تكوين
على مدار قرون من تاريخ الفكر الإسلامي ظلت العلاقة بين اصطلاحي التفسير والتأويل علاقة إشكالية متوترة، وبقيت أرضية القاسم المفهومي ومساحة المشترك الاستعمالي بين الاصطلاحين المتعلقين بالتعاطي مع النص القرآني مساحة رمادية مُفعمة بالغموض والتداخل مع كثيرٍ من ظلال سوء الفهم وربما سوء النوايا المتبادل.
ففي حين يتمسك النقليون السلفيون والاتباعيون الأصوليون بمصطلح “التفسير” بوصفه الأداة النقلية الناظمة لانتقال فهم أسلاف العصور الأولى للقرآن إلى أبناء الأجيال المتأخرة مع إضفاء طابع القداسة وسمة الثوابتية عليه، يتشبثُ العقليون المجددون والمفكرون المُحدِّثون عبر العصور بمصطلح “التأويل” بوصفه الأداةَ القادرةَ على الهضم والاستيعاب والدمج المعرفي ما بين القديم والجديد أو التراثي والحديث في فهم الخطاب القرآني.
ولعل أخطر ما في تبنِّي ثنائية التفسير والتأويل بوصفها ثنائيةً شارحةً لطبيعة الجدل الديني والفكري واللاهوتي والفقهي والفلسفي، المُقترن بفهم معاني القرآن الكريم واستيعابها أو تفسيرها وتأويلها، كان تبنِّيها في سياق النزاع بين فرق ومذاهب إسلامية متصارعة في المستوى السياسي الأيديولوجي، دون القدر الكافي من المراجعة المعرفية والمساءلة الفكرية والنقد الذاتي، مما أدى إلى تغييب كثيرٍ من الحقائق المرتبطة، ليس بوَحدة الأصل الاصطلاحي بين التفسير والتأويل فقط، وإنما كذلك بوحدة المآل والمُؤدى المفهومي لكليهما.
وَحْدَةُ الأصل اللُّغوي والاستخدامي مع وَحْدَةِ المآل المفهومي والفكري لاصطلاحي التفسير والتأويل على طول خطوط صدع صراعي في تاريخ الفكر الديني هو ما يحاول هذا المقال أن يُلقي بعضًا من الضوء الكاشف عليه.
غموض التفرقة بين التفسير والتأويل
في آيات القرآن يردُ لفظ “تأويل” سبع عشرة مرة في حين لا ترد كلمة “تفسير” غير مرة واحدة، وهو ما يدل على أن كلمة تأويل كانت هي الأكثر شيوعًا في الاستخدام اللُّغوي بعامة وفي آيات القرآن بخاصة أكثر من كلمة تفسير، مع ذلك اتخذ المسار العام للتفرقة بين النشاط التأويلي والنشاط التفسيري لآيات القرآن وجهة عكسية تقريبًا للاستخدام القرآني، فجعل من التفسير نشاطًا قاعديًّا سابقًا في التعاطي مع القرآن على التأويل، في حين عُدَّ التأويل نشاطًا فرعيًّا لاحقًا على التفسير أو قائمًا على أساسه، وهو ما أوضحته تفرقة أبو منصور الماتُريدي التي ينقلها الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب “الإتقان” بالقول:
“التفسير: القطع على أن المراد على اللفظ (يقصد اللفظ القرآني) هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل (يقصد شاهدًا لُغويًّا أو نقليًّا) مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات دون القطع والشهادة على الله”.
والملحوظ في تفرقة الماتريدي أنها تتكئُ على اللفظ دون العبارة، وهو ما يُوهم بأن التفسير شأن لُغوي صِرْف، كما لو كان يتعلق بمرادف للكلمة، أو يتعلق بالإشارة إلى متعين خارجي محسوس للفظ، مما لا يُعدُّ أمرًا حقيقيًّا بالطبع، ذلك أن التفسير بطبيعته يتعدى الكلمة إلى العبارة، ويتجاوز اللفظ بمعناه الحرفي والجزئي المحدود إلى المعنى السياقي الكلي للنصوص، وهو ما يجعل التفسير متعديًا إلى حقل التأويل.
والتأويل –كما يعنيه الماتريدي– هو ترجيحُ أحد المُحتملات للمعني الكُلِّي للألفاظ في سياقها التركيبي داخل الآيات، وهذا الترجيح يكون بشاهد لُغوي أو نَقلي، وهو ما يعني، مع تعدد واختلاف الجذور اللغوية والشواهد النقلية والصور الاستخدامية لكل لفظ ومعنى وتركيب، أن ما هو “مقطوع به فصحيح” وما هو “تفسير بالرأي منهي عنه” في حاجة إلى تحديد لا تقدمه تفرقة الماتريدي على وجه دقيق، ولا تقدمها مجمل التعاريف والتفرقات المُتعلقة بالفصل ما بين طبيعة التفسير وطبيعة التأويل.
إقرأ أيضا: تأملات في سورة الفاتحة: من أزمة الانغلاق إلى رحابة المعنى
وأقوى النماذج التي يُمكن أن تُقَدَّمَ في هذا الاستعراض لحقيقة تعدد الشواهد اللُّغوية والنقلية الخاصة باللفظ هو تعدد الجذور الاصطلاحية واختلافها التي يُرَدُّ إليها مصطلحا التفسير والتأويل ذاتهما، فكما يذكر الإمام بدر الدين الزركشي في كتاب “البُرهان“، يُرَدُّ اصطلاح التفسير إما إلى جذر “الفسر” من البيان والكشف أو إلى مقلوب “السفر” من أسفر الصبح إذا أضاء أو إلى “التفسرة” وهي اسم لما يَعرف به الطبيب المرض، أما التأويل فأصله من “الأول” وهو الرجوع أو من “الإيالة” وهي السياسة.
ويستتبع اختلاف الجذور المعنوية للاصطلاحين اختلافًا مفهوميًّا في التفسير والتأويل وفق السيوطي في “الإتقان“:
“فقالت طائفة: هما بمعنى (أي بمعنى واحد) وقد أنكر ذلك قوم حتى بالغ ابن حبيب النيسابوري فقال: قد نبغ في زماننا مفسرون لو سُئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه. وقال الراغب: التفسير أعمُّ من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يُستعمل في الكتب الإلهية والتفسير يُستعمل فيها وفي غيرها، وقال غيره: التفسير بيان لفظٍ لا يَحتملُ إلا وجهًا واحدًا والتأويلُ توجيه لفظٍ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة”.
اختلاف التفرقة بين التفسير والتأويل
في تفرقة أخرى ينقلها لنا الزركشي والسيوطي عن أبي طالب التغلبي تتبلور لأبعد مسارات الاختلاط ما بين أفق التفسير وأفق التأويل في تعاريفه المختلفة، يقول التغلبي:
“التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازًا كتفسير الصراط بالطريق والصيب بالمطر.
والتأويل: تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى عاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المُراد والتفسير إخبار عن دليل المُراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد والكاشف دليل، مثاله قوله تعالى: “إن ربك لبالمرصاد”- الفجر: 14، تفسيره: أنه من الرصد، يُقال: رصدته: رقبته، والمرصاد: مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه. وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة”.
والتفرقة تكاد تصل إلى أحد وجوه التعريف الدائري في تعبير المناطقة لأن مجاز اللفظ الذي يهتم به التفسير -في تعريف التغلبي– يعني تعديهِ من معناه الظاهر إلى معناه الحقيقي (الصراط = الطريق)، والمعنى الحقيقي هو المعنى الباطن الذي تصرف إليه تفرقة التغلبي اهتمام التأويل، ويُشبه ذلك تفسير إن ربك لبالمرصاد بالمراقبة، فهو بذاته تأويله بالتحذير من التهاون.
ويعود السيوطي في كتاب “الإتقان” تحت عنوان “الحاجة إلى التفسير” إلى التصريح بالقول: “ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض”.
وهي عبارة تكاد تموضع فعالية التأويل (ترجيح الاحتمالات) في صلب فعالية التفسير.
تعدد مقاصد الآيات
في أحد تعريفات التأويل التي كُتب لها الشيوع والانتشار في الفكر الإسلامي القديم والحديث وتنقلها كتب علوم القرآن عن “أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم” أن:
“التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط. قالوا: وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير، وقد رخص فيه أهل العلم، وذلك مثل قوله تعالى: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”- البقرة: 195، قيل هو الرجل يحمل في الحرب على مئة رجل، وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله، وقيل: الذي يُمسك عن النفقة، وقيل: هو الذي يُنفق الخبيث من ماله، وقيل: الذي يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس، ولكل منه مخرج ومعنى. ومثل قوله تعالى: “ويمنعون الماعون”- الماعون: 7، قيل: الزكاة المفروضة، وقيل: العارية أو الماء أو النار أو الكلأ أو الرفد أو المغرفة، وكلها صحيح لأن مانع الكل آثم”.
ورغم أن معنى الإشارة إلى “التأويلات” الواردة في الأمثلة السابقة لن يختلف لو وصف بـ “التفسيرات” إلا أن الأمثلة تمنحنا المفتاح المؤدي إلى قاعدة الاختلاف في تفسير وتأويل نصوص القرآن بعامة، وكذلك المفتاح المؤدي إلى ضرورات التفريق ما بين التفسير والتأويل. والقاعدة هي التعدد المعنوي/التفسيري لكل لفظ لُغوي/قرآني، وكذا التعدد السياقي/التأويلي لكل تركيب جُمَلِي تشترك فيه ألفاظ اللغة/القرآن، مما يجعل من تعدد –لا وحدة واتفاق- القصد واختلافه المعنوي للمتكلم/الوحي في مستوى الوَحْدَة البسيطة الصُغرى (اللفظ)، وفي مستوى الوَحْدَة المُركبة الكبرى (الآية) هو القاعدة التفسيرية التأويلية الوحيدة الممكنة والمتفق عليها.
ونماذج القصد التعددي أو المقاصد المتعددة جزئيًّا وكُليًّا أو لفظيًّا وتركيبيًّا في القرآن تؤيد ذلك طبقًا لما تؤكده الشواهد النقلية في كتب علوم القرآن، فقد قيل إن في القرآن ثلاث آيات في كل منها مئة قول، وتعزو كتب المأثورات إلى النبي قوله: “أُنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منه ظهر وبطن”، وإلى الصحابي أبو الدرداء قوله: “لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهًا”، وإلى ابن مسعود: “من أراد علم الأولين فليثوِّر القرآن”، وإلى عليّ ابن أبي طالب: “لو شئت أن أوقر سبعين بعيرًا من تفسير أم القرآن (سورة الفاتحة) لفعلت”، وإلى بعض العلماء قولهم: “لكل آية ستون ألف فهم، وما بقى من فهمها أكثر”، وإلى آخر: “القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع”، و…هكذا.
ولا شك أن طاقة الرحابة التعددية والسعة المعنوية الهائلة التي يكتنزها اللفظ والتركيب اللُّغوي بعامة، واللفظ والتركيب اللُّغوي في القرآن الكريم بخاصة، جعل من الاتفاق على مبدأ أو معيار للتفرقة بين ما هو تفسير قطعي وتأويل ترجيحي أمرًا شبه مستحيل على وجه التقريب، لذلك تبقى الإشكالية كامنة في الحاجة التي دعت إلى التفرقة بين الاصطلاحين، وليست هذه الحاجة سوى ضرورة الاختلاف ذاته وفق ما تؤكدُ شواهد كتب علوم القرآن في محاولتها ضرب الأمثلة لما هو “التأويل المحظور” في مقابل “التفسير المشروع“، وكلها شواهد وأمثلة لا تبعد عن مدار الاختلاف الأيديولوجي السياسي –وليس الفكري المعرفي- بين الفرق والطوائف الإسلامية.
الحاجة إلى شيطنة التأويل
يعطينا كتاب “البُرهان” للزركشي نماذج للحد الأقصى من التأويل المذهبي المخالف والمحظور وهو تأويل الشيعة لبعض نصوص القرآن بالقول:
“فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور، لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض (الشيعة) لقوله تعالى: “مرج البحرين يلتقيان”- الرحمن: 19 أنهما علي وفاطمة، “يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان”- الرحمن: 22 يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما”.
فإذا استبعدنا فعاليات الاختلاف الايديولوجي ومآلاته بين السنة والشيعة بما يستتبعه من نزاع على سلطة سياسية تفرض الدلالة بالقوة وتؤكد المعنى بالسيف، يبقى السؤال المعرفي المشروع نظريًّا وتفسيريًّا وتأويليًّا، يدور حول المانع من عد التفسير/التأويل الشيعي السابق للآية تأويلًا مُقترحًا أو تفسيرًا ذوقيًّا في عرف اللسان وفي عرف الذهن وفي عرف القراءة معًا، أي أنه بمكانة ذات التفسير الذوقي المقترح قيد الرفض والقبول والذي يُحتج به فيما يتعلق بتفاسير الفرق الأخرى الأقرب أيديولوجيًا إلى أهل السنة كالمتصوفة. فوفق احتجاج الإمام تاج الدين ابن عطاء الله في كتابه “لطائف المنن” على من يدينون تفسير الصوفية الذوقي لألفاظ القرآن:
“اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني العربية ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جُلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث: “لكل آية ظهر وبطن”، فلا يصدنَّك عن هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله، فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا”.
في عبارة ابن عطاء الله (لا معنى للآية إلا هذا) تكمن ببلاغة وإيجاز إشكالية الحاجة الكامنة إلى التفرقة المذهبية ما بين التفسير والتأويل، مع الميل بلا مبرر إصطلاحي مشروع إلى شيطنة التأويل لحساب سلطة التفسير، لأنها إشكالية حاجة أيديولوجية إلى فرض قراءة معيارية للنص القرآني، بأكثر مما يمكن أن تُعد ضرورة اصطلاحية أو معرفية.
تكمن في عبارة (لا معنى للآية إلا هذا) أيضًا إجابة السؤال المُتعلق باستمرار وقوف الفكر الديني على أعتاب الاشتباك الغامض والمحير بين التفسير والتأويل على مدار قرون بلا تطوير أو تجاوز.
المراجع:
- مجمع اللغة العربية، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٩٨٩، الجزء الاول، ص١٠٣.
- معجم الفاظ القرآن الكريم، الجزء الثاني، ص٨٥٣.
- جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مكتبة الصفا، الطبعة الاولى، القاهرة، ٢٠٠٦، المجلد الثاني، الجزء الرابع، ص١٣٨.
- بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الحديث، طبعة واحدة، القاهرة، ٢٠٠٦، ص٤١٥.
- الإتقان، الجزء٤، ص١٣٨.
- الإتقان، الجزء٤، ص١٣٨.
- الإتقان، الجزء٤، ص١٤٠.
- البرهان، ص٤١٧ و٤١٨.
- الإتقان، الجزء٤، ص١٦٢ و١٦٣.
- البرهان، ص٤١٨.
- الإتقان، الجزء٤، ص١٦٣.