تكوين
كان من أول أسئلتي البحثية في مجال تخصصي العام، الفلسفة الإسلامية، كان في مادة الامتياز بالسنة الثالثة بقسم الفلسفة: هل ثنائية النقل والإبداع عند حسن حنفي، ونظائرها: التراث والتجديد عند حنفي أيضًا، والإبداع والاتباع عند أدونيس، والعقل والنقل عند القدماء، والأصالة والمعاصرة عند المحدثين، وما يناظرها، يمكن الاعتماد عليها كنموذج لدراسة تفاعل الفلسفة الإغريقية مع الإسلام كدين، وكعلوم دينية بدأت تتبلور كمجالات دقيقة في الفترة نفسها، التي ازدهرت فيها حركة الترجمة، أي القرن الثالث الهجري؟
الفلسفة الإسلامية
بدأت الفلسفة الإسلامية في القرن نفسه على يد الكندي (ت 256 هـ)، وهي في جانب جوهري منها على الأقل حصيلة وعي المسلمين، الذين تربوا بالذات منهم على أيدي المعتزلة كالكندي، أو باطنية الشيعة كابن سينا، بأهمية إنتاج مفاهيم، ونظريات، وأنساق، تَنْظمُ تصوراتنا عن الوجود ككل في وحدة واحدة، كما فعل الإغريق قديمًا.
ولكنْ لماذا نعالج هذه الظاهرة التاريخية-المعرفية بثنائية بسيطة إلى حد السذاجة، وقديمة لم يمر عليها تحديث منذ أثيرت بصورة واضحة مع انقسام أهل الرأي وأهل الحديث، أو التفسير بالرأي، والتفسير بالمأثور؟ هل هي مفاهيم تمت مراجعتها نقديًا بما يكفي أولاً؟ مثلاً يمكن نقد مفهوم “النقل” بأن ما نقول إنه نقْل هو في الحقيقة عقل “آخَر”، يحتمي من محاولة نقده باعتباره امتدادًا للوحي. وذلك أنَّ ما نطلق عليه النقل مجازًا هو -في كل الحالات- فهْمنا للنقل بالمعنى الحقيقي: “النصّ”. وبتطبيق هذا النقد وحده، فضلاً عن أوجه نقد عديدة أخرى، نجد أن القطبيات البسيطة الثنائية قد تفككت إلى قطبيات معقدة متنوعة، هي أقرب لتفسير ديناميكا ذلك الصراع القديم، وكيف تطورت مع الزمن، وعوامل تطورها. أبسط الأدلة البدهية على ذلك أن أحدًا لا ينحاز للنقل، أو يعلن اعتماده عليه لمجرد أنه يفضل فعل ذلك بالغريزة، وكذلك لا ينحاز أحدهم للعقل؛ لأنه مطبوع على ذلك. العوامل الأكثر واقعية، والتي نعاينها في بيئتنا المعاصرة يوميًا بالمشاهدة المباشرة، هي صراعات القوَى الاجتماعية، وكيف يمكن لطبقة سائدة، أو ربما للطبقتين السائدة والعبدة، أن تستغل “رأيًا” قديمًا، أو فهمًا حرفيًا لنص معين، من أجل ضمان مصالحها، والقنوات الثقافية، التي عبرها تنتقل الأفكار في المجتمع كالنبضات العصبية، في مسارات بعينها بين شرائح اجتماعية متباينة، أو فئات ذات خصوصية، كخصوصية جمع ميزة التعليم مع ميزة التواصل في الأوساط العمالية، والطلابية، فالميزة الأولى هي القدرة على فهم الواقع من منظور مختلف من دون تسليم مبدئي، والميزة الثانية هي التي تؤهل تلك الفئات لخلق رأي عام، وإمكانية تنظيم أنفسها على نحو ذاتي. تتسع دراسة العوامل كذلك لعوامل إدامة التوازن الاجتماعي، وعوامل كسر هذا التوازن، وعوامل الحراك الطبقي، والحس القومي، وعوامل التكافل الحيوي بين طبقتين متناوئتين، أو قوتين سياسيتين واقتصاديتين منظمتين كالجيش في بعض الدول كقوة سائدة، والإخوان المسلمين كمعارضة، أو غيرهم من جماعات إسلامية أكثر تطرفًا. ولا يتسع المقام حتى لإحصاء عدد المجالات البحثية المستقلة، التي ينبغي الاستفادة من منهجيتها أو نتائجها، أو تحديد الموقف منها على الأقل. المقصود هو أننا بمجرد أن نشرع في تصور أول معالم تلك الشبكة المعقدة يعسر علينا فورًا إلا أن نتعامل مع تلك الثنائيات المذكورة بما هي بعض أوضح أعراض التعامل غير النقدي، وغير الإبداعي مع مفهومنا نفسه عن العقل، والإبداع.
الفلسفة في الحضارة الإغريقية والإسلامية
كان مدخلي في عامي الثالث بقسم الفلسفة، مع أول تساؤل بصدد ما سبق هو دراسة حالة الصدام بين العنصرين المعرفيين الجوهريين في كل من الحضارتين الإغريقية والإسلامية، أي بين المنطق الأرسطي القادم من الماضي الغربي، وبين الوحي الكتابي القائم في الحاضر الشرقي. وبعد التخرج دفعني التساؤل ذاته إلى وضع ورقة بحثية، نشرت عام 2008 بعنوان “نسق المنطق ومنطق النسق”،[1] ثم ورقة ثانية نشرت عام 2012 بعنوان “أصول المنطق ومنطق الأصول”،[2] هي تطوير للورقة الأولَى. كل من الورقتين يدرس طبيعة الجدل، أو الصدام، الذي وقع بين المنطق الأرسطي من جهة بما هو أطروحة الفلسفة الإغريقية الهُمَّى، التي قننت الفكر للمرة الأولى على نحو مسهب ومنظم ودقيق، وبين أطروحة الإسلام الأساسية، القرآن، من جهة أخرى. لم يطلق اليونان على أرسطو لقب “المعلم الأول”، وإنما أطلقه المسلمون. وسبب اللقب هو وضعه لعلم المنطق بأجزائه الثمانية، فيما عُرِف باسم “الآلة”، أو “الأورجانون” بالتعريب.
واستنتجتُ أن الصدام لم يقع بين أطراف تلك الثنائيات البسيطة، بل يمكن فهمه من الزاوية المعرفية الصرفة ضمنَ سياق تفسيري أشمل طبقًا لنموذج جديد، هو ثنائية: “الصورة والحقيقة”، هو تعارض قوانين الاستنباط في حالة الشك في المقدمات (حالة المنطق الصوري أو مُكوِّن الصورة)، مع قوانينه في حالة اليقين منها (حالة القياس الفقهي أو التفسير بالمأثور أو مُكوِّن الحقيقة). ويمكن لمزيد من التفاصيل الرجوع للورقتين المنشورتين.
وفي مقامنا الحالي يمكن استقصاء الزاوية التاريخية-الاجتماعية المقابلة، والمتعالقة مع الزاوية المعرفية السابقة، وذلك بملاحظات أولية تتعلق بالعلاقة بين الفلسفة والسلطة في الإسلام طبقًا لثنائية: الحقيقة والقوة. فحين نقارن تاريخ الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفلسفة الغربية، نلاحظ أن أغلب فلاسفة المسلمين، وأشهرهم، تمتعوا برعاية السلطة ونفوذها على نحو مباشر لفترة طويل من عمر الواحد فيهم، بينما نرى العكس في الفلسفة الغربية، فلم يتمتع فلاسفة أوروبا القدماء والمحدثين برعاية مباشرة من قصور الحكام غالبًا، بل وقف كثير منهم موقف المعارضة. وهي ملحوظة تلقي ضوءًا جديدًا على ظاهرة “التوفيق” في الفلسفة الإسلامية، التي تعتبَر على نحو تقليدي وشائع الحل، الذي قدمته الفلسفة الإسلامية لإنهاء الخلاف بين أقطاب الثنائيات: العقل والنقل، والوافد والرافد، والإبداع والاتباع، .. إلخ. وقد عُهِدَ في رواية تاريخ الفلسفة الإسلامية على أنها تاريخ من التوفيق بين أطروحات الإسلام الأساسية، وبين ثلاثة أساسيين من فلاسفة اليونان: أرسطو، ثم أفلوطين، ثم أفلاطون، بترتيب الأهمية.
التراث الإغريقي والإسلامي
على أنّ هذا الجدل/الصدام/الحوار عمومًا بين التراث الإغريقي والتراث العربي الإسلامي قد دفع كثيرين أيضًا لوضع أبحاث هامة، بل موسوعية في هذا الشأن. ويمكن التأريخ لتلك الأبحاث، التي تعرضت لتلك القضية، بدايةً مِن أول تأريخ حديث منظَّم للفلسفة الإسلامية على يد المستشرق الهولندي دي بور، بكتابه الأشهر، الذي ترجمه الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة عن الألمانية منذ عقود طويلة تحت عنوان “تاريخ الفلسفة في الإسلام” كأول مؤلف موقوف على سردية معينة لمراحل تطور هذه الفلسفة كسلسلة ذات حلقات متصلة أحيانًا ومنفصلة أحيانًا.[3] على أن أشهر، وربما أهم، ما وُضع بأقلام العرب في هذا الصدد هو ما وضعه أشهر اسمين في الفكر العربي المعاصر في حقبة ما بعد السبعينيات إلى اليوم: حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، اللذين خصصا اثنين من أهم مؤلفاتهما لدراسة هذه الظاهرة: ظاهرة التوفيق في الفلسفة الإسلامية.
رأى حسن حنفي في “من النقل إلى الإبداع” أن هذا التوفيق كان عملية ديناميكية معقدة، ذات خطوات متصلة، في ديالكتيك جامع للنقائض، يستعيد الماضي في الوقت الذي يتحرك فيه نحو المستقبل. وبالتالي يُتوصَّل إلى الأصالة عبر درجات من النقل، الذي يتخلله طيفٌ يتسع مع الوقت من الإبداع متعدد المراحل. وكان يشبهه لنا في المحاضرات بالساعة، التي تدور من النقل الخالص، الترجمة، في الساعة الواحدة، حتى تنتهي إلى الإبداع الخالص، حين تتم دورتها إلى الثانية عشرة، على نحو تدريجي منتظم. واتبعَ في دراسته الهائلة تلك منهج تحليل المضمون الكمّي، لإحصاء عدد مرات ورود الأسماء وعناوين النظريات الأجنبية في المصنف، وذلك بناء على معادلة بسيطة –ربما أبسط من الحد المعقول- تتخذ صورة علاقة التناسب العكسي بين عدد تلك المرات، وبين الأصالة الإبداعية. ووجدَ الجابري في سلسلة “نقد العقل العربي” أن التوفيق هو نفسه أساس الإبداع، وأن العقليتين، اللتين تمتعتا بهذه الإمكانية في تاريخ الفلسفة القديمة، والوسيطة، هما العقليتان اليونانية، والعربية. يمكن استنتاج معادلة الجابري بما هي علاقة تناسب طردي بين التوفيق والإبداع؛ لأن الإبداع –في منظوره- هو تحول نوعي يحدث بعد هضم الوافد المعرفي في مرحلة التوفيق.
توصل كل منهما إلى معادلته الخاصة، كي ينظُمَ النقل مع الإبداع، بمنهج جدلي مثالي عند حنفي، ومنهج بنيوي عند الجابري. وربما كان الجابري بحسب معادلته المستنبَطة مستوفيًا أشملَ من حنفي لمعادلة الجدل؛ وذلك باعتباره الضمني أن الإبداع تحول كيفي بعد مخاض كمّي. وانتهى كل منهما إلى نتائج مختلفة في التفاصيل، لكنهما اتفقا في نتيجة أساسية عامة، هي أن التوفيق واقع حقيقي في الفلسفة الإسلامية، بل اعتبراه بالفعل من خصائصها المميِّزة، وأنه تم أحيانًا عن طريق الانتحال نفسه، وأنه في الآن نفسه كان أساس الإبداع. الفارق هو أن حنفي ميَّز بين التوفيق وبين الأصالة، بينما عَدَّ الجابري التوفيقَ مكوِّنًا عضويًا في عملية الإبداع لا غنى عنه. لهذا لزمَ عند حنفي التخلص التدريجي من الوافد، حتى إنْ كان مجرد أسماء أعلام، حتى نصل إلى الأصالة النقية، بينما لزم عند الجابري التوفيق، حتى نصل إلى إبداع جديد في تجليه البنيوي الإبستيمولوجي، والمستقبلي التاريخي، حتى وإنْ ظلت به حيةً عُضيَّاتٌ[4] بعد تفكيك الوافد الجغرافي، والماضي التاريخي.
الفلسفة الغربية
ومع ذلك فحين ندرس علاقة الفيلسوف المسلم بالسلطة/ القوة بمعناها العيني، وليس بمعناها المجرد كما هي أحيانًا عند نيتشه وفوكو مثلاً، ونقارنها بنظيرتها في الفلسفة الغربية من القديمة إلى المعاصرة، نتبين بالنظرة العامة الإحصائية بطبيعة الحال ما لا تراه العين المتورطة في مستنقعات التفاصيل، وما يضيف بعدًا جديدًا وهامًّا لهذا المبحث، بل ما ينعكس على فهمنا لمعضلة “التنوير” العربي المعاصرة، والفرق بين العلمنة الأوروبية، وبين ما يمكن أن يناظرها عربيًا. إن علاقة الفيلسوف الكبير بالسلطة الكبرَى عمومًا معقدة، ومجال للتناقضات الدرامية في أغلب الأحيان. مثلاً نجد أن ابن رشد قد حظي بمنصب قاضي القضاة، ومع ذلك تعرض للطرد، والنفي، وإحراق الكتب. ونجد أن الفارابي، المعلم الثاني، فيلسوف بلاط سيف الدولة الحمداني، وابن سينا الشيخ الرئيس، الوزير، جالينوس الإسلام قد حظيا كذلك برعاية السلطة، كل منهما في أرضه وزمنه، وكذلك تعرضا للطرد من الملّة، ومن الدولة، في حياتهما، وبعد وفاتهما كذلك على يد الغزالي. بل نجد أن الغزالي نفسه قد تمتع برعاية مشابهة، ولكنه ظل متخوفًا من سوء فهم نصوصه، ووضَع مؤلفاتٍ يُضَنُّ بها على غير أهلها. ومَن ينظر في “مشكاة الأنوار” للغزالي، فسيجد فُرَصًا ذهبيةً لتكفيره أكثر مما تتيحه كتابات الفارابي وابن سينا! هي علاقة معقدة، ولكنْ من الصحيح بصورة عامة القول بأن هؤلاء الثلاثة قد ربحوا كذلك تأييد السلطة، و”سلطتها” لفترة طويلة، وجوهرية في حيواتهم الثرية بالأفكار والأعمال.
ولكنْ إذا كان ابن رشد تعرض للطرد، وإحراق كتبه، وهي رواية فيها نظَرٌ، فإن سيجر البرابانتي Siger of Brabant(+1282)، أحد أهم أعمدة الرشدية اللاتينية –مثلاً- قد سُجِنَ، ثم قُتِل. لا نجد في الفلسفة الغربية إلا قليلاً من أهلها، ممن وصلوا فعلاً إلى قصور الحكام، واستقروا بها لفترات طويلة من أعمارهم، ومن كثرةِ إنتاجهم، وكتبوا في المقابل ما يرضي حكامهم، أو منحوهم الدعاية المناسبة بمجرد قربهم منهم، والبعد عن معارضتهم، كأرسطو معلّم الإسكندر، وحتى وفاة الأخير، التي اتُّهِم بعدها بالإلحاد قبل وفاته هو بعام واحد. نجد كذلك ماركوس أوريليوس (ت 180م)، الذي كان فيلسوفًا رواقيًا مهمًا، وآخر أباطرة الرومان العظام، ولكنه بالأحرى نموذج اتحاد الفيلسوف بالسلطة، لا تحالفهما. نجد هيجل، “فيلسوف الدولة البروسية” كما قيل عنه، ولكنه تعرض للتكفير، واضطر لتبديل فقرات في كتاباته الأساسية، كما وقعَ قبله لكانط. وهما عمادا الفلسفة الغربية الحديثة كلها تقريبًا.
وبرغم ما تعرض له هيجل من رقابة، وتكفير، فمن الممكن الحديث عنه كفيلسوف للدولة من نوع مميز في سياق الفلسفة الغربية، يختلف عن أرسطو، لأنه نظَّر لفكرة الدولة القائمة في بلده وزمنه بما هي نهاية سعينا الممكن، والواجب، والذي يستحيل سواه أصلاً في التاريخ، من جهة اعتباره للدولة القومية أرقى تجليات الروح الموضوعي، وأنها هي نفسها مصدر الحرية على مستوى ما هو معقول كما على مستوى ما هو واقعي؛ فلا حرية في نظره من دون القدرة على الفعل، ولا قدرة على الفعل بلا دولة، فهي مجال تحقق الإرادة موضوعيًا، وهي آلية لضبط حالة التوازن في المجتمع المدني، الذي هو عرضة للاختلال التلقائي في رأيه. وهو ما يشرّع ضمنيًا لسلطة الدولة على المجتمع المدني بما هي حتمية تاريخية. ومن المثير أن نلاحظ أن تلك الدولة، بروسيا، التي ساهمت بنحو مباشر مع الإنجليز في الهزيمة النهائية لنابليون بونابرت، والتي أسست الرايخ الثاني، بعد أن هزمت فرنسا على أرضها في موقعه سيدان، واحتلت باريس، وأسرت نابليون الثالث، ثم التي كان قادتها وجنودها نواة تكوين جيوش الرايخ الثالث، الذي هو أول مثال يخطر بالبال عادة على دكتاتورية الفرد، والنتيجة المدمِّرة لتطبيق نظرية المستبد العادل، هي الدولة التي استضافت أهم فيلسوف غربي من جهة تطويره لهذه النظرية، ومن جهة كونه فيلسوفًا للدولة عمومًا، بل من جهة كونه أهم فيلسوف على الإطلاق في الفلسفة الحديثة في رأي البعض. نجد بعد هيجل ماركس، الذي تحولت فلسفته إلى نظريات في الثورة والدولة، وتجلت في دساتير دول كبرَى، ونظُم حكم، وإدارة، واقتصاد، ولكنه هو نفسه طُورِد عبر أوروبا، وكان معارضًا بارزًا للنهاية. وانتشرت الأحزاب الماركسية في أوروبا بعد وفاته.
ربما يكون أرسطو، وهيجل نموذجين لما نبحث عنه كنظير –غير مُكافِئ مع ذلك- لغالبية فلاسفة الإسلام الكبار المثبِّتين لرواسي الدولة، كالكندي مُشرف بيت الحكمة، والفارابي واضع نظرية الحاكم-النبي المستمرة حتى اليوم عند الشيعة على وجه الخصوص، وفيلسوف بلاط سيف الدولة الحمداني، وابن سينا الوزير، والغزالي فيلسوف دولة السلاجقة، وخصم الإسماعيلية النزارية الأهم، الذي وضع “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” بتكليف من الخليفة المستظهر بالله، وابن باجه، الذي كان وزيرًا وقاضيًا بدولة المرابطين، وابن طفيل الوزير، الذي شيّع سلطان الموحدين جنازته، وابن رشد قاضي القضاة. أي أن السبعة الأشهر في تاريخ الفلسفة الإسلامية لم يقتصر تميزهم على قربهم من مراكز السلطة السياسية، بل امتدّ إلى عملهم القصدي غالبًا لتثبيت أركان الحكم، وحتى التنظير له كأنه غرض إلهي، وليس مجرد حتمية ميكانيكية، كما فعل الفارابي مقارنةً بهيجل.
وأهم سبب سمح لفلاسفة الإسلام في رأينا بالتوفيق بين حقيقة الفيلسوف وقوة السلطان هو المنهج: إشراقيًا في المشرق، ثم برهانيًا في المغرب. إن المنهج الذي تؤدي إليه نظرية الإشراق المعرفية، منهج الذوق أو العرفان، مشترَك من جهة مع الباطنية، الذين أقاموا دوَلَهم الخاصة في المشرق الإسلامي في ذلك الوقت، ومع التفسير الصوفي الإشاري في جانب منه، هو جانب المعنى الرمزي. لذلك فهو مناسب لاستغلاله من جهة الشيعة والسنة معًا على نحوين مختلفين، طالما سمح السنة بالتصوف. وهو مناسب من جهة أخرى للتنصّل من مسئولية المعنَى الحقيقي إذا تمادت الرقابة. ولهذا استلزم الأمر ربما حجة الإسلام نفسه، الغزالي، لهدم الأصول الفلسفية للباطنية، التي تقوم على نظريات الفارابي وابن سينا. ومن هنا نفهم دافعًا مسبقًا محتملاً عنده لتكفيرهم. ولم يتخلص أي من هؤلاء الفلاسفة (“حكماء الإسلام السبعة” بتعبيرنا) من المنهج العرفاني إلا المغاربة الثلاثة: ابن باجه، وابن طفيل، وابن رشد، وهذا ما ناسبَ مناهج حكومات المغرب الإسلامي السلفية في تلك الفترة أيضًا (دولة المرابطين ثم الموحدين)، من جهة نفي العرفان، والتوقف عند حدود التفسير المجازي طبقًا لعادة اللسان العربي، كما نصَّ ابن رشد في قانونه للتأويل. والتفسير المجازي موجود، وتم تقعيده فعلاً منذ القرن الثالث الهجري على أيدي المعتزلة، واستفاده منهم الأشاعرة. وهو –قانون ابن رشد- لا يعارض بذاته التفسير السلفي المعتمد على الرواية؛ لأن الروايات نفسها تضمنت تفاسير مجازية لبعض الآيات، مما يثبت وقوعه -من حيث المبدأ على الأقل- في القرآن.
وهو ما يؤدي إلى ثلاثة استنتاجات: أن التوفيق في الفلسفة الإسلامية، التي اعتبرها مستشرقون كثيرون، ومفكرون عرب محدثون كالجابري، توفيقية بالأساس، لم يكن بالأساس بين أرسطو والإسلام، بل بين أرسطو والحُكّام. وحتى أهل العقل والعدل، المعتزلة، إذا توسعنا إلى علم أصول الدين، كانوا -على نحو ما- رجال دولة في زمنهم. الاستنتاج الثاني هو أنّ هذا التوفيق تحديدًا هو الذي نجح في وقاية الفيلسوف من البطش، ومن الفقر، ومن تقلبات الدهر، ولم يقلل من إنجازاته النوعية في علوم مختلفة. الاستنتاج الثالث هو أن ما تحكم في نظرية المعرفة الإسلامية كعامل رئيس، ومتغير مستقل، هو عقيدة الدولة والحاكم، ولم يكن تطورًا معرفيًا قائمًا على النقد من العرفان إلى البرهان كما افترض الجابري مثلاً.
مع ذلك فإن هذه المقارنة لا تتعرض بصورتها السابقة لكامل مسار الفلسفة الإسلامية، ولا الغربية. إذا نظرنا للفكر العربي الحديث، فسنجد أن أغلب أعلامه، وأهمهم جاءوا من موقع المعارضة، ولم يتمتعوا إلا فيمن ندر منهم برعاية الدولة، من الأفغاني، ومحمد عبده، إلى طه حسين، وعلي عبد الرازق، ولويس عوض، ومحمود أمين العالم (قبل تصالح اليسار مع النظام الناصري في الستينيات)، وحتى جيل السبعينيات، جيل مشروعات القراءة المسحية للتراث العربي-الإسلامي. أما على جبهة الفلسفة الغربية فلا بد أن نلاحظ أن ظاهرة التحالف بين الفيلسوف والنظام الحاكم تكرر نفسها في أوروبا في العصر الوسيط مع أهم فلاسفة المسيحية تقريبًا توما الأكويني، كما سبقه إلى ذلك أستاذه ألبرت الأكبر. وكلاهما صار قديسًا، حين كانت الكنيسة في قمة سلطتها.
البروباجندا الدينية
هي إذن ليست صفة لازمة للفلسفة الإسلامية بما هي إسلامية أو عربية. كانت البروباجندا الدينية هي النوع السائد من الدعاية السياسية للنظم القائمة في العصور الوسطى عمومًا، في العصر الذهبي للإسلام، والعصر المظلم للمسيحية، المتعاصرين تقريبًا. وكان لا بد للفيلسوف أن يكون في جانب منه رجل دين، أو على الأقل كان عليه أن يتجنب التصادم مع رجل الدين، وإلا خرج من اللعبة في المراحل المبكرة. ومن هنا طوّع الفيلسوف منهجه ليسير على تلك الأرض الوعرة الخطرة. أما ما لاحظناه سابقًا من أن غالبية فلاسفة الغرب الكبار لم يكونوا من آل السلطة، وغالبًا وقفوا موقف المعارضة فهو صحيح؛ فبرغم أن لدينا نماذج قديمة، ووسيطة، وحديثة، ومعاصرة في الفلسفة الغربية ممن انحازوا للسلطة، وتشبعوا بخيراتها، لا تقل في عددها عن العدد المناظر على جانب الفلسفة الإسلامية، لكنّ هذا لا يحسب حساب طول فترة الفلسفة الغربية، وغزارة إنتاجها مقارنة بالإسلامية. وهو ما يعيد طرح السؤال: لماذا وقع هذا التفاوت بينهما في نسبة التحالف مع السلطة الحاكمة لصالح الفلسفة الإسلامية؟
إجابة هذا السؤال هي نفسها إجابة سؤالنا: لماذا تقاربت النسبة بينهما في مرحلة العصر الوسيط بالذات؟ نعتقد أنها سمة للعصر الوسيط ككل، العصر الذهبي للحكم الديني. إن توصل رجل الدين إلى كل هذا السلطان في ديانتين دعويتين (تبشيريتين) مركزيتين أجرى تحولاً نوعيًا على دوره: من رجل السماء إلى رجل السماء والأرض، من الحقيقة إلى الحقيقة والقوة. وهو ما انعكس بتحول نوعي آخَر على دور الفيلسوف: مِن طرح أسئلة الوجود والمعرفة والأخلاق بهدف الإجابة عنها إجابة أصيلة، تحل مشاكل الإجابات السابقة المختلفة، إلى التوفيق بين أفضل الآراء، التي انتهت إليها مرحلة الطرح الأصيل، وبين الرأي القائم وحده في دولة الفيلسوف المسلم. فلما تراجع تدريجيًا شأن السلطة الدينية محليًا على الأقل، وطُوِّرَ نظامُ التعليم العلماني الحديث في دولة محمد علي باشا، ليستقل عن الأزهر، ثم تتابعت عدة أقطار عربية وإسلامية على هذا الطريق، لم يعد رجل الدين –بالتالي- مُهمًا بالضرورة كدعاية للسلطة الحاكمة، بل يمكن أن يكون المثقف العلماني كذلك. ولكن لما كان ذلك الأخير عسيرًا على الإخضاع أحيانًا، فإن الأفضل للسلطة أن تستغل كلاً منهما لتحقيق تَوازُن ضعفٍ بدرجة معينة، يجعلها دائمًا ضرورية للحفاظ على حال التوازن، وإلا وقع اقتتال بين الطرفين العلماني، والإسلامي. وهي بالتأكيد حركة أذكى من الانحياز المبدئي إلى أي منهما، ومحاولة ترغيبه أو ترهيبه الأكثر من الحد، حتى لو كان هذا الانحياز غير المحسوب مفيدًا على المدى القصير؛ فهكذا تتجنب السلطة القاهرة مخاطر الاعتماد على مقهور واحد، قد لا تسهل في ظروف متطرفة السيطرة عليه.
وهو تحول نوعي بدوره في قوانين حركة المجتمع والسياسة والأيديولوجيا، انعكس على قوانين التلاعب بالحقيقة، والقوة، وعلى العلاقة بين أطراف اللعبة؛ فقد كانت مشكلتنا مع طرف واحد فقط فيما سبق من تاريخ الفلسفة، سواء أكنا علمانيين أم إسلاميين. أما بعد اعتماد السلطة في العالم العربي نِصفِ الحديثِ لتقنية التوازن بين المفكِّر والمُكفِّر فقد صار كلٌّ من الأخيرينِ يواجه الآخَر، ويخوِّنه بما هو متعاون مع سلطة غير شرعية، في الوقت الذي يواجه فيه كذلك مشاكله هو نفسه مع السلطة. وهو ما أدى –في أحسن الأحوال- إلى إهدار جهود عظيمة للفريقين، مع احتفاظ السلطة بقوتها لأطول وقت ممكن.
وربما كانت الأهمية التطبيقية للطرح السابق كائنةً في كونه يلقي ضوءًا جديدًا على ثنائية العلماني/الإسلامي، ويدفعنا لإعادة وضع استراتيجيات التغيير الثقافي. إن البنية الثلاثية للصراع السابق، وتفسير كيف تنتصر فيه السلطة غالبًا بالرغم من اكتسابها بلعبة التوازن أعداءً على الجبهتين العلمانية، والإسلامية، كليهما، يتفقان في إدانتها أحيانًا في المواقف نفسها، لكنهما لا يجرؤان غالبًا على كسر حالة التوزان، إن استطاعا ذلك من جهة المبدأ. والاستثناء، الذي لم تتوقعه السلطات الحاكمة في العالم العربي كان لحظة الربيع العربي في 2011، حين تحالف الخصمان الأيديولوجيان ضدها لفترة وجيزة من الوقت، طرفة عين هي في عُمْر الصراع المديد بينهما، لكننا شهدنا كيف كانت طرفة عين واحدة من توحيد الموقف بينهما كافيةً لإسقاط نُظُم، كان الجميع تقريبًا يعتقدون ألّا زوالَ لها قريبًا.
إن معالم الأرض نفسها مختلفة جوهريًا عما كانت عليه أرض الصراع اللاهوتي-التنويري الأوروبية. فالتنوير في الحالة العربية –إن جاز لنا أن نطلق عليه ذلك- لا يواجه تحالف رجل الدين ورجل الدولة، بل يواجه كلاً منهما قادمًا من اتجاه مختلف، وغير واضح الاتجاه أحيانًا. وهي بنية للصراع أسوأ ما فيها أنها قابلة للاستمرار لفترة أطول كثيرًا، وبكلفة مادية، وأدبية أقل على القاهر، مع انعدام أغلب المخاطر، التي كانت تسمح بها بنية الصراع اللاهوتي-التنويري الغربي مِن استفحال قوة رجال الدين أحيانًا لمزاحمة الحكام في الدولة العلمانية الناشئة. لذلك علينا أن نحاول بلورة استراتيجيات مختلفة، وأصيلة، ومتكيِّفة مع طبيعة المعركة الخاصة بنا.
المراجع:
[1] الصياد، كريم: “نسق المنطق ومنطق النسق”، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، عدد سنة 2008.
[2] الصياد، كريم: ” أصول المنطق ومنطق الأصول “، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، عدد سنة 2012.
[3] أعادت دار الكتاب المصري اللبناني بالقاهرة نشره بتحقيق كريم الصياد، ومراجعة للترجمة عن الألمانية، عام 2023.
[4] تصغير “عضو” بصيغة الجمع.