تكوين
كان طه حسين، أول من قدم كافكا للقارئ العربي، في مقالة له بعنوان: الأدب المظلم، بمجلة الكاتب المصري، وذلك في العام 1946، نافيًا عن أعماله صفة الأدب الهدام، مقارنا بينه وبين أبي العلاء المعري، ملهم صاحب الأيام في رحلته من الظلام إلى النور.
وربما تبدو المقارنة بين عوالم طه حسين وفرانز كافكا شديدة الغرابة، فكلاهما عايش تجربة تبدو مغايرة، لكن القواسم المشتركة، رغم اختلاف المكان والظروف الاجتماعية، تدفع تجاه تتبع مآلات الرحلة، والكيفية التي تحرك بها كلاهما عبر فراغ الظلمة؛ قبل أن يفترق بهما الطريق، فمضى الكفيف تجاه النور، ولاذ المبصر بظلمات اليأس.
منذ نعومة أظافره، تقلب طه حسين بين ظلمة العمى، والارتباك الناتج عن القلق الوجودي الذي عايشه، فمضى يتخبط بين الدروب؛ يدفعه حب الحياة إلى بناء ما يشبه الخطوط الدفاعية، في كل محطة من محطات الرحلة، منتزعًا ذاته من أعماق اليأس؛ لتغدو -تلك الذات- موضوعًا في مواجهة الظلام.
في سيرته الذاتية “الأيام”؛ يشتبك طه حسين مع الظلام، والذي لا يقتصر عنده على كف البصر، حيث أحاطت به منذ صباه؛ ظلمة الفقر، وظلمة الجهل. يقول جاك بيرك: “أدرك طه حسين منذ سن مبكرة، أنّه محاط بالظلمة، ظلمة باتت تشكل حقيقة وجودية تنطوي على محاربة النهار لليل، والنور للظلام، فمضى يكافح الظلمة أينما وجدت؛ لا ظلمة العمى فحسب، وإنمّا ذهب يحارب ظلمة الفقر والقهر والجهل[1]“.
كان على طه حسين أن يكافح وهو على هذه الحال، ويلات الفقر، وكذا ما يحيط بعالمه من جهل ثقيل، ولم يكن أمامه سوى التعليم، كوسيلة وحيدة للترقي الاجتماعي؛ والفكاك من براثن الظلمة، ولم يجد أمامه غير التعليم الديني التقليدي. وهي ظروف ربما تشبه، إلى حد كبير، نشأة كافكا، والذي يكبر حسين بنحو ستة أعوام، حيث انخرط هو الآخر، بفضل عائلة أمه، في التعليم الديني ودراسة الأدب، لكنّ الأخير فضل فيما بعد العزلة والإنطواء على الذات.
في العام 1906، حصل كافكا درجة الدكتوراه في القانون، لكنّ ذلك لم يغير حياته، وعمل بوظيفة صغيرة، رغم قدراته الإبداعية، وذكاءه الفطري. وعلى الجانب الآخر، حصل طه حسين على الدكتوراة في العام 1914؛ والتي فتحت طريقًا إلى الحياة، وبنت سلما نحو المجد؛ صعد درجاته بإصرار نحو القمة.
قد تتخذ المقارنة بين طه حسين وكافكا ثلاثة اتجاهات: أدبي؛ عبر عنه ذلك الإنتاج الروائي المتفرد لكليهما. وفلسفي؛ انعكس على المنتج المعرفي؛ بعمق دلالاته وإفراطه في الذاتية. وهوياتي لعب فيه الاغتراب دورًا وظيفيًا كان أكثر التصاقا بالطبيعة الشخصية، وقدرتها على بناء خطوط دفاعية باستمرار؛ للتكيف على الظروف الصعبة، ومن ثمّ المضي قدمًا أو الإنهزام.
بين الاغتراب عن الذات والبحث عن ملاذ
لعل ظلمة الاغتراب عن العالم، كانت هي الأكثر صعوبة في مغامرة طه حسين، وهو اغتراب منعه من الشعور بالطمأنينة؛ بداعي الفقر الذي يصف حياته تحت وطأته، بأنّها كانت حياة ضيقة عسيرة، كأقصى ما يكون الإجداب والفقر. أضف إلى ذلك اغتراب العقل، في ظل حياة عقلية مجدبة فقيرة، كأشدّ ما يكون الإجداب والفقر، على حد وصفه. وتجلى كل ذلك بوضوح في سنوات دراسته بالأزهر، التي يصفها بـــــــــ “الليل المظلم، الذي تراكمـت فيه السحب القاتمة الثقـــــال، فلم تدع للنـور إليـه منفذاً [2]“.
ويمضي حسين ليصف غربته في عالمه الصغير، بداية من “غرفته التي كان يشعر فيها شعورًا قاسيًا بالغربة؛ لأنه لا يعرفها ولا يعرف مما اشتملته من الأثاث والمتاع إلا أقله وأدناه إليه”[3]. فكان “يعيش غريبا عن الناس، وغريبا عن الأشياء، وضيقًا حتى بذلك الهواء الثقيل الذي كان يتنفسه، فلا يجد فيه راحة ولا حياة وإنما كان يجد فيه ألمًا وثقلا” [4].
ومضت الأيام بصاحبها رتيبة ثقيلة، لكنّه رغم كل ما يحيط به ظلام وجودي، كان يستشعر الضوء، وتهفو نفسه إلى النور، حتى أنّه كان يشعر بالوحشة مع إنتهاء ساعات النهار، فيتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزين، “ويقدر في نفسه أنّ الظلمة قد أخذت تكتنفه، ويدرك أنّه لو كان معه في الغرفة بعض المبصرين، لأضيئ المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة .. وكان يجد في المصباح إذا أضيئ جليسًا له ومؤنسًا، وكان يجد في الظلمة وحشة؛ لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب”[5].ولعل ثراء الدلالة الرمزية هنا؛ يعكس نوعًا من الحمولة النفسية المركبة، التي منحت رمزية النور تفردًا عن غيرها من العلامات التي انتشرت في أدب طه حسين؛ ذلك أنّ هذا البعد الإشاري يلفت باستمرار إلى مغزى دلالي بنيوي؛ يشير إلى الرغبة في الإحلال، كضرورة رمزية للخروج من براثن العمى إلى حيث ينساب النور.
كانت سنوات الدراسة في الأزهر، برتابة المناهج، وجمود التفكير، حملا ثقيلا، أضاف إلى غربته الكثير من الضيق، أضف إلى ذلك غلظة بعض قساة القلوب، وكيف كان الإطراء: “انصرف يا أعمى فتح الله عليك” يخنق روحه، فيخرج ساخطًا على ممتحنيه، محتقرًا لامتحانهما [6]. فالتمس طريقًا جديدًا لدراسة الأدب علّه يجد الخلاص.
ومع الوقت، مضى طه حسين يعالج اغترابه؛ عن طريق إعادة ترتيب مفردات عالمه، فكان الصوت وسيلته لبناء عوالم موازية، تأخذه إلى مساحات أكثر رحابة، أخذ يصنعها من أصوات باعة الحلوى وأدواتهم، والمنشدين والحمالين وكل المؤثرات الصوتية من حوله [7]. ورويدًا رويدًا نجح في بناء جسر جديد مع الحياة.
من قبل، أجهد طه حسين مخيلته، من أجل استرجاع ذاكرة السنوات الثلاث الأولى من عمره، قبل أن يفقد بصره، وينجح في ذلك كأبدع ما يكون الخلق الفني، لينفلت من إسار الظلمة الأولى مستعيدًا الأوصاف المكانية، وبشكل يتجاوز حدود الصورة الحسية، حيث سعى في دأب إلى إعادة ترتيب عناصر الوجود الحسية؛ ليصف حقول القصب الممتدة على مدد الشوف، والأرانب التي تنجح في تخطّيها انسياباً ووثوباً، ليستعيد في طفولته عالمه البعيد، ويشتبك في عبقرية مع عوالم الجنيات والعفاريت، وحكايا السحرة والمردة، حيث تجاوز حدود القوانين الطبيعية، ومارس ذلك الاتصال الطفولي بعالم الأرواح. فصنع عالما مرئيا موازيا، لعبت فيه الكائنات الخيالية دور البطولة، فــ “كانت تهبط تحت الأرض كلّما أضاءت الشمس واضطرب الناس، فإذا أوت الشمس إلى كهفها، والناس إلى مضاجعهم، وأطفئت السرج، وهدأت الأصوات، صعدت هذه العفاريت من تحت الأرض، وملأت الفضاء حركة واضطراباً وتهامساً وصياحاً” [8].
وتأتي رحلة باريس، لتبعثر مفردات طه حسين من جديد، فيتجلى الاغتراب الهوياتي، لكنّه على العكس من كافكا، استلهم من المعرفة نورا، ومن الخيال أنيسا يحدثه ويحاوره، ويرتب معه من جديد مفردات العالم، قبل أن يذهب طوعا تجاه الحب، أملا في إدراك مساحات أخرى من الحياة، قبل أن يعود إلى مصر، وينخرط في الحياة الثقافية والسياسية، ويمسك بقبضته تلابيب هويته، بل ويطرح بعدا نظريا جديدًا لهوية وطنه، في كتابه: مستقبل الثقافة في مصر، مؤكدا أنّه ليس بين الشعوب التي نشأت حول البحر المتوسط وتأثرت به فرق عقلي أو ثقافي، وإنّما هي ظروف السياسة والاقتصاد، مؤكدا أنّه ” لا ينبغي أن يفهم المصري أنّ بينه وبين الأوروبي فرقاً عقليا قويا أو ضعيفا، ولا ينبغي أن يفهم المصري أنّ الشرق الذي ذكره كيبلنج في بيته المشهور، الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، يصدق عليه”[9].
وعلى عكس طه حسين، رفض كافكا التعلق بأي هوية، متسائلا عمّا يربطه باليهود أو الألمان أو التشيك، قبل أن يقرر الانفصال عن الجميع، حتى يستطيع التنفس[10]. محاولا البحث عن قواسم مشتركة بينه وبين ذاته أولا، وهو ما فشل فيه أيضًا.
عاش كافكا حياة قلقة، تعصف بها أنواء الغربة والعزلة، بداية من سلوك والده هيرمان، والذي كان نموذجا للأب القاسي الذي يمتص الحياة ممّن حوله، ويصف كافكا في رسالة بعنوان: “رسالة لأب”، معاناته منذ طفولته، والتي أحدثت شرخًا عميقًا في نفسه، حتى بات في أعماقه يستهين بذاته وويستسلم لمشاعر الإذلال والاستصغار؛ فكره الدراسة ولازمه الخوف أينمّا حلّ [11].
وضع الأب بذرة القلق الأولى في نفس كافكا، ما دفعه إلى اغتراب من نوع آخر، وإن دفعه ذلك إلى الاشتباك مع معطيات القهر والاستبداد؛ لكنّه ألقى به نحو بئر سحيقة من الحزن واليأس وكراهية العالم. يضاف إلى ذلك نوع آخر من الاغتراب الهوياتي، كيهودي ألماني، عاش ضمن أقلية مقهورة في براغ، وعاصر بدايات المد النازي، وعانى الفقر والجوع والمرض، فاستسلم سريعا؛ وكأنّه أراد أنّ يجسد مظلوميته في سيرة ذاته البائسة.
إقرأ أيضاً: طه حسين: سمات العقلانية المتوسطية
في روايته العبثية المسخ؛ نظر كافكا إلى المرآة، وتمثل شخصية جريجور سامسا، الذي يستيقظ ذات صباح، بعد أحلام مزعجة، ربما هي ذاتها أحلام كافكا، ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة هائلة الحجم. وفي ثنايا أحداث الرواية، يكتشف كافكا كل آليات القهر، التي حولت الإنسان إلى حشرة، لكنّه أبدا لا يقاوم، وإنّما ينقطع عن الطعام ويظل مختبئاً تحت الأريكة، بعدما أدرك أنّ في موته خلاص الجميع؛ وياللعجب، فعند أول شعاع ضوء يأتي من العالم الخارجي، يعلن جريجور (كافكا) رفضه للنور؛ لتتهاوى رأسه ويموت. وكأنه يستدعي قسوة الأب، والتهميش الهوياتي الذي عانى منه طيلة حياته، مفضلاً النهاية التي كان يبحث عنها ويجد فيها خلاصا أبديا؛ “الموت”.
كان مسخ كافكا، لا يتحرك إلّا ليلا، ولا يختبر حلوله سوى في المساء، “أو في الصباح المبكر جدا، بينما ظلام الليل ما يزال سائدا” [12]. وكأنّه يأنس بالظلام الذي كان طه حسين ينفر منه، وللمفارقة، وبينما طه حسين يستقبل برحابة وجود أخيه، وتألف روحه مصاحبته له في سنوات دراسته بالأزهر، كان بطل المسخ الذي يحاكي ما في نفس كافكا من وجع، يشعر بأنّه بات حملاً ثقيلا على شقيقته وأسرته، وأنّ الحل السحري لا يخرج عن موته. حيث أحكمت الطبيعة النفسية لكافكا، السياق النفسي المؤطر لكل أعماله؛ فبات اليأس إطارا مرجعيا وثقافيا؛ شديد الالتصاق بالدلالة وشتى مضامينها.
بين استقبال الحب ورفضه ..طريقان إلى الحياة
في رسائله إلى سوزان، يقول طه حسين: “بدونك أشعر أنّي أعمى حقا. أمّا وأنا معك، فإنّي أتوصل الى الشعور بكل شيء، وأنّي أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي”[13]. وفي أخرى يقول: “كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب، فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنّهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إننى أؤمن بذلك تماما”[14].
وهكذا، لم يجد طه حسين حرجا من البوح بالحب، واستلهامه كمحفز على الحياة، والانطلاق من خلاله تجاه عوالم سحرية من السعادة؛ ليس هذا فحسب، وإنّما يكتشف في نفسه تلك القدرة المذهلة على منح السعادة لحبيبته، فيقول: “أمنعك من أن تكونى حزينة وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئاً، الآن تعالى إلى ذراعى أحبك حتى نهاية الحساب..أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلّا على هذا الانتظار”[15].
كان الحب طريقا آخر إلى النور، لم يفرط فيه طه حسين، ولم يستصغر نفسه أمامه، بل تفجرت في أعماقه قدرات بلا حدود على إسعاد شريكته، ومنحها أكثر من مبرر وسبب للتمسك به حتى نهاية الطريق، ما يعكس قدرة مدهشة، ليس على العطاء فحسب، وإنّما على استقبال المشاعر وتطويعها، واحتوائها في مرونة فائقة؛ قد تعكس في جانب منها رومانسية الشرق، التي اكتشفت في شخص طه حسين، نفسها من جديد؛ أمام تلك الشريكة الغربية القادمة من عاصمة النور.
على العكس من هذا كله، يعيد كافكا في رسائله إلى ميلينا، ترتيب معطيات عالمه المثقل بالحزن واليأس، ولا يمنح ذاته أي فرصة للاستمتع بدفئ الحب، فمنذ اللحظة الأولى يقول لها: “لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التي تتناوبها السخونة والبرودة”[16]. وكأنّه يقطع الطريق أمام أمل داهمه ذات لقاء، ووضع أمامه إمكانية ما للحياة.
ويعترف كافكا لحبيبته صراحة، بيأسه المطلق من أي أمل في الحياة؛ فيقول لها إنّه يعذب نفسه إلى درجة الجنون، وأنّ حياته تتألف من مزيج من الخوف والتهديد، الذي أصبح يغذي وجوده، ذاهباً في نهاية الطريق إلى اتخاذ اليأس والشعور بالخطر والتهديد نهجا في الحياة، فيقول: “إنه طريقتي في المشاركة في الحياة. فلو توقف هذا التهديد، سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغلاق المرء لعينيه”. دافعاً محبوبته، على عكس طه حسين، إلى الابتعاد عن عالمه ومرافقته. فيقول: “إنني أعيش في قذارتي، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضًا، فهذا شيء مختلف تمامًا.. أنني من خلالك أصبح أكثر وعيًا بقذارتي على نحو زائد، ومن خلال وعيي يصبح الخلاص أكثر في صعوبته”. وحتى كتابة الرسائل إلى ميلينا، كان يرى معناها أن “يتجرد المرء أمام الأشباح، وهو ما تنتظره تلك الأشباح في شراهة، ولا تبلغ القبلات المكتوبة غايتها، ذلك أن الأشباح تمتصها في الطريق”[17]. بل ويمضي بإصرار في درب مخاوفه السوداوية، فيقول: “لا يمكنك أن تفهمي حق الفهم يا ميلينا، ما هي حقيقة الأمر كله، أو أن تفهمي جزئيا ما هو مداره، إنني أنا حتى نفسي لا أفهمه، إنني أرتعش فحسب تحت وطأة الهجوم، أعذب نفسي إلى درجة الجنون.. كل ما يتطلعه فقط هو السكون، الظلام، الزحف إلى مكان الاختباء[18].
وعليه فإنّ الحب الذي أضاء عوالم طه حسين، نجده ذاته الذي عذب كافكا، ووضعه أمام حقيقة ذاته كما يراها. وهو ما انعكس بوضوح على أعماله، فتحولت الأسطورة أو أدوات الخيال، إلى سردية عبثية، ثقيلة على النفس، رغم تفردها، قاسية على الروح، رغم صدقها، ففقد الخيال عنفوانه وصدمة حضوره، ليصبح المسخ عاديا مقبولا رغم دهشة مروره الحزين.
من جهة أخرى، أعاد طه حسين توظيف الأسطورة، ونسج من عوالم الجنيات، وقصص العفاريت قوالب شديدة الفعالية؛ اكتسبت خاصية التعدد والعموم، لما فتحته من مساحات فنية شديدة الرحابة، قبل أن يذهب في رواية القصر المسحور، وفي أحلام شهرزاد، إلى تحرير الأسطورة، وإعادة توطين أبطالها في الواقع.
ختام
لم يفلت طه حسين من الظلام فحسب، بل صنع عالما خاصا من النور، حاول أن يجذب المبصرين جميعا إليه، ولم يعيد ترتيب معطيات العالم الحسي فحسب، بل أبصر طريقا جديدا للخلاص؛ فتح أمام الجميع، الباب إليه.
ربما كان طه حسين، هو أكثرهم توفيقا في وصف كافكا، حيث قال إنّ الأخير وجد أمامه سداً منيعاً لا يستطيع تجاوزه، فوقف حيث ينتهي به السعي، واستأنف السير في طريق أخرى، وانتهى من هذه الطريق الأخرى إلى مثل ما انتهى إليه في الطريق الأولى، فوقف ثم استأنف السير في طريق ثالثة، وما يزال كذلك يبدأ الطرق، ولكنه لا ينتهي منها إلى غاية.
ويمكن القول إنّ كافكا، تحت وطأة التربية القاسية، والاغتراب الهوياتي، وتمكن اليأس من روحه، في مجتمع يعاني في رتابة تحت نير الرأسمالية، سقط وهو يكشف النقاب عن أدوات القهر والاستلاب، في بئر سحيقة من اليأس والعبث واللا سببية؛ ولربما كان حَسَن الحظ لموته شابا، قبل أن يختبر معاناة أخرى من نوع خاص، مع النازية، تلك التي عانتها حبيبته ميلينا؛ وأفلت منها لسبب غامض، وكأنّه قرر أن يحاكي بطل روايته المسخ، جامعا قواه الخائرة، في زحفه المتواصل نحو الموت؛ ليتخلص من تبعات وجوده العبثي في عالم مجنون.
المراجع:
[1] جاك بيرك: طه حسين، فيما وراء النيل، 1977، ص ص 78-81.
[2] طه حسين: الأيام، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1992، ص309.
[3] نفس المرجع السابق: ص 137.
[4] نفس المرجع السابق، ص 137.
[5] نفس المرجع السابق، ص 161.
[6] نفس المرجع السابق، ص 225.
[7] نفس المرجع السابق، ص206.
[8] الأيام ص ص 15-18.
[9] طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مؤسسة هنداوي، 2014، القاهرة، ص 29.
[10] Arnold J. Band: Studies in modern Jewish literature, Philadelphia, 2003, p.72.
[11] Franz Kafka: Dearest Father, Translated by Hannah and Richard Stokes, new edition, Alma Classics, 2017, pp.20-21.
[12] فراز كافكا: المسخ، ترجمة الدسوقي فهمي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1997، ص 40.
[13] سوزان طه حسين: معك، ترجمة بدر الدين عرودكي، مكتبة هنداوي، القاهرة، 2015، ص 261.
[14] نفس المرجع السابق، ص 52.
[15] نفس المرجع السابق، ص 98.
[16] نفس المرجع السابق، ص 109.
[17] رسائل إلى ميلينا، ترجمة الدسوقي فهمي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1997، ص 325.
[18] نفس المرجع السابق، ص 288.