تكوين
- الثورة الروسية وتحوُّل مفهوم الدولة
انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة القُوَى المركزية، وانتصار دول الوفاق الثلاثي، بعد انسحاب روسيا بطبيعة الحال بسبب قيام ثورتها عام 1917. ومع ذلك كان المنتصر الوحيد في الحرب الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد أنهكت الصراعات اقتصاد بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، اللاتي وقعن في فخ الاستدانة من الولايات المتحدة، والتي لم تشارك في الحرب سوى مشاركة موجزة، وبليغة. بيد أن الحدَث الأهم بعد نهاية الحرب العظمى هو استقرار الحكم للبلاشفة، وإعلان قيام الدولة السوفييتية عام 1922 بعد اتفاق كل من جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية، وجمهورية أوكرانيا، وجمهورية روسيا البيضاء، وجمهورية ما وراء القوقاز على الاتحاد (مع حق كل منها في الانفصال).
لم تكن أهمية ذلك الحدث، الذي بلوَرَ تاريخ القرن العشرين التالي، مقصورة على قيام الثورة بما هي ثورة على القيصر ونظامه، وظهور أول دولة اشتراكية، بل امتدت تلك الأهمية كذلك إلى كون وثيقة تلك الاتفاقية سالفة الذكر، التي تم تضمينها في الدستور السوفييتي، تنص على أن الدولة الناشئة “متعددة الجنسيات”. هذا المبدأ، مبدأ دولة عابرة للجنسيات، يعارض المبدأ الأساسي، الذي عليه قامت الدولة الحديثة، ألا وهو مبدأ القومية. انتشر مفهوم الدولة القومية Nation State، الشكل المتبع للدولة حتى اليوم، مع الثورة الفرنسية 1789. وهو يقوم باختصار على قاعدة تطابُق الشعب أو الأُمة مع الدولة، فالدولة الفرنسية هي دولة الشعب الفرنسي مثلاً. وعلى هذا المبدأ تم توحيد ألمانيا في الرايخ الثاني، وقبلها إيطاليا. وعلى هذا المبدأ أيضًا تم التمييز بين الدولة ومستعمراتها؛ ففرنسا مثلاً كدولة لا تضم مستعمراتها عدا الجزائر، التي اعتبرتها الحكومة الفرنسية إبان الاستعمار أرضًا فرنسية.
وقبل قيام الدولة السوفييتية سار التاريخ في المسار الذي توقعه الفيلسوف الألماني هيجل (ت 1831). يطلق على هيجل لقب “فيلسوف الدولة” ولقب “فيلسوف الدولة البروسية”؛ فقد أكد على أن نهاية التاريخ هي الدولة القومية من جهة، ومن جهة أخرى كان أكبر منظِّر شامل داعم لدولة بروسيا الاستبدادية. يرى هيجل –دون الخوض في الأساس الفلسفي العميق لهذا الاتجاه في السياسة- أن الدولة الإمبراطورية، التي لا تميز بين الدولة ومستعمراتها، قد انتهى عهدها مع ظهور الدولة القومية، لدرجة أن فكرة الإمبراطورية الكلاسيكية لا يمكنها أبدًا أن تتغلب على فكرة الدولة القومية، البطل الفتيّ الصاعد إلى مسرح السياسة، ومسار التاريخ. ومن الناحية الأخرى أقر بأن المجتمع المدني غير قادر بذاته على تنظيم ذاته، وأن الفوضى فيه طبيعة حتمية، ومن ثم يلزم تنظيمه، وإعادة التوازن إليه عن طريق حكومة قوية متسلطة محايدة. ولهذا يعد هيجل كذلك المنظِّر الأهم لفكرة المستبد العادل، والعديد ممن كتبوا مقالات لدعم الحكام المستبدين من أساتذة الفلسفة بالذات يحيلون إلى هيجل فعلاً. وقد مثلت حكومة بروسيا في عصره شكل الحكومة المُثلَى من وجهة نظره. وبعد وفاة هيجل ببضعة عقود تحققت نبوءته، وتوحدت إيطاليا، وألمانيا، ثم انهارت الإمبراطورية النمسوية-المجرية، والإمبراطورية العثمانية، بل والإمبراطورية الروسية. إلى هذا الحد كان التاريخ، من وجهة نظر اليمين الهيجلي، ومن وجهة نظر جمهور هيجل العريض غير المسبوق في أوروبا من حيث حجمه وتنوعه، يسير في مساره المتوقَّع.
وفي لحظة مفاجِئة انعطف نهر التاريخ ليحقق نبوءة بديلة لأحد تلاميذ هيجل، الذي قدِّرَ له أن يصير أشهر أعضاء جناح اليسار الهيجلي، كارل ماركس. لا يرفض ماركس مقولة “عصر الدولة القومية”، فقد قامت فعلاً في حياته، وفي بلده عام 1871، بل هو يستوعبها في نسق أشمل، وأكثر تقدمًا نحو استشراف نهاية بعيدة للتاريخ، تقع على بُعد مرحلتين كاملتين تفصل بينهما عشرات الثورات الاشتراكية، في حين اعتقد هيجل –بما لا بد أنه بدا لماركس الشاب سذاجة- أن عصره، عصر دولة بروسيا، هو نهاية التاريخ. وهو لا يقوم فقط باستشراف مستقبل ما للبشرية، بل يتنبأ تحديدًا بمستقبلٍ، تنتهي فيه الندرة، وتسود فيه شيوعية تامة في عصر، صار علماء المستقبليات اليوم يتوقعونه فعلاً، خاصة مع التطور المدهش لعلم النانوتكنولوجي، ويطلقون عليه “مجتمعات ما بعد الندرة”، ولاحظ أنهم لم يقولوا “دُوَل” أو “عالَم”. وهو لا يقوم فقط بتحديد غير معهود في الفلسفة، يوقعه في اختبار علمي بما هي عبارته قابلة للتكذيب منطقيًا، ومنهجيًا، بل كذلك مع تفسير معكوس للتاريخ، وكأننا إذا عكسنا منظورنا للتاريخ، لاستطعنا الرؤية أعمق، وأبعَد، وأن الخدعة الأصلية تظهر، حين نتأمل الظواهر التاريخية من الناحيتين: المعتدلة، والمعكوسة، بالمنهج الجدلي ذاته في هيكله الأساسي، فنكتشف أن التاريخ يسير في هذا المسار بالذات؛ لأنه لم يمكن للفلاسفة من قبل أن يعرفوا أنه من الممكن النظر من الناحيتين أصلاً للتاريخ، وسلّموا بأهمية غير مبررة للأفكار، برغم أنها أسهل من الأذواق مثلاً في التغيير، والتبدل الكامل أحيانًا بين جيل وجيل يليه.
يرى ماركس أن الدولة القومية مرحلة حتمية فعلاً في مسار البشرية، ولكنها أولاً لم تقم نتيجة فكرة، بل إن فكرتنا عنها هي التي ظهرت كنتيجة لمقدمات صعودها في الواقع السياسي-الاقتصادي، وثانيًا فهي ليست نهاية سعي التاريخ، بل هي مرحلة من مراحله المتقدمة، التي تليها الدولة الاشتراكية متعددة الجنسيات، ثم يختتم التاريخ من وجهة نظره بمرحلة، تتلاشَى فيها الدولة تقريبًا، بعد انهيار الاشتراكية بسبب دكتاتورية البروليتاريا، وحيث تسود الشيوعية والوفرة، التي معها ينتهي الصراع إلى الأبد.
2- بشارة ماركس: كميونة باريس 1871
يعتقد ماركس أن الرابط السياسي-الاجتماعي، الذي يربط أفراد الأمة في شكل الدولة القومية، أي رابط العرق أو اللغة والدين، سوف يتنحّى في مقابل رابط جديد عابر للقوميات، هو وحدة العمّال تحديدًا. ومن وجهة نظره سوف تسود هذه الرابطة الجديدة على مستوى الدول الصناعية المتقدمة لتتبدلَ الدولة عضويًا من حيث البنية، ومن حيث المفهوم. وإذا كان نجاح إعلان الدولة السوفييتية بعد وفاته بعقود، وقد توفي عام 1883، مخالفًا لأغلب التوقعات، فإن نبوءته تلك لم تكن خيالية إلى هذا الحد من وجهة نظره هو في زمنه، بل على العكس كانت طبقًا لمنظوره نتيجة حتمية للتصنيع ذاته؛ حيث رأى بعينيه قيام الثورة الفرنسية الرابعة، أو ما يعرف بثورة كميونة باريس في مارس 1871، برغم أن تلك الحكومة قصيرة العمْر لم تقم كنتيجة للصراع الطبقي، بل حصيلة صراع سياسي-عسكري، انتهى بهزيمة نابليون الثالث في موقعة سيدان، واقتحام جيش بروسيا لباريس بعد حصار مدمر صاحبته مجاعة.
وتعتبر كميونة باريس أول ثورة شعبية اشتراكية حديثة. وبرغم انهيارها السريع نتيجة للقمع الشرس، الذي شاركت فيه قوات بروسيا إلى جانب قوات فرنسا المتبقية، وبرغم أنها لم تكن نتيجة لصراع طبقي، فقد كانت حدثًا بالغ الأهمية في عيون الاشتراكيين الديمقراطيين، والماركسيين؛ إذ أكدت نفسها كإرهاص بثورة اشتراكية على نطاق أكبر. مع ذلك نرى اليوم في كميونة باريس الكثير من الملامح القوية الواضحة للدولة السوفييتية فيما بعد: دور النساء البارز فيها، التماهي بين الطبقات الفقيرة كالعمال، والفلاحين، وأصحاب الحرف البسيطة، والعنف الثوري، والاستيلاء على الأسلحة كالمدافع والبنادق، والتغيير العنيف للنظام. ولكننا نجد كذلك ملامح “غير سوفييتية” إن جاز التعبير، كحرص حكومة الكميونة على استكمال الحرب ضد بروسيا، في حين كانت من أهداف البلاشفة المعلنة الانسحاب من الحرب العظمى فيما بعد، الأمر الذي وقع بالفعل.
وكما صارت ثورة الكميونة حدثًا هامًا في نظر اليسار بعمومه، فقد كانت واقعة بالغة الخطورة من وجهة نظر مهندس الرايخ الثاني نفسه، الذي مثَّلَ في وقته قمة منحنى اليمين القومي المعتدل في أوروبا، المستشار الإمبراطوري (كما هو لقبه لرسمي) أوتو فون بسمارك. كانت هذه الواقعة سببًا أساسيًا في حرص بسمارك على تطبيق سياسات تنظيمية لرأس المال في الرايخ الثاني، بالقرب مما يعرف اليوم بالديمقراطية الاشتراكية Social Democracy (وليس الاشتراكية الديمقراطية Democratic Socialism) أي السياسة الاقتصادية لدولة الرفاه، كالتأمين الصحي، والأمان الوظيفي للعمال، وزيادة المعاشات، وإعانة البطالة، وتوفير فرص العمل، ورفع الضرائب على ذوي الدخول المرتفعة، ورعاية كبار السن والمعاقين، وسواها من إجراءات تتعارض على المدى القصير المرئي مع سياسة مراكمة رأس المال، ولكنها في نظر بسمارك، ونظر الديمقراطيين الاشتراكيين هي الضامن أصلاً لاستمرار رأس المال على المدى البعيد، وإلا وقعت ثورة شعبية على مستوى الطبقات الفقيرة، التي ستتماهَى في الفقر والقمع، لتشكل جبهة موحدة ضد رأس المال، وضد حكومته، وبالتالي ضد بسمارك نفسه. بكلمات أخرى اتضح لبسمارك، وللحكومات الأوروبية أن سياسة تنظيم رأس المال، حتى وإن كانت على حساب الربح، فهي الطريقة المُثلَى لتحييد الفقراء سياسيًا. على كل حال أثبت النظام الديمقراطي-الاشتراكي جدارته بالاستمرار على الأقل؛ فقد صار هو النظام الشائع إلى اليوم في اقتصادات وسط أوروبا وشَمالها، كألمانيا، وهولندا، والسويد، والنرويج، والنمسا، وغيرها. وهو ما يوضح إلى أي حد امتدت آثار التحولات السياسية الثورية في فرنسا القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا: من الدولة القومية، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان إلى الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا، وسوى أوروبا.
الديمقراطية الاشتراكية
وبينما تهدف الديمقراطية الاشتراكية إلى دولة الرفاه عن طريق تنظيم رأس المال، فإن الاشتراكية الديمقراطية تستهدفها عن طريق إلغاء رأس المال على نحو أو آخَر. تتفرع الاشتراكية الديمقراطية، برغم عداء الماركسية اللينينية المعروف لها، عن الأصل نفسه، أي الماركسية، وذلك بجهود عدد من الماركسيين المعدِّلين، أشهرهم على مستوى النظرية إدوارد برنشتاين (ت 1932)، تلميذ فردرِك إنجلز، وأشهرهم على مستوى الممارسة روزا لكسمبورج، التي قتلها قوميون متطرفون من الجيش الألماني عام 1919. لا يعني اجتماع الأخيرين تحت اسم اتجاهٍ واحد وحدةَ الاتجاه؛ فبينما يعتقد برنشتاين، الأب الروحي للاشتراكية الديمقراطية، في التحول التدريجي من الإدارة المركزية إلى الإدارة المشتركة لرأس المال، تعتقد لكسمبورج في ضرورة الانتقال الثوري، بيد أن كلاً منهما يرفض الإدارة المركزية للسياسة، التي انتهى إليها النظام السوفييتي على كل حال. من هنا تبدت في أعين القوميين المتطرفين خطورة الطرح الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا؛ إذ يتجنب المثلب الأساسي في التأويل اللينيني للماركسية، والعامل الأساسي طبقًا لماركس نفسه في الانهيار المتوقع الحتمي للاشتراكية كمرحلة تاريخية: دكتاتورية البروليتاريا، في الوقت نفسه الذي فيه يتجاوز حدود القوميات، وبهذا يتجاوز مفهوم الدولة القومية نظريًا بنجاح، فينتهي وجودهم كشعب وسط شعوب غبية، نجسة، تختلط بالحيوانات الملونة.
3- إنذار روزا لكسمبورج: قلَق الأعوام الذهبية
هكذا، كما يمكن القول، ضربَ الزلزالُ الألماني –بسمارك بما هو زلزال- فرنسا في سبعينيات القرن التاسع عشر، فارتدت موجاته السيزمية إلى ألمانيا في الربع الأول من القرن العشرين. بطبيعة الحال كانت نتيجة الحرب العظمى أهم عوامل القلق السياسي-الوجودي عند الألمان، منذرةً بانعطافات تاريخية كبرى، وخطيرة. لم يكن اغتيال روزا لكسمبورج أحد تلك الانعطافات، بل كان الإنذار بما يلي.
يطلَق أحيانًا في ألمانيا على الفترة الممتدة بين 1924 وحتى تداعيات الكساد الكبير في الولايات المتحدة، الذي انعكس على العالم ككل، وخاصة أوروبا الخارجة توًّا من خنادق الحرب العظمى، اسم “السنوات الذهبية”. في تلك الفترة القصيرة استقرت البنية السياسية في ألمانيا نسبيًا، وبدأ تحسن الاقتصاد التدريجي، وساد مناخ من حرية الفكر والعمل، ونشطت الحركات الأدبية، والفلسفية، إلى حد كبير. في تلك الفترة، عام 1926، صدر كتاب “الكينونة والزمان” للفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (ت 1976)، والذي به رسخ الأخير قدميه كأحد أهم فلاسفة القرن العشرين. وهي مكانة عظيمة بين الفلاسفة. وبرغم أنه لم يكن صاحب مذهب، فقد انتشرت أفكاره شرقًا حتى فارس، وغربًا حتى الولايات المتحدة، ومارست تأثيرًا قويًا على المفكرين، والمختصين في العلوم الاجتماعية عمومًا في مختلف فروعها. ربما كان أهم أثر له في سياقنا الحالي متمثلاً في استقبال الثقافة الفرنسية لأفكاره، مما أسسَ الوجودية كمجموعة من النظريات ذات المفاهيم المحددة، بعد أن كانت قبله مجموعة من الكتابات غير المنظمة بأقلام نيتشه، وسورين كيركجور، ودوستويفسكي، وبِرْدِيائيف. هذا حتى وإن كان هيدجر نفسه قد أنكر أن يكون فيلسوفًا وجوديًا. لذلك لم نستعمل أعلاه اعتباطًا تعبير “القلق السياسي-الوجودي”. إن إنتاج هذا السفر الفلسفي الأساسي “الكينونة والزمان” في تلك الفترة بالذات لم يكن مصادفة. وهو يعكس في نظرنا العلاقة بين السؤال السياسي مع انهيار الإمبراطورية الألمانية عام 1918، وتنحي فلهلم الثاني عن العرش، وإعلان الجمهورية، وبين السؤال الوجودي الباحث عن الغاية من الوجود، وطبيعة هذا الوجود. ونتيجة عَقْد مثل هذه العلاقة هي أن حالة التخلخُل في السياسة قد أحدثت هزة وجودية عميقة عند الألمان بالذات، أو بعبارة أخرى: كان المواطن الألماني قبل نهاية الحرب العظمى يستمد استقرار وجوده من استقرار بنية الدولة-المجتمع، وبما هو –المواطن- قالب في هذه البنية.
وأهم ما مثّل تهديدًا واقعيًا لاستقرار بنية الدولة-المجتمع كان صعود اليسار بُعَيد انهيار الإمبراطورية الألمانية بجناحيه المعتدل، والمتطرف. لعل أبرز ملامح ذلك الصعود كان إعلان دولة “جمهورية بافاريا السوفييتية” في السابع من أبريل عام 1919 في مدينة ميونخ. وهي الجمهورية، التي تم القضاء عليها سريعًا على أيدي ميليشيات من الجيش الألماني. وبرغم أن محاولات اليسار المتطرف عمومًا في الاستيلاء على السلطة آنذاك لم تحظَ بنجاح، فإن الطبقة الوسطى، التي اعتمد نظام بسمارك سابقًا عليها في وجوده، والذي ينسب إليه دور جوهري في اتساع نطاقها، قد أصابها قلق هائل خشيةَ سقوطها في يد حكومة شيوعية سوفييتية. وهو ما خلق استعدادًا لدى هذه الطبقة العريضة في المجتمع الألماني للتوجه يمينًا إلى أقصى الحدود، إذا حتّمت الظروف؛ لمواجهة صعود اليسار المحتمل.
ولهذا فبمجرد أن عادت الأوضاع الاقتصادية إلى حالة عدم الاستقرار إثْرَ توابع الكساد الكبير المدمرة، عاد القلق الوجودي ينهش قلوب الأمة. وعند هذه النقطة، بدءًا من 1929، تبلورت حلبة معركة النهاية في ألمانيا بين الشيوعيين العابرين للقوميات من جهة، وبين القوميين المتطرفين الأعداء الأشد شراسة للشيوعية من جهة أخرى. باختصار بدأ صعود النازيين للسلطة، حين عاد الخوف من اليسار المتطرف يتصاعد، وحين فشلت ديمقراطية جمهورية فَيْمار في تحدي الظروف الاجتماعية، والاقتصادية المتدهورة. ظل اليمين المتطرف اتجاهًا هامشيًا في الرايخستاج (اسم البرلمان الألماني في ذلك الوقت)، ولكن بعد أن فقدت ألمانيا ما أنجزته في عقد العشرينيات من الاستقرار الاقتصادي، انحاز قطاع كبير من الطبقة الوسطى إلى اليمين المعتدل، وانحاز عدد من اليمين المعتدل إلى المتطرف، وفي عام 1933 كما هو معروف وصل النازيون إلى سدة الحكم للمرة الأولى، والأخيرة.
والملاحَظ أنه، حين تفشل الرأسمالية في المحافَظة على النمو الاقتصادي، فإنها تنهار داخليًا؛ ذلك أنها في صورتها المتطرفة، كما هو حالها في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، عبارة عن حركة دائمة إلى الأمام. فإذا توقفت هذه الحركة، أي إذا توقفت عن تحقيق النمو المتزايد، مع حد معقول من الرفاه، وقوة بحرية وبرية يحسب حسابها، فإنها تنهار كنظام سياسي. الأمر أقرب هنا إلى تيار كهربي، إذا توقف عن السريان، توقفت الكهرباء، برغم أن الإلكترونات نفسها، المسببة لهذا التيار، لم تزل موجودة. لا يمكننا مثلاً أن نطلق على النهر لفظ النهر حين يتوقف، إذ يصبح عندئذٍ مجرد بحيرة راكدة. ذلك أن الديمقراطية، حين تفشل في مواجهة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن ركود الرأسمالية، فإنها تفسح المجال تلقائيًا لظهور البديل الشعبوي، كما وقع في ألمانيا في النصف الأول من الثلاثينيات. لم تقع هذه الظاهرة الأخيرة في الولايات المتحدة نفسها؛ إذ تم إنقاذ الاقتصاد الأمريكي وربما أمريكا نفسها كدولة؛ وذلك بسبب وجود شخصية استثنائية في الحكم، فرانكلين روزفلت، أهم رؤساء أمريكا بعد جورج واشنطن ربما، والرئيس الوحيد الذي جرى انتخابه لأربع فترات متتالية برغم مرضه وإعاقته الجسدية. ومع ذلك فإن النظام الاقتصادي العالمي واحد، ولا يمكن عزل الفشل المؤقت الحادّ لرأسمالية أمريكا عن ظاهرة انتشار الاتجاهات اليمينية الشعبوية المتطرفة في أوروبا، التي تضررت كثيرًا؛ بسبب مطالبة الولايات المتحدة لها بتسديد دفعات الديون المستحقة في أسرع وقت لإنقاذ اقتصاد الولايات.
على أن أدولف هتلر بدوره كان شخصية استثنائية. وكما نلاحظ في انطباعات الألمان، الذين عاصروه، فمن المؤكد أنه كان متحدثًا جماهيريًا مذهلاً. وصفه أحد العسكريين السابقين بالجيش الألماني في عهد الرايخ الثالث، الذي صار أحد قادة حلف الناتو فيما بعد، بقوله: “كان نيزكًا!” يعني أنه لمع فجأة في السماء، وانفجر في الأرض، ثم خبا بسرعة، كما ظهر فجأة، مخلفًا دمارًا هائلاً، يصعب على التصور. ولا خلافَ تقريبًا في أمر موهبته الخطابية. يدور الخلاف عادة حول مدى براعته الاستراتيجية. ومن خلال قراءتنا الخاصة لكتابه: “كفاحي”، الذي وضعه في السجن، بعد أن حكم عليه بسبب مشاركته في انقلاب 1923 الفاشل، وبعد تنقيته من النبرة الخطابية، والتكرار، وبالتركيز على رؤيته لمستقبل السياسة في ألمانيا، وأوروبا، ومستقبل صراع الأيديولوجيات التقدمية، فإننا نعتقد أنه كان مخططًا استراتيجيًا بارعًا. من الصحيح أن الظرف الاقتصادي الاستثنائي قد عاونه في الوصول إلى قمة السلطة، منصب مستشار الرايخ، لكنّ ذلك لا ينفي على الإطلاق كونه استراتيجيًا استثنائيًا؛ فإن ما حققه من استعادة لكامل ما خسرته ألمانيا من أراضيها بسبب هزيمتها في الحرب العظمى، بل وضم النمسا وحدها، قد تم دون إطلاق رصاصة واحدة. أما نجاحات الرايخ الثالث عمومًا: العسكرية، والعلمية، والاقتصادية، وقضاؤه على بطالة سبعة ملايين ألماني في عامين فحسب، فهي إنجازات تاريخية من دون مبالغة على مستوى التخطيط، والتنفيذ، يثبت للجميع أن بالحكم مجموعة واحدة على رأس الحزب الواحد، تخضع لقرار رجل واحد، وأن هذه المجموعة محدودة العدد، واسعة السلطات، تتكون في أغلبها على الأقل من القادة الخبراء، والعلماء في كل مجال، وتنتهي إلى قرار واحد، يعرف دائمًا كيف يتجه إلى الاختيار الصحيح على المدى البعيد. وكان من الوارد جدًا ألا يستغلّ سواه الظرف الاقتصادي الاستثنائي في نهاية العشرينيات، كما كان واردًا جدًا أن يستغله أحدهم، ثم لا يحقق عُشْرَ ما حققه هو من إنجازات، ولا يؤسس الرايخ الثالث كما نعرفه.
4- صراع التقدميين وسياسة الشعبويين
كان العدوّ الأساسي للنازيين هم الشيوعيون ممثلين في الاتحاد السوفييتي، فقد ورَثَ نظام هتلر الجينات السياسية نفسها المنحدرة من الصراع الأيديولوجي، الذي أنجبه صراع الأيديولوجيتين التقدميتين الرئيستين في أوروبا. وإذا كان من الواضح كون الأيديولوجيا الماركسية تقدميةً، فبأي معنى نقول في هذا السياق إن النازية بدورها تقدمية، وهي التي تمثل أقصى اليمين؟ يكمن الفارق الجوهري بين النزعة التقدمية Progressivism، وبين النزعة المحافظة Conservatism، في أن التقدميين ليس لديهم ما يخسرونه في سعيهم إلى الوضع المنشود سياسيًا، واجتماعيًا، ولكي يقودون مجموعة قادرة على تكوين حجم حرج من التمرد، عليهم أن يقيدوا نشاطهم في الطبقات الأكثر معاناة أولاً، ذات العدد الكبير في الظروف الاجتماعية المتطرفة. بعبارة أخرى: فبينما يعتقد المحافظون بصورة عامة في مبادئ، وممارسات معينة، تمثل “طبيعة”، أو “أصلاً” في الوضع القائم، بحيث لا يمكن هدمها، أو التخلي عنها، كأن لها قيمةً في مجرد وجودها، ينهار أي نظام قادم على أنقاضها، فإن التقدميين لا يؤمنون بمثل تلك “الأصول”، ولا يحول شيء بينهم وبين أهدافهم. ولهذا السبب نجد تلك الممارسات النازية المدهشة لأول وهلة، مثل العمل على إبادة أجناس بأكملها، وإجراء التجارب العلمية على البشر، وإعدام الأطفال الألمان المعاقين بعشرات الآلاف في مستشفيات مخصصة لذلك العمل الجنوني، وكذلك تقديس تراث الأمة إلى درجة تقترب من الوثنية، إذا كان موقف السوفييت هو الإلحاد.[1]
وهنا يبرز سؤال ثانٍ: هل كان من الحتمي أن تتصادم النازية والشيوعية؟ هل هناك ما يحتم أن تتصادم الأيديولوجيات التقدمية؟ في رأينا: نعم؛ بشرط أن تتأزم الأيديولوجيات المحافظة التقليدية في التعامل مع أوضاع عالمية مستجدة. يمكن القول إن أزمة أوروبا بعد الحرب العظمى هي أكبر أزمة تعرضت لها الليبرالية على مستوى عالمي في تاريخها. ومما اشتُهر عن ونستون تشرشل قوله إن سبب الحرب العالمية الثانية الأول هو فشل الديمقراطيات في التعامل مع أزمات المجتمع الغربي الناجمة عن الحرب العظمى، الناجمة بدورها عن فشلها في إدارة الصراع على المستعمرات والنفوذ البحري بينها. وحين وقفت النزعة المحافظة، الليبرالية الكولونيالية في هذا السياق، عاجزة أمام أزمة من أزمات الاقتصاد الرأسمالي المتتابعة، التي تردد صداها على مستوى كوني، أي الكساد الكبير، فإن البديل الاشتراكي سرعان ما سيجذب الطبقات الفقيرة المتزايدة في الكثافة، التي تعاني على الأخص نتائج الأزمة الاقتصادية، في حين تنقسم الجيوش على نفسها، مع ظهور العورة الكولونيالية، التي كانت تغطيها أوراق الدولارات، والجنيهات الإسترلينية، حين كانت متوفرة أصلاً، وذلك بالذات لدى الأمم المهزومة، أو الموشكة على الهزيمة، روسيا في الحرب العظمى، وألمانيا بعدها. وخشية انجراف المجتمعات نحو ثورة شيوعية، يظهر البديل اليميني الشعبوي ليحقق هدفين: الأول هو قطع الطريق على اليسار المتطرف باشتراكيته القومية، والثاني هو استكمال الكفاح المسلح، ومحو عار الهزيمة، واستعادة شرف الأمة بنزعته العسكرية، وتنظيماته المتنامية شبه العسكرية، كالقمصان البنية في ألمانيا، التي هي استعارة من القصمان السوداء في إيطاليا.
وقد يظهر سؤال ثالث: كيف يتأكد اليمين المتطرف الشعبوي من نجاحه قبل أن تحين لحظة انقضاضه على السلطة، وانفراده بالكرسيّ؟ ببساطة –وهو ما يفسر لنا أيضًا لماذا لم يتورع هتلر وقادته عن توسيع الجبهة إلى حد إعلان الحرب على الولايات المتحدة بعد دخولها الحرب ضد اليابان- فإن قدرة اليمين على توجيه الساحة السياسية لصالحه تكمن في قدرته على توقع حركة الجمهور، ولو سبقه بخطوة واحدة فقط. خطوة واحدة ستضمن له أن يظل دائمًا في موقع المبادرة، في حين يظل الجمهور في موضع رد الفعل، حتى وإن بادر بفعل ثوري، أو عصيان مدني في أحيانٍ نادرة. كيف يتوقع حركة الجمهور إذن؟ كيف يعرف اختياراته مسبقًا ليعبر عنها على نحو يبدو بدهيًا؟ الإجابة هي: الظروف المتطرفة. في الظروف المتطرفة يميل أغلب الناس إلى الاختيارات نفسها، التي يمكن توقعها مسبقًا، في حين أنهم في الظروف العادية المعتادة منقسمون، وعسيرون أحيانًا على الفهم. إن جمهور السينما أو الطلاب المزدحمين في قاعة درس سيميلون إلى الاختيار نفسه غالبًا في حالة كارثة كحريق، أو زلزال. ولهذا تنتهج الحركات الفاشية سياسة الكوارث المفتعلة للتحكم في الجمهور. ليست الكارثة هي ما يوجه الجمهور، بل هي الظرف، الذي يمكن فيه توقع ردود أفعاله، والذي تصنعه الكارثة. وعادة ما تكون تلك الكارثة محاولة اغتيال معدة مسبقًا لزعيم ما، أو الانقلاب المفتعل عليه، أو حريق واسع النطاق، بالغ التدمير للعاصمة، أو تدمير مبنى البرلمان أو ما يقوم مقامه. وقد قام هتلر بتوسيع الجبهة لهذا الهدف؛ فإن ظروف الحرب نفسها، خاصة إذا صارت طويلة، ومكلفة، وصعبة الحسم، قادرة على استحداث حالة “الظرف المتطرف” إياها، وعن طريقها يستطيع “هتلر أمريكي”، أيْ زعيم يميني شعبوي صاعد في أمريكا، وكانوا كثيرين هناك، أن يتوقع حركة الجماهير. ولو كان هذا قد حدث، لكان من الوارد أن يتحالف مع هتلر، أو على الأقل أن يحدث انقسامًا في القرار الأمريكي. هذا يفسر لنا كذلك إسراع الولايات المتحدة بالاستعمال الاستراتيجي للسلاح النووي؛ فإن الحرب الطويلة المرهقة على أكثر من جبهة، حتى لو كانت معاركها من منظور عسكري تسير في منحنى صاعد، فهي من منظور سياسي واستراتيجي شامل ليست في صالح الديمقراطية نفسها، وبذلك تتجه في الحقيقة نحو كارثة غير مفتعلة، تؤدي إلى حالة الظرف المتطرف.
5- ثغرة الديمقراطية وجوهر الفاشية
ومن الطبيعي أن نتساءل عند هذا الحد: ولماذا ينجح اليمين الشعبوي تحديدًا، بما هو شعبوي، في اختراق النظام الديمقراطي في الظرف المتطرف؟ لماذا لا ينطبق هذا القول على اليسار المتطرف مثلاً أو اليمين المعتدل؟ يعود هذا إلى ثغرة في الديمقراطية بما هي ديمقراطية، ثغرة على قياس اليمين الشعبوي بالذات لتسمح بمروره، وقد أقر بها فلاسفة الليبرالية الإنجليز قبل غيرهم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولعل أوضحهم حجة هو الفيلسوف والسياسي الإنجليزي جون ستيوارت مِل في كتابه “عن الحرية” On Liberty الصادر عام 1859. يرى مِل في كتابه المذكور أن الثغرة الأساسية في الديمقراطية هي قدرة الإعلام على توجيه الرأي العام قبل أن يتوجه الناس إلى صناديق الاقتراع، قبل أي فعل سياسي عمومًا. وهو ما يفرغ الديمقراطية من مضمونها، ويحولها إلى مجرد إجراءات، وصناديق خشبية ميتة كالنعوش، لا تعبر عن إرادة حية، واختيارات حرة. وإذا كان “الظرف المتطرف” وسيطًا معرفيًا بالنسبة لليمين الشعبوي، يستطيع من خلاله التنبؤ باختيار الجمهور، فإن شعبويته ذاتها هي التي تسمح له بالسيطرة على ما تبقى من إرادة حرة للناس، وذلك عن طريق التحكم في الاختيارات المتاحة أمام تلك الإرادة، مهما كانت حرة، عن طريق السيطرة على مجال ما تبقى من حرية المعرفة، ومهما كان القضاء مستقلاً، ومهما كانت الإجراءات بصفة عامة نزيهة، وشفافة، وقانونية.
تعتمد الشعبوية على ما هو قارّ لدى الجمهور من اعتقادات مسبقة. وعن طريق إعلام غير نزيه، يمكنها التحكم في المعرفة لصالحها، وبالتالي في الرأي العام للمواطن الحر النزيه. ولا ينطبق هذا بالقدر نفسه على النزعات غير الشعبوية، التي تعتمد على العِلم، والأرقام، والإحصاءات، وآراء المختصين، وإجماع المثقفين، والمتعلمين. لا يمكن عادة لنزعة غير شعبوية كاليمين المعتدل، أو يسار الوسط أن تستغل الإعلام هذا الاستغلال غير النزيه؛ إذ سيطعن هذا في نزاهتها العلمية، بحيث يمكن للشعبويين أن يستثمروا هذه النقطة في التشهير بها بسهولة. باختصار، وفي حالة الظرف المتطرف، فإن هذه معركة، لا يمكن للعلم والمتعلمين أن يربحوها أمام الشعبويين. يمكن لليسار بصورة عامة أن يستغل الظرف المتطرف، وأن يخترق النظام الديمقراطي على النحو نفسه، ولكن ليس على النطاق نفسه؛ فهو محكوم بنوع معين من الظروف المتطرفة، هو الظرف الاقتصادي. فما أن تتحسن الحالة الاقتصادية، حتى يتم تحييد الفقراء سياسيًا، حتى وإن كان جزء من أرض البلد محتلًا من قوة أجنبية. بل إنه ليس من الضروري حتى أن تتحسن، يكفي فقط أن ينحاز اليمين المتطرف الشعبوي المنافِس إلى هؤلاء الفقراء بأطروحة اشتراكية ممزوجة بخطاب حماسي؛ ليسحب مميزات اليسار ككل في الظرف نفسه بمجرد الكلام. لهذا كانت عقيدة النازيين المعلنة هي “القومية الاشتراكية” National-Sozialismus. الخلاصة هي أن عجز الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا عن حل أزمات، تمس الأمن القومي، خاصة بعد الهزائم العسكرية القاسية، فرصة ذهبية لكل من اليمين المتطرف، واليسار المتطرف، معًا؛ لأن تطرف كل منهما يأتي على مستوَى الحدث، ولا يستهدف إصلاحات محدودة. لكنها معركة غالبًا ما يكسبها اليمين المتطرف؛ وذلك بسبب خطاب اليسار النظري، الجدلي، الذي لا يتعامل بلغة الشارع، ويقوم على أن التغيير الحقيقي لا ينفصل عن التعليم، والتثقيف، والوعي؛ فالمقهور المغيَّب لن ينتفض أبدًا، وهو في المقابل يقوم على ضرورة استخدام العنف، وقد يؤدي بسهولة إلى حرب أهلية، ومجاعة، كما حدث في روسيا وأوكرانيا. في المقابل يستعمل اليمين المتطرف لغة الشارع، وهو ما يظهر في لهجة أدولف هتلر الأقرب في مسامع الألمان إلى لهجة ريفية، لا يستعملها المتعلمون عادةً، وربما يخجلون منها.
يلفت الأمر الانتباهَ، حين نلاحظ أن هيدجر، الذي هو أكبر فيلسوف أوروبي في عهد النازي بلا منازع، خاصة بعد وفاة أستاذه إدموند هُوسَرْل عام 1938، قد استعمل أيضًا لغة شبه بدَويّة، عتيقة، لا يفهمها الألمان تمامًا في وقتنا، ولا في وقته، ما لم يدرسوا فلسفته. وقد حاول من خلالها أن يصطنع لغة خاصة به داخل اللغة الألمانية، لها معجمها الخاص، الذي يتضمن استعمالات جديدة لألفاظ نادرة، منسية. لم يقدم هيدجر دعمًا فلسفيًا للنازي، ومع ذلك فقد صار أمر اعتناقه للقومية الاشتراكية معروفًا منذ نشر “الكراسات السوداء”، التي تتضمن مراسلاته مع أخيه فرِتْس Fritz. ومن المعروف كذلك أنه كان عضوًا بالحزب النازي. ومع ذلك لا يمكن على نحو يتسم بدرجة مُرْضِية من الموضوعية تأويل فلسفته، أو بعض كتاباته كتأسيس نظري للنازية. وهو منطقي؛ فما حاجة النازيين، واليمين الشعبوي عمومًا بالتنظير؟ يرى أدولف هتلر في “كفاحي” أن الماركسيين الألمان قد حققوا بالفعل انتشارًا واسعًا في فترة وجيزة، وتغلغلوا في مختلف المؤسسات، والمدن، والريف، وحتى الجيش، لكن أزمتهم الحتمية هي انقسامهم. ويستنتج هتلر أن سبب الانقسام، الذي بلغ حد التشظّي أحيانًا، هو التنظير. ليس الإسراف في التنظير، أو صورية التنظير، بل التنظير بما هو تنظير. من دون قواعد نظرية صلبة يقوم عليها أي مذهب في السياسة.. علامَ تقوم النازية إذن؟
هنا نصل إلى جوهر الأطروحة الفاشية، التي، بناءً على وعيه العميق بها، نهَى هتلر عن النقاش في أفكار النازية داخل الحزب، أو في الإعلام. لا تحتاج الفاشية إلى نظرية، لأن الأصل في تمييز النزعات الفاشية هو اعتمادها على التنظيم بديلاً عن التنظير. وذلك بحيث تبدو مزيجًا من الانقلاب العسكري، الذي يقوم به مدنيون، والثورة الشعبية، التي ينتفض فيها أنصاف عسكريين، أو عسكريون سابقون، من خلال تكوين هرمي، يتمتع أعضاؤه بانضباط آلي شامل، يلغي فردانية الفرد، وجانبًا أساسيًا من هويته الشخصية المتميزة، ويصل إلى حد فرض الزيّ الموحَّد، وتشكيل الميليشيات، بحيث يصير التنظيم ككل شبه مدني-شبه عسكري، أو لا مدنيًا، ولا عسكريًا. وقد بدأ هذا الشكل الهجين الغريب من التكوين السياسي على نطاق واسع في إيطاليا موسوليني، لكن تطبيق هذه الفكرة في ألمانيا حقق نجاحًا مذهلاً، لم يحلم به الأخير ربما إلا على سبيل التفكير الرغبي wishful thinking. وإذا لزمنا الحياد، فمن المرجح بقوة أن شخصية هتلر نفسها كان لها دور محوري في إنجاح هذا الفرع من الفاشية، أي النازية،[2] ذلك خاصةً وأن الفاشية عمومًا تعتمد على سلاح الإعلام لتعبئة الجماهير، بل ولبرمجتها قبل التعبئة. فكما قلنا: يبرز اليمين الشعبوي عادة في تجارب ديمقراطية مشوهة، مبتسَرة، وفاشلة، كديمقراطية مصر في العشرينيات، وحتى 1952، أو ديمقراطية جمهورية فِيْمار. ومما يرجح أهمية دور هتلر الفردي، بقطع النظر عن تقييمنا الخُلُقي، هو ملاحظة أن حضور خطَب هتلر كان نوعًا من النشاط الترفيهي المثير، خبرة نفسية مجسمة كاملة، عند غير المسيسين من الألمان، الذين كانوا يصطحبون إليها زوجاتهم، وأطفالهم مرتدين الملابس الزاهية الجديدة! مما يدل على مدى تأثير هذا الخطاب، بل مما قد يَنْقِل هتلر إلى طبقة مختلفة من السياسيين الحدْسيين النادرين؛ لأن الأصل في الخُطَب السياسية أنها سياسية، لكنّ أساس خطب هتلر السياسية هو أنها خُطَب هتلر! ولا يمكن في نظرنا –على نحو مفيد- مقارنة هتلر من زاوية التأثير الجماهيري بزعماء شعبيين، وأممين، كلينين، وموسوليني، وماو تسي تونج، والخميني، وجمال عبد الناصر. الفرق، الذي يميز هتلر، من هذه الزاوية أكبر مما تصلح معه المقارنة.
6- إنجازات الفاشية المدهشة
ما يبدو لنا كنتيجة لكل الملاحظات السابقة هو أن من الحتمي أن تتصادم الأيديولوجيات التقدمية المتعارضة صِدامًا دمويًا هائلاً؛ لأن كلاً منها تعمل على المستوى نفسه من الجذرية؛ ولا تقبل المشاركة، بحيث لا يمكن التوفيق بينها. ولأن كلاً منها جذرية (راديكالية)، تطرح كل منها أعمق الأسئلة فيما يتعلق بالمجتمع، والدولة، والإنسان، والقانون، ولا تحدها تقاليد، أو قوانين “طبيعية”، أو حقوق إنسانية أصلية، أو شرائع دينية، عن ارتكاب أسوأ الفظائع في حق الخصم، واستغلال الموارد البشرية والطبيعية أسوأ استغلال. بيد أن تلك الأيديولوجيات التقدمية الجذرية -في الوقت نفسه- قد فجّرتْ ثورات علمية، وتكنولوجية حقيقية، في مختلف مجالات العلوم الطبيعية. وليس القارئ بحاجة لتعديد إنجازات الرايخ الثالث، والاتحاد السوفييتي في هذا الصدد. والسبب في قدرة الأيديولوجيات التقدمية على تحقيق مثل تلك القفزات النظرية، والمعجزات الهندسية، هو أنها تقوم أصلاً على مبدأ الابتكار في مقابل التقليد، فلا حدودَ لأحلامها، ولا تَرَدُّدَ لديها في تجربة أي شيء. ولهذا تبدو تلك المفارقة الظاهرة في كون تلك المذاهب بالذات قد أفادت البشرية على المدى البعيد بإنجازاتها المذكورة، في الآن نفسه، الذي فيه لم تؤمن قط بقيمة لتلك البشرية. وهكذا لم تُعادِل إنجازاتها إلا جرائمها.
ومع ذلك سنلاحظ أنها، وبرغم تقدمها في مجالات العلم الطبيعي، والتقانة، فإن العلوم الاجتماعية كانت الضحية. بالفعل لن نجد معها مثل تلك الثورات المبهرة في مجال الأدب، أو التاريخ، أو الفلسفة، أو علم الاجتماع، أو علم النفس، .. إلخ. وهناك عدة أسباب لكون العلوم الاجتماعية متأخرة في النظم الشمولية؛ فلكي تتطور مثل تلك العلوم، نحتاج إلى هامش مناسب من حرية البحث، والنشر، والكلام؛ لأن أساسها الإبداع في الفروض، والاجتهاد في اختبارها، مع تقديم رؤية عامة، بينما يكفي في العلم الطبيعي أن يكتشف الباحث تفصيلة دقيقة هامة، يتطلبها نموذجنا الحالي عن طبيعة المادة والطاقة مثلاً المبنيّ على نظرية الكوانتم، ليحصل على جائزة نوبل في الفيزياء. ولهذا يحقق علماء الطبيعة إنجازاتهم العظيمة في العشرينيات من العمر، أو قبل منتصف الثلاثينيات غالبًا، إذا تميز الواحد فيهم بالابتكار والاجتهاد، بينما ينضج المختص بالعلوم الاجتماعية قرابة سن الأربعين؛ لأن الابتكار والعمل الجاد فقط لا يكفيان في هذه المجالات، بل يتطلب الأمر “الرؤية العامة”، أي محاولة اكتشاف العلاقات بين المعارف، ورسم صورة مركبَّة متناسقة للعالَم، وهذا لا يحققه المرء غالبًا في شبابه، ربما باستثناء هيوم، وماركس في الفلسفة. ولهذا حمَّلَ عبد الرحمن بدوي في “سيرة حياتي” النظامَ الناصري مسئولية تدهور التعليم العالي؛ لأن تأميم القناة في 1956 قد أدى إلى قطع المنح والبعثات الدراسية إلى أوروبا، وتحويلها إلى الاتحاد السوفييتي، والكتلة الشرقية عمومًا، الأقل تقدمًا في العلوم الاجتماعية بوضوح. وهذا أحد أسباب التدهور المقصود، لكنه ليس الأهمّ في نظرنا.
سنجد تقدمًا نوعيًا في الرايخ الثالث، والاتحاد السوفييتي في بعض المجالات الإنسانية، ولكنْ فقط التي يمكن استغلالها في البروباجندا. وأوضح مثال للمنجَز الفني، الذي حاول الشيوعيون، والنازيون إعادة خلقه هو الموسيقى؛ فقد تسيَّد السوفييت مثل بروكوفييف، وشوستاكوفيتش، وخاتشاتوريان، أو ذوو الأصول الروسية المهاجرين إلى الغرب كرحمانينوف، وسترافنسكي، كل ساحة الموسيقى الكلاسيكية تقريبًا في القرن العشرين دون منافسة يعتد بها، وتمخض عملهم عن أساليب، واتجاهات جديدة مبتكرة في التأليف، هي أوضح ملامح الموسيقى الحديثة. ولكن كانت للحزب السيطرة شبه الكاملة على “السياسة الموسيقية” كما أطلقوا عليها. في عام 1934 قام الحزب الشيوعي السوفييتي بوضع ميثاق للفن، ينص على التالي: “الواقعية الاشتراكية، بما هي المذهب الأساسي للاتحاد السوفييتي في الأدب، والنقد الأدبي، تتطلب من الفنان تصوير الواقع على نحو من الصدق، والدقة التاريخية في تطوره [أي الواقع] الثوري. وفي الوقت نفسه فإن الصدق، والدقة التاريخية، اللذين في هذا التصوير الواقعي، يجب أن يتوافقا مع هدف التغيير الأيديولوجي، وتعليم الطبقة العاملة بما هو روح الاشتراكية”.[3] وبتطبيق ذلك على الموسيقى تحددت “السياسة الموسيقية” في الاتحاد السوفييتي على أساس ضرورة تمثيل الواقع التاريخي، وتحولاته الثورية، وموافقة أيديولوجيا الحزب، وانتخاب أساليب، وموضوعات معينة، تستهدفها استراتيجية الحزب، ولكنْ –مع ذلك- تميز الاتحاد السوفييتي فعلاً بتحقيق التضامن والتعايش بين الأعراق على مستويات عديدة، تبدأ من تخصيص قسم للموسيقى الفلكلورية في كل جمهورية من الجمهوريات الخمس عشرة لإحياء تراثها الشعبي، وتنتهي إلى الدولة الواحدة متنوعة الجنسيات، متجانسة العقيدة.
كذلك اهتم النازيون بالموسيقى، حتى أنه يمكننا من حيث المبدأ أن نميّز عهد الرايخ الثالث كمرحلة مؤثرة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، هي، وإنْ كانت قصيرة جدًا، فقد تمتعت أعمالها بموضوعات مترابطة في سياق الاحتفاء بالتراث الجرماني، والشَّمالي (النورْزي)، والكلاسيكي (الإغريقي والروماني)، ولمعت فيها عدة أسماء رفيعة في كل عصور الموسيقى، كريتشارد شتراوس، ويان سيبيليوس، وكارل أورف. في عام 1934 في ألمانيا قبِلَ سيبيليوس تعيينَه في منصب نائب رئيس “المجلس الدائم للتعاون الدُّوَلي للمؤلفين” Ständiger Rat der internationalen Zusammenarbeit der Komponisten مع كل من ألبير روسيل، وأدريانو لوالدي. أما رئيس ذلك المجلس، الذي كان سيبيليوس نائبَه، فكان ريتشارد شتراوس، الذي تولي كذلك رئاسة “غرفة موسيقى الرايخ” Reichsmusikkammer عام صعود هتلر للسلطة 1933.[4] أما كارل أورف فهو مؤلف ترنيمة النازي الأساسية: “كارمينا بورانا”، التي كانت أهم مقطوعة احتفي بها النازي في قمة صعوده. وقد وضعها أورف بين 1935 و1936، وعزفت لأول مرة بفرانكفورت عام 1936.
ونعتقد أن السبب في اهتمام الأيديولوجيتين الرئيستين في القرن العشرين بالموسيقى بالذات، إلى حد أن بقية الفنون في الدول، التي حكمتها كل منهما، لم تحقق التميز نفسه، يرجع إلى طبيعة الموسيقى ذاتها. الموسيقى هي الفن الوحيد “المصاحِب” للإنسان؛ بمعنى أنها لا تتطلب من سامعها بالضرورة التفرغ لها، والتركيز فيها. لهذا ندير الموسيقى في كل الأحول تقريبًا، بينما لا يمكنك أن تقود سيارة مثلاً، وأنت تطالع في الوقت نفسه رواية، أو لوحة فنية، أو مسرحية. ولهذا فهي فن دعائي بامتياز؛ لأنها –بما هي فن مصاحِب- أكثر الفنون انتشارًا بين الناس. بيد أن للموسيقى ميزة ثانية أكثر تفردًا، هي أنها فن غير مضموني، لا يحمل في ذاته دلالة ما، يمكننا من حيث المبدأ نقلها باللغة، وبالتالي يمكن لحزب أو تنظيم ما أن يستعير مقطوعة شهيرة، وأن يخلع عليها من المعاني ما يشاء، كما حاول النازيون تأويل موسيقى بيتهوفن مثلاً لتنطق بعقيدتهم، وهو مشروع لم ينجح؛ لأن الحلفاء كذلك احتفوا بموسيقى بيتهوفن في الفترة نفسها؛ حين كانت إذاعة BBC البريطانية مثلاً تذيع السيمفونية الخامسة تعبيرًا عن شرف القتال على جانب الحق (من وجهة نظرهم)، وحتمية النصر. جعلت دول الاتحاد الأوروبي فيما بعد نشيد السيمفونية التاسعة لبيتهوفن نشيدًا رسميًا للاتحاد.
ونظرًا لأن كلاً من الأيديولوجيتين النازية، والشيوعية، تقدمية، بالمعنى السابق تحديده، من جهة، ومن جهة أخرى تقعان على طرفَي نقيض فيما يتعلق بمفهوم الدولة ذاته، كان من المحتَّم أن ينهار التحالف البراجماتي بينهما فجأة، كما بدأ فجأة، وأن تنخرطا في حرب منذ يونيو 1941 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، في معارك، هي الأعنف، والأشد دموية، وتدميرًا، في التاريخ كله، كصورة مصغرة من الجحيم. ومن المنطقي أن يكون أعدى أعداء الأيديولوجيا الجذرية هو مَن يطرح الأسئلة الجِذرية نفسها، ويختلف معها جذريًا في الإجابات.
ماضي العرَب ومستقبل الغرب
نُظِرَ للفاشية في الدول العربية الواقعة تحت الاحتلال كأيديولوجيا المقاومة، بالذات في مصر؛ حيث كانت مصر في ذلك الوقت، ثلاثينيات القرن العشرين، وأربعينياته، أكثر الدول العربية حداثة، وحين عاشت تجربتها الليبرالية (وإن كانت ليبرالية منقوصة)، وحياة حزبية نشطة. كذلك اعتقد المعادون للشيوعية، بالذات من السياسيين من أصحاب الأراضي ورءوس الأموال، أنها الدواء المناسب ضد الماركسية، التي انتشرت بين الشباب المتعلم. وهكذا عكست الحياة السياسية في مصر منذ معاهدة 1936 وحتى ثورة يوليو 1952 صراع الأيديولوجيات التقدمية نفسه، الذي أذكاه الخوف من الشيوعية.
وقد تنوعت الحركات الفاشية، وإنْ كان حزب مصر الفتاة، ومفكره الأساسي عبد الرحمن بدوي، ومؤسسه أحمد حسين، أشهر وجوه الفاشية في مصر في ذلك الزمن. مع ذلك، وكما ذكرنا بصدد تعريف الفاشية، كونها تتميز جوهريًا بقيامها على التنظيم لا النظرية كرابط بين الأعضاء فيها، وتهدف بالأساس إلى التوصل إلى السلطة، فإنه يمكن تصنيف الإخوان المسلمين كجماعة فاشية؛ فهي لا تقدم نظرية محددة في الحُكم، أو الاقتصاد، ولا حتى في العقيدة، أو القفه، وتقوم بوضوح على التنظيم كرابط أساسي بين أعضائها، ويمكنها التكيف مع النظام القائم أيًا كان؛ فهي لا تهتم كما قلنا بالنظرية، ولا بشكل الحكم، فهي مرةً مع الليبرالية الحزبية قبل يوليو 1952، ومرةً مع الضباط الأحرار، ومرةً مع ثورة يناير 2011، ومرةً مع المجلس العسكري فيما بعد حتى وصولها الفعلي للسلطة. وحين وصلت إلى هدفها، أقصت معارضيها، وقام محمد مرسي رئيس مصر بعد الثورة المنتمي لجماعة الإخوان في نوفمبر 2012 بعزل النائب العام، وتعيين بديل له، وأصدر إعلانًا دستوريًا يعزز صلاحيات النائب العام الجديد. وهو ما أشعل التظاهرات ضده، حتى وصل الملايين إلى قصر الاتحادية في مشهد لم يحدث منذ تنحّي الرئيس السابق حسني مبارك. فما الذي جعل الناس تختار مرسي من الأصل، ولو بأغلبية بسيطة؟ هناك عاملان في نظرنا: عامل قوة التنظيم نفسه، حيث لم يناهزه من هذه الزاوية أيّ تيار علماني أو ديني في مصر في ذلك الوقت، وعامل الدعاية الدينية. وقد كان العامل الثاني بالذات نقطة تفوق حاسمة؛ فإذا كان العلم هو دعاية النازيين، الذين اعتقدوا أن العلم نفسه يقر بتفاوت الأعراق، وتفوق العرق الآري، فإن الدين هو الدعاية، التي يمكن استغلالها في الشرق الأوسط حتى اليوم، والتي يمكن عن طريقها الإقرار بتفاوت الأديان، وتفوق دين واحد.
وقد أدرك أحمد حسين مدى قوة هذا العامل، حين شاهد قدرة الإخوان المسلمين على الحشد بين الطلاب. ولهذا بدأ يصبغ دعايته بلون إسلامي، الأمر الذي أثار سخط عبد الرحمن بدوي، الذي كان قوميًا متطرفًا. وتعني القومية في هذا السياق القومية المصرية لا العربية. وكان عبد الرحمن بدوي يعتقد أن الإسلام مكوِّن قومي-ثقافي هام، ولهذا انتقد تلاميذه من دعاة العلمانية كفؤاد زكريا، لكنه لم يعتقد في استعمال الدين كدعاية، ولم يعتقد طبعًا في دولة إسلامية، يحكمها مرشدو الجماعات. كما أدرك حزب الوفد قوة الدعاية الفاشية، ومدى فاعليتها في الحشد بصفة عامة، لذلك كوّن تنظيم القمصان الزرق، في مقابل قمصان مصر الفتاة البنيّة، وقمصان الإخوان الخضراء. هكذا نرى كيف لجأت أهم أحزاب مصر منذ معاهدة 1936 إلى تطبيق أساليب الفاشية، حتى وصلت إلى الزيّ المميز الموحَّد. ومما يميز الزي الموحد تمييز أعضاء التنظيم، بحيث يراهم الناس، ويعرفونهم، دون اللجوء للعمل تحت الأرض، كالشيوعيين مثلاً. وكان ذلك من أهم ما أوصى به أدولف هتلر في “كفاحي”؛ حيث أكّد على ضرورة أن يكون التنظيم الفاشي مرئيًا، ومسموعًا، وله حضور مادي، بعكس ذلك الحضور المجرد للأفكار الديمقراطية أو الاشتراكية. وصار لكل طرف من تلك الأطراف الفاشية تنظيم شبه عسكري، ووقعت الصدامات العنيفة بين الأيديولوجيات الفاشية المسلحة، فانتقلت السياسة من الأحزاب والبرلمان إلى الشارع بالتدريج. يمكن القول إن عسكرة السياسة ظهرت بوضوح قبل ثورة يوليو بسنوات، ومن أهم أسباب ذلك فشل الديمقراطية في حل أزمات الأمن القومي.
وإذا كان هذا الوضع قد استمر، أي لو لم تنجح حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، لانتصر الإخوان المسلمون بما هم تنظيم فاشي غالبًا؛ فقد كانت دعايتهم بين غير المتعلمين بالذات، غالبية الشعب المصري، أشد نفاذية، وقدرة على الانتشار. ولم يحتاجوا حتى إلى تعريف أنفسهم، أو شرح اسم جماعتهم، بعكس الفاشيين، والشيوعيين. وهذا بدوره من أهم أسباب قبول الكثيرين من المتعلمين، ومن المسيسين على اختلاف اتجاهاتهم، بحكومة الضباط فيما بعد، باعتبارها أخف الضررين، وكونها أفضل في أسوأ حالاتها من مصير البلد في يد الإسلاميين، الذين يستغلون الجهل والفقر. ومن أهم أسباب نجاح الضباط الأحرار في الانقلاب على الملك، وإعلان الجمهورية، في رأينا، هو انتشار الفاشية بصورها المختلفة، وتطبيق بعض أهم أساليبها حتى في الأحزاب الليبرالية كالوفد. حين تمت عسكرة السياسة، وتسييس العسكر، صارت الساحة السياسية ممهدة لقدوم عبد الناصر. وإذا كان البعض ينعته بالفاشية؛ كونه دكتاتورًا منفردًا بالقرار، فإن مَن يصنفه على وجه الدقة، بغض النظر عن دكتاتوريته، ضمن الفاشيين، إنما ينظر بالأحرى إلى تنظيم الضباط الأحرار ذاته، فهو تنظيم فاشي بامتياز؛ يعتمد على التنظيم، ولا يقدم نظريات، ونراه، ونسمعه، وله زي موحَّد، ويفعل ما بوسعه من أجل القبض على مفاتيح السلطة. وإذا كان الإخوان الأنجح في ذلك الوقت في الدعاية، فإن الضباط الأحرار كانوا أنجح بطبيعة الحال في التنظيم والتنفيذ. ولما كان لكل طرف من أطراف الفاشية المصرية تنظيمًا شبه عسكري، فإن الضباط الأحرار هم العسكرية المصرية بذاتها.
وقد ضم تنظيم الضباط الأحرار عدة أجنحة: الشيوعي، والإخواني، والذي هو ليس هذا أو ذاك، الذي صار قوميًا فيما بعد. وفي بنية ثلاثية مثل هذه البنية، وكما يمكن الاستنباط من نظرية الألعاب Game theory، عادةً ما يتحالف الطرفان الأقوى ضد الثالث الأضعف، القومي مع الإسلامي، من ثم يفقد الطرف الأقل قوة من الاثنين الباقيين حليفًا محتملاً. من الصعب أن يتحالف الإسلاميون بصفة عامة مع الشيوعيين، لكن ذلك ليس مستحيلاً، وليس بلا سوابق تاريخية؛ فقد تحالفت بعض التنظيمات الإسلامية الإصلاحية مع البلاشفة من أجل إسقاط القيصر في ثورة أكتوبر 1917. وهو تحالف مرحلي، كان من الممكن أن يتكرر في تنظيم الضباط الأحرار بين الإخوان والشيوعيين ضد القوميين بدعوَى الحفاظ على التعددية السياسية، والديمقراطية. بيد أن رغبة الإخوان في السيطرة على مقاليد الحكم بأسرع طريق، ونظرتهم قصيرة المدى، قد أوقعتهم في فخ عبد الناصر. وحين أيد سيد قطب بحماس إعدام محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري في واقعة إضراب عمال نسيج كفر الدوار عام 1952، صدر الحكم ضمنيًا في هذه اللحظة بإعدامه هو، وحظر جماعته.
ومعروفٌ هو مصير الفاشية العربية العسكرية، التي قامت على تنظيمات سرية داخل الجيوش المسيَّسة في مصر، واليمن، وسورية، وليبيا، والعراق، والسودان. وكما هُزمت الفاشية في أوروبا على أيدي الحلفاء متعاونين مرحليًا مع الشيوعيين السوفييت وغير السوفييت، فقد هُزمت في البلاد العربية على أيدي ملوك الخليج المدعومين عن طريق دول الحلفاء نفسها تقريبًا، فتم توريط مصر، رأس حربة الفاشية العربية، في مستنقع اليمن، بأموال الخليج، وسلاح الغرب، ثم احتشد الحلفاء الغربيون لتوجيه ضربة قاضية عن طريق إسرائيل، فكانت هزيمة 1967. ولكنْ.. إذا كانت الفاشية الغربية ممثلةً في النازيين والفاشيين الطليان قد سقطتْ، ولم تعد إلى الحكم في الدول الأوروبية الكبرى بعد سقوطها في الحرب العالمية الثانية، ولم تعد تيارًا سياسيًا مقبولاً في أغلب أوروبا، فكيف كان مصير الفاشية العربية بعد الهزيمة؟ السؤال بعبارة أخرى: هل كانت هزيمة الفاشية العربية هزيمة أيديولوجية كما كانت هزيمة الفاشية الغربية، أم ظلت مجرد هزيمة عسكرية تسمح بحياة أخرى للأفكار؟
لم يكن من الممكن حسم إجابة هذا السؤال حتى جاء الربيع العربي. فمع الفوضى الاجتماعية والسياسية التالية لكل ثورة، ومع عجز القوى الديمقراطية العلمانية اليمينية واليسارية عن السيطرة على هذه الفوضى، عادت الفاشية العربية للظهور في ثوب الإخوان. إنه مجرد ثوب، هذا الذي تبدله الفاشية؛ من القومية المصرية، إلى القومية العربية، إلى الإسلامية، والجسد واحد. ظل الجسد واحدًا، أيْ ظلت الفكرة الفاشية نفسها حية، أيًا ما كان ثوبها، لعدة عوامل. وأهم تلك العوامل ارتفاع نسبة الأمية، وانخفاض مستوى التعليم عند المتعلمين (والتعليم لا يفسد في بلد إلا بفعل فاعل)، واستعمال الإعلام بصورة غير احترافية للدعاية لكل من جلس على الكرسيّ، مع ديمقراطية حزبية مزيفة. وللعامل الأخير أهمية خاصة؛ فإن تزييف الديمقراطية أخطر من الدكتاتورية الصريحة للحزب الواحد؛ لأنها تدفع الجمهور إلى الكفر بالديمقراطية بمنطق كونها فاشلة، أو كونها قابلة للتزييف في كل الحالات. ولهذا كان صعود الإسلاميين بعد الربيع العربي، مبرهنين على أن الفاشية لم تمت.
أما في أوروبا، ومع صعود اليمين العنصري الشعبوي منذ 2014، وبالذات في ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، وشرق أوروبا، وانتخاب رئيس يميني شعبوي للولايات المتحدة، دونالد ترامب، ومع الإعلان عن فشل محاولة انقلابية في ألمانيا في ديسمبر 2022، قامت بها مجموعة يمينية متطرفة متفرعة عن (مواطني الرايخ)، فإن الفكرة الفاشية قد عادت للظهور في أوروبا بمجرد أن طرقت أبوابها أيدي اللاجئين. ذلك حتى انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في حدَث تاريخي، قد تكون له تبعاته التاريخية الثقيلة، حين يروي أحفادنا قصتنا يومًا، ويصفوننا بالحماقة والتعصب وتدمير العالَم. ومن أهم عوامل بعث الفاشية الأوروبية الضغوط اليومية التي تعرض لها المواطنون في الدول الأوربية مع قدوم اللاجئين، وتحول دول الاتحاد الأوروبي جزئيًا إلى دول عابرة للجنسيات والأعراق. وهو كما قلنا سبب اتهام بعضهم للشيوعية بكونها نزعة للانحلال؛ لأنها تتعارض مع مفهوم الدولة القومية.
النتيجة هي أن مفهوم الدولة الحالي، الدولة القومية، هو المبدأ الأساسي الضمني لكل فاشية. التشابُه هو الذي يربط أعضاء التنظيم الفاشي، التشابه في المعتقدات، والسلوكيات، والعرق الواحد، والزي الموحد. الفاشية هي آفة الدولة القومية. وإذا كانت الدولة العابرة للجنسيات، التي مثلها الاتحاد السوفييتي أبلغ تمثيل، قد انهارت، وفشلت، فإن هذا برهان في ذاته –في نظر الفاشيين وعموم المواطنين غير المسيسين- على أن هيجل كان على حق: لا يمكن هزيمة الدولة القومية أبدًا. لكن هيجل لم يعش ليعرف أن عبارته تلك تنطبق بالقدر نفسه من الصدق على الفاشية، التي تدور مع الدولة القومية وجودًا وعدمًا، وهي كالعنقاء، تعود كل مرة، حتى لو أحرقتها نار القنبلة الذرية، والقصف الاستراتيجي.
إذا أردنا إصلاحًا سياسيًا عالميًا حقيقيًا، وضروريًا لتجنيب العالم حربًا عالمية ثالثة، أو على الأقل نزاعات محلية، وإقليمية مدمرة، علينا أن نعيد التفكير في مفهوم الدولة ذاته، وعلى فلاسفة السياسة أن يؤسسوا لمفهوم جديد عن الدولة العابرة للجنسيات، بحيث نتجاوز مخاطر مفهوم الدولة القومية، وأهمها الفاشية، إلى الأبد. وهو منال بعيد، ولكن بالإمكان دائمًا الحدّ من نفوذ الفاشية. لن تموت الفاشية للأبد إلا إذا مات مفهوم الدولة القومية، ولكن يمكن قطع الطريق عليها، وتقليل الفرص، التي تنتهزها. لا يمكن أن نضمن نجاح الديمقراطية دائمًا في حل الأزمات القومية، ولكن يمكن لنا إصلاح التعليم، وتقليل عدد الأميين، وتجديد الاعتقاد في الديمقراطية، حتى مع فشلها؛ فهي قادرة أكثر من غيرها على تصحيح مسارها بذاتها، وبسرعة، ومرونة أكبر. وإذا كان الإخوان خطرًا على الديمقراطية في بلد كمصر بسبب قدرتهم على توجيه الرأي العام عن طريق الدعاية الدينية، والتنظيم الفاشي، فإن البعض يذهب إلى أن الديمقراطية نفسها خطر على مصر بسبب سهولة انتهاز فرصتها من جهة الفاشية عمومًا، ومنها الإخوان، بينما يذهب المؤمنون بالديمقراطية إلى أن الإسلام السياسي، أو ربما الإسلام نفسه، هو الخطر الأساسي، الذي يمنع قيام ديمقراطية حقيقية. وهاتان النتيجتان الأخيرتان تحديدًا هما أوضح أمثلة العبث وتحصيل الحاصل في الفكر السياسي. وهما تؤديان إلى نتيجة واحدة، هي استبدال فاشية بفاشية بمنطق أخفّ الضررين.
ولأن الفاشية قد ماتت مؤقتًا في أوروبا الغربية، فقد سمحت حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية بعودة الديمقراطيات، بل وانتشارها غير المسبوق. ولأن الفاشية عند العرب قد تحولت من صورة إلى أخرى، وبقيت حية، فلم تتقدم السياسة إلا نحو ديمقراطية مزيفة أشد خطرًا. ولأن الفاشية قد عادت إلى الحياة في أوروبا بعد الربيع العربي إلى حد غير مسبوق من الحيوية منذ الحرب العالمية الثانية، فهو مما يطرق أجراس الإنذار، حين نتذكر أن الفاشيات العربية قد ازدهرت وقتَ ازدهار الفاشية في أوروبا، وأنها نجحت في الوصول إلى الحكم، وأنها –على عكس نظيرتها الأوروبية- قد نجحت برغم تقلب الظروف في البقاء على قيد الحياة. وإذا كانت كل الأفكار التي نجحت غربًا قد فشلت أو تعثرت في البلاد العربية، الليبرالية، والاشتراكية، والجمهورية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان،.. إلخ، فإن الفاشية تبدو النزعة السياسية-الاجتماعية الوحيدة، التي اخترعها الغرب، فاحترفها العربُ، مهما كان ثمن السلام، ومهما صارت نتائج الحرب.
المراجع:
[1] اطلعتُ بنفسي عام 2014 في متحف النازي بمدينة كولونيا على ملفات هؤلاء الأطفال، الذين تم إعدامهم، وكان عددهم حوالي 38 ألفًا.
[2] ينبغي التمييز بين مصطلحين، يتَرجمان إلى العربية عادةً بلفظ واحد هو “الفاشية”؛ ففي اللغات الغربية يختلف معنى Fascism، بالحرف الكبير عن fascism بالحرف الصغير. يعني الأول فاشية موسوليني تحديدًا، الفاشية الإيطالية، ويعني الثاني الفاشية عمومًا منسحبًا كذلك على النازية، وسواها من حركات فاشية.
[3] Solomon Volkov. Shostakovich and Stalin: the Extraordinary Relationship between the Great Composer and the Brutal Dictator, New York: Alfred A. Knopf, 2004.
[4] لتفاصيل أكثر عن علاقة سيبيليوس بحكومة الرايخ الثالث انظر مقال الكاتب: “انقطاعات سيبيليوس.. لغز السيمفونية المحترقة”، مجلة معازف الموسيقية، لندن، 2015.