اعتنى المفسرون المهتمون بعلوم القرآن، ببيان أسباب النزول كثيراً، لكنّهم قالوا بأنّ تحديد سبب النزول ليس فيه مجال للرأي والاجتهاد، وأنّ معرفة أسباب النزول، لا تتم سوى بالنقل الصحيح عن الصحابة الذين عاصروا تنزيل القرآن. وفي ذلك يقول الواحدي: “لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا في علمها، وجّدوا في الطلب”[1].
وعليه، فإنّ قول الصحابي وحده في سبب النزول، هو الحجة الثابتة، التي اعتمد عليها المفسرون، لكن السيوطي تخفف قليلاً من هذا التشديد، حيث قال إنّ قول التابعي إذا كان صريحًا في سبب النزول فإنه يُقْبَل، ويكون مُرسلًا، إذا صح المُسْنَد إليه، وكان من أئمة التفسير الذين أخذوا عن الصحابة كمجاهد وعِكرمة وسعيد بن جبير، واعتضد بمرسل آخر[2].
ويمكن فهم هذا التخفف، في ظل روح العصر الذي عاش فيه الواحدي (القرن الخامس)، وهو وقت كثرت فيه الروايات المتضاربة، والأحاديث المتناقضة حول أسباب النزول؛ فأراد إعادة الاعتبار لهذا العلم؛ بإدراج التابعين ضمن الرواة الثقاة، وغلق الطريق أمام الآخرين.
واقتصر سبب النزول على أمرين:
- أن تحدث حادثة فيتنزل القرآن الكريم بشأنها، وذلك كالذي روي عن عائشة في قوله تعالى: ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) قالت: أنزلت ( عبس وتولى ) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى النبي فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجال من عظماء المشركين، فجعل النبي يعرض عنه ويقبل على الآخرين، ففي هذا أنزلت ( عبس وتولى ) . رواه الحاكم في صحيحه عن علي بن عيسى الحيري، عن العتابي، عن سعد بن يحيى.
- أن يُسأل الرسول عن شيء، فيتنزل قرآن بالرد، كالذي ورد عن ابن عباس في أسباب نزول سورة الكهف، حيث بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فسألا أحبار يهود عن الرسول، فقالت الأحبار: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل متقول..سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
ويمكن القول إنّ محاولات تحديث الفكر الديني، انطلقت أحيانًا من الاشتباك مع أسباب النزول، بداعي إبراز أولوية الواقع في مواجهة الثبوتية وتأبيد الأحكام، وهو ما ذهب إليه حسن حنفي، حين لفت إلى أنّ أسباب النزول تعبر بالضرورة عن موقف تاريخي، “وحل لمشكل وبنية نظرية ممكنة لوضع اجتماعي قائم”[3]. لكن نصر أبو زيد تجاوز ربما في طرحه، ما ذهب إليه حسن حنفي، حين أكد أنّ أسباب النزول ليست سوى السياق الاجتماعي للنصوص، وهذه الأسباب، التي أحال عليها القدماء من خارج النص، يمكن الوصول إليها أيضاً من داخل النص، سواء في بنيته الخاصّة، أم في علاقته بالأجزاء الأخرى من النص العام[4].
قد يكون إدراك المعنى الكلي لظهور علم أسباب النزول، مقدمة لفهم ثلاث لحظات متباينة في التاريخ الإسلامي، من خلال سردية مغلقة، لها بداية ووسط ونهاية، بدأت مع وفاة الرسول، ومرت بظهور الدولة بشكلها الإمبراطوري، وانتهت بالتحلل الكامل، وفي سياق كل منها، يتجلى الصراع السياسي والمذهبي، بتنويعاته المختلفة.
فض الاشتباك بين التاريخية وأسباب النزول
يذهب نصر أبوزيد نحو فض الاشتباك بين التاريخية وأسباب النزول، لافتاً إلى أنّه ليس المقصُود بالبُعد التّاريخيِّ، علمُ أسباب النُّزولِ، فـالبُعد التَّاريخيَّ، في رأيه، “يتعلَّق بتاريخيَّة المفاهيمِ التي تطرحها النُّصوصُ من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعيّة لتاريخيّةِ اللُّغةِ التي صيغت بها النُّصوص”[5].
وربما يمكننا فهم العلاقة بين التاريخية واللغة، متى اتخذنا من اللغة نقطة بدء، ننظر من خلالها إلى التاريخ، فكلاهما يتجه نحو مسار مختلف، فبينما تؤكد اللغة على محور المعنى، يذهب التاريخ نحو مزيد من التفاعل مع الواقع؛ ليخلق باستمرار معان جديدة.
ويمكن القول إنّ نصر أبوزيد ركّز على مُستويات العلاقةِ بين النصِّ والثّقافةِ، بوصفها المرجعيَّةً المعرفيّةً الذي نشأ فيها النص وتفاعل، فتشكلت مفاهيمه الكلية وتَّصوُّراتِه الفاعلة، والتي ربما احتاجت إلى دعم خارجي، قدمته أسباب النزول، لتطرح التَّاريخيّة كمفهوم وظيفي؛ مؤسّس على توطيد العلاقة بين النصّ والواقعِ الثَّقافيِّ. هذا التأسيس المعرفي بدوره، يحتاج إلى اكتشاف أسباب من داخل النص نفسه، تجلّت فيها المُعطيات الثّقافيِّة، وشكلت بنيته وأنساقه؛ في تفاعل واضح بين منطلقات الاجتماع البشري بأطره السوسيو-تاريخية، والثقافة كفاعل مركزي في عملية إنتاج النص.
وعلى الرغم من الفعالية التي يمكن لأسباب النزول أن تقدمها في سياق التفسير، بالإحالة على مُنِتج واقعي (سبب) للنص، بحيث ترتبط فعالية هذا النص بوجود السبب، في تكريس قاطع للتاريخية، إلّا أنّ قاعدة “العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب” أهدرت كل هذا، بتقويضها جدل العلاقة بين النص والواقع، ممّا عطل أداة مهمة لحل جملة من الإشكاليات التي تمنع بالضرورة تماهي النص مع التاريخ.
ويرى أبوزيد أنّ إهمال خصوص السبب، أهدر بالضرورة حكمة التدرج بالتشريع، ممّا دفعه إلى المطالبة باكتشاف أسباب نزول جديدة، ضمن مستوى السياقات الخاصّة بعملية التنزيل؛ عبر الاستناد إلى العناصر الخارجية، وكذا الدوال الداخلية المكونة للنص[6].
وعلّ أبوزيد في محاولته تلك، حاول استخدام كافة الإمكانات المتاحة، لتجديد مفهوم النص، واكتشاف إمكانيات جديدة، بحيث لا نجده يقطع مع ما ورد في علم أسباب النزول، وإنّما يقول بإمكانية الإضافة إليه. وهو أمر يثير اعتراض عدد من الباحثين المعاصرين، وبالأخص بسّام الجمل، والذي يرى أنّ الاعتراف الضمني بأصالة أخبار النزول وبصحتها التاريخية، يهمل كل ما يغلب على هذا العلم من اضطراب وتشويش وتناقض في الروايات، كما يرى أنّ ذلك يكرّس لسطوة علم أسباب النزول، على النص ذاته ” إلى حد أصبح معه علم أسباب النزول مقدمة ثابتة من المقدمات المعتمدة في تفسير النص وتأويله”[7].
ولعل القول بتكريس أسباب النزول، يتجاوز هذا الزخم الهائل- بكل تناقضاته- الذي صاحب عملية التدوين، فأسباب النزول تتجاوز النص، لأنّها تحول مفرداته إلى صياغات جديدة، تنتقل من المعنى إلى التاريخ، ثم ترفض بعد ذلك حركة المعنى؛ من خلال الزعم بعدم خصوص السبب، الأمر الذي يغلق المعنى ويتجاهل واقع التنزيل، رغم أنّه يضعه في مقدمة التفسير، ممّا يعكس تشويشًا هائلاً؛ يفصح عن تطورية تعاقبية مرتبكة، تأتي بعامل الزمن؛ بهدف نفيه، حيث إنّها تطرح زمناً تاريخياً لا يمكن استدعاءه، وبالتالي فإنّه ترتبط به – أي الزمن- إلّا أنّها تجمده.
القطع مع أسباب النزول
في مبحثه المهم المشار إليه، يخلص بسّام الجمل إلى ضرورة القطع مع علم أسباب النزول، ذلك أنّ كلّ مادة أسباب النزول، لا تصلح أن تكون معرفة موثوقًا بها، وهو وإن كان ساعد القدامى على فهم معاني النص، إلّا أنّه لم يطرح إجابات حقيقية، كما أنّ تسعة أعشار آيات المصحف ليست لها أسباب نزول خاصّة، بينما نسبة كبيرة من أخبار النزول مشكوك فيها، ولا تلاءم منطوق المصحف ومقاصد الرسالة[8].
ويمكن القول، إنّ انتحال أسباب النزول، جاء في سياق عملية التدوين الكبرى، التي جرت في الدولة الإسلامية، وبلغت ذروتها في العصر العباسي، ذلك أنّ عملية الإحالة على الرواة، التي واكبت تدوين الحديث النبوي، ألّقت بظلالها على عملية تفسير القرآن.
ويمكن القول أيضًا، إنّه مع ظهور هذا القدر الهائل من الروايات المنسوبة إلى النبي، حدث تقاطع حتمي بين الرواية والنص المؤسس، فظهرت جملة من الأخبار المنسوبة إلى الصحابة، والتي ارتبطت بنزول آيات بعينها، جرى إلحاقها بعميلة التفسير كعامل مساعد، ازدحمت داخل بنيته تناقضات متعددة بين الروايات؛ فجاء القول بعموم اللفظ؛ ليقطع الطريق أمام التشكيك في تلك الروايات؛ حتى لا يتضرر علم تدوين الحديث.
ولأنّ الأمر لم يخل من التناقض، انقسم القرآن إلى قسمين؛ قسم غير مرتبط بسبب أو حادثة. والآخر له علاقة بسبب من الأسباب الخاصة. وسرعان ما أصبح علم أسباب النزول مستقلاً بتطبيقاته ومسائله المقننة، وتمّ اخضاعه لنفس قواعد علم الحديث (الجرح والتعديل)، على الرغم من الاختلاف الشاسع بين النص المؤسس والنصوص الثواني، وهو اختلاف جرى تجاوزه لصالح الاستمرار في عملية التدوين، وبشكل أدخل رواية الحديث، بوصفها تطرح في البداية سببًا للنزول، يؤدي إلى فهم أعمق للنص، إلى الحقل التداولي للتفسير، ممّا منحها قداسة نهائية وناجزة، لا يمكن فهم القرآن بدونها، بحسب القدماء.
ويطرح بسّام الجمل مثالاً لاختلاق سبب النزول، في سياق الصراع السياسي، فالخبر المبين لسبب نزول سورة قريش، هو حديث منسوب إلى أم هانئ بنت أبي طالب، قالت فيه إنّ النبي قال ” فضل الله قريشاً بسبع خصال، لم يعطها أحداً قبلهم، ولا يعطيها أحداً بعدهم: أني فيهم، وفي لفظ النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم (لإيلاف قريش)”. ففي هذا الخبر يتحدث الرسول عن مؤسسة سياسية لم تكن معروفة في مرحلة الوحي وهي الخلافة[9].
هذا الطرح القسري بفعل الصراع السياسي، بدأ منذ سقيفة بني ساعدة، في سياق عملية حصر السلطة بيد فئة واحدة، ارتكازاً على الرواية المنسوبة إلى النبي: “الأئمة من قريش”. ومنذ تلك اللحظة، تشكلت عوامل الصراع الأيديولوجي بين النخبة السياسية، وتكونت في الوقت نفسه طروحات الاتجاه السياسي لدى الفرقاء، والقائم على اختلاق الشرعية الدينية. ممّا يعبر، بصفة عامّة، عن المضي قدماً نحو انتحال أدوات دينية؛ لخدمة الخطاب السياسي. وهو أمر لم ينج منه علم أسباب النزول.
ختام
قد تكون التاريخية في تجليها عبر النص، خير دليل على قدرة هذا النص على إنتاج فعالية جديدة باستمرار، من خلال الرموز والإشارات والمبادئ الكلية، التي قام باستخدامها عبر التاريخ، فالنص والتاريخ يتبادلان المواقع باستمرار، ومن ثمّ تحدث عملية قلب عكسية للعلاقة بينهما، فالنص يحيا من خلال التاريخ؛ عبر الوقوف على منجزاته في مجال التشريع والأحكام، في لحظة بعينها، والتاريخ يتحقق من خلال تجاوز لحظة التنزيل بمعطياتها، والتماهي مع الواقع المتغير بنفس الروح والفعالية والمبادئ الأخلاقية التي أتى بها النص وتفاعل معها في لحظته الأولى.
هذا الربط البنيوي بين النص والتاريخ، لا يهمل إطلاقًا وجود أسباب للنزول، فالنص بالضرورة ينبغي أن يكون منفتحًا على الواقع، وعلى الرغم من أنّ الشروط العقلية للحظة التنزيل قد تختلف مع الشروط الموضوعية لحركة التاريخ، إلّا أنّ كلاهما يتداخل من أجل تكوين نظرة كليّة يترجمها العقل إلى تصورات ومفاهيم، أو بالأحرى سلسلة من القضايا، المرتبطة بروح النص وديناميته، وكل مفردات الضمير الإنساني، بشكل لا يمكن أبداً أن يختزل قيم التجربة الوجدانية، التي تنطلق أساسا من الذات الإنسانية بوصفها فاعلة.
ومن ثمّ؛ يبدو من الأهمية بمكان، إعادة تقييم رؤيتنا حول علم أسباب النزول، عبر الوقوف على فعاليته الأدائية التي استلهم من خلالها القدماء القدرة على فهم النص، وكذلك الوقوف على الكيفية التي انعكس بها هذا الدور في لحظة تاريخية محددة، فبدلاً من انفتاح النص على التاريخ، بفعل أسباب النزول، انغلق بشدة على نفسه، ليرتد إلى حقل المعاني الجامدة والنهائية.
المراجع:
[1] مناع القطان: مباحث في علوم القرآن، ط3، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، 2000. ص76.
[2] نفسه، ص77.
[3] حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، ج1، دار التنوير، بيروت، 1988، ص250.
[4] نصر حامد أبوزيد: مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ص111.
[5] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص80.
[6] نصر حامد أبوزيد: مفهوم النص.. مصدر سابق، ص111.
[7] بسّام الجمل: أسباب النزول علماً من علوم القرآن، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2-13، ص ص 452-453.
[8] نفس المصدر السابق، ص ص 463-465.
[9] نفس المصدر السابق، ص 196.