هل كان الدّين بمعزل عن الشعر: الجزء الثاني

تكوين

أبنّا في مقالنا السابق: هل كان الدّين بمعزل عن الشعر(1) عن جملة من الظواهر التي تقصّدت تحريف الشعر والتدخّل في سير الشعراء مراعاة للإسلام وممثليه، ونودّ أن نواصل في السياق ذاته من خلال التركيز على ظاهرة وجّهت عملية نقل الشعر العربي القديم ونقده هي ظاهرة إغفال الشعر الدّيني الجاهلي.

لقد استقرّ عند السواد الأكثر من الباحثين أنّ للشعر أغراضه، وللقرآن أغراضه: هذا يحدّث عن الدنيا وأحداثها، وذاك يخبر عن الآخرة ومآلاتها، هذا يكرع من لذّاتها وذاك يحذّر من غواياتها. واستقرّ عندهم ايضا أنّ للشعر لغته وأساليبه ومبانيه المخصوصة، وأنّ للقرآن معجمه وتركيبه وإيقاعه المخصوص. بيد أنّ التفطّن إلى ثراء الحياة الجاهلية الدينيّة من جهة عبادة الأصنام وانتشار الحنيفية والمسيحية واليهودية بين ظهراني العرب، وإلى مركزية الدّين عندهم من جهة ثانية، وهي مركزية جعلتهم يقْدمون على تهجير النبيّ وطرد أتباعه، والانتباه إلى انتصاب الشعر ديوانا يقيّدون فيه أحوالهم الدقيقة والجليلة من جهة ثالثة، هي أمور تنبّهنا إلى شيوع الشعر الديني في الجاهليّة، بل إلى غلبته على سائر أغراض الشعر. ومن الطبيعيّ أن يخرج كتَبَة عصر التدوين الشعر الدينيّ في صورة الغرض الهامشيّ في الشعر الجاهليّ: هو مجرّد أبيات متناثرة قالها هذا الفرد أو ذاك معربا عن حيرته في كنه الله، أو في ما بعد الحياة، أو في الخير والشرّ، أو في الحظّ ، أو في وصف طقس الحج، أو هو بيت ضمن قصيدة يورده الشاعر على سبيل التأثر بالعقائد المجاورة أو حتى على سبيل التشبيه: تشبيه الطلل بالوحي في الكتاب، تشبيه سهر العاشق بسهر الرهبان…ومن الأمثلة على ذلك قول زهير بن أبي سلمى:

 “فلا تكتمن الله ما في صدوركم     ليخفى ومهما يُكتم الله يعلـــم

يؤخّر فيوضعْ في كتاب فيدّخر     ليوم الحساب أو يُعجّل فَيُنْقــم”

وقول لبيد : ” وكلّ امرئ يوما سيعلم سعيُه      إذا كشفت عند الإله المحاصل”

وقول أوس بن حجر: “أطعنـا ربّنا وعصــاه قوم      فذقنـا طعم طاعتنا وذاقــوا “

وقد خلص باحث معاصر إلى القول عن قصائد الجاهليين “إنها تكشف عن انتشار التوحيد والاعتقاد بالله الذي يملك القدرة على كثير من أعمال البشر، وقد أكثر الشعراء من القسَم به، ومن ذكر أسمائه، ومنحه صفة الربوبية، لبيته تسير القوافل، وفي بيته تؤدّى مناسك الحج”[1]. لكن جميع ما تقدّم يظل في عرف القراءة من باب اللّمحة التي يأتي بها الشاعر وتجري على لسانه، وذلك لعدم اختصاص هؤلاء الشعراء في الشعر الديني. بيد أنّ طائفة من الشعراء انتموا إلى جماعة الحنفاء[2]، ومردّ تجربة الحنفاء إلى الخبر التالي: “قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده، وكان ذلك عيدا لهم في كلّ سنة يوما، فتخلّص منهم أربع نفر نجيّا، ثمّ قالوا بعضهم لبعض: تصادقوا وليكْتُم بعضكم على بعض. تعْلَموا والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع. يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا.”[3]  وتذكر المصادر رجالًا في القبائل اشتهروا بعيب الأصنام، وتحريم الميتة والخمر، والانقطاع للتحنّث. ومن هؤلاء الحنفاء ورقة بن نوفل، القائل: سبحان ذي العرش لا شيء يعادله رب البريّة فرد واحد صمد[4]، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، القائل: ترى الأبرار دارهم جنان وللكفّار حامية سعير[5]، ومنهم أميّة بن أبي الصّلت الثقفي، الذي كان ينتظر النبوة ويقرأ الكتب لكن هاتفا أعلمه بنبوة محمد فرفض الإيمان حسدا وغيرة حسب الرواة المسلمين.

أ- شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي:

أُثر عن النبيّ أنه كان يستنشد أصحابه شعر أميّة: “عن عمرو بن الشريد قال: كنت ردفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم.  قال: فأنشدني، فأنشدته بيتا فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتا: إيه، حتى أنشدته مائة بيت[6]، وفي الحديث أنّ النبي قال عن شعره: “كاد شعره أن يسلم“، وقال عنه الحجّاج: “ذهب الذين يعرفون شعر أمية“، وقال عنه الأصمعي: “لأميّة 300 قصيدة وله كتاب ، ذهب بعامّة ذكر الآخرة”[7]، ورفض ابن قتيبة الاستشهاد بشعره[8]. ويبدو لنا انّ إغفال شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي نموذج لإغفال الشعر الديني الجاهلي. فالأقدمون لم يجمعوا ديوانه!!!  والمحدثون نسبوا كلّ قصيدة تشابهت مع القرآن إلى الانتحال!!!

 لقد صوّر أمية في شعره الحشر والحساب والجنّة وثوابها وجهنّم وعذابها ،[9] فقال :

ويوم موعدهم أن يُحشروا زُمَرًا       يوم التغابن إذ لا ينفع  الحـذرُ

وأبرزوا بصعيد مُستوٍ جُــرُزٍ       وأنزل العرش والميزان والزُّبر

فمنهـم فــرِح راض بمبعثـه       وآخـــــــــــرون عصوا مأواهم سقـرُ

وقال:

إلــــه العالمين وكلّ أرض       وربُّ الرّاسيــــــات من الجبـال

بناها وابتنى سبعـــا شـدادا         بلا عَــــمَدٍ يُرَيْنَ  ولا رجـال

وسيق المجرمون وهم عراة       إلــــى ذات المقامع والنّكـال

وحلّ المتّقون بدار صـــدق       وعيش ناعم تحت الظّـلال

وقال:

جهنّم تلك لا تبقــــــــــــــــــي بغيّــا         وعدن لا يطالعها رجــــــــــــــــــيـــم

فذا عســـــــــــــــــل وذا لبـن وخمــر         وقمح في منابته صــــــــــــريـــم

وحور لا يرين الشّمس فيـها        على صور الدّمى فيها سهوم

فلا تدنـــــــــو جهنّـم مــن بريء        ولا عدن يحلّ بها الأثــــــــــــــــــــيم

وقد لخّص جواد علي شعر أميّة بن أبي الصّلت الثقفي تلخيصا جيّدا اعتمد فيه على عبارات الشّاعر نفسه، فقال: “يتلخّص ما جاء في شعر هذا الشّاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إله واحد، خلق الكون وسوّاه وعدّله. وأرسى الجبال على الأرض، وهو الذي يحيي ويميت ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم ليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنّة وفريق في النّار. يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنّكال مكبّلين بالسلاسل الطّويلة والأغلال، ثم يُلقى بهم في النّار يصلونها يوم الدّين…أما المتّقون فإنّهم بدار صدق ناعمون تحت الظّلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب، وتفّاح ورمّان وتين، وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهنّ سندس وجياد ريط وديباج، حلّوا بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدّع شاربيها، يلذّ بحسن ريّها النّديم….وفي هذا الشّعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصّة طوفانه وقصّة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد وقصّة إبراهيم وتقديم ابنه للذّبح وداود وفرعون وموسى….وفي أكثر موضوعات شعره تشابه كبير لما ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أميّة استخداما لألفاظ و تراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي”[10] .

يبدو أنّ التشابه بين شعر أمية وما ورد في القرآن الكريم كان السبب وراء إهمال شعر أمية، ناهيك أنّ أغلب نقَدة الشعر ونقَلَته كانوا من رجال الدين، شأن:

  • أبي عمرو بن العلاء تـــ154 هـ
  • محمّد بن سلام الجمحي تــ232 هــ
  • الجاحظ تـــ255هــ
  • ابن قتيبة تــ276 هــ.

لقد كان هؤلاء وأمثالهم محتاجين إلى إخراج عصر الجاهلية في صورة عصر الضلال العقائدي (الشرك)، فبدا لهم حينها أنّ شعر أمية لا يخدم هذا الغرض. ونحن نرى أن المؤسسة التعليمية اليوم لازالت تسير في الاتجاه نفسه، من خلال تهميشها لأمية بن أبي الصلت الثقفي وأمثاله من الشعراء. ولئن كان الطعن بالانتحال في شعر أمية أمرا ممكنا، فإنّ هذه التهمة تصح كذلك على غيره من الشعراء الدنيويين الجاهليين، فلم تم إغفال الشعر الديني وترويج الشعر الدنيوي؟ إن تهمة الانتحال تعود إلى التعويل في نقل الشعر الجاهلي على الرواية، وهو ما يسمح بالاختلاق والتزيّد والنقصان والتحريف. ولعل الذاكرة مهما كانت بريئة لا تبرأ من الانتحال، لأن ذلك من صميم بنية اشتغالها. لكن التعويل على النقائش كفيل بتجاوز تهمة الانتحال، وقد عثر الباحثون على نصّيْن شعريين منقوشين غرضهما ديني بحت.

ب- “ترنيمة الشمس” و”أنشودة إلى كهلان”[11]:

عثر الباحث زيد بن علي منان سنة 1952 على نقش “أنشودة إلى كهلان” في مأرب، وقد قرأها الأستاذ مطهر الأرياني وبيّن شعرية النص، بما أن مقدّمة النقش تتحدث عن سمّودة أي عن قصيدة أو أنشودة أو أغنية، وهي مهداة مع ثورين وأيل من الذهب إلى الإلاه المقه (الزهرة)، وهي منظومة على بحر الرجز، وتتكون من ستة مقاطع، يتألف كل مقطع من أربعة أشطر بروي مختلف عن روي ما سبقه وما لحقه، ويعود تاريخها إلى القرن الثالث ميلاديا (الق 3 م) ، ومما جاء فيها: ( المقطع 3)

كبلو ثوّان كهل

وكل أضررك حسل

خميسك امرأ ذلل

كل ذي عال وسفل”

وعثر الباحث يوسف محمد عبد الله على نقش “ترنيمة الشمسبوادي قانيه باليمن سنة 1977 ، وهي ترنيمة خطّت بالمسند، واحتوت على سبعة وعشرين بيتا، وقامت على قافية موحّدة، وجاءت على بحر الوافر، ويرجح أنها تعود إلى القرن الأول ميلاديا (الق1 م)، وهي ترنيمة للإلاه شمس، ومما جاء فيها: (ب13-16)

” والكرم صار خمرا لمّا أن سطعتِ

وللإبل المراعـــــــــــــــــــي الوافرة وسّعتِ

والشـــــــــــــــــــــــرع القويم صحيحا أبقيتِ

وكلّ مـــــــــــــــن يحفظ العهد أسعدتِ”

يثبت شكل نصّيْ النقيشتين ومضمونهما أننا إزاء نصّيْن شعريّين متمحّضيْن للغرض الديني، بل إنّ أحدهما ( أنشودة إلى كهلان) هو نفسه تقدمة/ هبة إلى الإلاه. ويجعلنا هذا الأمر نميل إلى القول إن الشعر قد يكون دينيّ المنشإ، مما يؤكد الصلة الوثيقة بين الشعر والدّين. ونحن نجد أن لفظة “ش ء ر” تعني في بعض اللغات السامية: “الترنيمة المقدسة“، وأنّ الشاعر يعني – حتى في العربية- العالم بما لا يعلم به غيره، المتصل بعالم الغيب، المثقل بالوحي الشعري. وما دامت العلاقة في الأديان القديمة وثيقة بين الدين وبين الغناء، وما دام الشعر العربي إنشادا[12]، فلا شك عندنا في أن الشعر العربي كانت له صلة وطيدة بالغرض الديني. وهي صلة عمل المسلمون في عصر التدوين على محوها.

 

الحواشي والمراجع:

[1]  – نوري حمودي القيسي: دراسات في الشّعر الجاهليّ، جامعة بغداد، 1972 ، ص 43

[2] -اختلف الدّارسون في معنى هذه الكلمة واشتقاقها: التحنّف والتحنّث ، فمنهم من ردّها إلى الخروج عن الحنث أي الإثم السّالف وتطهير النّفس منه، ومنهم من ردّها إلى العبرانيّة ” تحينوث” وتعني الاعتكاف والصّلاة إلى الله، ومنهم من ردّها إلى الأراميّة “حَناف” وتعني الصّابئة

[3] – ابن هشام:السيرة النبوية،ج1 ص160

[4] – الزبيري: نسب قريش ص 208 ، والأغاني ج3 ص115 مع تعديل طفيف

[5] – ابن هشام: السيرة النبوية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 2000 ، ج1 ص163

[6] -ابن كثير(ابو الفداء):السيرة النبوية من الطبقات الكبرى ،مج1 ص137

[7]– فحولة الشعراء، تحقيق ش. تورّي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط2 ، 1980 ، ص ص 17-18، وقد أحصينا في ديوان أمية بتحقيق الجبيلي 160 قصيدة، وفي تحقيق الحديثي 199 بين القصائد والمقطوعات والأبيات المفردة.

[8] – ابن قتيبة : الشعر والشعراء، ج1 ، ص455

[9] – راجع كامل ديوان أمية بن أبي الصلت الثقفي تجدْ قصصا دينيا ووعظا وتصويرا للثواب ونعمته وللعقاب ونقمته

[10] – المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6 ص ص 489-490. راجع كذلك أميّة بن أبي الصلت: الدّيوان، جمعه وحققه وشرحه سجيع جميل الجبيلي، دار صادر، بيروت ط1 .1988

[11] – انظر مقبل التام عامر الأحمدي: شعراء حمير، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 2010

[12] – لا يستخدم القدامى الفعل “قال” بل الفعل “أنشد” في التعبير عن أداء الشعر، وهو ما يبين أن الشعر غناء أو لا يكون.

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete