طه حسين والحضور المتجدد في الفكر العربي

تكوين

بيننا وبين رحيل طه حسين نصف قرن من الزمن، شهد عديدًا من الأحداث الكبرى والتحولات الاجتماعية والثقافية سواء في المستوى العربي أو الدولي، فضلا عن تكون كثيرًا من الأطروحات والمشاريع الفكرية التي أغنت المكتبة العربية الإسلامية، فطه حسين أصبح علامة فارقة في زمانه بسبب الطريقة التي نظر من خلالها إلى مختلف القضايا التي عالجها، وهي قضايا تتعلق بسؤال النهضة وسؤال الثقافة وسؤال المصير، وهذه قضايا يتداخل فيها الحاضر بالماضي ويتداخل فيها الذات والآخر، ذلك الآخر [أي الغرب] المُختلف الذي اجتَرَحَ لنفسه طريقًا مغايرًا للحضارة وللنهوض وهو طريق معارض لطريق الشرق.

لقد كان لطه حسين نوعًا من السبق في أن يخوض مغامرة قراءة الذات ووعيًا بما عليه الآخر من نظم النقد والتفكير والمعرفة غاية قراءة الذات من جهة معرفتها من جديد، وذلك بالحفر في مختلف المُسلمات التي ترى أن الذات مكتملة إلى الأبد، في هذا السياق المعرفي تأتي محاولته لقراءة الشعر العربي القديم من طريق كتابه: “في الشعر الجاهلي” وهي مسألة وضعت طه حسين في إشكالية مفادها، هل من المعقول أن نستعير من الآخر بعضًا من وسائل النظر في تجديد المعرفة بالذات، إلى جانب ما نحن عليه من الآليات والأدوات المعرفية في الثقافة العربية في مختلف مجالاتها؟ مغامرة طه حسين المعرفية جعلته موضع جدل وخلاف، بين من ينظر إلى الذات من طريق الذات نفسها، ومن يستحضر الآخر في معرفتها، فهو في دائرة الرفض أو في دائرة الإعجاب “فالذين كتبوا عنه، معجبين أو رافضين، فهم إما يهيلون عليه الثناء ويغرقونه في آية من المديح والثناء، أو يهيلون عليه الذم والهجاء”[1] والحقيقة أن المسألة هنا لا تتعلق في العمق بشخص طه حسين بقدر ما تعود إلى مفارقة مفادها كيف نقرأ الذات؟ فذم وهجاء طه حسين، هو ذم للآخر بطريق غير مباشر، وطه مُتهم بأنه استعار معارف خارجة عن الذات، أما مدحه والثناء عليه فهو تعبير بطريق غير مباشر عن مختلف التطلعات لمعرفة الذات بصورة جديدة، تُمكنها من التفاعل مع الآخر. هذا الذم أو الهجاء جعل من تراث طه حسين متجدد الحضور فهو حاضر في الفكر العربي المعاصر بأوجه وصور متعددة، فأثَّر منهجه وفكره في مختلف المفكرين الكبار العرب وبالأخص الذين ظهروا ما بعد 1967م بَينٌ وواضح، باعتراف بعضهم تصريحًا أو تلميحًا، وبظهور أفكاره من طريق نصوص الآخر منهم.

أفكار طه حسين

سنقف عند وجهين بارزين لطه حسين في أثره وتأثر الفكر العربي بمنهجه وأفكاره: الوجه الأول، تمثل في الاسهام الكبير لطه حسين في تأسيس الخروج من دائرة الدعوة إلى النهضة والإصلاح إلى دائرة التطبيق العملي ووضع اللبنات الفكرية والمداخل من أجل ذلك، أي وضع مشروع فكري نهضوي متكامل واضح المعالم. الوجه الآخر، يتمثل في تدشين طه حسين لورش منهج القراءة التاريخية والاجتماعية للتاريخ العربي والإسلامي، وقد توقفنا عند نموذج كتابه الفتنة الكبرى،

كما توقفت الورقة عند موقف طه حسين من القرآن وقوله في كتاب الشعر الجاهلي، بأن “فهم حياة العرب ما قبل الإسلام (الجاهلية) ينبغي دراستها في القرآن، فمرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي”، وذلك بتقديم القرآن عن الشعر وغيره، فهذه المقولة سوف تأخذنا إلى تطبيق مختلف مناهج المعرفة في علم اللغة والعلوم الانسانية والعلوم الحقة في فهم القرآن وتأويله، وهو ما يبدو واضحًا من طريق المشاريع التي اعتنت بقراءة القرآن قراءة معاصرة في الفكر العربي المعاصر.

  • 1- طه حسين الحضور المتجدد في الفكر العربي

ينتمي طه حسين (1889م/1973م) إلى الجيل الثاني من رواد النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ففي الوقت الذي كانت فيه كتابات وأفكار الذين سبقوه تتصف بنوع من العمومية ويغلب عليها التوفيق نفسه أو التلفيق بين مختلف الأفكار والتصورات التي تنتمي إلى الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، اتصفت كتابات وأفكار طه حسين بالعمل لوضع منهج واضح المعالم والرؤى يُمَكِّن من قراءة التراث العربي والإسلامي بِنَفَسٍ نقدي وتجديدي يغلب عليه نَفَسُ الاستيعاب والتجاوز، ومن قراءة الحضارة الغربية بَنَفَسٍ يغلب علية النقد والتحليل بدل الاتباع، ولهذا فأثر وحضور طه حسين في الفكر العربي حضورًا وأثرًا واضح المعالم ومتعدد الأوجه ويمكن أن نحصر حضوره المستمر في وجهين بارزين:

أ-الوجه الأول، تأسيس الخروج من دائرة الدعوة إلى النهضة والإصلاح ودائرة التطبيق ووضع اللبنات والمداخل الفكرية من أجل ذلك (العمل لبناء مشروع فكري نهضوي متكامل واضح المعالم).

فمع طه حسين خرج سؤال النهضة والإصلاح من مرحلة ما هو توفيقي وتلفيقي وما يدور في مدار الدعوة والتبشير بأهمية وضرورة الإقبال على الإصلاح والتجديد في نُظم مناهج الفكر والعلم والتعليم، إلى دائرة ما هو عملي ومنهجي فيما يخدم النهضة العربية فكريًا ومعرفيًا في مختلف مجالات المعرفة: في مجال الأدب ومجال التاريخ ومجال المعرفة الاجتماعية… صحيح أن هناك مثقفون كبار قبل طه حسين وفي زمانه، ولكن الذي تميز به طه حسين عن غيره هو العمل  لصياغة مشروع ثقافي مجتمعي متكامل، وهي مسألة تتطلب الإقبال على التفكيك والمراجعة والنقد بتبني آليات معرفية جديدة، والانخراط في تركيب وبسط تصورات معاصرة عن الدين والتدين والدولة والمجتمع،  فطه حسين من أبرز الأوائل الذين اهتموا بسؤال المنهج في فهم التراث وفي فهم الحضارة الغربية، فمجمل مؤلفاته اهتمت بسؤال لماذا؟ وكيف؟ وانشغلت بما هو عملي وعلمي وتطبيقي في فهم الماضي في علاقته بالحاضر واستشراف المستقبل.

هناك من يتهم طه حسن بأنه سعى في التخلي عن كل ما هو قديم، وجعل من التغريب مدخلًا لا غنى عنه من أجل النهضة العربية، وهذا اتهام تقول به الاتجاهات الأيديولوجية باسم الدين المتمثلة في مختلف الجماعات الإسلامية التي تستعدي العقل والمنهج وكل تفكير جديد، فمن المعروف أن طه حسين بذل جُهدًا جهيدًا لبناء تصور متزن في نظرتنا إلى ذواتنا وفي نظرتنا إلى الآخر، وهو يصرح بالقول: “لا ينبغي أن نهجر القديم لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة”[2]، أما الدعوة إلى الجديد الذي يمتلكه ويتميز به الآخر المتمثل في الحضارة الغربية، فليس المقصود منها نسيان خصوصيتنا الحضارية، يقول طه حسين: “ونحن حين ندعو إلى الاتصال بأوروبا والأخذ بأسباب الرُقي التي أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صورًا طبق الأصل للأوروبيين كما يقال، فذلك شيء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل[3][…] فأنا لا أدعو إلى أن ننكر أنفسنا، ولا إلى أن نَجحَد ماضينا، ولا إلى أن نُفْنَى في الأوروبيين[4].

هذا التصور الذي لدى طه حسين نجده حاضرًا عند محمد عابد الجابري وقد حوله إلى منظومة مفاهيمية ذات قواعد وأسس معرفية في التفكير والنظر بدءًا بكتابه “نحن والتراث” إذ عمل لتقديم نموذج لقراءة التراث قراءة يحضر فيها الفصل والوصل معًا، الفصل بقراءة التراث من طريق محيطه الخاص الذي ظهر وتبلور فيه، والوصل بأن نجعل المقروء من التراث معاصرًا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، بنقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ قصد توظيفه في إغناء ذاته وبنائها.[5]

ب-الوجه الآخر، تدشين وِرَش منهج القراءة التاريخية والاجتماعية للتاريخ العربي والإسلامي

العناية بسؤال المنهج المُولد للأفكار والمنهجية التي تحتكم إليها الأفكار مسألة واضحة في مجمل مؤلفات وأبحاث طه حسين، فالمنهجية “تقنين للفكر ودون هذا التقنين يتحول الفكر إلى تأملات وخواطر انتقائية، قد تكون عبقرية ومشرقة جدًا وذات جدوى في كثير من الأحيان وتصلح للمواعظ والمجادلة الحسنة ولكنها لا تُكون منهجية، فمنهجية الأفكار أو تقنينها بالمنهج تُماثل حالة توليد القوانين من الطبيعة”.[6]

سنقف هنا عند نموذج من بين أهم مؤلفات طه حسين وهو كتابه “الفتنة الكبرى” الذي صدر عام 1947م، وهو كتاب يهدف إلى تعزيز التعاطي مع التاريخ الإسلامي بنظرة تتصف بالعلمية والموضوعية، فموضوع البحث وإعادة النظر في موضوع الفتنة التي ظهرت في زمن عثمان بن عفان (-35ه) وعلي ابن أبي طاب (-40ه)، وهي فترة زمنية لها ما بعدها، ولا يزال صدى أحداثها ممتد حتى زماننا هذا بفعل مختلف الأيديولوجيات الطائفية والمذهبية الضيقة، التي اتخذت من السرديات التاريخية الموروثة كما تتصورها سلطة على جمهور أتباعها ومريديها.

فَهَم طه حسين من طريق اشتغاله في موضوع الفتنة في زمن عثمان وعلي؛ ارتبط بهدف منهجي مفاده النظر إلى “القضية نظرة خالصة مجردة لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يُجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغايتها”[7]، فقراءة مختلف وقائع وأحداث التاريخ الإسلامي وفقًا لهذه النظرة المنهجية؛ لا شك بأنها تهدف إلى الحدّ من الفهم الضيق الذي ينتصر للطائفة والمذهب على حساب المصلحة العامة للأمة العربية والإسلامية. والحقيقة أن طه حسين كان له السبق في تدشين وِرَشْ البحث والنظر وإعادة القراءة العلمية لإبراز الأحداث والوقائع المؤثرة في التاريخ الإسلامي، بهدف خلق نبوغ عربي يجمع بين الخصوصية والكونية.

كتاب الفتنة الكبرى طه حسين

ما قام به طه حسن في كتاب الفتنة الكبرى من جهة الموضوع عملٌ غير مسبوق في الثقافة العربية الإسلامية، وقد استمر على منواله المفكر التونسي هشام جعيط في البحث في الموضوع، بإصدار كتاب “الفتنة” في طبعته العربية عام 1991م، ولا شك في أنه تأثر بما كتبه طه حسين يقول هشام جعيط: قرأت كتاب «الفتنة الكبرى» فأدهشني، إذ الحقُّ أن الذي فتح ذهني على إمكان كتابة تاريخ الإسلام المبكر بمنهج تحليلي ذكي إنما هو طه حسين.[8] ومن أبرز ثمار الحفر والبحث المعرفي داخل لحظة أحداث الفتنة في زمن عثمان وعلي، هي إلقاء الضوء على جدل الديني والسياسي في الثقافة العربية الإسلامية، وهي مسألة تَفَجر النقاش بشأنها بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924م وظهور الإسلام السياسي عام 1928م، فسقوط الخلافة العثمانية كان سببًا في تجدد سؤال الحكم والإمامة في الإسلام. وقد كتب علي عبد الرازق (-1966م) كتابه المشهور “الإسلام وأصول الحكم”، صدر عام 1925م، والذي بَين فيه بالأدلة الشرعية عدم وجود دليل على شكل معيَّن للدولة في الإسلام، فطبيعة هيكل الدولة ونظامها أمر يخص الناس على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، وقد أثار الكتاب جدلًا واسعًا بين مؤيد ومعارض.

وقد كثرت المناقشات بشأن الخلافة بعد سقوطها بين العلماء، وكان رشيد رضا (-1935م) طرفًا مهمًا في هذا النقاش، وألف كتابًا مستقلًا بعنوان (الخلافة)، فقد عرف الخلافة والإمامة فقال: “الخلافة والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين، ثلاث كلمات معناها واحد، وهو: رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.[9] لا شك في أن رأي رشيد رضا يتطابق مع مواقف حسن البنا وأراءه وطموحه (-1949م) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م.

يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس للجماعة (1938م) “إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، فالخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله… ولهذا يجعل الإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد وأن تسبقها خطوات”[10].

وقد وسَّع الإسلام السياسي نفوذه بين الشباب طيلة عقود القرن العشرين، وهو يبشر بالدولة الدينية مقابل الدولة المدنية، وقد تتبع العالم ما قامت به التنظيمات المتطرفة المتمثلة في تنظيم “داعش” التي أعلنت الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهي تتبنى عقيدة سلفية جهادية، في أثناء الفترة 2014م/2017م، من هنا تأتي أهمية تراث طه حسين بشأن ما كتبه  بخصوص موضوع طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي في صدر الإسلام وما بعده، وهي علاقة في أمس الحاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل، وفي هذا السياق تأتي أهمية المشاريع الفكرية في العالم العربي التي تطرقت لهذه القضية بالبحث والتحليل. ولا شك أن جل الذين كتبوا في موضوع الجدل الديني والسياسي في النصف الأخير من القرن العشرين وما بعده قد تأثروا تأثرًا مباشرًا أو غير مباشر بكتاب طه حسين “الفتنة الكبرى” إنه كتاب ملهم بدرجة كبيرة.

فكر طه حسين وأسئلته بقيت حاضرة حضورًا قويًّا في الفكر العربي، وليس من المبالغة القول إن طه حسين قد دشن مرحلة جديدة في التفكير والنظر المنهجي في الثقافة العربية الإسلامية، مفادها البحث والنظر والمراجعة والنقد والتقويم للقديم والحديث، فله الفضل في لفت الانتباه إلى أهمية ابن خلدون في الثقافة العربية وقد صدر له كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية” الذي يعود إلى عام 1917م وقد تُرجم إلى العربية عام 1922م،  تتابعت الدراسات والأبحاث بخصوص ابن خلدون تتابعًا كبيرًا من لدن كثير من المثقفين العرب، من بينهم محمد عابد الجابري وكتابه ” فكر ابن خلدون العصبية والدولة” وكتاب علي أمليل “الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون” فصورة أفكاره طه حسين حاضرة تصريحًا أو تلميحًا عند جل المفكرين العرب، وهذه مسألة في حاجة إلى البحث والنظر من أجل معرفة طبيعة التأثير والتأثر بفكر طه حسين في مختلف مجالات المعرفة التاريخية والاجتماعية والأدبية في العالم العربي.

  • 2- القرآن في فكر طه حسين

وردت فكرة مثيرة للجدل في كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين مفادها: أن فهم حياة العرب ما قبل الإسلام (الجاهلية) ينبغي دراستها في القرآن، فمرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي.[11] لسنا هنا بصدد نقاش كتاب في الشعر الجاهلي، ولكن إن تعاملنا مع هذه الفكرة بنوع من الجدية فماذا يعني ذلك؟

يعني أن سيرة الرسول الكريم وما يحيط بها من وقائع وأحداث ينبغي فهمها بدرجة أولى من داخل القرآن، لأنه الوثيقة التاريخية التي يمكن الثقة بها أكثر من غيرها في فهم حياة الرسول وشخصيته ودعوته، وهي فكرة طبقها المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط من طريق كتابه ” في السيرة النبوية”.[12]

ويعني كذلك أننا سوف نوظف المنهج التاريخي والاجتماعي والأدبي في فهم القرآن، وهذه فكرة تجد صداها في مختلف الكتابات التي تُعنى بقراءة القرآن قراءة معاصرة، مستفيدة من المعرفة المعاصرة وما تتيحه مختلف المناهج في علم اللغة والعلوم الإنسانية، ومستفيدة في الوقت ذاته من إرث الثقافة العربية بخصوص موضوع النظم في القرآن وبالأخص مع عبد القاهر الجرجاني(-471هـ).

وهذا هو الاتجاه الفكري الذي وجد فيه طه حسين نفسه، فهو يؤكد بأن القرآن الكريم “هو المعجزة الكبرى التي آتاها الله رسوله الكريم، آيةً على صدقه فيما يُبِلِّغ عن ربه. والقول في إعجاز القرآن يكثُر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضًا، فالقرآن كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبي، فهو في صورته الظاهرة ليس شعرًا لأنه لم يَجْرِ في الأوزان والقوافي والخيال على ما جرى عليه الشعر، ثم هو لم يُشارك الشعر الذي أَلِفَهُ العرب في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه[13] فالقرآن في نظره معجز بنظمه، “نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد لله أن تُؤدَّى إلى الناس، لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا كما قدمنا ولم يؤدِّها إليهم نثرًا أيضًا، وإنما أدَّاها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاصٍّ به لم يُسبق إليه ولم يُلحق فيه، ليس شعرًا لأنه لا يتقيد بأوزان الشعر وقوافيه، وليس نثرًا لأنه لا يُطلق إطلاق النثر ولا يُقَيَّدُ بهذه القيود التي عرفها الكُتَّاب في الإسلام، وإنما هو آيات مفصلة لها مزاجها الخاص في الاتصال والانفصال وفي الطول والقِصَر[14]، ضمنيًا نستفيد من طه حسين بأن ما يصدق على نظم الشعر لا يصدق بالضرورة على نظم القرآن، فهو يرى أن “القرآن كان أساسًا للنحو العربي قبل أي شعر أو نثر[15].

هذا الحس الأدبي والاجتماعي والتاريخي في فهم القرآن تردد صداه في فكر نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون الذي كان أول بحث له بعنوان “الجانب الإصلاحي في أعمال طه حسين” عام 1954م وقد صدر البحث وترجم إلى العربية عام 2022م، وغيرهما من الذين كتبوا في الدراسات القرآنية المعاصرة.

· خاتمة:

يفصلنا نصف قرن عن وفاة طه حسين، فتخليدًا لذكراه من الأولى استحضار منهجه ورؤيته في التفكير والنقد بدرجة أولى، بدل أن نقف عند ترديد ما ينال اعجابنا من مضامين مؤلفاته وكتبه، فخصومه حينها لا يهمهم منهجه في التفكير بقدر ما انشغلوا بمضامين ما كُتب، فالاشتغال بالمضامين بمعزل عن المنهج المُولد لها، سيترتب عليه خلل في الفهم.

ومن البديهي أن الأفكار الجادة التي تغير الواقع قد يُواجه أصحابها بنوع من الرفض، وهكذا هي سيرة الأنبياء والمصلحين الكبار عبر التاريخ، فلا أحد يذكر اليوم الذين تصرفوا في مضامين ما كتبه طه حسين على هواهم، واتهموه بما يحلوا لهم من التهم بمعزل عن منهجه ورؤاه الفكرية العامة، لقد نسيهم التاريخ بينما طه حسين وفكره لا يزال حاضرًا بيننا اليوم وستبقى ذكراه محفوظة، فمن سنن الله في التاريخ أن الزبد يذهب جُفَاءً وأن مَا يَنْفَعُ النَّاسَ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ قال تعالى: “ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ“(17/الرعد).

 

المراجع:

[1]  أمحد علبي، طه حسين رجل فكر وعصر، دار الآداب، بيروت، لبنان، 1985م، ص.13-14 (بتصرف)

[2]  طه حسين، على هامش السيرة، القاهرة، 2012م، ص. 10

[3]  طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، مؤسسة هنداوي، 2017م، ص.48

[4] نفسه، ص.53

[5]  محمد عابد الجابري، نحن والتراث؛ قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، ط .6، المركز الثقافي العربي، 1996

[6] منهجية القرآن المعرفية، ط.1، دار الهادي، بيروت، سنة 2003م.منهجية القرآن المعرفية، ص. 34

[7]  طه حسين، الفتنة الكبرى ج.1 (عثمان)، دار المعارف مصر، 1947م، ص.5

[8]  مالك التريكي، مقال، بين جعيط وطه حسين: فتنة التاريخ والأسلوب، موقع جريدة القدس (https://www.alquds.co.uk/)، نشر بتاريخ: 25 – يونيو – 2021

[9]  رشيد رضا، الخلافة، الزهراء للإعلام العربي، 1408هـ. ص.17

[10] حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد، الإسكندرية، دار الدعوة، 1992م، ص144.

[11] طه حسين، في الشعر الجاهلي، دار المعارف، تونس،1926م، ص.28

[12] انظر: جعيط، هشام، في السيرة النبوية، ج1 و2، دار الطليعة، ط1، 2007م.

[13]  طه حسين، مرآة الإسلام، مؤسسة هنداوي، 2017م، ص. 75

[14]  نفسه، 78

[15]  طه حسين، من الشاطئ الآخر، محاضرات طه حسين بالفرنسية، عبد الرشيد الصادق محمودي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008م، ص.132

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete