإصلاح والنهضة[13]. ورغم أنه أرادَ لكتابه العمدة في الدراسات التراثية، الخطاب الأشعري، أن يكون ‘‘مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي’’، ولم يرَ فيه إعلاناً عن ميلاد مشروعٍ نسقي في دراسة التراث، فإنَّ البنية المفاهيمية لهذا الكتاب، كما لغيره من الكتب السابقة له واللاحقة عليه، تقوم دليلاً فارقاً على وجود علاقة متينةٍ بينَ مقاربة العلوي للعقل الإسلامي وتلك المشاريع النقدية. يمكن أنْ نسوق، على سبيل المثال لا الحصر، إعمالَه مفاهيم ‘‘العقل العربي الإسلامي’’، و‘‘الإسلام الكلاسيكي’’، و‘‘الخطاب’’، كشواهدَ على ضخّ هذه العُدَّة المفاهيمية، المتحدِّرة من الفكر الفلسفيِّ المعاصر خاصَّةً، في مجال التراث ومدارات أسئلته، بما يشي بحضور منظور تلك المشاريع في متنه النقدي.
قد يزعم البعض أنَّ دراسات العلوي التراثية ليست إلاَّ استمرارية لمشروع الجابري في قراءة التراث، وقد يرى البعض الآخر في عنايته بالخطاب الإصلاحي المغربي استمرارية لتحليل العروي لهذا الخطاب كما صاغه في الإيديولوجيا العربية المعاصرة خاصةً، بل وقد يجد البعض الآخرُ في تركيزه على محورية النص القرآني في التراث الإسلامي[14] دليلاً على هيمنة رؤية أركون إلى العقل الإسلامي على مقاربته للعقل الإسلامي-العربي. ولئن كان لهذه التأويلات بعض وجوه الصحة بحكم أنها تبحث عن منابع فكر العلوي، فإنها تذهل عن فرادة رؤيته وخصوصية مقاربته لموضوعاته. من المهم أن نَكشف عن مدى إفادة العلوي من المشاريع السابقة له، وحينها سيكون علينا ألاَّ نقف عند حدود مشاريع الجابري والعروي وأركون وأومليل، وأن نُنقب عن أثر مفكرين آخرين اهتموا بموضوعة التراث دراسة ونقداً، كطيب تيزيني، وحسين مروة، ومن قبلهما أنور عبد الملك، وأحمد أمين، وطه حسين، وجورجي زيدان، وإظهار أثرهم في تبلور وعي العلوي بموضوعة التراث وأفق تناوله. لذلك يبقى الأهم، في نظري، الوقوف عمّا اختصَّ به أسلوب العلوي وامتازت به مقاربته عن أضرابه من كبار الباحثين في التراث الإسلامي.
- د- ومهما يكن من أمر، وسواء كان توسيع دائرة الخطاب السياسي ليشمل القول الفقهي والكلامي راجعاً إلى أثر مُقاربة مدْرسة مصطفى عبد الرازق أم هو نتيجة التأثر بمفهوم الخطاب كما بلوره فوكو في دراسته لتاريخ الحقيقة في الفكر الغربي[15]، وكما أعمله أركون والجابري في دراستهما للعقل التراثي (الإسلامي عند الأول، والعربي عند الثاني)، فإنَّ الثابتَ أنَّ دراسته للعقْلِ الإسلامي-العربي لَمْ تنْحصر في تحليل الخطاب الفلسفي الذي أنتجه هذا العقل، وإنما انصرَفت إلى التركيز على القوْلِ الفقهي على نحو ملحوظ. تنسحبُ هذه الملاحظة على دراسته للعقل التراثي كمل للعقل العربي الحديث؛ فقد استهلَّ مساره البحثي بدراسة عن الماوردي، رامَ من خلالها تفكيكَ أسس الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي على ضوء مدونة فقهية استطاعتْ صياغَة فهم معياريٍ للدولة وأحكامها، كما للمَجالِ السياسيِّ وآليات اشتغاله. أضف إلى ذلك أنه تناوَل الخطاب الأشعري بحسبانه مُكوِّناً جوهرياً من مُكوِّنات العقل الإسلامي الكلاسيكي، محاولاً تفهُّمَ تشكُّلِه وآليات اشتغاله بعيداً عن كلِّ حُكمٍ مُسبقٍ أو مَوقف سلبي منه، وسرعان ما مضى في تشريح الرؤية العملية لهذا الخطاب، كما تجسّدت في عملية التشريع السياسي والأخلاقي.
يعني هذا القولُ أنَّ الخطابَ الفقهيَّ لا يتَّخذُ، في مُقاربة العلوي، صورة مكوِّنٍ من مكونات التراث الإسلامي ينبغي إخضاعُه للدراسة والتحليل فقط، وإنما يرتقي به الباحث إلى مستوى ‘‘النموذج’’؛ نموذج خطابٍ استطاع بناءَ فهم أدقَّ وأعمق لواقعه وشروطه قياساً بغيره من صنوف القول السياسي. وهو بذلك يمثل ‘‘النموذج الأنسب’’- حتى لا نقول النموذج المرشد- لفهم العقل السياسي الإسلامي وأوْجه تفاعله مع وضعه التاريخي، مقارنةً بالقول الفلسفي والكلامي والسلطاني. وعندما يتعلَّق الأمر بدراسة الإشكالية السياسية في التراث الإسلامي، فإنَّ أهمية القول الفقهي تنبعُ من قدرته على احتكار حقيقة الشرعية والمشروعية، وما كان صدفة أن يكون الفقيه صاحب ‘‘سلطة ثقافية’’[16] كان على الحاكم أن يأخذها في الحسبان وهو يفكر في معادلة سياسة الدنيا والدين. كما أنَّ التنظير للإشكالية السياسية في الإسلام كما عبّر عنه مفهوم الخلافة (الإمامة) اقترن، في بدايته، بالخطاب الكلامي والفقهي من بعده، أما التناول الفلسفي لها فقد أتى متأخراً من الناحية الزمنية[17]، الأمر الذي يفسر المكانة المركزية التي شغلتها المقاربة الفقهية للسياسة في التراث الإسلامي. نقرأ للعلوي في هذا المعرض قولَهُ؛ ‘‘نحنُ لا نتحدَّثُ في المعتاد عن تفكيرٍ فلسفيٍّ إلاَّ في مرحلةٍ مُتأخِّرة بالنسبة لتاريخ التفكير النظري في الإسلام، أي ابتداءً من القرن الثالث، لكن الإشكالية الأساسية عند فلاسفة الإسلام نشأت بشكل جنينيٍ مع الخلافات السياسية الأولى التي ترتبطُ بمشكل الخلافة أي بمسألة السلطة والتنظيم السياسي، وهذا ما يعني أنها ظهرت للمرة الأولى عند المتكلمين ثم انتقلت في الآن ذاته لتصبح مادةً لتفكير كلٍّ من الفُقهاء والفلاسفة’’[18]. ليسَ الاهتمامُ بالقول الفقهي في السياسة اختياراً يمكن للباحث في الفكر السياسي الإسلامي أن يتردَّد في شأنه، وإنما هو ضرورة نابعة من مسار تشكل العقل السياسي الإسلامي نفسه. لا معنى، والحالة هذه، أنْ يكتفي المرء بدراسة التصور الفلسفي للسياسة في التراث الإسلامي، لأنه سيكون، باختياره هذان قد أعرض عن أهمّ ما أنتجه العقل الإسلامي عن السياسة وتقنياتها المرتبطة بعملية التدبير.
- هـ- لا تنْحصرُ أهمية الانفتاح على القول الفقهي، في مقاربة العلوي، في مجرَّد أنه قدْ يُضارع غيره من أشكال الخطاب الناسجة للعقل العربي الإسلامي، قديمه وحديثه، ويشكل ‘‘بديلاً ممكناً’’ عنها، طالما أنَّه تعامل مع هذا الخطاب باعتباره مكونا من مكونات العقل الإسلامي العربي، ولم ينف أهمية الخطابات الأخرى التي أنتجها هذا الأخيرُ مُطلقاً. وإنما تكمن أهمية ذلك الانفتاحِ في ما هو أبعدُ من ذلك بكثير؛ فقد أتاحَ الاعتداد به فرصةً لتنكُّبِ كثيرٍ من الأحكام السلبية في حقّ الخطاب الفقهي السياسي، التي صيّرها بعضُ الباحثين بديهياتٍ لا مجال لمناقشتِها عندما يتعلَّق الأمر بفهم العقل الإسلامي العربي. لم يرَ المتحمسون للحداثة الغربية في القول الفقهي التراثي سوى خطابٍ مُنغلِق على نفسه غير قادرٍ على استيعاب مستجدّات الواقع وطوارئه، فما ترَّدد بعضهم في الحكم عيله باللاتاريخية والرجعية والجمود. وما كانَ حالُ القول الفقهي الحديثِ أفضل حظاً عند هؤلاء من سابقه، فقد رأوا فيه سبباً من أسبابِ الانحطاط والعجْز عن فهم منطق الحداثة المكتسحة للعالم الإسلامي منذ حملة نابليون على مصر[19]. لا يمكن أن ننكر أنَّ الفُقهاء أنفسهم كالوا لبَعضهم البعض مثل هذه التُهم في الماضي كما في الأزمنة الحديثة[20]، بيدَ أنّ ذلك لا يسوغ الحكم بالعقم على مجهودهم في مجال التشريع السياسي، وضرورة الإنصات لخطابهم النابع من وعيهم القلق بالأزمة.
يعنينا، من الفقهاء الذين اهتمَّ بهم العلوي، كلٌ من الماوردي والحجوي. نشدِّد على رمزية اختياره هذا رغم التبايُنات الموجودة بين الرجليْن على مستوى الزمن التاريخي والاختيارات الفكرية والعقائدية الخاصَّة بكل واحد منهما. فإلى أنهما فقيهانِ مبرَّزان، وإلى أنهما موظفا دولة، وأنهما عارفان بدهاليز القرار السياسي وآليات اتخاذه، فإنهما ظلاَّ مهجوسيْن بهمّ الإصلاح وإنقاذ الدولة من الانهيار القريب. واجه الماوَردي خطر تفتُّت دولة الخلافة وتكالب الدول السلطانية على وحدتها. كما أدرك أن خطابه الفقهي التقليدي بات في أزمة بسبب تصاعد أنظمة جديدة من القول السياسي ممثلة في الثقافة الفارسية أساساً، فأتت اجتهاداته الفقهية الناسجة لتصوُّره للأحكام السلطانية والولايات الدينية، تقترح رؤية إلى الدولة والسياسة من شأنها أن تجد حلولا لاعضالات الوقت، والخروج من أزمة دولة الخلافة. أمَّا الحجْوي، ذلك ‘‘الموظف المخزني’’ الرفيع، فقد واجه الحماية وانتبه، بمرارة، إلى رسوخ التخلُّف في شرايين المجتمع المغربي، كما اجترع، على مضض، قصور الدولة المغربية عن الإفادة من النموذج الحديث للدولة[21]، وكان مدركاً أزمة المرجعيات الفقهية التقليدية أمام ظهور أنماط جديدة من المعرفة باتت أقدر على فهم الواقع الجديد ومتغيراته، فأتت اجتهاداته الفقهية وكتاباته النقدية تقترح رؤية من شأنها أن تخرج المغرب من وضعه المأزوم. في الحالتين معاً نكون أمام شخصية فقيه مسكون بسؤال الإصلاح، مدرك لأزمة خطابه الفقهي النابعة من قلق استيعاب مستجدّاتِ الواقع كما من منافسة أنماط جديدة من المعرفة باتت أكثر إقناعاً وفعاليةً.
لم يقع اختيار العلوي على أيّ فقيه كيفما كان، بل إن انتقائه للماروي ومن بعده الحجوي كان اختياراً واعياً بنفسه وبمقاصده البعيدة. سيكون علينا أن نلاحظ أن ما يبحث عنه في متن هؤلاء هو بيان كيفية اشتغال العقل الفقعي السياسي في وضعية معينة هي وضعية الأزمة؛ أي في وضعيةٍ باتت فيها ميكانيزماتُ الواقعِ الاجتماعيِّ والسياسي عرضة للخلل وغير قادرة على ضمان العلاقة المعتادة القائمة بين الأفراد والواقع، وأمست فيها مفاهيم العقل ومقولاته محدودة الصلاحية وعاجزةً عن بلوَرَة فهمٍ معقول للتحولات الاجتماعية والسياسية، وطمأنة الوعي على مآل المجتمع ومستقبله[22]. لا يختلف موقف الفقيه، في هذه الحالة، عن مواقف كبار منظري الفكر السياسي؛ فالنظريات الكبرى في الدولة والسلطة خرجت من رحم التفكير في الأزمة، كما هو بيِّن من نظرية أفلاطون وأرسطو، ومكيافلي وهوبز وشميث وبوبيو، وهذا ما يضفي المشروعية على اختيار فقيه سياسي موضوعاً للنظر الفلسفي في سياق الفلسفة العربية المعاصرة. فكما أنَّ الماوردي (الفقيهُ وموظَّف الدولة العباسية) كان مُرشد العلوي في رحلة بحثه عن بعض ‘‘محدِّدات’’ العقل السياسي في الإسلام الكلاسيكي ، حيثُ حاول إظهار مَدى قدرة هذا الفقيه على التقاط معطيات واقعه السياسي وصياغة فهم معقول لإشكالية عصره، مُظهراً بذلكَ قُدرةَ العقْل الفقهي على فهم ميكانيزمات المجال السياسي الإسلامي؛ فكذلك كان الحجوي، الفقيه والموظف المخزني، مرشده إلى تفكيك تفاعل العقل العربي الإسلامي مع الحداثة الغربية وأزمة المجتمع المغربي الحديث[23].
نخلص، في أعقاب هذه المعطيات، إلى القول إنَّ الانفتاح على القول الفقهي السياسي ليس ترفا فكرياً حاول العلوي الامتياز به عن أضرابه من مُحتقِلي الفلسفة من الباحثين العرب، بقدر ما مثّل مناسبة للتنبيه على أهمية هذا الخطاب وحاجتنا إلى إعمال المقاربة الفلسفية ونفسها النقدي لفهم العقل السياسي الإسلامي من خلال استشكال الفقه السياسي ومفاهيمه الأساسية.
ثانياً؛ العلوي بين ‘‘دراسة’’ العقل السياسيّ الإسلامي-العربي و‘‘نقده’’.
يُقدِّمُ العلوي دراسته للخطاب الأشعري باعتبارها ‘‘مُساهمة في نقد العقل الإسلامي العربي’’، وهو ما يجعَلها تنتظم داخل المجهود الذي بذلته جمهرة من المفكرين العرب في سبيل نقد العقل العربي/الإسلامي، وعيا منها بأنَّ نقد التراث وتفكيك آليات عقله يبقى خطوة في سبيل تحرير العقل العربي اليوم مما يعيقه على الإبداع والقدرة على استيعاب معطيات الراهن ومكتسبات الفكر الحديث، بل ويمهد، أيضاً، لانتظام الفكر العربي المعاصر داخل منظومات الفكر المعاصر[24]. لا يساورُنا شكّ في أنَّ العلوي شارك أترابه من المفكرين العرب همّ نقد العقل وتحريره، وأنه صاحب سهم كبيرٍ في تحليل فكرة الإصلاح نفسها. ويبدو أن صلته بمشروعيْ أركون والجابري في نقد التراث العربي الإسلامي أمتن وأوضح قياساً بعلاقته بغيرهما من المشاريع النقدية الأخرى، لذلك يقتضي فهم فرادة خطاب هذا المثقف بيان مظاهر إفادته من مشاريع هؤلاء، دون الانزلاق إلى سهر إنتاجه الفكري في رؤيتهم النقدية، والعمل على بيان ما امتاز به عنهما معاً، درءاً لكل اعتقاد بأنَّ مقاربته كانت مجرد استنساخ لرؤية هؤلاء ومواقفهما من التراث.
يُفضِّلُ العلوي الحديث عن ‘‘عقل عربي إسلامي’’، وهذا ما نلمس فيه وعياً بالصعوبة التي يطرحها اختيار كل من أركون والجابري لتسمية العقل التراثي. ففيما ذهب الجابري إلى الحديث عن عقل عربي، مرتكزا في ذلك على مركزية اللغة العربية في تأسيس الفكر الإسلامي انطلاقاً من عملية تقنينها إبَّانَ عصر التدوين، فإنَّ أركون فضّل الحدِيث عن عقل إسلامي، معربا بذلك عن وعيه بمركزية النص القرآني في تبلور مقولات العقل التراثي ومفاهيمه وتصوراته للإنسان والعالم. علاوة على هذه الصعوبة، يجدُ الباحثُ نفسه أمام صعوبة نابعة من مفهوم العقل نفسه؛ فإذا كان الجابري قد انصرف، في الجزأين الأول والثاني من مشروعه، إلى تفكيك العقل بما هو قدرة على إنتاج الحقيقة، أي العقل في حيزه النظري، العقل المكون بحسبانه الآليات القبلية المنتجة للمعنى والحقيقة في الثقافة العربية الإسلامية، فإنّ ذلك قاد إلى حصر مفهوم العقل في حيزه المعرفي العالِم، دونما اهتمام بالجانب غير العالم من الثقافة العربية الإسلامية، تلك التي مثَّلت هوامش العقلانية وظلَّت خارجَ حسابات النصوص الرسمية المكتوبة. ويبدو أنَّ تصور أركون للعقل الإسلامي أتى لكي ينفتح على هذا الحيز اللامُفَكرِ فيه، بل وشكلت دعوته إلى دراسة العقل التشريعي في الإسلام مناسبة للتنبيه على خطورة هذه الهوامش وأهميتها بالنسبة إلى الباحث المعاصر[25]. سينصرف الجابري، في الجزأين الثالث والرابع من مشروعه إلى دراسة العقل العملي في الإسلام، في بعيده السياسي[26] والأخلاقي[27]، غير أنَّ ذلك لم يفض به إلى دراسة العقل التشريعي في حدّ ذاته، وظل حواره مع النصوص السياسية والأخلاقية الكبرى عبارة عن بحث عن محددات قبلية لهذا العقل العملي أو عن مرجعيات تفسر تشكل منظومات معيارية وجهت التصور العربي للأخلاق والقيم.
خلافاً لذلك يُسعفنا العقل الأشعري، كما صوره العلوي، بإمكانية لتجاوز هذه الصعوبات. فإلى أنَّ هذا العقل ‘‘يمثل الإرث العربي الإسلامي ويحضر بكل ما في جوفه من أوامر وقواعد وعقائد وقيمٍ في السلوك والعمل وتكون علم الفقه والسلوك والتاريخ الحديث، مما يؤسس ‘علم الخاصة’ ومادة معرفتها’’، فإنه يمثل ‘‘من جانب آخر، النسيج الثقافي المتعدد الألوان المزركش الحلل والثياب؛ فَعَبَرَ الهند، وأدب فارس، وحكم اليونان، وأصداء ثقافة أخرى بعيدة وراء ذلك’’[28]. يتعلق الأمر بعقل استطاع التبلور داخل السياق الثقافي للوعي الإسلامي الكلاسيكي، وتجاوز دائرة الثقافة العربية إلى دوائر الثقافة الإسلامية عامةً. لذلك يمكن الاتكاء على نموذج العقل الأشعري لتحليل العقل التراثي في شقيه النظري والعملي معاً. يقول العلوي في هذا السياق؛ ‘‘فأمَّا العقلُ، في اللحظة الأولى، فهو عملُ العقل وهو يشرِّعُ للأوليَّات والكليَّات من وجه أوَّلٍ، ثم وهو يشرع لذاته فيختبر قدراته وحدوده من وجه ثانٍ. وهو العقل وهو يؤسس للمعرفة قوانينها وينتج للقول شروطه ومكوناته، فهو إذن العقل المشرع الفاعل، وهو العقل وهو يتأسس ويُشكل ذاته في عملية تأسيس المعرفة ذاتها’’[29]. نحن، إذن، أمام فهم تشريعي للعقل حتى عندما ننظر إليه في بعده النظري الخالص، أي باعتباره قدرة على تحديد الكليات والأوليات الحاكمة لعملية إنتاج المعنى والحقيقة. فالفعل العقلي، هنا، هو التشريع ذاته. بيد أنّ فعل التشريع هذا يظلُّ فارغا من المعنى إن هو لم يتخذ من النص القرآني منطلقا ومادَّةً له، حيث يتلون العقل التشريعي بلون القراءة التي ينجزها للقرآن؛ ‘‘قراءة للقرآن بحسبانه كتاب شريعة أو قراءَة القرآن من حيثُ هو خطاب الشَّرْع إلى المكلفين (..) فالقراءتان اللتان يقوم بهما العقل الأشعري للقرآن قراءتان مُتكاملتا؛ قراءةُ القرآن باعتباره كتابا في العقيدة وقراءة القرآن بحسبانه كتاباً في الشريعة’’[30]. يمثل القرآن، في هذه الحالة، الموضوع الذي يصنع العقل ذاته من خلال التفكير فيه، فهو يتشكل عبرَ عملية قراءة النص القرآني، فيتخذ شكل قول في الأصول والفروع معاً؛ أصول تحدد مبادئ العقيدة ومنطلقات الشريعة، وفروع تجرى عليها تفاصيل الحياة العملية للإنسان المسلم، ‘‘وعمل العقل في هذه اللحظة الثانية –يقول العلوي– عمل تحقيق وإجراء من جهة، وعمل توظيف وتطبيق من جهة أخرى؛ تحقيق أصول المذهب، على نحو ما تقرّرت عليه في الكلام ثم في أصول الفقه، وإجراؤها في الفروع التي تكون عن تلك الأصول’’[31]. ليس العقل، وفق هذا المنظور، مجرد آليات نظرية قبلية لإنتاج الحقيقة والمعنى، وإنما له امتداداته العملية، المتعلقة بالفروع المنظمة لحياة الناس. بذلك يقترح العلوي الجمع في دراسته للخطاب الأشعري بين بعدي العقل؛ النظري والعملي. حيث ترجمَ تفكيره في العقل الأشعري وحدة مفهوم العقل عندما ربط أصوله بفروعه، لتنتقلَ بذلكَ من المقدمات النظرية الحاكمة للمنظور الأشعري إلى حيزه العملي، بجانبيه الأخلاقي والسياسي. ‘‘فهذا الوجودُ يدعو إلى العمل والسلوك، وهذه السياسة تدعوه إلى التدبر والتفكير حيناً قليلاً، وتدفعه أحياناً عديدة مُتصلة إلى التدبير والتشريع لما يلزم من أحكام الشرائع والأحكام’’[32]. وبمقدار ما يبدو توصيف العقل الأشعري من هذا المنظور أقرب إلى التصور الأركوني للعقل، خاصة وأن العلوي يربطه بالنص القرآني وقراءته أساساً، فإن ذلك لم يقده إلى الذهول عن أهمية اللغة العربي في تحديد طبيعة هذا العقل، ذلك أنَّ ‘‘الخطاب الأشعري هو خطاب تقديس اللغة العربية والإشادة بها، فهو يجد معناه ودلالته في معنى اللغة العربية ومبناها ويستمدُّ حقيقته من حقيقة بنائها وتركيبها’’[33]. بذلك يجمع العقل الأشعري بين البعدين الديني واللغوي، ويجسد تشكُّلُه مختلف مسارات الوعي الإسلامي بالعالم من خلال النص القرآني وقراءته عبر وساطة اللغة العربية.
ما يهمُّ العلوي من هذا التوصيف الدقيق لاشتغال العقل الأشعري وبيان التداخل القائم بين محدداته ومستوياته، هو بناء فهم لاستغال العقل الإسلامي العربي في شموليته وتداخل ميكانيزماته. لا شكَّ في أنَّ هذا المقصد يجر مقاربته، بشكلٍ من الأشكال، إلى التموقع داخلَ قراءة نقدية للتراث العربي الإسلامي كتلك التي تنتظم مشروع الجابري، خاصةً عندما نأخذ في الحسبان المكانة التي يشغلُها الخطابُ الأشعري في مشروع نقد العقل العربي، حيث اتكأ عليه الجابري لتفسير أسباب انحسار العقل والعقلانية في الثقافة العربية، جاعلا منه أحد أهم عوامل استقالة العقل وانحسار أفقه[34]. يحقُّ للقارئ في الخطاب الأشعري أن يرصد حضور مثل هذا الموقف المتشكك من العقل الأشعري في بعض مقاطعه؛ خاصَّة في ما يتعلَّق بإشكالية العقل والنقل التي أقرَّ العلوي، في أعقاب تحليلها، بأنَّ ‘‘النقل هو الذي يعيِّن للعقل ماهيتَه وطبيعته ويعيِّن له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإنَّ شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتمُّ به’’[35]. بيد أنّ هذا التشخيص لا يعني الحكم على العقل الأشعري بالجمود والعقم. لذلك كان على العلوي أن يبرز بعض تجليات دينامية العقل الأشعري من طريق تناول مبادئه وأصوله المركزية والكشف عن كيفيات إعمالها في فهم أسئلة الواقع، كما هو الشأن بالنسبة إلى مبدا التجويز. كما كان عليه أنْ يُراجع موقف ابن رشد من الأشعرية، خاصة وأنه موقف اعتمد عليه الجابري في بناء تصوره لدور الأشعرية في التاريخ الفكري والثقافي العربي[36].
قاد النقد الرشدي للأشعرية وطريقتها إلى الحكم عليها بالخروج عن ‘‘قصد الشرع فضلا عن أن طريقتها في النظر هي دونَ تدقيق العلماء من جهة أولى، وهي ما لا يمكن أن ترقى إليه أفهام الدهماء من جهة أخرى. وبالتالي فطريقة الأشعَرية تقع خارج الدوائر كلها؛ دائرة الشرع، دائرة العلماء، دائرة الجمهور والعامة، وهي تتيه في مدار تلحقه كل نعوت الضعف والقصور، ومنها تكونُ أقوال هي في غاية الخلط والتهافت’’[37]. يتساءل العلوي؛ ‘‘هل أدرك أبو الوليد بن رشد كل الأبعاد التي تحكم الخطاب الأشعري وتبين فيه الجوانب كافةً التي تشكله فيما كان هو ذاته منشغلاً بتأسيس نظره الخاص به في العقيدة ومنصرفا إلى التقعيد له؟’’[38]. ويبدو أن غرضه من هذا السؤال التشكيك في الصورة التي كرسها دعاة البرهان، مثل الجابري، القائمة على الفصل المطلق بين الخطاب الأشعري والرؤية الرشدية. لا يمكن الاطمئنان، في نظر العلوي، إلى ‘‘التعارض بين ‘الرُؤْيَتَيْن’ الأشعرية والرشدية في جوانبها كافةً’’[39]، وهو يسوق من المتن الرشدي ما يقيم به الدليل على إدراك ابن رشد مدى إفادة الأشعرية من المنطق الأرسطي ولإمكانية توظيفها في خدمة ‘‘القصة الرشدية’’ ودعمها. وهذا ما يعني أنَّ قراءته لا تسير في اتجاه إرجاع سبب انهيار العقلانية الرشدية إلى انتصار الأشعرية وفشوها في الثقافة العربية الإسلامية. علاوة على ذلك، بيّن العلوي أن التحمس للمنطق الأرسطي والصدور عنه في التفكير في الأسئلة الكلامية الكبرى، كسؤال الحرية، والإرادة، والخلق، والصنع، والحسن والقبح، جعل الموقف البرهاني مع ابن رشد غير مدركٍ لأهمية ‘‘مبدإ التجويز’’ الذي يعتبر القلب النابض للعقل الأشعري، وقد كان له الدور الفاصل في تنظيره السياسي مع كبار فقهائها السياسيين، كالماوردي، والجويني. بل إنَّ تغييب البعد السياسي في الخطاب الأشعري، ممثلا في الصراع مع الباطنية خاصةً، جعل ابن رشد غير مدرك لمضمونه الإيديولوجي الذي ظل في خانة ‘‘اللامفكر فيه’’ النسبة إليه حسب العلوي[40].
ليس غرضنا، هنا، عرض تفاصيل دراسة العلوي للخطاب الأشعري ولنموذج العقلانية المنتظم له، وإنما التشديد على انفلات دراسته تلك من قبضة الرؤية التي كرَّسَها الجابري عن الأشعرية عموماً، دون الانجرار إلى دفاعٍ عنها يفقد تحليله صفة الرؤية الأكاديمية الرصينة. وإذا كان هذا الانفلات واضحاً في مراجعته للعقل الأشعري في جانيه النظري، فإنه يبدو أوضح في قراءة العلوي للجانب العملي من هذا العقل، خاصة في حيزه السياسي مع الماوردي.
ثالثاً؛ الماوردي كمدخل إلى تفكيك العقل السياسي الإسلامي العربي.
رغم غزارة الأعمال التي اهتمت بالتراث السياسي الإسلامي في مرحلة المشاريع النقدية للتُراث، فإنَّ قلة منها هي التي انتبهت إلى أهمية الخطاب الفقهي السياسي ومكانته في منظومة العقل السياسي الإسلامي الكلاسيكي. بل وقد رسخ بعضُ تلكَ المشاريع أحكاما سلبية عن القول الفقهي، جعلت كثيرا من الباحثين يُعرضون عن الاهتمام به ويوثرون، في مقابل ذلك، الانشغال بالقول الفلسفيِّ السياسي[41]، كما بالخطاب السلطاني[42]، بحسبانهما النموذج الأمثل للخطاب السياسي في التراث الإسلامي. كان حكم الجابري على الفقه السياسي في جملة الأسباب التي كرَّست هذا الموقف السلبيَّ من تراث الفقه السياسي، حيث لم يرَ فيه غير تلخيص لنظرية الإمامة كما قدمها المتكلمون في كتاباتهم، وتجريداً لأحكامها في صورة نسقٍ تشريعي[43]. الأمر الذي رسَّخ، في الأوساط الأكاديمية، خلطاً بين ‘‘النظرية الكلامية’’ في الإمامة والخلافة، و‘‘النظرية الفقهية’’ التي ظلَّت الحاجة قائمة إلى إعادة الاعتبار إليها. زادَ هذا الموْقِفَ السلبيَّ حدَّةً اعتقادُ بعضِ الباحثين، لاسيما من المستشرقين، أنَّ الفقه السياسي ليس أكثر من فكرٍ ديني يحاول ابتلاع السياسة، فرأوا فيه ترجمةً لنظرية دينية في السياسة تتأسس على فكرة الحق الإلهي[44] التي عملت الحداثة السياسية على القطع معها وتجاوزها، ذاهلين بذلك عن خصوصية هذا الفقه وقدرته على الوعي بالطبيعة التقنية للسياسة والتدبير. وعندما يتعلَّق الأمر بالعقيدة الأشعرية، فإنَّ صلتها بالتنظير السياسي تبقى على قدر كبير من الأهمية في نظر العلوي، فهي ‘‘تجد في المجال السياسي ما افتقدته في غيره من المجالات الأخرى. فحيث رأينا (..) أنَّ لعبة الاجتهاد والترجيح تصل حداً من النظر والإمكان لا يمكنها فيه أن تخطوَ خطوات أخرى على درب النظر الأصولي المجرد، فنحن نجد أنَّ مفهوم ‘المصلحة’ من جهة أولى، ومفهوم ‘العلَّة’ من جهة ثانية يجدان في التشريع العملي مبجأً وملاذاً يحتميان به ويتنفسان في مناخه’’[45]. بذلك يشكل المجال السياسي الأرضية التي صار فيها اجتهاد العقل الأشعري أمرا ممكناً بعد أن استنفذ جلّ إمكانيات تطوره النظري على المستوى النظري والأصولي، وكأنَّ الانفتاح على السياسة وأسئلتها لم يكن مجرد اختيار بالنسبة إلى العقل الأشعري، وإنما كان ضرورة فرضها اكتمال نسقه النظري وحاجته إلى الانفتاح على أرضية أخرى تجعل من تطوره أمراً ممكناً. ما الذي يعنيه الذهول عن خطاب الفقه السياسي في هذه الحالة؟ ألا يعني ذلك الغفلة عن أهم مكون من مكونات الخطاب السياسي الإسلامي الكلاسيكي؟ ألا يقود ذلك إلى رسم صورة باهتة، بل ومغلوطة كذلك، عن العقل السياسي الإسلامي؟
أراد العلوي لكتابه دولة الخلافة أن يكونَ دراسةً في التفكير السياسي عند الماوردي. وهو بذلك يعلن عن انفتاح البحث الفلسفي في المغرب على القول الفقهي السياسي في الإسلام، الأمر الذي جعل من عمله ذاك يتَّخذ شكل ردّ فعل مبكر على المواقف السلبية التي كرسها بعض الباحثين من الفقه السياسي، ليشكل بذلك مناسبة للتنبيه على أهمية هذا الخطاب في تحليل مكونات العقل السياسي التراثي. لم يأت الكتاب في صورة تلخيص لآراء الماوردي السياسية وأحكامه التي يعج بها كتابُ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، فذاك عمل أقدم بعض الدارسين على إنجازه، خاصة وأن هذا الكتاب أثار انتباه المتخصصين في الدراسات القانونية والتاريخية، فكان له حظه من العناية التي تجلت في تلخيص أحكامه التشريعية من جهة، والاهتداء بمواقفه في تحليل الوضع السياسي للدولة العباسية في زمان الماوردي من جهة ثانية. ما يرمي إليه العلوي من دراسة الماوردي عامة، وكتابه الأحكام السلطانية خاصة، هو الوقوف على مفعول الفقه السياسي ومنطقه التشريعي في بلورة مقولات العقل السياسي التراثي، بل وإظهار أهمية هذا الخطاب الذي يضارع، بل ويتجاوز من حيث مفعوله التسويغي ودوره التشريعي، الخطاب الفلسفي والقول السلطاني في التراث السياسي الإسلامي[46]. لذلك لم يكن السؤال الموجه لقراءة العلوي للماوردي هو؛ ‘‘ما الذي قاله الماوردي عن الدولة؟’’ وإنما ؛ ‘‘كيف نفهم تصور الماوردي الفقهي للدولة؟’’. يوسع هذا السؤال الباب أمامَ بناء فهم معقول لمكانة الخطاب الفقهي في السياسة، ويمكن القول إن العلوي أرسى دعائم قراءته للماوردي على ربطه، أولا، بالخطاب الأشعري في كليته، ثم قراءته على ضوء وضعه التاريخي ثانياً، والبحث، في لحظة ثالثةٍ، عن وحدة متنه على ضوء مشروعه السياسي النابع من ذلك الوضع. وفي ما يلي بيانُ ذلك.
- أ- يمثِّل خطابُ الماوَردي خير ترجمةٍ للرؤية السياسية والأخلاقية للخطاب الأشعري، والقارئ في متن هذا الفقيه يُدرك أنَّ الأمر يتعلَّقُ بشخصية استطاعت الجمْع بين التبحُّر المعرفيِّ والخبرة السياسية، وأنَّ تنظيرَه لدولة الخلافة، كما صاغَه في كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية، كانَ مُحاولة لإخراج مؤسسة الخلافة من أزمتها الناجمة عن تصاعُدِ الدُول السلطانية وتغلُّبها على الخليفة الذي طال الوهنُ سلطانه كما تذْكر ذلك كتب التاريخ بدقة. ورغم وعْيِه بأنَّ تنظير الماوردي، في الأحكام السلطانية، ما كانَ تنظيرا للدولة الإسلامية بإطلاق، بقدر ما ارتبطَ بتلكَ الأزمة حصراً [47]، فإنَّ تحليلَ العلوي لخطاب الماوردي انتهى إلى الكشف عن دينامية العقل الفقهي في مجالِ السياسة، وقدرته على توظيف آليات النظر الاشعري، كما تقرَّرَتْ في أُصولِ المذهب، في جبه إعضالات الراهن السياسي. بذلك يقترح العلوي قراءةً للفقه السياسي تتيحُ مراجعة ما قيلَ عن العقْل الإسلاميِّ العربيِّ من نزوع إلى الجمود والتعالي واللاتاريخية[48].لم يكن الماوردي فقهياً منغلقاً في اجتهاداته على مذهبه الشافعي، والعلوي يسجِّل أنه كان ‘‘يخرج سريعاً عن شافعيته في كلِّ مرَّةٍ لا يسعفه فيها المذهبُ بما يدعم وجهة نظر شخصية، مستقلة، يدافع عنها’’[49]. يعني هذا الأمر أننا أمام عقلٍ فقهيٍ مَرِنٍ ومُنفَتِحٍ على أكثر من مذهب، بما يستَلزِمهُ ذلك من اعتبارٍ للمصلحة في استنباط مختلف الأحْكام. لا مرية في أنَّ طبيعةَ المجال السياسي جرّت العقل الأشعريَّ إلى الانفتاحِ أكثرَ فأكثر على دوائر فقهية مغايرة له، وهذا ما يتبدى بوضوح في تنظيرات الماوردي، ومن بعده الجويني والغزالي، طالما أنَّ السياسة هي مجال الطوارئ (على حدّ تعبير الجويني). لذلك كان الماوردي بحاجة إلى مبدإ التجويز الأشعري لمواجهة كثير من الإعضالات التي يطرحها وضْعُه السياسي، من قبيل مشكلة مشروعية ‘‘إمارة المستولي المتغلب’’، ومشكلة الإقطاع وأحكام الخراج والحسبة..الخ، حيث لا ينفع، كثيراً، الذود عن المذهب والتعصب له، ولا الاكتفاء بالتمسك بحكم شرعي تجاوزه الواقع وفارقه، وإنما ينبغي التفكير في حلٍ ثالث يستوعب فرادة الأحداث السياسية ويخرجها من الحظر إلى الجواز على حدّ تعبير هذا الفقيه[50].
يضفي مبدأ التجويز قدراً كبيرا من المرونة على العقل الفقهي، ويجعله قادراً على استيعاب منطق السياسة ومقتضيات طوارئها، كما يتيح إمكانية استيعاب خصوصية الأسئلة الأخلاقية في ظلّ علاقتها بمشكلة القيم. لذلك لتا يتعلق الأمر بمبدإٍ قائم على ثنائية القيم، كالصدق والكذب، الخير والشرّ، والقُبْح والحسن ..الخ، بل إنه يمثل قيمة ثالثةً تمكن من استيعاب انفلات القضايا العملية من منطق الصدق وقيمه الثنائية. كانَ هذا المبدأ ضرورياً لنقل الإشكالية السياسية، إشكالية الخلافة والإمامة والحكم، من مستواها الكلامي والفلسفي إلى مستواها الفقهي التشريعي. وهنا يكمن الفرق الجوهري، في نظر العلوي، بين مقاربة الماوردي ومقاربة السابقين له من فلاسفة ومتكلمين للمشكلة السياسية. فلو أنه اكتفى بعرض آراء أهل الملة في الإمامة والدفاع عن موقف الأشاعرة منها لما أضاف أي جديد إلى ما ألفه المتكلمون في هذا الباب، مثل الباقلاني والبغدادي. بل إن قيمة إسهامه تتجلى في قدرته على نقل مشكلة الدولة والحكم إلى المستوى القانوني-التشريعي كما هو بيِّنٌ من كتاب الأحكام السلطانية، في خطوة ظلّ النسق الأشعري في مسيس الحاجة إليها حتى يتسنى له استيعاب المشكلة السياسة وتحويلها إلى فرع من فروع مذهبه. بذلك يشغلُ كتابهُ ذاكَ مكانةً فريدةً في منظومة التشريع السياسي الأشعرية، لأنه أسس لنموذج النسق القانوني للدولة من خلال تحديد نسق وظائفها السلطانية والدينية من خلال تحديد أحكام كل واحدة منها على مقتضى المذهب الشافعي الأشعري.
ليسَ كتاب دولة الخلافة مجرَّد عرضٍ لمواقف الماوردي أو تلخيصٍ لآرائه الواردة في كتاب الأحكام السلطانية. ولعلّ أوَّل ما يلفت انتباه القارئ فيه تأكيدُ صاحِبِه على ضرورَة عدم مُسايرة مَنهج كابته في فهمنا له وتبيننا لمقاصده البعيدة[51]. قد يعترِضُ البعض على مدى مشروعية هذه الخُطوة نظراً إلى التداخُل القائم، في ذهن الماوردي، بين مَنهجه في التشريع وموضوعه. غير أنَّ ما يبتغيه العلوي هو بناء فهم متكامل لهذا الكتاب وحفظ وحدته ونظامه في الآن ذاته[52]، وهذا ما يشي بوعيه بأنّ منطق التشريع وتفريعاته المنتظمة لكتاب الأحكام السلطانية ليس له إلاَّ أن يقودَ إلى الذهول عن وحدته ومقاصده السياسية والتشريعية في الآن ذاته، لتكون النتيجة ردّ هذا الكتاب، ومن خلاله نموذج التفكير الفقهي في السياسة، إلى النموذج الكلامي في الإمامة واختزال إشكاليته في إشكالية المتَكلِّمين[53]. ضداً على هذه القراءة، يقترحُ العلوي فهم كتاب الأحكام السلطانية انطلاقاً من مَفهوم الولاية ومستوياته التي تحضر في مختلف تفاصيله. فمتى أخذنا بعين الاعتبار أنَّ الغرض الأبعدَ من الخلافة هو تحقيق ‘‘خلافة النُبوَّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا’’[54]، أدركنا أنّ ثمة وحدة تنتظم أشكال الولايات التي يحدد الماوردي أحكامها في كتابه، وأمكننا، بالتالي، تعقُّبُ وحْدَة رؤيته إلى الدولة وبنائها على ضوء تصوره لأنواع الولاية. فقد ميَّز الفقيه الشافعيُّ في هذه الأخيرة بين صنوف ثلاثة؛ ولايةٌ دينيةٌ خالصة (كالولاية على الصلاة والجمع والصدقات)، وولايةٌ سياسيةٌ خالصة (كالإمارة على الجند)، وولاية يتَداخَلُ فيها الدينيُّ والسياسيُّ (كالولاية على الحسبة). ورغم التمايز القائم بين هذه الولايات، غير أن ثمة وحدة تجمع بينها، ويحقّ للباحث أن يهتدي بهذا التصنيف لفهم طبيعة الدولة في الإسلام من منظور فقهي معياري. يمكن أن نقرأ في موقف العلوي من تصنيف الماوردي لأنواع الولاية اقتناعاً بالتقاطع الموجود بين السياسي والديني في نسقه الفقهي، إذ الحال أنه لا يمكن أن ندعي القدرة على الفصل بين الديني والسياسي في تشريعات هذا الفقيه، رغم أنه كان على وعي بالتمايز الفاصل بين أحكام الدين وأحكام سياسة الدنيا. لذلك ليس المهم، هنا، البحث عن مظاهر هذا الوعي عند الماوردي، وإنما رصد وحدة فكرة النابعة من وحدة رؤيته التشريعية.
- ب- إضافة إلى هذه الخطوة المنهجية، يصدر العلوي عن منظورٍ يحدد معالمَ قراءته لفكر الماوردي؛ وصل الأحكام السلطانية بالمشروع السياسي الذي انخرط في إنجاحه من موقعه كفقيه ومنظر لدولة الخلافة[55]، أي قراءة ذلك الكتاب بحسبانه الإطار النظري لمشروع إصلاح الخلافة وإنقاذها من الانهيار والضعف. هناك، إذن، قضية يدافع عنها الماوردي وتحدِّد أفق اشتغاله كفقيه ومشرع ومنظر سياسي، وهي القضية عينها التي تجعل خطابه متميّزا عن خطاب المتكلمين السابقين له. صحيح أنَّ النظرية السياسية الأشعرية تدين بالكثير لمتكلم مثل البغدادي أو الباقلاني، غير أنَّه لا أحد منهما ‘‘‘يجعلنا نخرجُ بنظرية متكاملة لا حول طبيعة التنظيم السياسي في الإسلام، ولا حول طبيعة الدولة كوجود سياسي يكون لأهل السنة والجماعة الانضواء تحت لوائه والتمكن من التجسيد الفعلي للمبادئ التي يدعون إليها’’[56]. انتبه الماوردي، بحكم اطلاعه على تاريخ الإسلام كما على تاريخ الحضارات الكبرى التي كانت تمثل أفقه التاريخي المتاح، إلى أنّ الوضع الذي تعيشه الخلافة لا يمكن حله بمنطق السجال الكلامي، وأنَّه يستلزم النهوض بمهمة أكبر من ذلك بكثير؛ بناء نسق تشريعي يُعيد الاعتبار إلى الخلافة ومؤسستها رغم أن الواقع يسير في اتجاه تكريس ضعفها وتفتُّت سُلطتها بسبب استيلاء المتغلبين على الحكم. يقترح الماوردي نوعاً من تقْسِيم السلطة بين الخليفة المتغلِّب؛ وهذا الحلُّ، وإنْ بدا غيرَ كافٍ بالنسبة إلى المؤرخ، فإنه كان يعني الكثير من منظور الخليفة والفقيه في ذلك الحين، لأنه يُبقي على السلطة الرمزية للخليفة ويقيم علاقة هدنة مع المستولين على السلطة، فيضفي المشروعية على سلطة الخليفة والمتغلب معاً. كما أنّ قيمة هذا المقترح تتجلى، أكثر، عندما نربطها بالمشروع السني القادري الذي رام إعادة بناء وحدة الخلافة بما استلزمه ذلك من توحيد العقيدة والسلطة السياسية معاً. بذلك يكون الوعي بالمأزق السياسي قد حمل الماوردي على الزجِّ بالفكر الأشعري في وضعه التاريخي، فـ ‘‘كتابة أبي الحسن الماوردي السياسية- يقول العلوي– بل وتشريعاته كُلّها، هي بالضبط من هذا النوع الذي لا تستطيع أن تتبين دلالته ولا أن تكشف عن مراميه البعيدة دون استحضار دائم للتاريخ الإسلامي في عموميته، وتاريخ المرحلة التي كتب الفقيه فيها في خصوصيته’’[57].
- ج- بنى العلوي قراءته للماوَردي، إضافةً إلى ما تقدم، على استثمار نص نصيحة الملوك. لم يكن هذا النص متاحاً للباحثين السابقين له، وقد وجد فيه العلوي خير دليل على فرادة خطاب الماوردي وقدرة الخطاب السياسي الأشعري على الانفتاح على أدب النصيحة السياسية الذي اصطبغ، في هذه الحالة، ببعض ملامح الرؤية الفقهية ومعياريتها. لذلك وجب التميز بين نصيحة الملوك التي صارت، منذ كتابات سالم وعبد الحميد الكاتب وابن المقفع، تقليدا راسخاً في الكتابة السياسة داخل الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وبين نصيحة الماوردي التي تتصل، بشدة، بالمشروع السياسي لهذا الفقيه. يقول العلوي في هذا المعرض؛ ‘‘لا يريد الماوردي منا أنْ نعتبرَ مؤلفه كتاباً في آداب الجلوس والأكل والركوب (..) النصيحة عنده برنامج قوي صارم في نظام الممالك وأحوالها، وهي ليست ترفاً فكريا يمارسه الفقيه في ساعات فراغه يقدمه تزلفاً للخليفة بدعوى النصيحة الواجبة للملوك. النصيحة نقد لاذِعٌ قاسٍ، ولكنَّه بالمقابل نقدٌ يحمل البديل في طيّاته’’[58]. ينبهنا هذا القول إلى مسألتين اثنتين على قدر كبير من الأهمية؛ أولاهما أنَّ كتاب نصيحة الملوك ليس مجرد استنساخ لكتب النصيحة التي كانت الثقافة العربية الإسلامية تعجّ بها في ذلك الحين، كما هو بين من انتشار كتاب التاج المنسوب، خطأ، إلى الجاحظ. لذلك لا ينبغي أن نقرأ الكتاب ذاك بحسبانه عنوانا لخطاب موازٍ لخطاب الفقه السياسي داخل متن الماوردي، بقدر ما ينبغي البحث عن وحدة الخطابيْن معاً في إطار مشروعه السياسي. وثانيتهما أنَّ الماوردي يعمل أدب النصيحة في سياق تقديم مشروع بديل، الأمر الذي يعني أنه يتوسل به في بناء مشروعه السياسي، وعيا منه بأزمة الخطاب الفقهي التشريعي وحاجة الفكر السياسي إلى نمط من القول السياسي يكون أقدر على استيعاب مستجدات إشكاليته السياسية. والحالُ أنَّ الماوردي استطاع، بانفتاحه على أدب النصيحة ذي الأصول الفارسية، أن يواجه نموذج المشروعية السياسية التي يروج لها هذا النمط من الكتابة السياسية، وهي المشروعية الطبيعية التي تجعل من الحاكم منبع السلطة وتقيم هذه على مبدإ التدافع الطبيعي بين البشر[59]. لذلك كان الخوض في مغامرة النصيحة محاولة لتطعيمِ هذا الخطاب بنفَسِ الفقه ومعياريته كما تبدى في تصوُّر الماوردي للعدل الذي صاغه في نصيحة الملوك، كما في قوانين الوزارة وسياسة الملك، وتسهيل النظر وتعجيل الظفر. علاوة على ذلك، يقرأ الماوَردي مشكلته السياسية في كتاب النصيحة على ضوء التاريخ المتاح له؛ تاريخ الفرس والروم والممالك السابقة، وهو ما يمثل مرجعية أخرى للمشروعية غير المرجعية الإسلامية (الدينية) التي يقترحها كتاب الأحكام السلطانية، وهذا ما فتح الباب أمام الكشف عن الجانب التقني في السياسة؛ حيث تحضر السياسة في النصيحة بحسبانها تقنية تدبير أكثر مما هي جملة أحكام شرعية. لذلك يمكن الحديث عن ‘‘علاقة وطيدة بين نظرية الخلافة وبين هذه التقنيات المختلفة لمؤسسات الدولة الإسلامية’’[60]. نعتقد أنَّ هذه النتيجة مهمة جداً، لأنها نبّهت الباحثين إلى وجود مستويات في النظرية السياسية الفقهية عند الماوردي؛ فهذه النظرية ليست حزمة أحكام شرعية استنبطها العقل الفقهي السياسي الشافعي في ظل عقيدة أشعرية، وإنما تجد امتداداتها في لعبة التدبير التي لم تترك التنظير لها حكرا على الخطاب السلطاني، وإنما حاول جرها إلى دائرة الرؤية المعيارية الحاكمة للقول الفقهي كذلك.
خاتمة
لم تكن الغاية من هذا المقال تلخيص ما ألَّفه سعيد بنسعيد العلوي في موضوع الفكر السياسي الإسلامي، وإنما التفكير في نموذج المقاربة الفلسفية التي تقترحها أعماله على الباحثين في التراث السياسي العربي، في محاولة لبيان مظاهر جدتها، والأفق الذي تشقُّه أمام الدراسات الفلسفية في السياق العربي المعاصر. لذلك شددنا على خصوصية الممارسة الفلسفية في خطاب العلوي، وأكدنا على أنَّ الأمر لا يتعلق باختيار فرضته طبيعة المسار الأكاديمي لهذا المفكر فقط، وإنما بوعي بإمكانية وصل الفلسفة بالراهن العربي وأسئلته الحارقة، والزجّ بها في مدارات الإصلاح ورهاناته. من المؤكّد أنَّ العلوي لا يمثل استثناءً في هذا الباب، فقد مارس مفكرون آخرون الفلسفة على ضوء هذا الرهان، ووفق هذا النمط، كالعرْوي، والجابري، وأركون، وفهمي جدعان، ورضوان السيّد، وعبد الإله بلقزيز، لنكون بذلك أمام نموذج في التفكير الفلسفي مغاير للنموذج الذي يحصرهُ في الانتظام في تاريخ النظريات الفلسفية والانخراط في التفكير في أسئلتها الكبرى الذي فرض نفسه على الفكر الفلسفي العربي المعاصر. امتاز متن العلوي بهاجسه الإصلاحي، وذهبَ بعيداً في ربط هذا الهاجس بالتراث الإسلامي ودراسته، فصار تفكيك العقل التراثي شرطا لا محيد عنه لفهم فكرة الإصلاح وتبين آفاقها في السياق العربي. يقترح العلوي التركيز أكثر على المتن الفقهي السياسي، وارتفاع بهذا الأخير إلى مستوى القول المحدد لملامح العقل السياسي الإسلامي العربي، وهو الأمر الذي حمله على الانسلال من قبضة القراءات المعاصرة لهذا العقل، وتقديم رؤية جمعت بين أسئلة التراث والإصلاح والتحديث. يمكن أن نختلف مع العلوي في تفاصيل دراسته لهذا المفكر أو ذاك، ويمكن أن نعترض على اختياراته المتعلقة بنماذج فكرية من التراث والفكر الحديث، بيد أن ذلك لا يمسُّ في شيء قيمة مجهوده الذي قدمه خدمة للفكر العربي وقضاياه. بل يمكن أن نسجل، في الأخير، أنَّ الفلسفة المغربي- والعربية عامةً- ما تزالُ مدعوة إلى الإفادة من النموذج الفكري الذي يقترحه خطاب العلوي، لاسيما في ما يتعلَّق بالانفتاح على التراث القانوني والتشريعي، لما يمثله ذلك من خطوة لا بديل عنها لتطوير الفلسفة السياسية وفلسفة القانون في العالم العربي الإسلامي اليوم.
[1] – سعيد بنسعيد العلوي، دولة الإسلام السياسي (وهم الدولة الإسلامية)، بيروت؛ مؤمنون بلا حدود، 2017.
[2] – J, Dewey, reconstruction en philosophie, Paris, Gallimard, p. 44.
[3] – العروي، العرب والفكر التاريخي، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1998، ص. 61.
[4] – سعيد بنسعيد العلوي، دولة الخلافة؛ دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي، الرباط؛ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، 2010، ص. 13.
[5] – المصدر نفسه، ص. 13.
[6] – M, Foucault, Qu’est ce que la critique ? (suivi de La culture de Soi), Paris, Vrin, 1978, p.40.
[7] – استعمل العروي هذه العبارة للحكم على التراث العربي الإسلامي في كتابه العرب والفكر التاريخي. انظر؛ عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص. 61.
[8] – العلوي، دولة الخلافة، ص.16.
[9] – سعيد بنسعيد العلوي، الخطاب الأشعري؛ مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، بيروت؛ منتدى المعارف، 2010، ص. 295.
[10] – العلوي، دولة الخلافة، ص. 13.
[11] – ابن خلدون، المقدمة، بيروت؛ دار الكتب العلمية، 1993، ص. 123.
[12] – عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2014، ص. 318.
[13] – سعيد بنسعيد العلوي، الإيديولوجيا والحداثة؛ قراءات في الفكر العربي المعاصر، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، 1987، ص. 11.
[14] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 293.
[15] – M. Foucault, Sécurité, Territoire, Population ; cours au collège de France, 1977-1978. Paris, Gallimard, Seuil, 2004, p. 5.
[16] – علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2011، ص. 136.
[17] – عبد الإله بلقزيز، السلطة في الإسلام،؛ نظرة مقارنة باليهودية والمسيحية، بيروت؛ منتدى المعارف، 2023، ص. 159.
[18] – العلوي، دولة الخلافة، ص. 14.
[19] – انظر حول التلقي المغربي للحداثة؛ محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، الدار البيضاء؛ دار توبقال للنشر، 2007، ص.91
[20] – الحجوي، الرحلة الوجدية، ص. 18 (ذكره العلوي، الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر، بيروت؛ دار المدار الإسلامي، 2007، ص. 31)
[21] – يقول الحجوي؛ ‘‘والنظام الذي أسسته الدول العصرية، وسرى مفعوله في العالم، وسمعته حتى حيتان البحر وطيور الجو وأسد الآجام وتشوقت إليه، لا وجود له، ولم تتوافر في المغرب أسبابه ومعدتاه’’ الحجوي، ذكره العلوي في؛ الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر، ص. 21.
[22] – حول مفهوم الأزمة في الفلسفة المعاصرة انظر؛ فتحي المسكيني، براقع التنين، القاهرة؛ مؤسسة هنداوي، 2023، ص. 42.
[23] – العلوي، الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر، ص. 28.
[24] – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة، 1993، ص. 26.
[25] – M, Arkoun, La question éthique et juridique dans la pensée islamique, Paris, vrin, 2010, p. 132.
[26] – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي؛ محدداته وتجلياته، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة السادسة، 2007، ص. 363.
[27] – الجابري، العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص.132.
[28] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 21.
[29] – ، المصدر نفسه، ص. 19.
[30] – المصدر نفسه، ص. 20.
[31] – المصدر نفسه، ص. 21.
[32] – الصفحة نفسها.
[33] – المصدر نفسه، ص. 293-294.
[34] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1991، ص. 186
[35] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 292.
[36] – انظر مقدمة الجابري لكتاب؛ ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص. 28.
[37] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 300.
[38] – المصدر نفسه، ص. 303.
[39] – الصفحة نفسها.
[40] – المصدرُ نفسه، ص. 304.
[41] – عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، بيروت؛ دار الطليعة، الطبعة الرابعة،1997.
[42] – كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد؛ قراءة في نظام الآداب السلطانية، بيروت؛ دار الطليعة، 1999. انظر أيضا؛ عز الدين العلام، الآداب السلطانية؛ دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، الكوييت؛ سلسلة عالم المعرفة، عدد324، فبراير 2006.
[43] – يقول الجابري؛ ‘‘…أجل لقد خصص الماوردي الباب الأول من كتابه لـ ‘عقد الإمامة’ (..)، غير أنَّ ما ذكره في هذا الباب لا يعدو أن يكون تلخيصاً مركزاً لما كتبه الباقلاني والبغدادي في موضوع إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ..ردا على رفض الشيعة. كل ما فعله الماوردي، إذن، أنه انتزع آراء هذين المتكلمين الأشعريين من إطارهما في ‘علم الكلام’ فحررها من طابعها السجالي ‘الكلامي’ وصاغَها صياغة تقريرية على طريقة الفقهاء’’. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي؛ محدداته وتجلياته، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة السادسة، 2007، ص. 359-360.
[44] – Bertrand Badie, Les deux Etats, Pouvoir et société en occident et en terre d’Islam, Paris, Seuil, 1997, p.42
[45] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 289.
[46] – بلقزيز، السلطة في الإسلام، ص. 200.
[47] – العلوي، الخطاب الأشعري، ص. 276.
[48] – M, Arkoun, Pour une critique de la raison islamique, Paris, Edition Maisseuve, 1984 p. 50.
[49] – العلوي، دولة الخلافة، ص. 41.
[50] – الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص. 5.
[51] – المصدر نفسه، ص. 24.
[52] – المصدر نفسه، ص. 25.
[53] – الجابري، العقل السياسي العربي، ص. 360.
[54] – الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت؛ دار الكتب العلمية، ص. 5.
[55] – العلوي، دولة الخلافة، ص. 32.
[56] – المصدر نفسه، ص. 36.
[57] – المصدر نفسه، ص. 16.
[58] – المصدر نفسه، ص. 42.
[59] – Makram Abbés, Islam et politique à l’âge classique, Paris, PUF, 2009, p. 47.
[60] – المصدر نفسه، ص. 186.