تكوين
تحتل الفتوى مكانة مرموقة في تاريخ الثقافة الإسلامية؛ لارتباطها بواقع الحياة اليومية للمستفتِي، وتبعا لوظيفة الفتوى القائمة على إيجاد حلول دينية للمشكلات الفردية والجماعية، فـتُسهم الفتوى في تكْريس انتماء المسلم لفضائه الديني، بما تُنجزه من موائمة بين التزامات وإلزامات الدين الإسلامي من جانب، وبين اشتراطات الحياة الاجتماعية المتحركة المتغيرة من جانب آخر، فالفتوى تُمارس عملها في منطقة متداخلة بين الدينيّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ.
فالفتوى إحدى أهمّ آليات الخطاب الديني التي تتداخل، وتتشابك مع العلوم الإنسانية، فليس من السهل أن نتصورَ حدودا واضحة تفصل فصلا محددا بين فروع العلوم الإنسانية المختلفة؛ ذلك لأنّ الإنسانَ هو محور اهتمامها جميعا، وإن تباينتْ الزوايا التي يتناولها كلُّ علم بالدراسة والتحليل.
ففي ظلّ ما آلت إليه الأمور من تطورٍ وتعقّدٍ على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية أصبح ليس من الكفاية العلمية أن تعتمدَ الفتوى على الزاد الفقهي وعلوم الآلة التقليدية مغفلة العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات الإنسانية، وهذا ما أشار إليه منذ وقت مبكر تقرير منظمة اليونسكو العالمية “إنّ العالم الآن بحاجة أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى العلوم الاجتماعية للتّصدي للتحديات الكبيرة التي تُواجه البشرية”.([1]) غير أن المؤسسات الدينية لم تلتفت إلى أهمية إدماج العلوم النفسية والاجتماعية وعلوم الإدارة في برامج التعليم الديني التي تُعد الخطيب والمفتي والداعية، فما زالت مثل هذا العلوم لا وجود لها في أغلب الأقسام العلمية.([2])
فالقضايا التي تتصدى لها الفتوى تثير عدة تساؤلات، واستفسارات تتعلق بحقائق الحياة الاجتماعية، وتُركّز على فهم وتحليل نشاطات الإنسان المختلفة، وتُحاول تعليل أسبابها وتشخيص نتائجها وملابساتها؛ نظرا لتداخل جميع الوظائف الاجتماعية، واتصال كلّ أجزاء الحياة الاجتماعية اتصالا وثيقا.
فاليوم الفتوى إحدى المجالات الأكثر ازدهاراً في عالم الإنترنت، حيث تستحوذ الصفحات الدينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على نسبة ٥٢٪ من إجمالي عدد الفتاوى الصادرة عالميا، ويتنازع على الفتوى في عالمنا الإسلامي مؤسسات رسمية مُقننة لوظيفة الإفتاء، وشخصيات غير رسمية تُمثّل ظاهرة الإفتاء المرسل التي تعاظم دورها في المجتمع منذ بداية السبعينات، وتسببت في حالة انفصام عامة بين المسلم وواقعه.
ويصل حجم الفتاوى المقدّمة عبر أئمة المساجد ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عن شخصيات ومؤسسات رسمية وغير رسمية لأكثر من سبعة ملايين فتوى خلال العام الواحد، كما يُشير إلى ذلك المؤشر العالمي للفتوى، الصادر عن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ووحدة الدراسات الاستراتيجية بدار الإفتاء المصرية.
ويُمثّل المؤشر العالمي للفتوى محاولة جديدة لرصد مختلف أشكال ومستويات الفتوى، مقدّما خريطة لحالة الفتوى في العالم، وقد بلغت مساحة العينة التي اعتمد عليها “المُؤشر العالمي للفتوى”، سبعمائة ألف فتوى في الإصدار الأول، وبلغت في الإصدار الثاني ما يقرب من أربعة ملايين فتوى متنوعة المصادر، والجنسيات، والأيديولوجيات، واللغات منها الإنجليزية، والفرنسية، والفارسية، والأوردية، والتركية، والألمانية، وغيرها.
فقد رصد المؤشر الفتاوى في أربعين دولة منها جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، والكويت، ومملكة البحرين، وفلسطين، وليبيا، والعراق، والمملكة الأردنية، وسوريا، وتونس، والجزائر، والمملكة المغربية، واليمن، والسودان، ولبنان، وموريتانيا، وبريطانيا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، والهند، وإندونيسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وباكستان، وألمانيا، والفلبين، وتركيا، وماليزيا، وإيران، وأفغانستان، وفرنسا.
الفتوى أو الصراع على الهيمنة: مدخل إلى مفهوم الإفتاء
وتنوعت مصادر الفتاوى بين شخصيات، ومؤسسات رسمية، وغير رسمية، وجمعيات دينية، وتنظيمات إرهابية من مختلف الأقاليم الجغرافية، وقارات العالم، وقد راعى المؤشر في اختياره للنّوافذ والمصادر الإعلامية المُصدرة للفتوى الوزن النّسبي لكلّ نافذة، والتصنيفات العالمية للمصادر الإعلامية؛ فضمّ (٥٠٠) دار إفتاء وهيئة رسمية عربية وأجنبية، و(١٥٠٠) موقع متخصص في الفتوى، و(٢٠٠٠) صحيفة وموقع إخباري، و(١٠٠) قناة تليفزيونية، و(٢٠.٠٠٠) عشرين ألف حساب على مواقع التّواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى (٢٠٠٠) مصدر متنوع بين محركات بحث متخصصة، ومراكز أبحاث، وكتب، وإصدارات مرئية إلى غير ذلك، وقد اعتمد المؤشر على تقسيم خاص للدوائر الجغرافية على خلاف الاثني عشر نطاقا جغرافيا التي اعتمدتها الأمم المتحدة، فقسّم المؤشرُ العالمَ إلى نطاقات أربعة: النطاق المحلي (مصر)، والنطاق الخليجي (دول الخليج الستة)، والنطاق العربي (باقي الدول العربية)، والنطاق الإقليمي والدّولي.
وقد تصدّرتْ مصر والمملكة العربية السعودية قائمة الدول الأكثر إصدارا للفتوى في العالم، فوفقا للمؤشر العالمي للفتوى، بلغتْ فتاوى دار الإفتاء المصرية ٤٥٪ من إجمالي الفتاوى على مستوى العالم بمتوسط ٥٠ ألف فتوى شهريا، وجاء مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر في المرتبة الثانية بنسبة ١٧٪، وجاء في المرتبة الثانية المملكة العربية السعودية، وفي المرتبة الثالثة إسلام ويب القطري ثم دار الإفتاء الليبية بنسبة ١١٪.
وقد ميز المؤشّر بين ثلاثة أنواع من الفتوى:
الأول: الفتاوى الرسمية الصادرة عن الهيئات الإفتائية التابعة للدول، وهي ما أطلقَ عليها المؤشر “الفتاوى المنضبطة”، وجاءت بنسبة ١١٪ إقليميا ودوليا، و١٨٪ عربيا، ٢٧٪ خليجيا ٤٤٪ محليا، وتصدرت مصر والأردن قائمة أكثر الدول إصدارا لهذا النّوع من الفتوى.
الثاني: الفتاوى الصادرة عن شخصيات رأى المؤشر أنّها لا تلتزم بقواعد صناعة الفتوى، وهي ما أطلقَ عليها المؤشر “الفتاوى المتساهلة”، وجاءت بنسبة ٧٪ إقليميا ودوليا، ٤٤٪ عربيا، ٢٠٪ خليجيا و٢٩٪ محليا.
النوع الثالث: الفتاوى الصادرة عن تنظيمات إرهابية تسعى إلى شرعنة العنف باسم الفتوى الدينية، وهي ما أَطلقَ عليها المؤشر “الفتاوى المتشددة” المضطربة غير المنضبطة، وجاءت بنسبة ٦٪ إقليميا ودوليا، ٣٦٪ عربيا، ٣٤٪ خليجيا و٢٤٪ محليا. وتركّزت تلك النوعية من الفتاوى جغرافيا في مناطق الحروب والصراعات حيث يتنازع المشهد الإفتائي أكثر من مرجعية دينية تسعى إلى تديين الصراع، فالفتاوى وليدة الأحداث والأجواء التي تعيشها كلّ دولة.
ولم تكن التنظيمات الإرهابية بعيدة عن المجتمع الافتراضي بل حاضرة بقوة، فالفتوي كما أنّها نِتاج أحداث سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، فإنّها كذلك صنعتْ أحداثا أرهقت الأمة، وأخذت من قوتها وعزيمتها، وصدرت صورا شائهة عنها، فكانت فتاوى التنظيمات الإرهابية سببا في سفك الدماء وزعزعة الأوطان، وقد اعتمدت في نشر فتاويها بنسبة ٧٠٪ على وسائل الإعلام الحديثة مثل تليجرام، تويتر، فيس بوك، مُطوّعة فتاويها لتحقيق أهدافها الإرهابية، ومثّلت الفتاوى الاستباقية نسبة ٩٠٪ منها، وهي فتاوى تسبق عمليات التنظيمات الإرهابية؛ لتكون بمثابة الضوء الأخضر المحرّك لعناصر التنظيم، مثل: فتاوى تكفير الديمقراطية التي تسبق العمليات الإرهابية المستهدفة لمراكز الاقتراع، كما حدث في انتخابات العراق مايو ٢٠١٨م، وضد المفوضية العليا للانتخابات الليبية، وأحيانا تأتي فتاوى التنظيمات الإرهابية في أعقاب العمليات كوسيلة تبريرية تشرح لماذا أقدموا على الفعل، كما يحدث عادة من التنظيمات ذات الصلة بتنظيم القاعدة.
وقد بلغ إجمالي الفتاوي الرسمية الصادرة عن هيئات ومؤسسات إفتائية تابعة للحكومات ٤٨٪ من إجمالي الفتاوى العالمية، وجاءت نسبة الفتاوى غير الرسمية ٥٢٪، ففي سلطنة عمان والمملكة الأردنية كانت الرقابة الرسمية على الهيئات الإفتائية حاضرة بقوة، فنسبة الفتاوى الرسمية ٩٥٪ في مقابل ٥٪ نسبة الفتاوى غير الرسمية، بخلاف دولة مثل تونس التي يقلّ عدد الفتاوى الصادرة عن ديوان الإفتاء إلى الحد الأدنى عربيا، ودولة موريتانيا التي سيطرت الفتاوى غير الرسمية على المشهد الإفتائي بها، لعدم اهتمام المجلس الأعلى للفتوى والمظالم (الهيئة الرسمية المعنية بإصدار الفتوى في موريتانيا) بنشر الفتاوى بشكل مستمر على موقعه الرسمي، فيستحوذ الإعلام الجديد على نصف الفتاوي الصادرة في موريتانيا، وفي مقدمتها فتاوى الشيخ محمد حسن الددو المنشورة على موقع تويتر.
وجاء في صدارة الدول الغربية المصدرة للفتوى مراكز الإفتاء في بريطانيا متمثلة في دار إفتاء برامنغهام ثمّ لجنة الفتوى بالمملكة المتحدة ثمّ المجلس الأوروبي، وتجدر الإشارة إلى أن الدول الغربية لا تُوجد بها مؤسسات أو هيئات رسمية متخصصة في الفتاوى تابعة للحكومة على غرار ما يحدث في الدول العربية والإسلامية، وإنّما يتمّ صناعة الفتوى من خلال الجمعيات والمراكز الإسلامية.
ويُمكننا التّعرف على مسار التّشدد من خلال تتبع صناعة الفتوى، فتراوحت٨٠٪ من الأحكام الشرعية الخاصة بفتاوى السلفيين بين حرام وواجب، فبلغت فتاوى التحريم ٣٠٪، وفتاوى الإيجاب٥٠٪، ولم تتجاوز فتاوى الجواز ١٠٪، فلم يُراعوا متغيرات الواقع، ولا السياقات الخارجية والداخلية للنصوص التي اعتمدوا عليها في أحكامهم.
من جانب آخر كانت “الشؤون والعادات الاجتماعية” أكثرَ المجالات التي شغلتْ المجتمع الافتراضي، ودارتْ حولها الفتاوى عبر وسائل التّواصل الاجتماعي بنسبة ٣٨٪، ويرجع ذلك إلى تأثر الفتوى بالقضايا العامة التي تشغل اهتمام الرأي العام، وأظهر المؤشر أن القضايا التي تشغل المسلم المصري لا تختلف عن التي تشغل الرأي العام الهندي فكانت قضية “الطلاق الشفوي” من أكثر القضايا الاجتماعية التي شغلت الرأي العام الهندي خلال عام ٢٠١٨.
كذلك استحوذت فتاوى المجتمع والأسرة في مؤشر فتاوى “أسك إف إم” ([3]) على ٥٠٪ من إجمالي الفتاوى المتداولة عبر الموقع، وشكّلت الفتاوى المتعلّقة بالمرأة الجزء الأكبر منها، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة الفئة العمرية التي ترتاد الموقع، والتي يتراوح أغلبها من ٣٠:١٥ عاما، مما يجعل القضايا الاجتماعية هي الشاغل الأهم بالنسبة لهم. وجاءت العبادات في المركز الثاني بنسبة ٢٥٪، وتنوعت بين أحكام الصلاة والصيام والطهارة والدعاء، ثمّ الفتاوى ذات الصلة بالعقائد بنسبة ٨٪ وكان النصيب الأوفر لسؤال: “ما حكم الزواج من أتباع الديانات الأخرى؟” ([4])
وقد ركّزت التنظيمات الإرهابية على الفتوى السياسية في تبرير عملياتها، واستقطاب المزيد من الاتباع، وهذا يُفسّر ارتفاع معدلات فتاويها السياسية، فمثّلت الفتوى ذات الهدف السياسي نسبة كبيرة من فتاوي تلك التنظيمات، فبلغت نسبة٨٧٪ تقريبا لدى داعش، و٨٥٪ لدى القاعدة و٦٠ ٪ لدى حركة حسم الإخوانية، وتركّزت أهدافهم السياسية في هدم الدولة الوطنية بتكفير الحكومات والمؤسسات، بالإضافة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية المنافسة وتكفير الديمقراطية والحكام وأصحاب الديانات الأخرى، وتكفير المسلمين المؤيدين للحكومات القائمة، فأتتْ الفتاوى السياسية المُكفرة للدول والحكام بنسبة ٦٥٪ من إجمالي الفتاوى ذات الطابع السياسي، ومثّلت فتاوى تكفير الديمقراطية ٣٥٪. وفي المقابل لم تشغل الفتوى الاجتماعية سوى ٥٪ لدى تنظيمات داعش، و٢٥٪ لدى التنظيمات ذات الصلة بالقاعدة؛ مستهدفةً تحسين صورة التنظيمات، وبيان مظلوميتها للحصول على تأييد أوسع، واستقطاب أكبر عدد من الشباب، بالإضافة إلى إبراز أعمالها الإرهابية باعتبارها دفاعا عن الإسلام.
وكشف المؤشر العالمي للفتوى الدور الذي يلعبه الموقف السياسي في تشكيل وصناعة الفتوى، ففي الانتخابات التي تُشارك فيها جماعات الإسلام السياسي تكون المشاركة الانتخابية “واجب شرعي، والمقاطعة حرام”، وتستخدم تعبيرات من قبيل “غزوة الصناديق”، و”المشاركة ضرورة وفريضة شرعية”، ومع تغيّر الموقف السياسي تتغيّر الفتوى فيصبح “المشاركة حرام، والمقاطعة واجب”، وتستخدم تعبيرات من قبيل “المشاركة خيانة، و”حرام”، و”مشاركة في الظّلم”، و”شهادة زور”.
كذلك تأثّرت فتاوى التنظيمات المسلحة بمواقفها السياسية، وأوقعتها في تناقض واضح، فرغم أنّ التنظيمات الجهادية تتمسك بفتوى “تحريم سفر المرأة للحجّ بغير محرم”، إلا أنّها أفتت بوجوب هجرتها من كل دول العالم إلى العراق وسوريا بدون مَحْرم.. ومن التوظيف السياسي للفتوى تركيز مجلس القضاء الإسلامي في جنوب إفريقيا على إصدار ونشر الفتاوى بشكل كبير لمناهضة العمليات الإرهابية داخل الدولة وخارجها، وفي باكستان انصبّ اهتمام الفتوى الباكستانية على تحريم العمليات الانتحارية، فشارك ١٨٠٠ عالم باكستاني في صناعة فتاوى التحريم..
كذلك أظهر المؤشر تأثّر المنصات الإفتائية الدولية بأفكار من يُسيطرون عليها، ففي بريطانيا التي استحوذت على المرتبة الأولى في الجهات المصدّرة للفتوى في أوروبا جاءت ٧٥٪ من الفتاوي الصادرة عن دار إفتاء برمنغهام، من منظور المؤشر، غير منضبطة.
من جانب آخر لم تنشغلْ المجتمعات الافتراضية بموقف الدين من المشكلات الاقتصادية، فتراجعت نسبة فتاوى الهيئات والمؤسسات الرسمية الدولية حول الأحداث الاقتصادية، فسجّل هذا النوع من الفتوى نسبة ١٥٪ فقط من الفتاوى المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما بلغت على المستوى العربي نسبة ١٠٪ وعلى النطاق الخليجي نسبة ٥٪.
ولجأت التنظيمات الإرهابية إلى تطويع الفتوى لخدمة أغراض التنظيم الاقتصادية التي بلغت نسبة ٨٪ من إجمالي فتاويهم في فضاء الإنترنت، ومنها الإفتاء بضرورة الاستيلاء على ما يقع في أيديهم جراء العمليات الإرهابية، ويُطلقون عليها “غنائم”، وفتاوى إجازة عملة “البيتوكين” لتسهيل عمليات نقل الأموال بما يُساهم في تمويل عمليات تلك التنظيمات.. وكما تؤثر بعض القرارات السياسية في زيادة معدلات الفتوى عالميا، كان للمستجدات غير المسبوقة دور في إثارة الجدل، والاختلاف، فتفاوتت الفتاوى الرسمية التي تناولت المستجدات غير المسبوقة بين التحريم والجواز، ففي الوقت الذي حرّمت دار الإفتاء المصرية والفلسطينية والهيئة العليا للشؤون الدينية في تركيا التعامل بالبيتكوين، أفتت مواقع: فوركس العربية السعودية، وإسلام ويب، وطريق الإسلام بجواز التعامل به.
ولعبت الفتاوى الموسمية الدور الأبرز في ارتفاع نسب الفتاوى.. فقبيل شهر رمضان بلغ عدد الفتاوي ٥٩٢٦٨ بنسبة ١٢٪ محليا، و١٧٪ دوليا؛ لتواصل ارتفاعها في شهر رمضان، وتنحصر بعد ذلك، لتعود من جديد للصعود في شهري ديسمبر ويناير مع الاحتفالات بأعياد الميلاد المجيدة، والعام الجديد فتتحول صفحات التواصل الاجتماعي إلى ساحات للاستقطاب الفكري، وتزداد عدد الفتاوى المضطربة/المتشددة، ويتجلى بوضوح التباين بين فتاوى الماضي والحاضر، وأثر المُكون الثقافي والبيئي في صناعة الفتوى.
كذلك مثّلت الفتاوى النسائية هاجسا يُؤرق المجتمعات المسلمة، فشملت الفتاوى المرأةَ من الرأس حتى القدمين، فوفقا للمؤشر سيطرت أحكام عدم الجواز على ٣٧٪ من إجمالي الأحكام المستخدمة في فتاوى المرأة، جاء منها ٨٦٪ على ألسنة شخصيات وكيانات غير الرسمية. وتمّ استخدامها في مواضع متشددة بنسبة ٤٥٪. بينما جاءت أحكام “الجواز” في المركز الثاني بنسبة ٣٦٪، واُستخدم ٣٥٪ منها في مواضع متساهلة أدّت إلى اضطراب العديد من الفتاوي.
وفي الوقت الذي سعت الفتاوى الصادرة عن المؤسسات الدينية الرسمية إلى التأصيل لمعاني التعايش والتسامح، كانت فتاوى الخطاب السلفي يطال “التحريم” فيها كلّ شيء في العلاقة بالآخر، وتحرّض أحيانا على المخالفين في الديانة أو المذهب، وجاءت فتاوى التنظيمات الإرهابية مُكفّرة لأصحاب الديانات الأخرى، مطالبة بوجوب هدم الكنائس والأديرة والمعابد وعدم إعادة ترميمها، ومن أبرز الفتاوى في ذلك ما جاء في كتاب “الأثر المحمود لقهر ذوي العهود”، وكتاب: “قهر الملة الكُفرية بالأدلة المحمدية”.
لم تتعرض الفتاوى الرسمية لأحكام الجهاد سوى بتحريم التفجيرات الانتحارية، بينما ظلّت فتاوى جهاد الكافرين الأكثر استحواذا على فتاوى التنظيمات الإرهابية، وكان لها أثر كبير في إشعال الأحداث، ومن أخطرها فتوى تكفير “الصوفية” ووصفها بالأشد شركا التي نشرتها صحيفة “النبأ” في عددها (٥٨) وهي الفتوى التي ترتب عليها وقوع مجزرة مسجد الروضة في نوفمبر ٢٠١٨ والذي راح ضحيته قرابة ثلاثمائة شخص، ففتاوى التنظيمات الإرهابية العالمية هي نموذج لصناعة القتل باسم الدين.
وعلى الرغم من تصاعد وتيرة الفتاوى الرسمية المضادة للفكر التكفيري، إلا أنّها لم تصنع حالة معرفية مضادة للتطرف، فالمؤسسات الدينية في حاجة إلى مواجهة إشكالية تداخل والتباس المفاهيم في عقل المُلقى والمُتلقي، فالعقل المسلم أمام خليط من الأصول والماهيات، فقد يريد المتحدث أو الكاتب من المفهوم دلالة، ويدرك السامع أو القارئ دلالة أخرى، فكلمات مثل المساواة، أو الحرية، أو “الجهاد، أو الجماعة المسلمة، أو الهجرة، ذات دلالات ملتبسة في العقل الجمعي هل يُراد منها المدلول اللغوي أم التراثي أم السياسي!
على سبيل المثال “الجهاد” له مدلول أول تاريخي قديم ليس له وجود في الواقع، وإنْ أصرّت جماعات “التمايز بالإسلام عن المسلمين” على استدعائه، هذا المدلول التاريخي ارتبط بصراع الرسل مع أقوامهم، أو ما يُمكن أن نُطلق عليه صراع المربع الأول، فكانت غاية الرسل أن يسمحَ لهم أقوامُهم بأن يخالفوا دين الآباء، فأتباع الأنبياء جميعا، رغم اختلاف أزمنتهم، تعرّضوا لرفض اجتماعي، ومحاولات إبادة من أقوامهم، الذين لم يقبلوا بوجود مخالفين لعقيدتهم بينهم، وقد حكى القرآن الكريم هذا الموقف المشترك من أقوام الأنبياء بقوله تعالى: “وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنُهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.” [سورة إبراهيم: الآية ١٤،١٣] فلم يكن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجهاد سوى أن يُخلّو بينه وَبَيْنَ النَّاسِ وأن يتوقف المجتمع القبلي المحيط بالمسلمين عن التعامل معهم كشرذمة متمردة يجب القضاء عليها، حتى أنّ المسلم كان لا يأمن على نفسه في طريقٍ، إذا عُرفت عقيدته.. فاليوم انتفت الحاجة إلى الجهاد للسماح بالإسلام؛ فالعالم يتبنى فكرا حقوقيا يجعل الاعتقاد حقا إنسانيا مكفولا للإنسان في كل مكان، وبمقدوره أن يمارسه بحريته وفقا لما يروقه من المعتقدات الدينية.
من جانب آخر يحمل دالّ “الجهاد” مدلول ثانٍ معاصر استفاد من مدلولات اللفظ اللغوية في بناء معانٍ جديدة، نابعة من بيئتنا الخاصة وثقافتنا المعاصرة، فالمفاهيم لا تقف عند زمن بعينه، بل تتحرك مع العقل المسلم الذي ينبغي أن يكون في حالة حراك دائم.. فيمكننا القول إنّ المفهوم المعاصر لكلمة الجهاد الذي ينبغي على المؤسسات الدينية أن تعمل على تدويله، وإشاعته في الثقافة الإسلامية المعاصرة أنّ الجهاد هو استفراغ الجَهد في تعزيز دور العقل، وخلق فرص اقتصادية، والعمل على حماية البيئة وحقوق الجنسين والأقليات والرعاية الصحية والتعليم، هو بناء دولة عصرية ذات مؤسسات مجتمعية فاعلة في مختلف الميادين، فارتباط الدالّ (الجهاد) بمدلول (القتال) ليس لازما ثابتا لا يتغيّر، انطلاقا من تصوّر بعض القدامى، مثل ابن القيم، أنّ الأسماء ترتبط بالمسميات بعلاقة تلازم، فالدراسات اللغوية الحديثة استقرت على أن العلاقة بين الأسماء والمسميات اعتباطية، فاللغة ظاهرة اجتماعية تتغيّر معانيها تبعا لاختلاف البيئات، وتتحرّك دلالتها تبعا لحركة الزمن، فهناك دلالات تختفي ودلالات تُستحدث، فمثلا كلمة رواية لها مدلولات تختلف تبعا للزمن والبيئة، فمدلولها في دولة بني العباس يختلف عن مدلولها قبيل الإسلام، عن مدلولها في العصر الحديث، فالمدلول ليس وليدَ اللفظ بل وليد فكرة وثقافة تُساهم في إنتاج الدلالة، فأفكارنا عن الجهاد ينبغي ألا تتأثر بخطاب الفصائل الإسلامية في ربطه بالسلاح، وعلينا أن ندفع بالدلالة إلى الميادين التي نحتاج إليها من جهاد العمل والبناء.. جهاد القلوب؛ لتتعلم المحبة، وجهاد النفوس؛ لترتقي بسلوكها.
أخيرا من الضروري التفريق بين الدين والفكر الديني بما يُساعد المؤمن على التمييز بين منطقة الطاعة حيث لا يُوجد اختيار، ومنطقة الرأي حيث يُمكنك الاختيار، فالدين يَكْمن حيثُ لا يُمكن أن يتدخلَ الصوتُ الإنساني بالتفسير والتأويل، فتكون “الطاعة” هي الجواب على التكليفات الدينية، التي تتسم بأنّها محدودة، محدودية الثابت في اجتماع متغيّر.. ويكْمن الفكر الديني حيث يُوجد الرأي/ الاجتهاد وهنا لا يُطالب الإنسان بالطاعة، بل بالاختيار بين آراء/ اجتهادات، فلا يحقّ لعاقل أن يُنيب غيره عنه في الاختيار بينها ما دمنا جميعا متساويين في امتلاك هذه الملكة المفكّرة المسماة بالعقل، “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” [الشمس:٨،٧]. فالله ألهم النفس، لا مرشدها، ولا شيخها، ولا أميرها كيف تختار.. وهذا ما أشار إليه الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق، بقوله: “الفهم الإنساني في الإسلام ليس دينا يُلتزم، فقد اتصلت بالقرآن، بعد أن التحق النبي بربّه، أفهام العلماء والأئمة فيما لم يكن من آياته نصّ في معنى واحد… ومن هذا الجانب اتسع ميدان الفكر الإنساني، وكثرت الآراء والمذاهب، لا على أنّها دين يلتزم، وإنما هي آراء وأفهام فيما هو من القرآن محتمل للآراء والأفهام… أما العقائد الأصلية كالإيمان بالله واليوم الآخر، وأصول الشريعة كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة النفس والعرض والمال، فإنّ نصوص ثبوتها جاءت في القرآن واضحة، لا تحتمل اجتهادا، ولا أفهاما.
وإذا دلّت طبيعة الإسلام هذه على شيء، فإنما تدلّ على أنّه دين يتسع للحرية الفكرية العاقلة، وأنه لا يقف، فيما وراء عقائده الأصلية وأصول تشريعه، على لون واحد من التفكير، أو منهج واحد من التشريع، وقد كان – بتلك الحرية – دينا يُساير جميع أنواع الثقافات الصحيحة، والحضارات النافعة التي يتفتق عنها العقل البشري في صلاح البشرية وتقدمها مهما ارتقى العقل، ونمت الحياة”.
المراجع:
([1]) تقرير منظمة اليونسكو المُعنون بـ”الفجوات المعرفية”.
([2]) لا وجود للعلوم الاجتماعية في كليات الشريعة وأصول الدين، والدراسات الإسلامية والعربية، وكلية اللغة العربية، ويقتصر وجودها على مادة واحدة تُدرس في كلية الدعوة فصلا دراسيا واحدا من بين ثماني فصول دراسية.
([3]) يُعدُّ (إسك إف إم) من أحدث مواقع التّواصل الاجتماعي التي ظهرت وانتشرت بكثرة، ووصل المستخدمين النشطين خلاله على مستوى العالم سنويا إلى ما يقرب من ٣٣ مليون مستخدم، فعلى الرغم من تأسيسه في ١٦ يونيو ٢٠١٠ بدولة لاتفيا، وانتشاره في العالم الغربي، غير أنّه ذاع صيته خلال الآونة الأخيرة في العالم العربي، لاسيما مصر.
([4]) يُنظر: المؤشر العالمي للفتوى، الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ص١٧١.