عشر مغالطات في توظيف قاعدة “لا اجتهاد مع النص”

 تكوين

اللغة وسيلتنا الوحيدة إلى اكتشاف العلاقة بين الله والإنسان والعالم… ولن نستطيع بناء تصورات فعالة في علاقتنا بالكون تُخرجنا من هُوة السقوط الحضاري دون إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع اللغة… فعلى أرضية اللغة تدور المعارك وتسيل الدماء، ويكون الوصم/الاغتيال المعنوي بألقاب مثل عميل وضالّ ومُجدّف!

من هنا تأتي أهمية إعادة النظر في بعض المقولات المتداولة التي يُروج لها بوصفها مسلمات معرفية لا ينبغي أن نتوقف أمامها ونُعيد فيها النّظر، ومن ذلك القاعدة الأصولية الفقهية لا اجتهاد مع النص فإذا ما اقتربنا منها وأعدنا النظر فيها، ووضعنا دالّ “النص” تحت مجهر البحث، لاكتشفنا أنّ ثَمّة مخادعة دلالية تحدث بوعي أو بلا وعي…

فترى المدرسة الحَرْفِية أنّ الاجتهاد يكون عند غياب النّص، فمتى وُجِد نصّ من كلام الله، أو سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فليس هناك محل للاجتهاد، ولا يجوز لأحد أن يخالف النّص الصحيح الثابت عن رسول الله ﷺ، وجعلوا المخالف على خطر من الردة عن الإسلام.

وهذا الفهْم/التفكير رغم تداوله وشيوعه حتى أصبح مسلمة معرفية في ثقافتنا الدينية لا يخلو من مغالطات وتناقض وقصور في معرفة مدلول “النّص”، وطبيعة إعمالها، وهذا ما سأحاول إجماله في عشر مغالطات على النحو التالي:

  • أولًا، الاجتهاد يكون مع وجود النّص، وليس في حالة غيابه فقط، فقولهم: “الاجتهاد يكون عند غياب النّص، فمتى وُجِد نصّ فليس هناك محل للاجتهاد” غير صحيح، فالاجتهاد يكون مع وجود النّص محاولة لفهْم النّص، وليس أدلّ على ذلك من قول النَّبيّ ﷺ يَومَ الأحْزَابِ:

    “لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ. فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ”.

    فجاء في شرح الحديث:  فأرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حثَّ النَّاسِ على السَّيرِ والإسْراعِ إليها، فلمَّا مَشُوا، حضَرَ وَقتُ العَصرِ وهمْ في الطَّريقِ وقبْلَ أنْ يَصِلوا إلى بَني قُرَيْظةَ، فذكَرَ بعضُهم أنَّه لنْ يُصلِّيَ العَصرَ معَ دُخولِ وَقتِه إلَّا في بَني قُرَيظةَ، عَملًا بظاهِرِ قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ النُّزولَ مَعْصيةٌ للأمْرِ الخاصِّ بالإسْراعِ، فخَصُّوا عُمومَ الأمْرِ بالصَّلاةِ أوَّلَ وَقْتهِا بما إذا لم يكُنْ عُذرٌ، وأنْ يُمتَثَلَ أمْرُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإنْ تأخَّرَتِ الصَّلاةُ عن فَضيلَتِها في أوَّلِ الوَقتِ، تَمسُّكًا بحُدودِ نُطقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
    وذكَر الآخَرونَ أنَّهم سيُصَلُّونَها؛ نَظرًا إلى المَعنى لا إلى ظاهِرِ اللَّفظِ، وقالوا: «لم يُرِدْ منَّا ذلك»، أي: إنَّ وَصيَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك إنَّما هي على سَبيلِ الحَثِّ لهم في السَّيرِ، كما فُهِمَ بامْتِثالِ ما أمَرَ به، فلمَّا دخَلَ عليهم وَقتُ العَصرِ، وعَرَفوا مَقصودَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ذلك؛ رأَوْا أنْ يَنالوا فَضيلةَ الصَّلاةِ في وَقتِها، وأنْ يَذهَبوا إلى بَني قُرَيْظةَ مُمتَثِلينَ أمْرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الوُصولِ إليها، فذُكِرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما حَدَثَ مِن الطَّائفتينِ، فلم يُنكِرْ على  أحَدٍ منهم؛ لا التَّارِكينَ، ولا الَّذين فَهِموا أنَّه كِنايةٌ عنِ العَجَلةِ، وهو إقْرارٌ منه، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لفِعلِهم.

نخلصُ من ذلك إلى أنّ الاجتهاد حاصلٌ مع وجود النّص وليس غيابه، ومشروعية أن نختلف في فهم الآيات والأحاديث فإذا كنا سُنُسلّم للمدرسة الحرفية تمسّكها بالألفاظ وظاهر النّصوص، فنحن في حاجة إلى أن تُسلّم هي أيضا لنا بجواز الاحتكام إلى المعاني والمقاصد.

  • ثانيًا، المخادعة الأكبر في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة الخلط بقصد أو من غير قصد بين مدلولين لكلمة “النّص”، فمفهوم “النّص” في الفقه يختلف عن مفهوم النّص في اللغة. فبينما يتوسع اللغويون فيطلقون على كل بنية لغوية كاملة طالت أم قصرت حقيقة كانت أم مجازًا كلمة “نص” (Text)، يحصر الفقهاء مدلول كلمة “النص” في قولهم: “لا اجتهاد مع النص” في النصوص الواضحة وضوحًا بينًا لا خلاف فيه مطلقًا (قطعي الدلالة)، فالنّص عند الفقهاء مستوى من مستويات الدلالة، كما في تصنيف الإمام أبي حنيفة، لذا النصوص بهذا المعنى عزيزة عند الفقهاء، فهي وفق قولهم، تتسم بالنّدرة، وفي المقابل يأتي احتمالي الدلالة، وهو الأكثر شيوعًا في الأدلة الشرعية من الآيات والأحاديث.

نخلص من ذلك إلى أن كل آية أو حديث هو نصّ بمفهوم اللغويين، وليس نصًا بمفهوم الفقهاء، فيجوز لنا الاجتهاد والاختلاف في فهمه ما دام لهذا الاجتهاد أو ذاك سند علمي في علوم اللغة، فكل آية أو حديث طال أو قصر هو بنية لغوية ذات دلالة احتمالية غالبا…

  • ثالثًا، من الخطورة أن يتحوّل النص (بالمفهوم اللغوي)/الآية أو الحديث إلى أداة للتمثيل لا محض شاهد أو دليل دون أن يكون المتلقي على وعي بذلك… نُوضّح أكثر؛ من المغالطات الشائعة أن نتصور أنّ الاستشهاد بالّنص آية أو حديث على واقعة في حياتنا يقتضي المطابقة، الاستشهاد افتراض وادّعاء من المتحدث أو الكاتب أنّ ثمّة تشابه بين الواقعة التي في زماننا والواقعة التي نزل فيها النّص، على سبيل المثال عندما يستشهد إنسان بقول الله تعالى

    “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” [النحل، الآية112]

    للإسقاط على واقع دولة ما فهذا تصوّره وليس الحقيقة… فالآية في استشهاده لم تُستخدم لتكون دليلًا، لكن لتكون أداة تمثيل لتشبيه حالة بحالة، لا للاحتجاج أو التوثيق فحسب، فنحن أمام استعارة تمثيلية يُمثُّل، ويُشبه المستشهد بالآية واقع مدينة أو دولة ما بالقرية التي نزلت فيها الآية وهو محض افتراض وليس حقيقة… فجوهر الاستعارة التمثيلية تشبيه صورة بصورة دون ذكر الطرف الثاني صراحة… فعندما أقول لك الآن “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” أقوم بتشبيه واقع من أخاطبه بواقع من نزلت فيه الآية… وهذا التشابه محض ادّعاء وافتراض من المُستشهد بالنص، فكل استشهاد بنص يشتمل علي تمثيل وتصوير (مجازي) فعندما تستشهد بقول عنترة مثلًا: “وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري” فأنت لست عنترة ولا هي عبلة، لكنك تمثّل حالتك بحالة عنترة، فأنت لا تستشهد بالبيت ليكون دليلًا وشاهدًا فقط، وإنما تستخدم البيت تصويرًا لحالتك، أي تجعل الحالة/القصة الأصلية (عنترة وعبلة) مثالًا يُشبَّه به حالك… فعندما يستشهد عاشق ببيت لعنترة فليست محبوبته عبلة ولا هو بعنترة… الاستشهادات لا تعدو عن كونها إعلانا عن انحياز شخصي ومحاولة للاستمالة العاطفية، لا بُد أن يكون الجمهور على وعي بأنّها لا تستلزم الحقيقة، وليست مطابقة للواقع ضرورة كما يظنّ بعض الناس…

إقرأ أيضًا: الإجماع النصي والإجماع الإجتهادي مقاربة معرفية

الخلاصة: الاستشهاد بالآيات موقف يتماهى فيه إنسان مع آية قرآنية، ويرى أنها تعبر عنه… فيستعير النّص، لأنه يرى أن العلاقة بينه وبين واقعه تُماثل ما جاء في الآية، وهذا ادّعاء لا يقتضي التطابق، لذا الشيخ محمد الظواهري والشيخ المراغي، وكلاهما من تلامذة الإمام عبده الذين شغلوا منصب شيخ الأزهر، في ذروة اختلافهما كتبا مقالًا عنوانه آية قرآنية واحدة، “مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ“، من قوله تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”. [البقرة، الآية 114] فكلا الشيخين رغم اختلافهما رأى أن الآية تُمثِّله وتُعبِّر عنه.

فعندما استشهد بنصّ آية أو حديث زعمًا مني أنّ السياق الذي نزلت فيه الآية أو قيل فيه الحديث يتطابق تمامًا مع الواقعة المعاصرة التي استدعيت النّص من أجلها لا يعدو عن كونه تشبيهًا قد أكون مصيبًا وقد أكون مخطئً، ولا يقتضي بالضرورة التطابق، فطريقة استخدامنا للنصوص تُدخلها في باب الاستعارة التمثيلية، ليصبح النص أحد طرفي الاستعارة التمثيلية في الأسلوبية العربية… فمن الخطأ أن يتعامل المُستشهد أو الُمتلقي مع هذا الأسلوب التمثيلي المجازي بوصفه حقًّا، وحقيقةً…

  • رابعًا، تجاهل الاحتمالية الدلالية للنصوص، فلا تخلو النصوص اللُغوية من احتمالية، فالقرآن الكريم والأخبار والمرويات المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدخل في إطار الأسلوبية العربية ذات الدلالة الاحتمالية وفق قول شيخ الأزهر محمود شلتوت:

    “ما من آية حصل من دلالتها اختلاف بين العلماء، وفي موضوعها حديث أو أحاديث، إلا كانت هذه الأحاديث أيضًا محل خلاف بينهم، وقلما نجد حديثًا خلت دلالته ما بين العلماء من خلاف في دلالة آية من القرآن. ولعلَّ ذلك يرجع إلى اشتراك القرآن والسُّنَّة في الأسلوبية العربية، وهي واحدة فيهما، كما يرجع إلى أسباب أُخرى تتعلَّق بثبوت الحديث، وعدم ثبوته، وقوته وضعفه”.

    ومن هنا تأتي أهمية حسم الاحتمالي في لغة الوحي بالاحتكام إلى المبادئ القرآنية، فهي بمنزلة الكلمات المفتاحية لفهم رسالة الله إلى الإنسان، وفي مقدمتها: العدل والكرامة الإنسانية بما يُحقق المصلحة العامة…

ومن أمثلة الكلمات ذات الدلالات الاحتمالية في القرآن الكريم كلمة “شريعة” فقد جاءت بثلاثة مدلولات في القرآن الكريم:

  1. فجاءت مرات بالمدلول اللُغوي الذي عرفه العرب قبل الإسلام بمعنى الطريق الواضح ومورد الشَّاربة الماء، ومنه قول العرب: شرعت الإبل إذا وردت شريعة الماء، وسُمِّي مورد الماء بالشريعة؛ لوضوحه وظهوره لجميع الناس، ومنه قوله تعالى:
    “إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا” أي ظاهرةً رافِعةً رؤوسها [الأعراف: ١٦٣]، وقوله تعالى: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” [الجاثية:١٨]، بمعنى الطريقة المستقيمة الواضحة.
  2. وجاءت كلمة “شريعة” بمعنى ديني جديد في موضعين من القرآن: الأول، في قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا” [الشورى: ١٣]، فاستدلَّ دارسون بالآية على أن الشريعة الإسلامية هي الأصول التي حملها الوحي لجميع الأنبياء، تتساوى فيها الدِّيانات، وسُمِّيَت بالشريعة، لظهورها ووضوحها، فلا يختلف عليها أحد، ولا يصحُّ فيها النَّسخ، وهي المتمثِّلة في عبادة الله، واجتناب عبادة غيره من الطاغوت: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” [النحل:٣٦]، فالشريعة في هذا الموضع تُفيد أصل الاعتقاد وتُرادف الإيمان.
    والموضع الثاني، في قوله -تعالى-: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” [سورة المائدة، الآية ٤٨]، وبه استدلَّ دارسون على أن الشريعة خاصة بالأحكام العملية التي يعتريها النَّسخ والتغيير، فالشريعة اسم للأحكام المختلفة بين الأنبياء.

بهذا أصبح للشريعة في الثقافة الإسلامية مفهومان: كلٌّ منهما له سندٌ تحتمله دلالة الكلمة في القرآن الكريم، الأول، بمعنى الدينالأصول الثابتة” التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. والآخر، الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الأنبياء، وتنقسم إلى نطاقين: نطاق العبادات، وهي الأحكام العملية لعلاقة الإنسان بالله تعالي مثل: الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وغيرها. ونطاق المعاملات، وهي الأحكام العملية التي تُنظِّم علاقة الإنسان بغير الله من الأفراد والمجتمعات والدول وسائر محيطه الكوني، ويُطلَق على مجموع الأحكام العملية بنوعيها (التَّعبُّديَّة والمعاملات) علم “الفقه الإسلامي“، فقد عمل الفقهاء المجتهدون  لاستنباط الأحكام العملية من الأدِلَّة وفق أصول تفاوتوا في قبولها ورفضها وترتيبها، ويختصُّ التقاضي بالنظر في جانب أحكام المعاملات للفصل بين الأفراد والهيئات في المنازعات، فمجاله الفعل الظاهر الذي يُمكن أن تقوم عليه بيِّنة، والأصل ألَّا يتطرق إلى البواطن فالأحكام العقائدية والتَّعبُّديَّة ليست مجالًا للتقاضي.

إقرأ أيضًا: التعبيرات الدينية ومحدودية اللغة: نموذج النبي موسى أو العالَم من خارج النص

وقد أحدَثَت ثنائية مفهوم الشريعة بين احتمالية دلالتها على الأصول أو الفروع ارتباكًا وشراسة في الخصومة، فالفكر المتشدِّد يُشعل الانفعالات، ويُلهب مشاعر الغيرة على الشريعة بزعْم أنك تجادل في الإلهي، وأنك تُشكِّك في الوحي المقدَّس، أما النقاش بشأن الاجتهاد البشري (الفقه) الذي يُطلق عليه دالُّ الشريعة، فالفقه، بمعنى الشريعة، عاني عبر تاريخنا جمودًا، لأسباب عديدة أشار إلى بعضها شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت بأنها راجعة إلى التَّمسُّك باللفظ، وإهمال المقصد التشريعي والتقديس لآراء السابقين، وعدم مسايرة الفقهاء لمستجدات الواقع وتحريم الخروج على المذاهب الفقهية المُمثَّلة لفهم أهل السنة، ورغم ضخامة نتاج الفقه الإسلامي في جوانب مثل فقه العبادات نجدُه منعدمًا في جوانب أخرى من أحكام إدارية وعقارية وتجارية وبحرية وحقوقية.

  • خامسًا، من المغالطات الشائعة المساواة بين القرآن الكريم وسنة الأخبار في وصفهما بالنّصية (بمفهوم اللُغويين) ما يجعلهما في درجة تشريعية واحدة، وهذا ما لم تقبله قديمًا مدرسة الرأي (مدرسة أبي حنيفة)، ومدرسة الإصلاح والتجديد (مدرسة محمد عبده) حديثًا، وعلَّة رفضهما لجعلهما في درجة واحدة؛ ما بين القرآن وسنة الأخبار من فروق، لا يكاد يختلف فيها المسلمون، نُجملها في التالي:
  1. القرآن لم يُنقل منه شيء بالمعنى، ومنع ذلك فيه منعًا باتًّا، أما السُّنَّة فأُبيح فيها ذلك، ونُقِل كثير منها بالمعنى، ولا يخفى تفاوت الناس في فهم المعنى، وتفاوت أسلوب التعبير والنقل، وما يملكه اللفظ من تأثير في تحديد المعنى. ففي الوقت الذي نُسلّم فيه جميعا بأن القرآن لفظًا ومعنىً من الله، وأن سنة الأخبار اللفظ ليس من الله، نجعلهما متساويين! والواقع المعرفي الذي يدركه أي باحث في اللغة أنّ ثمّة علاقة وثيقة بين اللفظ والمعني في بناء المعاني والمفاهيم.
  2. القرآن قد اتَّخذ له الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- كُتَّابًا يكتبونه ويُرتِّبونه بآياته وسوَرِه طبقًا لما أُمِرَ به من الله، في حين أن السُّنَّة لم يُتخذ لها كُتَّابًا، ولم يكتب منها إلا القليل، بل ورد نهيٌ عن كتابتها اكتفاء بحفظها في الصدور.
  3. القرآن نُقل إلينا بالتَّواتُر حفظًا وكتابة، أما السُّنَّة نُقلت في معظمها بطرق الآحاد، ولم يتواتر منها إلا أقلَّ القليل.
  4. كان الأصحاب يراجعون النبي -صلى الله عليه وسلَّم- عند اختلافهم في حرف من القرآن الكريم، وكان يحكم بينهم فيه، إمَّا بتعيين إحدى القراءتين أو بإجازتهما، أما السُّنَّة لم يعهد فيها شيء من ذلك.
  5. أنَّه لو كانت الأحاديث جميعها تشريعًا عامًّا كالكتاب، لأمر الرسول بتدوينها وحفظها، كما فعل ذلك في القرآن، وليس من المعقول أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلَّم- مصدرًا لإيجاب أو تحريم يتعلق بأحكام خالدة. ثم لا يأمر، وهو الرسول المُكلَّف بالبلاغ والبيان، بتدوين ما به البيان والبلاغ حفظًا له من الضياع والاختلاف.

بل على عكس ذلك وُجدت أحاديث تمنع تدوين الحديث، منها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-:

“لا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ غَيْرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهْ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”

ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال:

لمَّا اشتدَّ بالنبي -صلى الله عليه وسلَّم- وَجَعُه قال: “إيتُوني بِكِتابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ “، قال عمر: “إنَّ النَّبيَّ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا”.

ولعل تأخُّر التدوين أدَّى إلى إثارة الجدل بشأن ثبوت كثيرٍ منها، ممَّا دفع الإمام البخاري إلى أن يكتفي بأربعة آلاف حديث من ستمائة ألف حديث كان قد جمعها، كما نتج عن تأخير التدوين تعدُّد الروايات واختلافات المحدِّثين، واختلافات الفقهاء بعضهم مع بعض، والخلاف بين المحدثين والفقهاء في تصحيح حديث أو رفضه، والتَّعويل عليه في الدلالة أو عدم التعويل.

وقد كانت هذه الفروق بين القرآن والسُّنَّة أصلًا في انحصار مصدر العقيدة في القرآن، وعدم الاعتماد في ثبوتها على السُّنَّة، لأن العقيدة قائمة على اليقين والجزم، وأكثر السُّنَّة ظنِّيُّ الثبوت، فأفتى الأزهر في أربعينيات القرن الماضي “أنَّ أحاديث الآحاد لا تُفيد عقيدةً، ولا يَصِحُّ الاعتماد عليها في شأن المُغيَّبات… قولٌ مُجمعٌ عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء”.

ورأت مدرسة الرأي، متمثِّلة في اجتهادات الإمام أبو حنيفة (٨٠-١٥٠هـ/ ٦٩٩-٧٦٧م)، ضرورة التمييز تشريعيًّا بين القرآن الكريم النَّص الأول الأصلي في التشريع وسُنَّة الوحي المصدر الثاني الثانوي في التشريع، وضيَّقوا من دائرة الاستدلال بها، فلا تدخل السُّنَّة إلى ميدان التشريع إلا بضابطين:

  1. النظر إلى مدى موافقتها لما جاء في القرآن الكريم، فاشترطوا لتكون السُّنَّةُ مُشرِّعةً أن تكون تابعةً للقرآن ونابعةً منه شرحًا أو تعليقًا- بالتخصيص أو التحديد، فلا تستقلُّ عندهم بالتشريع، ولا يُقبَل عندهم أي شبهة تناقض بينها وبين القرآن.
  2. اشترطوا لمشروعية مرجعية النص الثانوي “السُّنَّة بالمفهوم الأصولي” أن يكون متواتِرَ النقل أو مشهورًا، أي أنهم أخرجوا من دائرة الأدِلَّة الشرعية الأحاديثَ التي يرويها مجموعة قليلة من الرواة والذي يُطلق عليه اسم “حديث الآحاد“، وقدَّموا الاستحسان العقلي عليها.
  • سادسًا، إغفال السياق الخارجي المصاحب للنّص الذي به اكتمال معنى النّص، فحتى يكتمل النّص نحتاج إلى السياقات الاجتماعية والتاريخية والموقف الأول والسبب الذي جاء فيه النص، على سبيل المثال، حديث:

    “لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”.

    هناك مَنْ قال بأنّه خطاب عام غير مُقيد بسياق، وأنه وحي واجب الاتباع، فقالوا بحُرمة تَولّي المرأة الإمارة والقضاء، وكل أنواع الولاية، وهذا الرأي/الفهم الأكثر حضورًا في تراثنا وخطابنا الديني، إلا أنّه أمام نجاح المرأة في هذه المجالات في مجتمعات الآخر غير المسلم، وحركة اجتماع وتغيّرات واقع المسلمين، قدّم الفقهاء المعاصرون فهما مختلفا عن الفهم السابق للحديث، فقالوا بأنّ الحديث مقيد بسياق خارجي ومرتبطٌ بحادثة تاريخية بعينها، فبعد أن كان الفقه يراها نصوصًا في التحريم، رأى المشرع/الفقيه أنّها مقيدة بِعلّة، وخاصة بسياق تاريخي بعينه، فحديث النهي عن تولّى المرأة مناصب تشريعية وتنفيذية يُشبه الأحاديث التي تمنع سفر المرأة بلا محرم، فبعد أن كان الفقه يراها نصوصًا في التحريم، رأى المشرع/الفقيه أنّها مقيدة بعلة، وقد زالت علة النهي عن سفرها دون محرم الواردة في الأحاديث بما توفَّر من أمن عليها في زماننا.

إقرأ أيضًا: النص المؤسس والنص الحاجب

ومثل ذلك ما أصدرته لجنة فتاوي الأزهر يونيو عام ١٩٥٢ من فتوى تحريم مشاركة المرأة بالتصويت أو الترشح في انتخابات المجالس التشريعية، وقالوا إنّ مبايعة النساء للنبي –صلى الله عليه وسلم- لا تُثبت زعامة ولا رياسة ولا حكمًا للرسول، بل هي مبايعة على الالتزام بأوامر الدين، وقالوا بأنّ المرأة ممنوعة بحديث صحيح البخاري وغيره من الأحاديث القائلة بأنّه: “لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” وقالوا هذا ما فهمه أصحاب الرسول وجميع أئمة السلف”. ثم عادت وتراجعت لجنة الفتوى بالأزهر عن فتوى بعض علمائها وقالت بجواز مشاركتها ليس بالتصويت والترشح والتمثيل النيابي، بل وأسقطت كثيرًا من الاجتهادات التراثية التي تنتقص من حقوق المرأة… نخلص من ذلك أننا أمام إنسان/مجتهد اعتمد قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في التعاطي مع بعض النصوص ثم عاد وعَدَلَ عنها وقيد النصوص بأسبابها وسياقاتها التاريخية، فلم تعد عامة تصلح لكل سياق…

  • سابعًا، من المغالطات وضْع نصوص السنة الإخبارية جميعها في درجة واحدة، مكتفين بسلامة الإسناد دون إعادة النظر في متنها، فلم نُصنِّف ونُبوِّب سنة الأخبار على نحو يُميّزُ بين سنة الوحي، التي هي بيان نبويّ لمراد الله، وبين سنة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له، صلى الله عليه وسلم، فـكما يقول الإمام الأكبر شيخ الأزهر محمود شلتوت

    “لو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادرًا عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ولم نخلطْ بعضُها ببعض، ورتّبنا على كلّ منها آثاره، وأعطيناه حقّه، لسهُل على المسلمين أن يَتَفاهموا فيما شجَر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريعٌ خاص أو مُؤقت”.

  • ثامنًا، إغفال أننا دومًا أمام عملية اختيار بين النصوص، فالنّص المتداول ليس هو كل النصوص، فمن الخطأ اختزال مئات الآيات في آية، وآلاف الحديث في حديث، هذا ما يحدث في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، وينشأ عنه مواجهات بالنصوص، على سبيل المثال: هناك من يرى أن الدنيا في الوحي يُعبر عنها قول النبي – صلى الله عليه وسلم-

    “الدنيا ملعونة ملعون من فيها إلا عالمًا أو مُتعلمًا أو ذكْرَ الله وما والاه”

    الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فيؤسس بذلك لثقافة الموت ورفض الحياة، ويتناسى ويتجاهل أن هناك حديث آخر من الممكن أن نرى فيه الدنيا من منظور الوحي، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

    “إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون”.

  • تاسعًا، إغفال أن هناك موقفٌ فكري/أيديولوجي تكون مسبقًا وبدافع منه يختار كلّ طرف النصوص التي تخدم فكرته… على سبيل المثال خطابات العنف الداعية إلى إسقاط السلطة السياسية من منطلق ديني تستدعي حديث: “ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله.” الذي أخرجه الطبراني في معجمه، والهيثمي في مجمع الزوائد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وفي مقابل هذا التأسيس النّصي سنجد نصوصًا أخرى تؤسس لموقف مناقض، فلدى الطرف المقابل نصوصًا تُرسّخ لسلطة الحاكم، وتُوجب طاعتَه طاعةً لله، وترى الجنة في قتل مخالفيه، منها ما رُوي أن أَبُو بَكْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يقول: مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ.” أخرجه الترمذي في صحيح سننه، ويُروى عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قوله: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ “مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً” أخرجه مسلم في صحيحه.

ألا تدعونا تلك الاستدلالات، والاستدلالات المضادة إلى التوقف وإعادة النظر في الطريقة التي تتكون بها معرفتنا الدينية، وأهمية بناء وعي علمي حقيقي بطبيعة النصوص والانتباه إلى كيفية توظيفها توظيفًا نفعيًا يتحوّل معه النصّ إلى وقود تُشعَل به المعارك، فالقراءة الأيديولوجية انتقائية تختطف النصوص لتنطق بأفكارها.

  • عاشرًا وأخيرًا، من المغالطات ادِّعاء أن النّص (بمعناه عند اللُغويين) يقول: والواقع أن الإنسان هو من يقول، فهو ينطق باجتهاده/برأيه في فهم النّص، كما يقول علي، رضي الله عنه، “الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ”.

فمن أسباب التّطرف والعنف إلغاءُ وجود إنسان وتجاهله يُفسّر/يجتهد في فهْم النّص (بمفهوم اللُغويين)، فيتداول بعضُ الناس أقوال المفسرين، وكأنّها مطابقة لمراد الله في الآية، فألغوا المسافة بين الذات المفسِّرة المفكَّرة/الإنسان المجتهد والنّص متمثلًا في الآية القرآنية أو الحديث، فباتَ تفسير القرآن الكريم الإنساني النسبي له سلطة ومكانة القرآن المطلق الإلهي، وأصبح الأثر الذي استند إليه المفسّر معادلًا للآية القرآنية.

وعندما يُصبح فهْم/رأي المجتهد هو مراد الله حصريًا، دون غيره يكون التّكفير، وتُستباح الدماء، فَبِدافعِ من التّوحد مع النّص، وقعَتْ عديدٌ من الجرائم، من أبشعها في تاريخنا قتْل الصحابي علي بن أبي طالب على يد التابعي عبد الرحمن بن مُلجَم تلميذ معاذ بن جبل، رضي الله عنه، فاجتمع عبد الرحمن بن مُلجَم، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، واتّفقوا على قتل علي في الكوفة، ومعاوية بن أبي سُفيان في الشام، وعمرو بن العاص في مصر، وكان قرارهم بقتل الثلاثة في يوم واحد 17 رمضان تقربًا إلى الله؛ انطلاقًا من اعتقادهم أنّهم كافرون بمقتضى أنّ النّص/الآية تقول: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” [المائدة، الآية44]

لم يكن عبد الرحمن بن مُلجَم اليمني من العوام، بل من طبقة التابعين العلماء الذين أُطْلق عليهم “القرّاء” الحافظون للقرآن المعلّمون له، فهو إمام أهل مصر ومعلمهم بعد الفتح، وممن عُرفوا بكثرة العبادة، لكن الورع والصلاح ليس سببًا كافيًا لصحة الفهم وسلامة الاجتهاد، فرفض عبد الرحمن احتمالية المعنى الذي تحمله الآية، وتعدد الاجتهادات في فهمها، ورأى أن اجتهاده هو مُراد الله دون غيره من الاجتهادات، فكفَّر عليًّا، وقتله، لأنه لم يحكم بما أنزل الله…

فعودة إلى النّص (بمفهوم البنية اللُغوية) الآية سنجدنا أمام عديدٍ من الآراء/الأفْهام/الاجتهادات/التفسيرات، أبرزها ثلاثة آراء: الأول، يُروى عن الصحابي عبد الله بن عباس. والثاني، عن عبد الله بن مسعود. والثالث، عن اَلشَّعْبِي وهو تابع مُحدّث من أهل العراق، فروي أنّ ابن مسعود قال: “الآية عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين” ورُوي أن ابن عباس قال ردًا على استشهاد الخوارج بالآية: “إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن المِلِّة: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” كفر دون كفر.” وروي عن اَلشَّعْبِي أنّها ليست في المسلمين، ولكن في اليهود، ورجّح ذلك بعض المفسرين بدليل السياق السابق على الآية، لأن الله تعالى ذكر قبلها اليهود، وأنّهم “يُحرّفون الكلم من بعد مواضعه”، وأنهم يقولون: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا}، يعني الحكم المُحرف الذي هو غير حكم الله: {فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} أي: المُحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق: {فَاحْذَرُوا}، فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق، وقد قال تعالى بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، فدلّ على أن الكلام فيهم، وممن نُسب إليه هذا الرأي/التفسير، بالإضافة إلى الشعبي والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري والقرطبي وغيرهم…

فلم ينتبه عبد الرحمن بن مُلجَم ومن يحذو حذوه إلى أنّ النّص/الآية لم تنطق، فتقول لنا الآية/النص (بمفهوم اللُغويين) أنّ هذا هو مراد الله، وما عداه من الاجتهادات خاطئ، لكن مَن نطق هو ابن مسعود وابن عباس واَلشَّعْبِي وابن مُلجَم وغيرهم بمحاولات فهْم مراد الله…

وهنا نقرر بعض القواعد في التعامل مع المعرفة الدينية:

  1. القاعدة (1)، من الخطأ أن تُواجه الوصاية على العقل المسلم بوصاية… فادّعاء أنني مَن أملك الرأي الصحيح دون غيري هي نوع من الكهانة… والبداءة إلى طريق التكفير والقتل…
  2. القاعدة (2)، تتساوى كل الاجتهادات/الأفكار/الأفهام/الآراء في كونها جميعًا محاولات لفهم مُراد الله، فلا يحق لواحدٍ منها أن يزعمَ امتلاكه للحقيقة، ولا أن يضع نفسه في قلب “الدين” ذاته.
  3. القاعدة (3)، كل اجتهاد/رأي ينبغي أن يكون واعٍ بأنه فكر نسبي عن المقدس المطلق وليس هو ذاته المقدّس المطلق.
  4. القاعدة (4)، قد يتمتع فكر/اجتهاد ديني بانتشار في سياق سياسي اجتماعي تاريخي بعينه يُؤدِّي إلى سيطرته وهيمنته على المجال العام، مما يُؤدي إلى تهميش وإلقاء غيره خارج دائرة الضوء وبؤرة الاهتمام، لكن لا يعنى هذا أن الفكر المهيمن على صواب وأن الفكر المُهمَّش على خطأ…
  5. القاعدة (5)، التأويل آليةً مهمة من آليات إنتاج المعرفة- لا بد أن يتعدد، ويحكم هذا التعدد التأويلي مجموعة آليات منهجية علمية متنوعة تنوع المدارس وتنوع الأدوات المعرفية، إبراز تلك التعددية وتبادل النقاشات البعيدة عن خطاب العنف والكراهية هو السبيل إلى تحقيق قول الله تعالى “أفلا تعقلون”… لكن في الوقت نفسه علينا أن نتجنّب الوقوعَ في مأزق فلسفة التأويل المعاصرة، فقد بُولغ في دور القارئ والمؤوّل إلى درجة إهدار كينونة النص والتّضحية به لحساب فعالية التأويل، فأمسى التأويل والتفسير محض جذب النص إلى أفق المفسر والمؤوّل لينطق بانحيازاته المسبقة.

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete