تكوين
لربما كان القرار[1] الذي كتبه النائب العام للديار المصرية “محمد نور”[2] في العام 1927م، بإزاء القضية التي رُفعت ضدّ “طه حسين”[3] بعد نشره لكتابه (في الشعر الجاهلي)[4] من أعمق المحاججات المعرفية في العصر العربي الحديث، وذلك لانطواء هذا القرار التاريخي والمصيري على أربعة أبعاد مركزية، وهي:
البعد الأول: البعد الفكري.
البعد الثاني: البعد القانوني.
البعد الثالث: البعد الضميري.
البعد الرَّابع: البعد الأدبي.
في البُعد الأول، تمثَّل النائب العام المقصد العميق لمفهوم المنطق بشقيه: الاستنباطي والاستقرائي. فالقرار درسٌ مُتطوِّرٌ في تمثُّل المُفكِّر المُجتهد للدرس المنطقي؛ إذ يتحوَّل من نسقٍ ذهني مُجرَّد إلى تطبيق عملي في الحيز الواقعي. فمحمد نور، كان قد استنبط مكامن القوة والضعف في كتاب (في الشِّعر الجاهلي) من الكتاب ذاته، بصفته الوثيقة الأساسية في القضية المرفوعة ضد “طه حسين”. ففحص النصّ بما (يتصَّل/ ينفصل) عن سياق التُّهم الأربعة التي وجهَّت إليه، وهي: 1- إهانة الدِّين الإسلامي. 2- التعرُّض للقراءات السبع وأنها ليست مُنزلة من الله. 3- التنسيب للمؤلف بأنه طعن في شخصية النبي. 4- الادعاء بأن المؤلف أنكر أولية الإسلام في بلاد العرب؛ ينبغي فحص سياق هذه التهم من داخل النص أولاً، وهذا ما اشتغل عليه “محمد نور”، في سبيل بناء نسقه المعرفي. فكانت خطوته الأولى هي إعادة الجُمل المُقتطعة، التي أخذت مُجتزأة[5] ورُفعت الشكاوى بناء عليها، عن سياقها إلى سياقها، لكي يتم النظر إلى الأجزاء ضمن كُلٍّ عقلاني مُتسِّقٍ ومُتصِّل، بعيداً عن أي استحقاقات عاطفية يمكن أن تثور أو تغضب؛ لأنَّ جملة أو فقرة في بحثٍ أو كتابٍ لم تَرُق لشخصٍ أو لجماعة، أو لم تنسجم مع ما يُقرُّ ويعتقد به ذلك الشخص أو تلك الجماعة. ما هو السياق المعرفي الكامل الذي وردت فيه العبارات التي قامت بناءً عليها دعوات الاتهام لطه حسين بالاعتداء على الدين الإسلامي؟ هذه هي الخطوة الأولى في منهج “محمد نور” الذي كان يُفكِّر كصاحب نسقٍ معرفي كبير، لا يمكن بناؤه وتشكُّل معالمه إلا بتوافر جُملةٍ من العناصر اللازمة والضرورية المتكاملة، لأنَّ أي تعامل مع جزء منها، بمعزلٍ عن الأجزاء الأخرى المُكمِّلَة، يُشوِّه المعمار على مستوى الشكل، ويحطُّ من قدره على مستوى المضمون، وذلك منزع لا يليق بأي مُفكِّرٍ حُرٍّ ونبيل، كما هو الحال مع النائب العام محمد نور. فالتفكير النسقي، بما هو أفضل الطرائق وصولاً إلى الحقيقة، يفرض على صاحبه، أنْ يُنصف المعمار المعرفي كاملاً، لا أن يقتطع منه ما يشاء، لغاية احتطاب البنَّاء الذي بناه، والإطاحة به. لهذا كانت الخطوة الأولى لضبط المنهج من بداياته ما وصفه بقوله: “ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون أن فيها طعناً على الدين الإسلامي إنما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات، كلُّها متعلقة بالغرض الذي أُلِّف من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجبُ للتوصلِ إلى تقديرها تقديراً صحيحاً بحثُها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتُها في السياق الذي وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوفُ على قصد المؤلف منها، وتقدير مسؤوليته تقديراً صحيحاً”[6]
فالذين رفعوا القضايا على طه حسين كانوا قد وضعوا النتيجة قبل المقدمات، وأطلقوا حُكماً نهائياً بتكفير “طه حسين”، لأنَّ تعاملهم مع مقتطفات من كتاب (في الشعر الجاهلي) جاء وفقاً لمعايير مُطلقة ومحسومة منذ اللحظة الأولى، لأيِّ صيغةٍ للكلام لا تتوافق وتلك المعايير. أما معايير “محمد نور”، فإنها تستلزم وضع المقدمات، وفقاً لإحداثيات المعمار كاملاً، وانتظار النتائج إلى ما بعد البحث والدَّرس والتقصِّي، وهذا هو جوهر المنطق بما هو علم يبحث في ماهوية المعرفة التي ستُفضي إلى الصيغة الأقرب إلى الحقيقة.
بعد بسطه لمنهجه، عاد “محمد نور” إلى كتاب (في الشعر الجاهلي) ، لكي يبسط كـ:
خطوةٍ أولى، لوجهة نظر “طه حسين” كما شرحها طه حسين نفسه في كتابه المذكور[7]
ثم، كخطوةٍ ثانية، يُقارن ما كتبه طه حسين بعضه ببعض، فيستنبط ما هو ضروري، (قوة/ ضعفاً) في المسألة المبحوثة[8]
ثم، كخطوةٍ ثالثة، يستجوب طه حسين نفسَه ليستوضح ويستطلع أكثر وجهة نظره[9]
ثم، كخطوة رابعة، يعود إلى جُملة من المصادر والمراجع المُتصلة وذات العلاقة بكتاب (في الشعر الجاهلي) مثل: النص القرآني، والمُدونة الحديثية، وبعض تفاسير القرآن كتفسير الطبري، وكتاب (طبقات الشعراء) لابن سلام الجمحي، وكتاب (التبيان) للطاهر بن صالح بن أحمد الجزائري، وبعض المقالات الأخرى لطه حسين المنشورة خارج كتابه كمقالة العلم والدين[10]
ثمّ، كخطوة خامسة، يُعلِّق النتائج التي توصَّلَ إليها على المستوى المعرفي، وتجميعها معاً لربطها بالبُعد القانوني، لغاية الوصول إلى حقيقة ما نُسب إلى “طه حسين” من تُهم[11]
إنَّ القارئ لقرار النائب العام “محمد نور” على كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، يكتشف أنه توصَّل في البداية إلى حقائق جزيئة، يُفهم منها إذا أُخِذت مُجتزأة ومُقتطعة أنه يُدين “طه حسين” فيما ذهب إليه أو فيما نُسب إليه من تهم، مثل استنتاجه بأنَّ “الباحث [يقصد طه حسين] قد خرج عاجزاً كل العجز أن يصل إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله”[12] لكنه يُعلِّق نتائج الحقائق الجزئية، كما يُمكن لأي مُفكِّر حصيف أن يفعل، بانتظار التوصُّل إلى نتائج الاستطلاع الشامل. فمحمد نور، تجاوز في هذا المقام الإشكالي، حالة القاضي والمُتَّهم إلى حالة معرفية متقدمة، ردَّ فيها مُفكِّرٌ على مُفكِّرٍ آخر، بغرض تبيُّن حقائق الأشياء المبحوثة، لكن طبيعة عمله كنائبٍ عام، تستلزم منه أن ينتقل من البُعد المعرفي إلى البُعد القانوني، ما يُعمِّق رؤيته ويُوسِّع مداركها، إذ تُصبح أكثر ثِقلاً وتعقيداً شأن الأطاريح المتميزة. وبانتقاله من البُعد الفكري إلى البُعد القانوني، فإنه يُؤسِّس لهذا البُعد، كما أسَّسَ من قبلُ لبُعده الفكري، بمنهجيةٍ واضحة استحضر فيها المواد القانونية ذات الصلة والعلاقة بحُريَّة الاعتقاد وجريمة التعدِّي على الأديان، والاشتراطات اللازمة لتحقُّق هذه الجريمة حقيقةً في الحيز الواقعي، والتي جاءت، أعني الاشتراطات القانونية، على النحو التالي:
فقد “نصت المادة 12 من الأمر الملكى رقم 42 لسنه 1923 بوضع نظام دستورى للدولة المصرية على أن حرية الاعتقاد مطلقة”. “ونصت المادة 14 منه على أن حرية الرأى مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو بغير ذلك فى حدود القانون”. “ونصت المادة 149 منه على أن الاسلام دين الدولة”. “فلكل إنسان إذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط وحرية الرأي فى حدود القانون فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو بالكتابة بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون”. “وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الأهلي على عقاب كل تعد يقع بإحدى الطرق العلانية المنصوص عليها فى المادتين 148 ، 150 ، على أحد الأديان التى تؤدى شعائرها علنا”[13]
ولاستكمال هذه المنهجية القانونية استحضر النائب العام، كذلك، الأركان الأربعة الواجب توافرها للتحقُّق في جريمة التعدِّي على الأديان، وهي:
الأول – التعدِّي.
الثانى – وقوع التعدِّي بإحدى الطرق العلنية المبينة فى المادتين 148 ، 150 عقوبات.
الثالث – وقوع التعدِّي على أحد الأديان التى تُؤدَّى شعائرها علنا.
الرابع – القصد الجنائي[14]
ما يجعله، أي النائب العام، مالكاً لأدواته القانونية، كما امتلك من قبل أدواته المعرفية، وباستطلاع لأركان الجريمة، وربطها بما حلَّله في البُعد المعرفي، توصَّلَ النائب العام إلى أنَّ “طه حسين” تحقَّق في ثلاثة أركان من الأركان الأربعة اللازمة للتحقُّق في جريمة التعدِّي على الأديان.
فعن الرُّكن الأول، وهو ركن التعدِّي، فقد أشار “محمد نور” إلى “أنه وبالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين والتي تكلمنا عنها تفصيلاً وتطبيقاً على القانون يتضح أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان الأمر الأول فيه تعد على الدين الإسلامي لأنه انتهك حرمة هذا الدين بأن نسب إلى الإسلام أن استغل قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة واعتبار هذه القصة أسطورة وأنها تلفيق من اليهود وأنها حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلاً عند الكلام عن الوقائع وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد في القرآن أنها حقائق لا مرية فيها كما أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان الأمر الرابع قد أورده على صورة تشعر بأنه يريد به إتمام فكرته بشأن ما ذكر، أما كلامه بشأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فهو إن لم يكن فيه طعن ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره، وأما ما ذكر بشأن القرءات مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني فإنه بحث برئ من الوجهة العلمية والدينية أيضاً ولا شيء يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية ولا من الوجهة القانونية”[15]
وعن الرُّكن الثاني، وهو وقوع التعدِّي بإحدى الطرق العلنية، فتحقَّق هذا الركن أيضاً، لأنه “ورد في كتاب الشعر الجاهلي الذي طبع ونشر وبيع في المحلات”[16]
وعن الرُّكن الثالث وهو التعدي على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علنا، فـ “لا نزاع في هذا الركن أيضاً لأن التعدي وقع على الدين الإسلامي الذي تُؤدَّى شعائره علنا وهو الدين الرسمي للدولة”[17]
وهنا، في تفسيره للأركان الثلاثة وربطها بالسياق الفكري الذي تمَّ التأسيس له آنفاً، نلمح لغة الخطاب القانوني التي استخدمها “محمد نور” بما هي لغة دقيقة، حصيفة، وذات دلالات ساطعة. فالجُمَل الصغيرة، الواضحة، أفضت إلى فقرات كبيرة زادت وضوحاً، لأنَّ الأساس العقلي الذي بُنيت عليه هو بناء نسقي منذ اللحظة الأولى، فالرؤية أو المُخطَّط أو النموذج كان قد اكتمل في ذهن النائب العام ابتداءً، لذا كان على درجة من الإحكام عندما تمت صياغته بشكل النهائي. فاللغة القانونية هي تطوُّر طبيعي لعلوم المنطق، ولربما كانت الصياغات القانونية بما هي صياغات مُحدَّدة وواضحة ومتسقة ومترابطة، من أبرز معالم تطوُّر العقل البشري وقدرته على التحرُّك والإضافة بشكل دائم، فالقوانين بقدر ما هي صياغات مُحدَّدة وواضحة ومتسقة ومترابطة، بقدر ما هي غير أبدية، أي إنها رهن بتطور المجتمعات، بما يفسح المجال أمام العقل أن يُبدع مثل هكذا صياغات بشكلٍ دائم ومستمر.
وهذا شأن بالغ الأهمية يُضاف إلى البُعد الأول أي البعد الفكري. ففيه، أي في البُعد الفكري، حال النائب العام “محمد نور” إلى مُتفلسف بارع، إذ استطاع أن يُحوِّل قرار النيابة العامة من قرار قانوني بإزاء كتاب (في الشعر الجاهلي) إلى أطروحة عقلية بحدِّ ذاتها، نظراً لقدرته الهائلة على توظيف علم المنطق في بلورة قراره وضبط نسقيتها. وفي البُعد القانوني، حال النائب العام إلى ضابطٍ لإيقاعات الدولة الحديثة التي تحتكم إلى القانون في تصريف شؤونها. فالحالة العاطفية التي بلورت، وفقاً لاعتباراتها، سياق الدعوات التي رُفعت ضدَّ “طه حسين”، تمَّ قبولها أولاً وترشيدها ثانياً، بما يحفظ سلطة القانون ونفاذه من جهة، وعدم ممارسة ثقافة الإلغاء من جهة ثانية. البُعد القانوني هذا حوَّل قرار النائب العام إلى مادة صالحة للقراءة والفائدة، على الدوام، بشأن أدبيات الدولة الحديثة. ففي النهاية، لا بُدَّ من ترشيد الحالة الوجدانية للأفراد، ووضعها ضمن سياق قانوني، حتى لا تتحوّل إلى غول غير عقلاني يمكن أن يفتك بالمجتمع ويُدمِّر أبنيته.
وفي البعد الثالث، أي البُعد الضميري، تجسَّدَّ في الانتقال من البصر إلى البصيرة، أو من ظاهر ما كتبه “طه حسين” إلى بواعثه الأصلية، فمن واجب القاضي الحصيف أن يستبطن ظاهر الأمور ويتعمَّق فيها حتى الحد الأقصى، بحيث يتعرَّف على النية المبدئية التي بُني عليها الفعل الجُرمي كاملاً. فالرُّكن الرَّابع لتحقُّق جريمة التعدِّي على الأديان حقيقةً في الحيز الواقعي، هو ركن (القصد الجنائي)، الذي برع “محمد نور” في تفكيكه بما هو رُكن كاشف، إذا ما أُنجز بحرفيةٍ عالية، عن بواطن الأمور وحقيقتها المبدئية. ففي نهاية بحثه وتقصيه لحقيقة تحقُّق هذا الرُّكن، ختمَ “محمد نور” قراراه بالآتي: “إنّ للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقاً جديداً للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط في بحثه حتى تخيَّل حقاً ما ليس بحق أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق، فسلك طريقاً مظلماً فكان يجب عليه أن يسير على مهل وأن يحتاط في سيره حتى لا يضل ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة. وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدِّين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك، تُحفظ الأوراق إدارياً”[18]. فهذه الخاتمة المذهلة بقدر ما هي انتصار للبحث المعرفي، بقدر ما هي انتصار، أيضاً، لضمير الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق العدالة، أكثر من انتصاره لأي شيء آخر. فيد الباحث أو الفيلسوف أو الروائي أو الشاعر أو المخرج قد تزلّ وهي تخطّ أطروحتها أو روايتها أو قصيدتها أو فيلمها، وهذا شأن وارد في كل الثقافات الإنسانية، بل هو ميزة للإنسان المعرفي المجتهد في كل العصور، حتى يبقى النقد قائماً وفاعلاً وشاهداً على حيوية المجتمعات. لكن أن يتم اتخاذ تلك الأطاريح أو الروايات أو القصائد أو الأفلام للنبش في النوايا واتهام خلاصة المُبدع لأنها لا تتوافق والفكر الخلاصي لأصحاب المرجعيات المُطْلَقة، فذلك شأنٌ خطير فصَّلَ فيه النائب العام للديار المصرية “محمد نور”، ببراعة كبيرة، وهو يتحدث عن الرُّكن الرابع من أركان تحقُّق جريمة التعدِّي على الأديان حقيقةً في الحيز الواقعي، وهو ركن (القصد الجنائي). فـ “طه حسين” لم يكن صاحب غرضيات مرضية تُبحث عن الأذى للآخرين، وذلك من خلال الطعن في مرجعياتهم الرُّوحية ومقتنياتهم المعنوية، بل كان غرضه البحث عن الحقيقة، كما تقتضيها طبيعة البحث المعرفي. وهذا ما فهم فهماً كاملاً النائب العام، لذا وفَّر لـ “طه حسين” الحماية القانونية، أي أنه شرَّعَ للباحث أن يبحث بحُريَّة تامة، طالما كان غرضه الأساسي هو البحث عن الحقيقة، حتى وإنْ زلَّ لسانه أو عقله أو يده، ففي النهاية يتحصَّل الباحث الحقيقي على أكبر قدرٍ من المعرفة بغرض الوصول إلى الحقيقة، لكن إنْ أخطأ، فذلك لا يستلزم رجمه وسحله والتشنيع عليه وإخراجه من المِلَّة، بل يستلزم، وفقاً لمقتضيات الدولة الحديثة، تأمين الحماية اللازمة له لإكمال بحثه، وهذه المرة، كما برع محمد نور في ذلك، باسم القانون.
أما البُعد الرَّابع، أي البُعد الأدبي من أبعاد قرار النائب العام، فنحن بإزاء قصة أدبية حوَّلها النائب العام إلى قصة مُحكمة ومتماسكة، إذ توافر قرار النيابة العامة على عناصر القصة من أشخاص وزمان ومكان وحبكة، سرد لنا النائب أحداثها بطريقة ممتعة، ما جعلنا نتشوق إلى مُتابعة الأحداث، رغم الألم الذي حلَّ ببطلها الرئيسي طه حسين. فمنذ اللحظة الأولى التي رُفعت فيها القضايا ضد “طه حسين” والتي ابتُدِئت بشكوى من الشيخ “خليل حسنين” الطالب بالقسم العالي بالأزهر، بتاريخ 30/ مايو/ 1926، ثم أُلحِقت بشكوى ثانية قُدِّمت من علماء الجامع الأزهر بتاريخ 5/ يونيو/ 1926، ثم أُلحِقت بشكوى أخرى من السيد “عبد الحميد البنان” عضو مجلس النواب بتاريخ 14/ سبتمبر/ 1926.
وإرجاء التحقيق في هذه الشكاوي لحين عودة “طه حسين” من السفر، الذي بدأ بتاريخ 19/ أكتوبر/ 1926م، باستجواب المؤلف، ثم أخذ النائب العام بدراسة الموضوع منذ ذلك التاريخ، وحتى حفظ أوراق القضية إدارياً بتاريخ 30/ مارس/ 1927. فعلى مدار عام تقريبا (30/ مايو/ 1926 – 30/ مارس/ 1927) [عنصر الزمان] في مدينة القاهرة، تحديداً في دار النيابة العامة كمكان رئيسي، والجامع الأزهر والبرلمان المصري كمكانٍ موازٍ، والفضاء الثقافي العام في مصر عموماً كمكانٍ موازٍ آخر [عنصر المكان]، اضطلع عدد من الأشخاص: طه حسين ومحمد نور وخليل حسنين وعبد الحميد البنان وطلاب الأزهر…إلخ [عنصر الأشخاص]، في بلورة أحداث تحقيق النائب العام للديار المصرية مع “طه حسين” بسبب التهم التي وُجِّهت إليه من قبل بعض شخصيات القصة لناحية الطعن في الدِّين الإسلامي والتعدِّي على حُرماته، وما رافق هذا التحقيق من تعقُّدٍ في مسار الأحداث، إذ أخذ البحث في جوهر القضايا المرفوعة منحىً تصاعدياً، لأنه كان بحاجة إلى العودة إلى المكتبة والتنقيب الهادئ والرَّصين في الكثير من النصوص التي استند عليها “طه حسين” في كتاب (في الشعر الجاهلي)، لغاية التأكُّد من صحة النتائج التي توصَّل إليها الباحث في كتابه. وتَفاعُل هذه الأحداث مع بعضها البعض، وصولاً إلى خاتميتها الملحمية التي قرَّرَ النائب العام بحفظ أوراقها إدارياً[19]؛ أي عدم إحالتها للمحكمة، نظراً لغياب الرُّكن الرَّابع من أركان تحقُّق جريمة التعدِّي على الأديان حقيقةً في الحيز الواقعي. فهذه الختمة تصلح أن تكون فاتحة في المجال الثقافي العام للدولة الحديثة، لناحية أنها:
أولاً: تحفظ حقّ أي كان باللجوء إلى القضاء، إذا ما شعرَ أن هناك مَنْ يُهدِّد قيمه الرمزية التي يؤمن بها إيماناً مُسبقاً وقاطعاً.
ثانياً: تُبيِّن العيوب والمثالب والهفوات التي يمكن أن يقع فيها الباحث ساعة يبحث مسألة، شريطة تقصِّي هذه العيوب والمثالب بطريقة علمية تُوضع فيها المقدمات بانتظار الوصول إلى النتائج، وليس بطريقة التوصُّل إلى النتائج منذ اللحظة الأولى.
ثالثاً: تبيان نقاط القوة في البحث المدروس، إنصافاً لصاحبه وللجهد الذي بذله في المسألة التي درسها وبحثها؛ حتَّى وإنْ كانت المسألة التي يبحثها على درجة عالية من الحساسية الدينية أو المجتمعية.
رابعاً: تأمين الحماية القانونية للباحث ضد أصحاب المرجعيات النهائية والصوابيات المُطْلَقة، نظراً لطبيعة البحث التي لا يمكن أن تتوافق والنتائج المحسومة سلفاً. فالزمنية وعدم الخلود التي تفرضها طبيعة البحث المعرفي، تستلزم إعمالاً للعقل، المرة تلو الأخرى، في المادة المبحوثة، لغاية تجويد النتائج المُعلَّقة أو المؤقتة. فالنتائج بالنسبة لأصحاب الصوابيات المُطلقة نتائج محسومة منذ الأزل، حتَّى قبل أي بحث على الإطلاق، في حين أنها بالنسبة للبحث نتائج يتم التعرُّف عليها بالتقادم، اقتضاء لواقع تطوُّر الحالة المعرفية للعقل البشري الفاعل في الزمن.
وبهذا يكون صاحب العقل الفذ؛ النائب العام للديار المصرية سنة 1927 “محمد نور” قد ختم قرار النيابة العامة ختمةً بمثابة الفاتحة في أدبيات الدولة الحديثة، وتقديرها للحالة المعرفية بما هي حالة ضرورية ومصيرية لتطوُّر الدولة الحديثة والدَّفع بإمكاناتها التقدمية ناحية الأمام.
الهوامش والمراجع:
[1] كنت قد عرضتُ النسخة الأولى من هذه المقالة على المحامي البارع الأستاذ “ربيع حمزة” من الأردن، والذي أشار عليَّ مشكوراً أن أشطب كلمة (مرافعة) وأضع مكانها كلمة (قرار)، على اعتبار أن النائب العام لا يكتب مرافعة بل يُصدر قراراً.
[2] ليس ثمة معلومات كافية عن النائب العام للديار المصرية “محمد نور” في العام 1927م، حتَّى كتاب (محاكمة طه حسين) الذي رجعتُ إليه لاقتبس منه لا يحتوي على سيرة ذاتية عن “محمد نور” أو حتى معلومات يسيرة. ولربما شكَّل ذلك عيباً في العمل البحثي العربي الحديث [بحدود علمي] الذي نسي شخصية فذة مثل شخصية محمد نور. وإذا ما وجدت أي مادة عن هذه الشخصية، فيقيناً أني سأعمل على إضافتها، فمثله ينبغي أن لا يُنْسَى.
[3] وُلِد «طه حسين علي سلامة» في نوفمبر ١٨٨٩م بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. فَقَدَ بصرَه في الرابعة من عمره إثرَ إصابته بالرمد.
تابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عامَ ١٩٠٨م، وحصل على درجة الدكتوراه عامَ ١٩١٤م، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدي؛ حيث أثارَتْ أطروحتُه «ذكرى أبي العلاء» مَوجةً عالية من الانتقاد. ثم أوفدَتْه الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أَعَدَّ أُطروحةَ الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الرُّوماني.
وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفي ١٩٤٢م عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفي ١٩٥٠م أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية. وفي ١٩٥٩م عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرِّغ»، وتسلَّمَ رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية».
توفي سنة 1973.
نقلتُ المعلومات عن “طه حسين” عن موقع مؤسسة هنداوي على الرابط التالي:
https://www.hindawi.org/contributors/59624258/
[4] يُعتبر من أهم الكتب التي ألفها “طه حسين”، بل ربما كان الأهم، بسبب حجم الجدل الذي أثير حوله من لحظة تأليفه سنة 1926م إلى هذه اللحظة، وذلك عائد إلى طبيعة المواد التي ناقشها في كتابه، واعتبرت من الثوابت في الثقافة العربية الإسلامية على مدار قرون طويلة.
ومن الكتب التي أُلِفَّت مباشرة في الردِّ على الكتاب، كتاب (نقد كتاب في الشعر الجاهلي) لـ “محمد فريد وجدي”، الذي ألفه سنة 1926م، أي بعد صدور الكتاب مباشرة. كذلك كتاب (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) لـ محمد الخضر حسين، الذي صدر كذلك سنة 1926م
[5] واحدة من أخطر القضايا التي ما زالت تُواجه الحالة المعرفية في العالَم العربي، هي اقتطاع الكلام عن سياقه وإطلاق أحكام قيمة نهائية وفقاً لتلك الاقتطاعات، ما أدخل الحالة المعرفية في محارجات إعلامية يخوض فيها أناس غاضبون، وجاهزون للانفعال بشكل أوتوماتيكي، ما يجعل المُفكِّر العربي بغير غطاء يحميه من تبعات أصحاب الأحكام النهائية المُطْلَقة.
[6] صدر قرار النيابة العامة في عدة طبع، كان أولها ما نشره النائب العام “محمد نور” تحت عنوان (قرارُ النيابة في كتاب الشِّعر الجاهلي)، الصادر عن مطبعة الشباب في مصر. هناك أيضاً كتاب (محاكمة طه حسين) الذي أعدَّهُ الروائي المصري “خيري شلبي” وتضمَّنَ قرار النيابة العامة كاملاً، والذي اقتبسُ منه في هذه المقالة:
خيري شلبي، محاكمة طه حسين، دار ومطابع المستقبل بالفجالة والاسكندرية، دت، ص 59.
[7] يمكن العودة إلى تفصيل النائب العام للتهم الأربعة وتحليلها معرفياً من الصفحة 59 من الكتاب السابق وحتى الصفحة 91.
[8] تضمنت المقارنة بين أقوال طه حسين نفسها، ضمن الصفحات السابقة ضمن تفصيله وتحليله للتهم الأربعة من الصفحة 59 إلى الصفحة 91.
[9] عن استجواب طه حسين يمكن العودة إلى الصفحات 68 إلى الصفحة 70، ومن الصفحة 76 إلى الصفحة 77، من كتاب (محاكمة طه حسين) لخيري شلبي.
[10] كذلك يمكن العودة إلى الصفحات من 59 إلى الصفحة 91 من القرار كما ورد في كتاب محاكمة طه حسين، مرجع سابق.
[11] المرجع السابق، ص ص 91- 99.
[12] المرجع السابق، ص 63.
[13] المرجع السابق، ص ص 90- 91.
[14] المرجع السابق، ص 91.
[15] المرجع السابق، ص ص 93- 94.
[16] المرجع السابق، ص 94.
[17] المرجع السابق، ص 94.
[18] المرجع السابق، ص ص 98- 99.
[19] كان الأستاذ المحامي “ربيع حمزة” [أشرتُ إليه في الهامش الأول من هوامش هذه المقالة] هو مَنْ شرحَ لي عبارة: “حفظ أوراق القضية إدارياً”، أي أن النائب العام قرَّرَ عدم إرسال القضية إلى المحكمة والاكتفاء بالتحقيق الذي أجراه، وذلك لعدم تحقُّق ركن (القصد الجنائي) في القضية، كما فصلته أعلاه.